من علم الفلك القرآني

الدكتور عدنان الشريف

من علم الفلك القرآني

المؤلف:

الدكتور عدنان الشريف


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلم للملايين
الطبعة: ٢
الصفحات: ١٧٢

( Atome ) ( أي الشيء الذي لا يتجزأ ) وكذلك بعض علماء الهند في القرن السادس قبل الميلاد ، إلا أن الإنسانية ظلت حتى القرن السابع عشر للميلاد تأخذ بآراء أرسطو الخاطئة ونظرية العناصر الأربعة في الطبيعة التي تتكون منها الأشياء ، أي الماء والهواء والتراب والنار. وفي أواسط القرن السابع عشر دخلت فكرة الذرة حيّز الاختبار العلمي مع العالم الإنكليزي « بويل » ( Boyle ).

وفي سنة ١٨٠٨ وضع « دالتون » ( Dalton ) النظرية الذرية الحديثة التي تقول بأن عناصر الطبيعة مؤلفة من جزيئات أولية ، أعطاها اسم « أتوم » أي الشيء الذي لا يتجزأ ، إكراما لعلماء اليونان الأقدمين الذين أطلقوا هذه التسمية على الذرّات.

وفي سنة ١٨٩١ اكتشف « ستوني » و « تومسون » (Thomson et Stony) الإلكترون ، أحد جزيئات الذرّة والوحدة الأساسية للطاقة الكهربائية.

وفي سنة ١٩١١ اكتشف « روذرفورد » ( Rutherford ) نواة الذرة والبروتون ( Proton ) الذي يدخل في تركيبها.

وفي سنة ١٩٠٤ تمكن العالم « تيودور وليام ريشارد » ( Richard ) من تحديد الوزن الذري للذرات معتمدا على معادلة « أفوغادرو » ( Avogadro ) الشهيرة.

ثم تعددت الاكتشافات في عالم الذرة ، وانتقلت الذرة من مجرد تصور فكري قاله بعض الأقدمين إلى حقيقة ملموسة ، وقد أمكن أخيرا في سنة ١٩٧٠ رؤية بعض الذرات بواسطة المجهر الألكتروني (١).

وما يهمنا من هذا العرض السريع لتاريخ اكتشاف الذرّة ومكوّناتها هو.

التشديد على أن القرآن الكريم قد قال بوجود الذرّة وقال بأن لها وزنا ، وقال بأن هناك جزيئات أصغر منها ، في آيات لا لبس فيها ولا غموض هي الآتية :

__________________

(١) راجع : إسحاق عظيموف ، عالم العلم ، ص ٢٥٦ ـ ٢٥٩.

- Isacc Azimov. L’Univers de la Science. Interedition, ١٩٨٦, pp. ٢٥٦ – ٢٥٩.

والأب يوسف يمين ، تاريخ النظرية الذرية ، دار أبعاد للطباعة ، بيروت ، ١٩٨٣.

٢١

( إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ ، وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها ) ( النساء : ٤٠ ).

( وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ ) ( يونس : ٦١ )

( لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ ) ( سبأ : ٣ )

( قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ ، لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ ) ( سبأ : ٢٢ )

( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) ( الزلزلة : ٧ ـ ٨ )

فالذرّة لغويّا هي جزء من الشيء ؛ يقال : ذرر وذرّ ، أي فرّقه أجزاء.

أما أن نفهم معنى كلمة ذرة بأنها ما يرى في شعاع الشمس الداخل في النافذة ، أو واحدة من صغير النمل كما جاء في أكثر التفاسير ، فربما كان ذلك ، والله أعلم ، معنى من معاني كلمة ذرّة.

٤ ـ ( وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ )

جاء في لسان العرب لابن منظور : « والأصل في الزوج الصنف والنوع من كل شيء ، وكل شيئين مقترنين ، شكلين كانا أو نقيضين ، فهما زوجان وكل واحد منهما زوج ».

