وقال إمام
الحرمين في" البرهان" : اختلف أرباب الأصول في مأخذ اللغات ، فذهب
ذاهبون إلى أنها توقيف من الله تعالى ، وصار صائرون إلى أنها تثبت اصطلاحا وتواطؤا
، وذهب الأستاذ أبو إسحاق في طائفة من الأصحاب إلى أن القدر الذي يفهم منه قصد
التواطؤ لا بدّ أن يفرض فيه التوقيف.
والمختار عندنا
أن العقل يجوّز ذلك كلّه ، فأما تجويز التوقيف فلا حاجة إلى تكلّف دليل فيه ،
ومعناه أن يثبت الله تعالى في الصدور علوما بديهيّة بصيغ مخصوصة بمعاني فتتبيّن
العقلاء الصّيغ ومعانيها ، ومعنى التوقيف فيها أن يلقوا وضع الصيغ على حكم الإرادة
والاختيار ، وأما الدليل على تجويز وقوعها اصطلاحا فهو أنه لا يبعد أن يحرك الله
تعالى نفوس العقلاء لذلك ، ويعلم بعضهم مراد بعض ثم ينشئون على اختيارهم صيغا
وتقترن بما يريدون أحوال لهم وإشارات إلى مسمّيات ، وهذا غير مستنكر ، وبهذا
المسلك ينطلق الطفل على طوال ترديد المسمع عليه ما يريد تلقينه وإفهامه ، فإذا ثبت
الجواز في الوجهين لم يبق لما تخيّله الأستاذ وجه والتعويل في التوقيف وفرض
الاصطلاح على علوم تثبت في النفوس ، فإذا لم يمنع ثبوتها لم يبق لمنع التوقيف والاصطلاح
بعدها معنى ، ولا أحد يمنع جواز ثبوت العلوم الضرورية على النحو المبيّن.
فإن قيل : قد
أثبتّم الجواز في الوجهين عموما ، فما الذي اتفق عندكم وقوعه؟
قلنا : ليس هذا
مما يتطرّق إليه بمسالك العقول ، فإن وقوع الجائز لا يستدرك إلّا بالسّمع المحض ،
ولم يثبت عندنا سمع قاطع فيما كان من ذلك ، وليس في قوله تعالى : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) دليل على أحد الجائزين ؛ فإنه لا يمتنع أن تكون اللغات
لم يكن يعلمها فعلّمه الله تعالى إياها ، ولا يمتنع أن الله تعالى أثبتها ابتداء
وعلّمه إياها.
وقال الغزالي
في" المنخول" : قال قائلون : اللغات كلّها اصطلاحية إذ التّوقيف يثبت
بقول الرسول عليه السّلام ، ولا يفهم قوله دون ثبوت اللغة.
وقال آخرون :
هي توقيفية ؛ إذ الاصطلاح يعرض بعد دعاء البعض بالاصطلاح ، ولا بدّ من عبارة يفهم
منها قصد الاصطلاح.