وقوله : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ) (١) ، وأن الأصل هو الرفع ، أي ولا المشركون ، عطفا على الذين كفروا ، وهذا حديث من قصر في العربية ، وتطاول إلى الكلام فيها بغير معرفة ، وعدل عن حمل اللفظ على معناه الصحيح وتركيبه الفصيح. ودخلت لا في قوله : ولا المشركين ، للتأكيد ، ولو كان في غير القرآن لجاز حذفها. ولم تأت في قوله : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ) لمعنى يذكر هناك ، إن شاء الله تعالى.
(أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ) : في موضع المفعول بيود ، وبناؤه للمفعول ، وحذف الفاعل للعلم به ، وللتصريح به في قوله : (مِنْ رَبِّكُمْ). ولو بني للفاعل لم يظهر في قوله : (مِنْ رَبِّكُمْ). (مِنْ خَيْرٍ) ، من : زائدة ، والتقدير : خير من ربكم ، وحسن زيادتها هنا ، وإن كان ينزل لم يباشره حرف النفي ، فليس نظير : ما يكرم من رجل ، لانسحاب النفي عليه من حيث المعنى ، لأنه إذا نفيت الودادة ، كان كأنه نفى متعلقها ، وهو الإنزال ، وله نظائر في لسان العرب ، من ذلك قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ) (٢). فلما تقدّم النفي حسن دخول الباء ، وكذلك قول العرب : ما ظننت أحدا يقول ذلك إلا زيد ، بالرفع على البدل من الضمير المستكن في يقول ، وإن لم يباشره حرف النفي ، لأن المعنى : ما يقول ذلك أحد إلا زيد ، فيما أظن. وهذا التخريج هو على قول سيبويه والخليل. وأما على مذهب الأخفش والكوفيين في هذا المكان ، فيجوز زيادتها ، لأنهم لا يشترطون انتفاء الحكم عما تدخل عليه ، بل يجيزون زيادتها في الواجب وغيره. ويزيد الأخفش : أنه يجيز زيادتها في المعرفة. وذهب قوم إلى أن من للتبعيض ، ويكون على هذا المفعول الذي لم يسم فاعله هو عليكم ، ويكون المعنى : أن ينزل عليكم بخير من الخير من ربكم.
(مِنْ رَبِّكُمْ) : من : لابتداء الغاية ، كما تقول : هذا الخير من زيد. ويجوز أن تكون للتبعيض. المعنى من خير كائن من خيور ربكم ، فإذا كانت لابتداء الغاية تعلقت بقوله : ينزل ، وإذا كانت للتبعيض تعلقت بمحذوف ، وكان ذلك على حذف مضاف ، كما قدّرناه. والخير هنا : القرآن ، أو الوحي ، إذ يجمع القرآن وغيره ، أو ما خص به رسول الله صلىاللهعليهوسلم من التعظيم ؛ أو الحكمة والقرآن والظفر ؛ أو النبوة والإسلام ، أو العلم والفقه والحكمة ؛ أو هنا
__________________
(١) سورة البينة : ٩٨ / ١.
(٢) سورة الأحقاف : ٤٦ / ٣٣.