لقد جاءت مختلف فروع العلوم المادية لتبيّن أنّ كل شيء في الطبيعة بدءا من جزيئات الذرّة وانتهاء بجميع المخلوقات الموجودة في الكون له زوجة ، وهذه أمثلة عن الزوجية في الخلق كما كشفها علم الفيزياء الحديثة : لكل جزء من المادة زوجة ويسمى بضده ؛ فالإلكترون وهو جزء من الذرة له زوجه المختلف عنه بالشحنة الكهربائية التي هي موجبة وتسمى بالبوزيتون ( Positon ) ، والبروتون وهو جزيئ يدخل في تركيب نواة الذرة له زوجة المسمى بمضاد البروتون ، والمادة لها زوجها ويسمى بالمادة المضادة

٢٢

( Antimatiere ). وحتى الكوارك ، وهو أصغر جزء في الذرة ولا يزال حتى الآن افتراضا نظريّا ، له زوجة ، فهناك الكوارك ذو الشحنة الكهربائية السالبة وزوجته الكوارك ذو الشحنة الموجبة. وبصورة عامة فبمقابل كل جسيم أي جزيئ من الذرة اكتشف علماء الفيزياء الذرية زوجه ، وهو جسيم يشبهه ولا يختلف عنه إلا بالشحنة الكهربائية.

ومع اكتشاف المجهر والمرصد في القرن السابع عشر وتطورهما في القرن العشرين ، تمكّن الإنسان من أن يرى بواسطة المجهر الألكتروني أشياء تصل إلى جزء من مائة مليون جزء من السم الواحد ( ٨ ـ ١٠ [ تصوير ] ) أما جزيئات الذرّة فهي خارج الحدود المرئية حتى الآن. وكذلك استطاع الإنسان بواسطة المرصد اليوم أن يرى نجوما هي أقل لمعانا بأربعين مليون مرة من أضعف النجوم التي يراها بالعين المجردة ، ومع ذلك يبقى الكثير من مخلوقات الله غير مرئي مصداقا لقوله تعالى : ( فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ ) ( الحاقّة : ٣٨ ) ، فالكون المرئي ما هو إلا جزء ضئيل من الكون غير المرئي ، فهناك الكتلة غير المرئية ( Invisible Masse ) التي تشكّل ٩٠ % من كتلة الكون وقد اكتشفها العالم زويكي ( Zwicky ) عام ١٩٣٣. ومن الأشعة نحن لا نرى إلا الأشعة المرئية ، وتبقى أشعة X غاما والأشعة ما فوق البنفسجية والأشعة ما تحت الحمراء غير مرئية ، علما أن الإنسان قد عرفها اليوم وعلم عنها الشيء الكثير من خلال تأثيرها المباشر في الأشياء.

٢٣

ثانيا : ( خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ، تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) ( النحل : ٣ ) ( خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ) ( لقمان : ١٠ )

السماء : كل شيء علا شيئا آخر فهو بالنسبة له سماء أو سقف ، فكل شيء علانا في الكون هو بالنسبة لنا سقف أو سماء. وسنجمل في هذا الفصل معنى السماء على أنها الكون.

العمد : أي الدعائم ، اسم جمع للعمود ، وأعمدة : وهو ما تحمل عليه الأشياء الثقيلة العالية كالسقف.

الحق : نقيض الباطل. وللكلمة معان كثيرة حسب الآيات الكريمة التي وردت فيها ، وكلمة الحق في قوله تعالى أعلاه تعني النظام ، والله أعلم.

القوى الأربع التي يقوم عليها النظام الكوني

هناك قوى أربع يستطيع العلم من خلالها أن يشرح كيفية خلق السماوات والأرض والنظام البديع المحكم الذي قامت عليه جميع المخلوقات ، وهذه القوى هي :

١ ـ قوة الجاذبية ( Gravitela de Force ) : وهي أضعف القوى الأربع التي يقوم عليها النظام الكوني ، وهي القوة التي تحكم الأشياء الكبيرة المرئية. ففي الكون كل شيء يتحرك يجذب ويجذب ، والجاذبية هي غراء الكون أي صمغه ، وهي تجذب الأشياء بعضها نحو بعض فتبقى الأشياء على الأرض. وتجعل القمر يدور حول الأرض ، والكواكب (١) حول الشمس ، والنجوم (٢) حول المجرات (٣) ، والمجرات حول أكداس المجرات ، ولو انعدمت

__________________

(١) الكوكب هو كل جرم سماوي كرويّ يزيد قطره عن ألف كلم ويستمد نوره من النجم الذي يدور حوله ، كالأرض وعطارد والمريخ وبقية كواكب النظام الشمسي.

