ثم ذكر المحلوف عليه فقال :
(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) أي إنه تعالى جعل حياة الإنسان سلسلة متصلة الجهاد ، مبتدئة بالمشقة ، منتهية بها ؛ فهو لا يزال يقاسى من ضروبها ما يقاسى منذ نشأته فى بطن أمه إلى أن يصير رجلا ، وكلما كبر ازدادت أتعابه وآلامه ، فهو يحتاج إلى تحصيل أرزاقه وتربية أولاده ، وإلى مقارعة الخطوب والنوازل ، ومصابرة النفس على الطاعة والخضوع للواحد المعبود. ثم بعد هذا كله يمرض ويموت ، ويلاقى فى قبره وفى آخرته من المشاقّ والمتاعب ، ما لا يقدر عليه إلا يتيسير الله سبحانه.
والسر فى التنبيه إلى أن الإنسان قد خلق فى عناء ـ الرغبة فى تسلية رسوله صلى الله عليه وسلم ، وحضه على عمل الخير والمثابرة عليه ، وألا يعبأ بما يلاقيه من الشدائد والمشاقّ ، وأن ذلك لا يخلو منه إنسان.
إلى ما فيه من تنبيه المغرورين الذين يشعرون بالقوة فى أنفسهم ، ويظنون أنهم بها يستطيعون مصارعة الأقران ، وكأنه يقول لهم : لا تتمادوا فى غروركم ، ولا تستمروا على صلفكم وكبريائكم ، فإن الإنسان لا يخلو من العناء فى تصريف شئونه وشئون ذويه ، ومهما عظمت منزلته ، وقويت شكيمته. فهو لا يستطيع الخلاص من مشاقّ الحياة.
وقد جمع سبحانه بين البلد المعظم والوالد والولد ، ليشير إلى أن مكة على ما بها من عمل أهلها ستلد مولودا عظيما يكون إكليلا لمجد النوع الإنسانى وشرفه ، وهو دين الإسلام الذي جاء به محمد عليه الصلاة والسلام ؛ وأن العناء الذي يلاقيه إنما هو العناء الذي يصيب الوالد فى تربية ولده ، والمولود فى بلوغ الغاية فى سبيل نموه ؛ إلى ما فيه من الوعد بإتمام نوره ولو كره الكافرون.