سفرتي هذه أن استفيد الأنس بك والتحرّم بمواصلتك.
فأمر عبد الله بقبض هديته ، وخرج إلى الصّلاة ، فلمّا رجع مرّ بالعراقي في منزله ، فقام إليه ، وقبّل يده ، واستكثر منه ، فرأى أدبا وظرفا وفصاحة ، فأعجب به وسرّ بنزوله عليه ، فجعل العراقي في كل يوم يبعث إلى عبد الله بلطف يطرفه (١) ، فقال عبد الله : جزى الله ضيفنا هذا خيرا ، فقد ملأنا شكرا ، وما نقدر على مكافأته فإنه لكذلك إلى أن دعاه عبد الله ، ودعاه بعمّارة وجواريه ، فلما طاب لهما المجلس سمع غناء عمّارة تعجب وجعل يزيد في عجبه ، فلما رأى ذلك عبد الله سرّ به إلى أن قال : هل رأيت مثل عمّارة؟ قال : لا والله يا سيّدي ، ما رأيت مثلها ، وما تصلح إلّا لك ، وما ظننت أن يكون في الدنيا مثل هذه الجارية حسن وجه ، وحسن عمل (٢) ، قال : فكم تساوي عندك؟ قال : ما لها ثمن إلّا الخلافة ، قال : يقول هذا ليزين (٣) لي رأيي فيها ، ويجتلب سروري ، قال له : يا سيّدي والله إنّي لأحبّ سرورك ، وما قلت لك إلّا الجد ، وبعد فإنّي تاجر أجمع الدرهم إلى الدرهم طلبا للربح ، ولو أعطيتها بعشرة آلاف دينار لأخذتها ، فقال له عبد الله : عشرة آلاف دينار؟ قال : نعم ، ولم يكن في ذلك الزمان جارية تعرف بهذا الثمن ، فقال له عبد الله : أنا أبيعكها بعشرة آلاف دينار ، قال : قد أخذتها ، قال : هي لك ، قال : قد وجب البيع ، وانصرف العراقي.
فلما أصبح عبد الله لم يشعر إلّا بالمال قد وافى ، فقيل لعبد الله : قد بعث العراقي بعشرة آلاف دينار ، وقال : هذا ثمن عمارة ، فردّها وكتب إليه ، إنّما كنت أمزح معك ، وما أعلمك أن مثلي لا يبيع مثلها ، فقال له : جعلت فداك إنّ الجد والهزل في البيع سواء ، فقال له : ويحك ، ما أعلم جارية تساوي ما بذلت ، ولو كنت بائعها من أحد لآثرتك ، ولكني كنت مازحا ، وما أبيعها بملك الدنيا لحرمتها بي وموضعها من قلبي ، فقال له العراقي : إن كنت مازحا فانّي كنت جادا ، وما اطّلعت على ما في نفسك ، وقد ملكت الجارية وبعثت بثمنها إليك ، وليست تحل لك ، وما لي من أخذها بد ، فمانعه إياها.
__________________
(١) في الجليس الصالح : بلطف وطرف.
(٢) الجليس الصالح : وحسن غناء.
(٣) الجليس الصالح : تقول هذا لتزين لي رأيي فيها ...