(٢) النجم هو كل كتلة غازيّة مشعّة هائلة الحجم يستمدّ إشعاعه من ذاته.

(٣) المجرّة هي كل تجمّع للنجوم يتراوح عددها بين عشرة ملايين نجم للمجرة القزم وعشرة آلاف مليار نجم للمجرة العملاقة.

٢٤

( إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً )

قوة الجاذبية : يقوم بناء الأشياء على قوى أربع : قوة الجاذبية ، والقوة الكهرطيسية ، والقوة النووية القوية والضعيفة : رسم توضيحي يبين كيف تمسك الشمس بالأرض في فلكها الذي تدور فيه حولها ، من دوران الأرض حول نفسها تنشأ القوة الطاردة أو النابذة ، وهي معادلة ومعاكسة لقوة جذب الشمس على الأرض فتبقى الأرض سابحة في الفضاء حول الشمس. وقد رمز القرآن الكريم إلى هذه القوة وبقية القوى الأربع الأساسية في الكون بقوله تعالى : ( اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ) ( الرعد : ٢ ).

٢٥

الجاذبية لسبح كل شيء في الكون على غير هدى ولتشتتت الكواكب والنجوم والمجرات بغير نظام في أرجاء الكون الفسيح بل لما كان هناك كون.

ولقد ظلت المجتمعات العلمية حتى القرن السابع عشر الميلادي تأخذ بآراء علماء اليونان الأقدمين الذين قالوا بأن النجوم معلقة على كرات من الكريستال ، وأن الأرض ثابتة في مركز الكون ، إلى أن اكتشف العالم الإنكليزي « إسحاق نيوتن » ( Newton ) في القرن السابع عشر الميلادي قوة الجاذبية وأثرها في النظام الكوني. وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه القوة بصورة واضحة بقوله تعالى : ( اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ) ( الرعد : ٢ ).

والجاذبية قوة غير مرئية بالعين المجردة وإن كان العلم اكتشف معادلتها وحساباتها الدقيقة. أما قوتها فمتعلقة بكتلة الأشياء ( Masse ) ، فكلما ازدادت كتلة الأشياء ، زادت قوة جاذبيتها بالنسبة لغيرها ، لذلك لا يظهر أثر الجاذبية واضحا إلا في المقاييس الفلكية ، فكتلة الأرض الهائلة [ تصوير ] ( ٦* ٢٧ ـ ١٠ غرام ) هي التي تمنع الأشياء من أن تسبح في الهواء كما يحصل لرواد الفضاء عند ما يصبحون خارج نطاق الجاذبية. وكتلة الأرض هي التي تجعل القمر يدور حولها ، وكتلة الشمس ( ٣٣ ـ ١٠ [ تصوير ] غرام ) هي التي تمسك بالنظام الشمسي ، وكتلة المجرة ( ٤٤ ـ ١٠ [ تصوير ] غرام ) هي التي تمسك بالنجوم ( ٣٣ ـ ١٠ [ تصوير ] غرام ) ، وكتلة تجمّع المجردات ( ٤٥ ـ ١٠ [ تصوير ] غرام ) هي التي تمسك بالمجرات ، وكدس المجرات ( ٤٧ ـ ١٠ [ تصوير ] غرام ) هو الذي يمسك بتجمّع المجرات.

