خصوصا قاضي القضاة عزّ الدين بن جماعة ، فإنّه جهد كلّ الجهد في صرف السلطان عنه ، فلم يفعل ؛ وما زال بهم حتّى بايعوه.
ثمّ إنّ الله فجع النّاصر بموت أعزّ أولاده الأمير أنوك ، فكان ذلك أوّل عقوباته ولم يمتّع بالملك بعد وفاة المستكفي ، فأقام بعده سنة وأياما ، وأهلكه الله (١).
وقد قيل : إنّ وفاة المستكفي كانت سنة إحدى وأربعين ، فعلى هذا لم يتمّ الحول على الناصر ، حتّى مات بعد ثلاثة أشهر ؛ سنّة الله فيمن مسّ أحدا من الخلفاء بسوء ، فإنّ الله يقصمه عاجلا ، وما يدّخره له في الآخرة من العذاب أشدّ.
ثم إنّ الله انتقم من النّاصر في أولاده فسلّط عليهم الخلع والحبس والتّشريد في البلاد والقتل ، فجميع من تولّى الملك من ذريّته ؛ إمّا أن يخلع عاجلا ، وإمّا أن يقتل ؛ فأوّل ولد تولّى بعده ، عوجل بخلعه (٢) ونفيه إلى قوص ، حيث كان سيّر الخليفة ، ثمّ قتل بها. وغالب من تولّى من ذريته لم تطل مدّته كما سيأتي.
وقد أقام النّاصر في السلطنة نيّفا وأربعين سنة ، وتولّى من ذريّته اثنا عشر نفرا ، لم يتمّوا هذه المدّة ، بل عجّلوا واحدا في إثر واحد ، فما أشبّههم إلا بملوك الفرس حيث قال الكاهن لكسرى لمّا سقطت من إيوانه أربع عشرة شرفة ليلة ولد النبي صلىاللهعليهوسلم : يملك منكم أربعة عشر ملكا ؛ ثمّ يذهب الملك منكم ، فقال كسرى : إلى أن يمضي أربعة عشر ملكا تكون أمور وأمور! فانقرضوا في أقصر مدّة ، وكان آخرهم في زمن عثمان بن عفّان رضياللهعنه.
ثمّ إنّ الله نزع الملك من ولد قلاوون ، وأعطاه بعض مماليكهم ، ولم يعد إليهم إلى وقتنا هذا ، وبعض ذرّيته أحياء إلى الآن في أسواء حال ، دينا ودنيا. ومن تأمّل بدائع صنع الله رأى العجب العجاب ؛ ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون ، وإنّما يتذكر أولو الألباب!
ولما حضر الناصر الوفاة ندم على ما فعل من مبايعة إبراهيم ، فأوصى الأمراء بردّ العهد إلى وليّ عهد المستكفي ، فلمّا تسلطن ولده أبو بكر المنصور (٣) عقد مجلسا يوم
__________________
(١) مات ليلة الخميس حادي عشر ذي الحجة سنة ٧٤١ ه. [الخطط المقريزية : ٢ / ٢٣٩].
(٢) خلع بعد تسعة وخمسين يوما سنة ٧٤٢. [الخطط المقريزية : ٢ / ٢٣٩].
(٣) تسلطن الملك المنصور سيف الدين أبو بكر سنة ٧٤١ ه. [الخطط المقريزية : ٢ / ٢٣٩].