وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها
ويقوي هذا الوجه ويحسنه كونه تقدم قوله : (فَلا يُخَفَّفُ) ، وهو جملة فعلية ، إذ لو لا تقدّم الجملة الفعلية لكان الأرجح الرفع على الابتداء ، وذلك أن لا ليست مما تطلب الفعل ، لا اختصاصا ولا أولوية ، فتكون كان والهمزة خلافا لأبي محمد بن السيد ، إذ زعم أن الحمل على الفعل فيما دخلت عليه لا ، أولى من الابتداء ، وبناء الفعل للمفعول أولى من بنائه للفاعل ، لأنه أعم ، إلا إن جعل الفاعل عاما ، فيكون ولا هم ينصرهم أحد ، فكان يفوت بذلك اختتام الفواصل بما اختتمت به قبل وبعد ، ويفوت الإيجاز ، مع أن قوله : (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) يفيد ذلك ، أعني العموم.
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة أخبار الله تعالى ، أنه أخذ الميثاق على بني إسرائيل بإفراد العبادة ، والإحسان إلى الوالدين ، وإلى ذي القربى ، واليتامى ، والمساكين ، وبالقول الحسن للناس ، وإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وأنهم نقضوا الميثاق بتوليهم وإعراضهم ، وأنه أخذ عليهم أن لا يسفكوا دماءهم ، ولا يخرجون أنفسهم من ديارهم ، وأنهم أقروا والتزموا ذلك. فكان الميثاق الأول يتضمن الأوامر ، والميثاق الثاني يتضمن النواهي ، لأن التكاليف الإلهية مبنية على الأوامر والنواهي. وكان البدء بالأوامر آكد ، لأنها تتضمن أفعالا ، والنواهي تتضمن تروكا ، والأفعال أشق من التروك. وكان من الأوامر الأمر بإفراد الله بالعبادة ، وهو رأس الإيمان ، إذ متعلقة أشرف المتعلقات ، فكان البدء به أولى. ثم نعى عليهم التباسهم بما نهوا عنه ، وإن كان قد تقدم أخباره أنهم خالفوا في الأمر بقوله : (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) ، لأن فعل المنهيات أقبح من ترك المأمورات ، لأنها تروك كما ذكرنا. ثم قرّعهم بمخالفة نواهي الله ، وأنهم مستعينون في ذلك بغير الحق ، بل بالإثم والعدوان. ثم ذكر تناقض آرائهم وسخف عقولهم ، بفداء من أتى إليهم منهم ، مع أنهم هم السبب في إخراجهم وأسرهم ، مع علمهم بتحريم إخراجهم ، وبذكر أنهم آمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض. هذا مع أنه كله حق وصدق ، فلا يناسب ذلك الكفر ببعض ، والإيمان ببعض. ثم ذكر أن الجزاء لفاعل ذلك هو الخزي في الدنيا ، وأشد العذاب في الآخرة ، وأن الله تعالى لا يغفل عما عملوه ، فيجازيهم على ذلك. ثم أشار إلى من تحلى بهذه الأوصاف الذميمة ، وخالف أمر الله ونهيه ، هو قد اشترى عاجلا تافها بآجل جليل ، وآثر فانيا مكدرا على باق صاف. وأن نتيجة هذا الشراء أن لا يخفف عنهم ما حل بهم من العذاب ، ولا يجدوا ناصرا يدفع عنهم سوء العقاب. لقد خسروا تجارة ، وبدلوا بالنعيم السرمدي نارا وقودها الناس