والكون مؤلف من كتل متزايدة في الوزن تمسك الكبيرة منها بالصغيرة بواسطة قوة الجاذبية الكونية. وهذا الشرح المبسّط لقوة الجاذبية وتأثيرها في الكون يشرح معنى قوله تعالى : ( إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا ) ( بواسطة قوى الجاذبية وبقية القوى الأخرى التي سيلي شرحها ). ( وَلَئِنْ زالَتا ) ( وذلك بإبطال مفعول قوة الجاذبية ، والله قادر على كل شيء ، فالذي خلق ناموس الجاذبية قادر على إلغائه ) ( إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ ) ( كلا ،

٢٦

لا يستطيع أحد أن يمسك السماوات والأرض من أن تزولا إذا ألغى المولى من الكون القوى الأربع التي يقوم عليها نظامه ) ( إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً ) ( فاطر : ٤١ ).

٢ ـ القوة الكهرطيسية ( Electromagnetique Force ) : هي صمغ الذرات أو غراؤها ، وهي القوة التي تمسك بالذرات التي تتكون منها العناصر الطبيعية للأشياء. فالقوة الكهرطيسية مثلا هي التي تربط بين ذرّتي الهيدروجين وذرة الأوكسجين ومنها يتألف الماء ، وهي القوة التي تعطي للأشياء شكلها وتعدادها وجمالها ونوعيتها ، ولو لاها لما كان العدد الهائل من أصناف المخلوقات الحية وغير الحية ، ولكان الكون فقيرا مكوّنا من ذرات العناصر فقط ونواتها. ولقد اكتشف هذه القوة في سنة ١٨٦٤ العالم « جيمس ماكسويل » ( Maxwell James ).

٣ ـ القوة النووية القوية ( La Force Nocleaire Forte ) : هي صمغ جزيئات النواة أي غراؤها ، وهي القوة التي تمسك بجزئيات النواة في الذرة ، Proton ) ) Quark ،.Neutron وهي الأقوى بين بقية القوى الطبيعية ؛ فمبدأ القنبلة النووية قائم على تحرير هذه القوة التي تربط بين جزيئات نواة الذرة ، ولو انعدمت القوة النووية ، لعاد الكون وما فيه إلى حالة بدء نشأته أي جبلة أوليّة مؤلفة من جزيئات المادة كالكوارك والنترون والإلكترون والفوتون. وقد اكتشفت هذه القوة في القرن العشرين مع اكتشاف الانشطار النووي في ذرة معدن الأورانيوم ( سنة ١٩٣٨ ).

٤ ـ القوة النووية الضعيفة ( La Force Nucleaire Faible ) : هي التي تنظّم عملية تحويل وتفتيت الجزيئات في الذرة ، وتتحكم في موت المادة التي ليست خالدة كما كان يظنّ ، فكل عنصر من العناصر الطبيعية له أجل مسمّى ، والقوة النووية الضعيفة هي التي تنظّم ذلك ، ونلاحظ الإعجاز العلمي في قوله تعالى : ( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ ) ( القمر : ٤٩ ) ، و ( قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً ). ( الطلاق : ٣ ) ، و ( ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى ) ( الأحقاف : ٣ ) ، و ( كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ) ( القصص : ٨٨ ). وقد اكتشفت هذه القوة في سنة ١٨٩٦ على يد العالم « بيكريل » ( Becquerel ) عند ما لاحظ أن ذرات الأورانيوم تتفتّت وتتحول إلى

٢٧

صورة تمثل طيف Spectre ضوء النجوم إذا بعدت عنا (٣) أو كانت ثابتة بالنسبة لنا (١) أو اقتربت منا (٢) ، فكلما انزاح ضوء النجوم نحو الأحمر تباعدت عنا ، فتباعدت كل النجوم والمجرات عن بعضها البعض كما ثبت للعلماء من خلال دراسة طيف ضوئها مع اكتشاف الإشعاع الأحفوري Fossile Rayonnement حجري الزاوية في بناء السند العلمي لنظرية الانفجار الكبير.

٢٨

جزيئات تترك أثرها عند ما تصطدم بلوحة فوتوغرافية.

