دعاك القوم إلى كتاب الله فتحكم بينهم ، قد فرض الله في الكتاب حكمين في أصغر من هذا الأمر الذي فيه سفك الدماء وقطع الأرحام وانتهاك المحارم فيخاصموني من كتاب الله بما ترون أنّ لكم الحجة علي فأجبت حين دعيت إلى الحكم بكتاب الله ، وخشيت وهنكم وتفرّقكم ، ثم قامت خطباء علي فنحوا في النحو الذي احتج به علي. حتى إذا فرغوا قام خطباء الحرورية فقالوا : إنكم دعوتمونا إلى كتاب الله فأجبناك ، ودعوتمونا إلى العمل به حتى قتلت عليه القتلى يوم الجمل ، ويوم صفين ، وقطعت فيه الأرحام ، ثم شككت في أمرك وحكّمت عدوّك ، فنحن على أمرك الذي تركت ، وأنت اليوم على غيره إلّا أن تتوب وتشهد على نفسك بالضلالة فيما سلف ، فلما فرغوا من قولهم قال عليّ : أما أن أشهد على نفسي بالضلالة فمعاذ الله أن أكون ارتبت منذ أسلمت أو ضللت منذ اهتديت ، بل بنا هداكم الله ، وبنا استنقذكم الله من الضلالة ، ولكن حكّمت منا حكما ومنهم حكما وأخذت عليهما أن يحكما بكتاب الله وسنّة نبيه صلىاللهعليهوسلم والسنّة الجامعة غير المفرّقة ، فإذا فعلا كنت وليّ هذا الأمر ، وإن خالفا لم يكن لهما عليّ حكم ، فكثر قول عليّ وقولهم واختصامهم. ثم تفرقوا ، فنبذ بعضهم إلى بعض ، فأرسل إليهم عليّ عبد الله بن عبّاس ، وصعصعة بن صوحان من عبد القيس فكلّمهم فقال : سمعوا مني أعظكم بكلمات فإن الخصومة قد طالت منذ هذه الأشهر ، يا قوم أذكّركم الله والإسلام أن يكونوا شيئا لأهل القرآن ، فإنكم والله لقد فتحتم أمرا لو دخلت فيه هذه الأمة بأسرها ما بلغت غوره أبدا ، قالوا : يا صعصعة إنّا نخشى (١) إن أطعناكم اليوم أن نفتتن (٢) عاما قابلا قال : يا قوم إنّي أذكركم الله والإسلام أن تعجلوا فتنة العام خشية فتنة عام قابل ، قال ابن الكوّا ـ وهو رأسهم الذي دعاهم إلى البدعة التي ركبوا ـ : يا قوم ألستم تعلمون أنّي دعوتكم إلى هذا الأمر ، وأنا رأسكم اليوم فيه؟ قالوا : بلى ، قال : فإني أول من أطاع. فإنّ هذا واعظ شفيق على الدين ، فقاموا معه قريب من خمسمائة ، ودخلوا في جماعة أمر علي وبقي قريب من خمسة آلاف ، فقاتلتهم وقاتلوه حتى أبادهم. اعتزل منهم أهل النخيلة (٣) وهم قريب من ألف رجل ، فأقرهم علي. يأخذون أعطيتهم
__________________
(١) في م : النخشى.
(٢) غير واضحة بالأصل ، والمثبت عن م.
(٣) النخيلة : موضع قرب الكوفة على سمت الشام (ياقوت).