والكبير سيان عنده إذا كانا في توفية الحكمة سواء. الثاني : أن البعوضة لما كانت من أصغر ما خلق الله تعالى خصها بالذكر في القلة ، فلا يستحيي أن يضرب المثل في الشيء الكبير بالكبير والحقير بالحقير ، وله المثل الأعلى في ضرب الأمثال. الثالث : أن في البعوضة ، مع صغر حجمها وضعف بنيانها ، من حسن التأليف ودقيق الصنع ، من اختصار الخصر ودقة الخرطوم ولطيف تكوين الأعضاء ولين البشرة ، ما يعجز أن يحاط بوصفه ، وهي مع ذلك تبضع بشوكة خرطومها ، مع لينها ، جلد الجاموس والفيل ، وتهتدي إلى مراق البشرة بغير دليل ، فلا يستحيي الله تعالى أن يضرب بها المثل ، إذ ليس في وسع أحد من البشر أن يخلق مثلها ولا أقل منها ، كما قال تعالى : (لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) (١). الرابع : أن المثل بالذباب والبعوض والعنكبوت ، وما يجري مجراه ، أتى به تعالى في غاية ما يكون من التمثيل ، وأحسن ما يكون من التشبيه ، لأن الذي جعلها مثلا لهم في غاية ما يكون من الحقارة ، وضعف القوة ، وخسة الذات والفعل ، فلو شبههم بغير ذلك ما حسن موقع التشبيه ، ولا عذب مذاق التمثيل ، إذ الشيء لا يشبه إلا بما يماثله ويشاكله ، ومن أتى بالشيء على وجهه فلا يستحيا منه. وتصدير الجملتين بأما التي معناها الشرط مشعر بالتوكيد ، إذ هي أبلغ من : فالذين آمنوا يعلمون ، والذين كفروا يقولون ، إذ قد تقرر أن ما برز في حيز أما من الخبر كان واقعا لا محالة ، وما مفيد ذلك ومثيره إلا ترتب الحكم على معنى الشرط ، والضمير في أنه عائد على المثل ، وقيل : هو عائد على المصدر المفهوم من يضرب كأنه قال : فيعلمون أن ضرب المثل. وقيل : هو عائد على المصدر المفهوم من لا يستحيي ، أي فيعلمون أن انتفاء الاستحياء من ذكر الحق ، وإلا ظهر الأول لدلالة قوله تعالى : (ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) فميز الله تعالى المشار إليه هنا بالمثل. والتقسيم ورد على شيء واحد ، فظهر أنه عائد على المثل ، وأخبر عن المؤمنين بالعلم لأنه الجزم المطابق لدليل ، وأخبر عن الكافرين بالقول ، وهو اللفظ الجاري على اللسان ، وجعل متعلقه الجملة الاستفهامية الشاملة للاستغراق والاستبعاد والاستهزاء ، وهي قوله : (ما ذا أَرادَ اللهُ).
وقد تقدم الكلام على أقسام ماذا ، وهي هاهنا تحتمل وجهين من تلك الأقسام. أحدهما : أن تكون ما استفهاما في موضع رفع بالابتداء ، وذا بمعنى الذي خبر عن ما. وأراد صلة لذا الموصولة والعائد محذوف ، إذ فيه شروط جواز الحذف ، والتقدير ما الذي
__________________
(١) سورة الحج : ٢٢ / ٧٣.