والجدير بالذكر هنا أن قوة الجاذبية والقوة الكهرطيسية والقوة النووية الضعيفة والقوية التي قام ويقوم عليها خلق السماوات والأرض وما بينهما من مخلوقات هي قوى غير مرئية لا يمكن رؤيتها بالعين المجردة أو من خلال المجهر أو المرقب من هنا نفهم وجها من معاني قوله تعالى : ( خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ) ( لقمان : ١٠ ) ، بمعنى خلق السماوات بغير دعائم مرئية. إلا أن العلم استطاع أن يرى هذه القوى ، على نحو لا مباشر ، من خلال المعادلات الحسابية ومن خلال ما تتركه من آثار في الأشياء ، ومن هذه الزاوية نفهم وجها آخر من معاني قوله تعالى : ( اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ) ( الرعد : ٢ ) ، بمعنى خلق السماوات بغير دعائم. ولكن هذه القوى التي ليست بعمد نراها ، ولقد رآها العلم بطريقة غير مباشرة من خلال آثارها الظاهرة والمتخفية في الأشياء منذ القرن السابع عشر. فإذا قرأنا الآية الكريمة التي نحن بصدد التعليق عليها وتوقفنا عند كلمة « ترونها » وجب أن نفهم الآية بالآتي : خلق السماوات بغير عمد مرئية. وإذا قرأناها وتوقفنا عند كلمة « عمد » ثم أكملنا ، وجب أن نفهمها : خلق السماوات بغير عمد ، إلا أننا نرى ذلك وهو ما حصل منذ ثلاثة قرون ، والله أعلم.

ثالثا : ( أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما ) ( الأنبياء : ٣٠ )

( أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها. رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها ) (النازعات : ٢٧ ـ ٢٨)

نظرية الانفجار الكبير ( Big – Bang; L’Explosion Fantastique )

أول من تعرّض لمسألة نشأة الكون من وجهة علمية هو « أينشتاين » ( Einstein ) والعلم الروسي « ألكسندر فريدمن » ( Freidmain ) في بداية القرن العشرين. وفي سنة ١٩٢٧ قال عالم الفلك البلجيكي « جورج لوميتر » ( Lemaitre ) إن الكون كان في بدء نشأته كتلة غازيّة عظيمة الكثافة

٢٩

واللمعان والحرارة ( ٣٢ ـ ١٠ [ تصوير ] درجة ) أسماها البيضة الكونية ( CosmiqueOeuf ) ، ثم حصل في هذه الكتلة بتأثير الضغط الهائل المتأتّي من شدة حرارتها ، انفجار هائل فتّتها وقذف بأجزائها في كل اتجاه ، فتكونت مع مرور الوقت الكواكب والنجوم والمجرات.

وبحسب علماء الفيزياء الفلكية اليوم ، كان الكون بعد جزء من مليارات المليارات من الثانية ( ٤٣ ـ ١٠ [ تصوير ] ) ، ومنذ حوالى خمسة عشر مليار سنة تقريبا ، كتلة هائلة الكثافة شديدة الحرارة ( ٤٣ ـ ١٠ [ تصوير ] درجة مئوية ) بحجم كرة لا يبلغ قطرها جزءا من الألف من السم. وفي عام ١٩٤٠ أيّد عالم أميركي من أصل روسي هو « جورج غاموف » ( Gamow Georges ) نظرية الانفجار الكبير. وفي عام ١٩٦٤ اكتشف العالمان « بانزياس » ( Penzias ) و « ويلسون » ( Wilson ) موجات راديو منبعثة من جميع أرجاء الكون لها نفس الميزات الفيزيائية في أي مكان سجّلت فيه ، فأسميت بالنور المتحجر أو النور الأحفوري Rayonnement ) ) Fossile ، وهو النور الآتي من الأزمنة السحيقة ومن بقايا الانفجار العظيم الذي حصل في الثواني التي تلت نشأة الكون. وهذا الاكتشاف للنور الأحفوري مع اكتشاف توسع الكون ، في سنة ١٩٢٩ ، شكّلا حجر الزاوية في البناء العلمي لنظرية الانفجار الكبير. وفي ١٩٨٦ أرسلت المحطات الفضائية التي أطلقها الاتحاد السوفياتي معلومات تؤيد نظرية الانفجار الهائل وتوسّع الكون الذي نتج عنه.

