إن المعنى : ما حرّم ربّي إلّا الفواحش. قال : وأصبت ما يدلّ على صحّة قولهم في هذا ، وهو قول الفرزدق : [من الطويل]
أنا الذّائد الحامي الذّمار ، وإنّما |
|
يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي (١) |
فليس يخلو هذا الكلام من أن يكون موجبا أو منفيّا. فلو كان المراد به الإيجاب لم يستقم ، ألا ترى أنك لا تقول : «يدافع أنا» و «لا يقاتل أنا» ، وإنما تقول : «أدافع» و «أقاتل» إلا أنّ المعنى لما كان : «ما يدافع إلّا أنا» ، فصلت الضمير كما تفصله مع النفي إذا ألحقت معه «إلّا» ، حملا على المعنى. وقال أبو إسحاق الزجاج في قوله تعالى : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ) [البقرة : ١٧٣] ، [النحل : ١١٥] ، النّصب في «الميتة» هو القراءة ، ويجوز : «إنّما حرّم عليكم». قال أبو إسحاق : والذي أختاره أن تكون «ما» هي التي تمنع «إنّ» من العمل ، ويكون المعنى : «ما حرّم عليكم إلّا الميتة» ، لأن «إنّما» تأتي إثباتا لما يذكر بعدها ، ونفيا لما سواه ، وقول الشاعر :
وإنّما يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي
المعنى : ما يدافع عن أحسابهم إلّا أو مثلي». انتهى كلام أبي علي.
اعلم أنّهم ، وإن كانوا قد قالوا هذا الذي كتبته لك ، فإنهم لم يعنوا بذلك أن المعنى في هذا هو المعنى في ذلك بعينه ، وأن سبيلهما سبيل اللفظين يوضعان لمعنى واحد. وفرق بين أن يكون في الشّيء معنى الشيء ، وبين أن يكون الشيء الشيء على الإطلاق.
يبيّن لك أنهما لا يكونان سواء ، أنه ليس كلّ كلام يصلح فيه «ما» و «إلّا» ، يصلح فيه «إنّما». ألا ترى أنّها لا تصلح في مثل قوله تعالى : (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ) [آل عمران : ٦٢] ، ولا في نحو قولنا : «ما أحد إلّا وهو يقول ذاك» ، إذ لو قلت : «إنّما من إله الله» و «إنّما أحد وهو يقول ذاك» ، قلت ما لا يكون له معنى.
__________________
(١) البيت في ديوانه (٢ / ١٥٣) ، من قصيدة قالها عند ما بلغ نساء مجاشع فحش جرير بهن فأتين الفرزدق مقيدا فقلن : قبح الله قيدك ، فقد هتك جرير عورات نسائك فلحيت شاعر قوم ، فأحفظنه ففض قيده وقد كان قيد نفسه قبل ذلك وحلف أن لا يطلق قيده حتى يجمع القرآن ، ورواية الديوان : «أنا الضامن الراعي عليهم وإنما ....». والبيت في الإيضاح (١٢٦) ، والمفتاح (٤٠٣) ، ومعاهد التنصيص (١ / ٢٦٠) ، وخزانة الأدب (٤ / ٤٦٥) ، ولسان العرب (قلا) ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر (٢ / ١١١) ، ولسان العرب (أنن) ، وتاج العروس (ما) ، والمصباح (٩٦).