في ذلك أشنع من صنيعهم في الذي تقدّم ، وأشبه بأن يكون صدّا عن كتاب الله ، وعن معرفة معانية ، ذاك لأنهم لا يجدون بدّا من أن يعترفوا بالحاجة إليه فيه ؛ إذ كان قد علم أنّ الألفاظ مغلقة على معانيها حتى يكون الإعراب هو الذي يفتحها ، وأنّ الأغراض كامنة فيها حتى يكون هو المستخرج لها ، وأنه المعيار الذي لا يتبيّن نقصان كلام ورجحانه حتى يعرض عليه ، والمقياس الذي لا يعرف صحيح من سقيم حتى يرجع إليه ، لا ينكر ذلك إلّا من ينكر حسّه ، وإلا من غالط في الحقائق نفسه ، وإذا كان الأمر كذلك ، فليت شعري ما عذر من تهاون به وزهد فيه ، ولم ير أن يستقيه من مصبّه ، ويأخذه من معدنه ، ورضي لنفسه بالنقص والكمال لها معرض ، وآثر الغبينة وهو يجد إلى الرّبح سبيلا.
فإن قالوا : إنّا لم نأب صحّة هذا العلم ، ولم ننكر مكان الحاجة إليه في معرفة كتاب الله تعالى ، وإنما أنكرنا أشياء كثّر تموه بها ، وفضول قول تكلّفتموها ، ومسائل عويصة تجشّمتم الفكر فيها ، ثم لم تحصلوا على شيء أكثر من أن تغربوا على السامعين ، وتعايوا بها الحاضرين.
قيل لهم : خبرونا عمّا زعمتم أنه فضول قول ، وعويص لا يعود بطائل ، ما هو؟ فإن بدءوا فذكروا مسائل التصريف التي يضعها النحويون للرياضة ، ولضرب من تمكين المقاييس في النفوس ، كقولهم : كيف تبني من كذا كذا؟ وكقولهم : ما وزن كذا؟ ـ وتتبّعهم في ذلك الألفاظ الوحشيّة ، ، كقولهم : ما وزن «عزويت» (١)؟ وما وزن «أرونان» (٢)؟ وكقولهم في باب ما لا ينصرف : لو سميت رجلا بكذا ، كيف يكون الحكم؟ ـ وأشباه ذلك ، وقالوا : أتشكّون أنّ ذلك لا يجدي إلّا كدّ الفكر وإضاعة الوقت؟.
قلنا لهم : أمّا هذا الجنس ، فلسنا نعيبكم إن لم تنظروا فيه ولم تعنوا به ، وليس يهمّنا أمره ، فقولوا : فيه ما شئتم ، وضعوه حيث أردتم ، فإن تركوا ذلك وتجاوزوه إلى الكلام على أغراض واضع اللغة ، على وجه الحكمة في الأوضاع ، وتقرير المقاييس التي اطّردت عليها ، وذكر العلل التي اقتضت أن تجرى على ما أجريت عليه ، كالقول
__________________
(١) عزويت ، على وزن فعليت. قال ابن سيده : وإنما حكمنا عليه بأنه فعليت لوجود نظيره وهو عفريت ونفريت. اه اللسان / عزا / (١٥ / ٥٤).
(٢) تقول : يوم أرونان : شديد في كل شيء. وزنه أفوعال وهو من الرنين فيما ذهب إليه ابن الأعرابي ، وهو عند سيبويه أفعلان من قولك : كشف الله عنك رونة هذا الأمر أي غمّته وشدته. اللسان / رنن / (١٣ / ١٨٧)