وإنا لنراهم يقيسون الكلام في معنى المعارضة على الأعمال الصناعية ، كنسج الدّيباج وصوغ الشّنف (١) والسوار وأنواع ما يصاغ ، وكلّ ما هو صنعة وعمل يد ، بعد أن يبلغ مبلغا يقع التفاضل فيه ، ثم يعظم حتى يزيد فيه الصانع على الصانع زيادة يكون له بها صيت ، ويدخل في حدّ ما يعجز عنه الأكثرون.
وهذا القياس ، وإن كان قياسا ظاهرا معلوما ، وكالشيء المركوز في الطّباع ، حتى ترى العامّة فيه كالخاصّة ، فإنّ فيه أمرا يجب العلم به : وهو أنه يتصوّر أن يبدأ هذا فيعمل ديباجا ويبدع في نقشه وتصويره ، فيجيء آخر ويعمل ديباجا آخر مثله في نقشه وهيئته وجملة صفته ، حتى لا يفصل الرائي بينهما ، ولا يقع لمن لم يعرف القصّة ولم يخبر الحال إلّا أنّهما صنعة رجل واحد ، وخارجان من تحت يد واحدة. وهكذا الحكم في سائر المصنوعات كالسّوار يصوغه هذا ، ويجيء ذاك فيعمل سوارا مثله ، ويؤدّي صفته كما هي ، حتى لا يغادر منها شيئا البتّة.
وليس يتصوّر مثل ذلك في الكلام ، لأنه لا سبيل إلى أن تجيء إلى معنى بيت من الشّعر ، أو فصل من النثر ، فتؤدّيه بعينه وعلى خاصّيته وصفته بعبارة أخرى ، حتى يكون المفهوم من هذه هو المفهوم من تلك ، لا يخالفه في صفة ولا وجه ولا أمر من الأمور. ولا يغرّنّك قول الناس : «قد أتى بالمعنى بعينه ، وأخذ معنى كلامه فأدّاه على وجه» ، فإنه تسامح منهم ، والمراد أنه أدّى الغرض ، فأمّا أن يؤدي المعنى بعينه على الوجه الذي يكون عليه في كلام الأوّل ، حتى لا تعقل هاهنا إلا ما عقلته هناك ، وحتى يكون حالهما في نفسك حال الصّورتين المشتبهتين في عينك كالسوارين والشّنفين ، في غاية الإحالة ، وظنّ يفضي بصاحبه إلى جهالة عظيمة ، وهي أن تكون الألفاظ مختلفة المعاني إذا فرّقت ، ومتّفقتها إذا جمعت وألّف منها كلام. وذلك أن ليس كلامنا فيما يفهم من لفظتين مفردتين نحو «قعد» و «جلس» ، ولكن فيما فهم من مجموع كلام ومجموع كلام آخر ، نحو أن تنظر في قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) [البقرة : ١٧٩] ، وقول الناس : «قتل البعض إحياء للجميع» ، فإنّه وإن كان قد جرت عادة الناس بأن يقولوا في مثل هذا : «إنهما عبارتان معبّرهما واحد» ، فليس هذا القول قولا يمكن الأخذ بظاهره ، أو يقع لعاقل شكّ أن ليس المفهوم من أحد الكلامين المفهوم من الآخر.
__________________
(١) الشنف : القرط الأعلى أو معلاق في قوف الأذن أي : أعلى الأذن. القاموس / شنف / (١٠٦٧).