واليوم يجمع أكثر علماء الفلك على القول إن نظرية الانفجار الكبير لم تعد نظرية بل هي حقيقة علمية. أما الأقلية التي عارضتها سابقا ، فهي مجموعة من العلماء المادّيّين في معتقداتهم ، ربما لأن الإقرار علميّا بحقيقة بدء الكون وتوسعه يتعارض مع معتقداتهم القائلة بأزلية المادة وقدم العالم ، فعند ما يثبت العلم أن للكون بداية فذلك يعني أن له نهاية وأنه مخلوق وليس أزليّا كما ظن الماديون.

أما في القرآن الكريم فالآية التي تقول إن السماوات والأرض كانتا في البدء كتلة واحدة فواضحة لا تتطلب إلا بعض التعليق اللغوي على معنى

٣٠

( وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ )

رسم توضيحي للكون كما يفترض أنه كان في بدء نشأته ، وكيف توسع بفعل الانفجار الكبير الذي حصل في الجبلة البدائية الممثّلة بنقطة متوهجة في وسط الصورة.

( أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها. رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها ).

٣١

« رتق » « وفتق » في قوله تعالى : ( أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما .. ). فكلمة « رتق » تعني ضمّ وجمع ، وكلمة « فتق » تعني فصل ، أي أن السماوات والأرض كانتا مجموعتين ففصلهما المولى. ونلاحظ هنا البلاغة العلمية الإعجازية في كلمتي « رتق » « وفتق » ، فكل رتق قابل للفتق ، وكل فتق قابل للرّتق ، والسماوات والأرض ستعودان كما كانتا عند قيام الساعة ، كما أنبأنا التنزيل وكما يفترض علماء الكونية اليوم.

ملاحظة

هناك قاعدة قرآنية نحب أن نلفت إليها انتباه القارئ ، وهي أنه عند ما يقول المولى في آياته الكريمة : ( أَوَلَمْ يَرَ ) ـ ( أَلَمْ تَرَ ) ـ ( أَوَلَمْ يَرَوْا ... ) فمعنى ذلك أن الإنسان سيرى عاجلا أم آجلا ما أنبأت به الآية ، سواء جاء فعل رأى بصيغة الماضي أم الحاضر أم المستقبل. ولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا مجموعة ثم فصلهما المولى إلا في القرن العشرين ومن خلال المعادلات الحسابية والمراصد والمحطات الفضائية. ولو تيسر لباحث في معتقدات العلماء الذين رأوا هذه الحقيقة الفلكية لوجد أنهم من الذين كفروا مصداقا لقوله : ( أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما ). فسبحان الذي لا تبديل لكلماته.

رابعا : ( وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ) ( الذاريات : ٤٧ )

توسّع الكون ( Expansion de I’Univers )

لغويّا الأيد معناها القوة ، والكلمة مشتقة من وآد وأيّد أي قوّى ، وهذا المعنى لكلمة الأيد نستخلصه أيضا من قوله تعالى : ( وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ ) ( ص : ٤٥ ) ، و ( وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) ( ص : ١٧ ).

ومن مثاني قوله تعالى : ( وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ) ، أي الآيات الكريمة التي تشرحها ، قوله : ( أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما ... ) ( الأنبياء : ٣٠ ) ، و ( أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها. رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها. وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها ) ( النازعات :

٣٢

٢٧ ـ ٢٩ ) ، ذلك أن فصل السماوات والأرض يستتبع بالضرورة توسّعهما. وعلى ضوء استعراض تاريخ اكتشاف توسع الكون تظهر المعاني الإعجازية الكامنة في الآيات الكريمة أعلاه.

ففي عام ١٩١٢ تبيّن للعالم « سليفر » ( Slipher Melvin ) أن المجرات تتباعد عن مجرتنا بصورة متزايدة.

وفي عام ١٩١٦ جاءت نظرية النسبية العامة لأينشتاين تؤيد نظرية توسّع الكون.

وفي عام ١٩٢٩ أكد العالمان « همسن » ( Humason ) و « هوبل » ( Hubble ) نظرية توسّع الكون ، ووضع « هوبل » القاعدة المعروفة باسمه أو قانون تزايد بعد المجرات بالنسبة لمجراتنا وبالنسبة لبعضها البعض ، وبفضل هذا القانون أمكن حساب عمر الكون التقريبي.

ومع تقدم علوم الفيزياء الحديثة أمكن بواسطة دراسة طيف ( Spectre ) ضوء النجوم والمجرات وانزياحه نحو الأحمر ( Shift Red ) أن تحسب السرعة التي تبتعد بها المجرات عن بعضها البعض ( كلما تباعدت النجوم والمجرات عنا انزاح طيفها نحو اللون الأحمر ). فمجموعة المجرات المعروفة بكدس العذراء ( Amas de La Vierge ) يتزايد بعدها عن مجرتنا المسماة « باللبنيّة » ١٢٠٠ كلم في الثانية ؛ ومجموعة المجرات المعروفة بكدس العدار ( Amas de I’hydre ) والذي تفصله عنا مسافة ملياري سنة ضوئية تقريبا ( السنة الضوئية تعادل ١٠ آلاف مليار كلم ) يتزايد بعدها عنا ٦٠ ألف كلم في كل ثانية. وبصورة عامة فإن المجرات وتجمعات المجرات وأكداس المجرات هي أشبه ما تكون بكتل غازيّة هائلة من الدخان ، ما تزال تتوسع وتنتشر ويتوسع معها الكون منذ حصل الانفجار الهائل في الكتلة الغازيّة الأولى. ويشبّه العالم الفلكي المعاصر « هيوبرت ريفز » ( Reeves Hubert ) الكون بقالب من الحلوى انتثرت عليه حباب من العنب

٣٣

هي المجرات ، وهذا القالب يتوسع في مجال يخلقه لنفسه كما ينتفخ قالب الحلوى في الفرن (١).

ولقد أجاب هذا العالم عن سؤال طرح عليه عن نظرية توسّع الكون وهل هي حقيقة علمية فأجاب : نستطيع القول اليوم إن توسّع الكون هو شبه مؤكد ( quasi ـ certain ).

إضافة إلى ذلك يقول علماء الفلك إن انفجار الكتلة الغازيّة الأولى وتوسّع الكون المستمر الذي نشأ من هذا الانفجار هو السبب المنطقي الذي يشرح الظلمة الحالكة في الكون الذي هو شبه خال بالرغم من ملايين المليارات من النجوم التي تسبح فيه. كما أن الانفجار الكبير وتوسّع الكون هو السبب في انتشار الضوء بعد أن كان محبوسا داخل الكتلة الغازيّة الأولى ، ولا يستطيع الإفلات منها بحكم قوة الجاذبية الكامنة فيها. ونقرأ في كتاب الله الكريم ما يشرح ذلك بكلمات :

( أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها. رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها ) ( النازعات : ٢٧ ، ٢٨ ). وقد بيّن علم الكونية اليوم أن بناء السماء وتسويتها كان بفعل رفع سماكة الكون أي بتوسّعه الناتج عن الانفجار الكبير.

( وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها ) ( النازعات : ٢٩ ). كان الكون حتى ثلاثمائة ألف سنة من بدء نشأته شديد الظلمة.

وبعد ثلاثمائة ألف سنة من بدء نشأة الكون ظهر الضوء وذلك عند ما استطاعت جزيئات الضوء ( Photons ) التي يتكون منها أن تترك الكتلة الكونية البدائية التي كانت محصورة فيها ، وذلك بعد أن تغلبت قوة الدفع الناتجة عن الانفجار الذي حصل في الكتلة البدائية للكون على قوة الجاذبية الكامنة فيها والتي كانت تمسك بجزئيات الضوء وتمنعه من الظهور والانتشار. فالضوء لم يظهر إلا بعد ثلاثمائة ألف سنة من بدء نشأة الكون ، وبفعل الانفجار

__________________

(١) « Notre Univers s’etend comme Gonfle dans le four un podding aux raisins dans un espase qu’il cree lui meme ».

راجع : Hubert Reeves. Patience dans L’Azur. Seuil; p. ٣٣.

٣٤

الكبير والتوسع الذي حصل في كتلة الكون البدائية. فالظلام سابق في وجوده على النور كما أثبتت العلوم الفيزيائية الحديثة وكما أشار إلى هذه الحقيقة القرآن الكريم في قوله تعالى : ( وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها ) ( النازعات : ٢٩ ) ، و ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ) ( الأنعام : ١ ).

لما ذا الليل أسود؟

لقد تساءل علماء الفلك منذ قرون عن سبب سواد الليل بالرغم من مليارات النجوم والمجرات التي تلمع في الليل ، ولم يستطيعوا الإجابة عن هذا السؤال بصورة علمية إلا في القرن العشرين من خلال مبدأ توسّع الكون الذي يباعد ويشتت نور النجوم والمجرات. فالليل أسود لأنه لا يوجد ما يكفي من النجوم لملء السماء بالضياء. فكلما توسع الكون تشتت ضوء النجوم ووصل إلينا ضئيلا ، لذلك يبدو الليل أسود. أما في كتاب الله فالإشارة واضحة إلى أن زيادة سماكة السماء أي توسّع الكون هو الذي سوّى السماء وأظلم ليلها وأخرج ضياءها ، كما سبق شرحه في الأسطر القليلة أعلاه.

ومع اتفاق أغلبية علماء الفلك في النصف الثاني من القرن العشرين على حقيقة توسع الكون سقطت فرضية أزلية الكون وقدمه ، وثبت علميّا أن للكون بداية ونهاية. وقد كان آخر من أذعن لهذه الحقيقة الفلكية وأشدّ من حاربها ، كما أسلفنا ، هم علماء الفلك من التابعين للمدارس المادّية الإلحادية التي تقول بقدم وأزلية الكون ، فسبحان الذي صدقنا وعده فأرغم المكابرين على الاعتراف ضمنيا بوجوده رغم أنفهم مصداقا لقوله تعالى : ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ. سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ، أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ. أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ ، أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ ) ( فصّلت : ٥٢ ـ ٥٤ ).

٣٥

خامسا : نهاية الكون

( يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ، كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ ، وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ ) ( الأنبياء : ١٠٤ ).

( وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ، سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) ( الزمر : ٦٧ )

حتى كتابة هذه السطور ليس هناك حقائق علمية ثابتة بما خص نهاية الكون بل نظريتان متعارضتان هما :

نظرية الكون المفتوح إلى ما لا نهاية : أي أن الكون سيظل في توسع دائم إلى الوقت الذي تنفد فيه وقود النجوم فتنطفىء وتموت ، وبموتها يندثر الكون ويفنى تدريجيّا.

نظرية الكون المفتوح ثم المغلق : أي أن الكون سيتوسع إلى حدّ معيّن ، ثم يعود إلى التقلص والانقباض ليرجع كما كان في بدئه. وهذه النظرية هي ما يدعى باللغة العامية الفلكية نظرية « الأكّورديون » الذي ينفتح إلى حدّ ما ثم يرجع إلى ما كان عليه ، والأفضل أن تسمّى بنظرية « سجلّ الكتب » ، وهي تقول إن الكون سيرجع كما بدأ ، كتلة غازيّة ملتهبة عظيمة الحرارة والضغط بعد مائة مليار سنة من بدء الانفجار الهائل الذي حصل منذ خمسة عشر مليار سنة حسب تقديراتهم. بمعنى أن الكون سينتهي بعد خمسة وثمانين مليار سنة من كتابة هذه السطور ، ليبدأ من جديد خلق آخر للكون (١). هذه تقديرات العلماء. أما موعد الساعة الحقيقي فعلمه عند الله : ( يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها ، قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ، ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً ، يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها ، قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) ( الأعراف : ١٨٧ ).

أما في القرآن الكريم ، وهو بيقيننا الكلمة الفصل في صحة العلوم

__________________

(١) Science et Vie. Octobre, ١٩٨٣, p. ٨٠.

٣٦

والنظريات العلمية ، فهناك آيات كثيرة حول تصوير نهاية الكون نفهم منها ، والله أعلم ، بأن الكون سيرجعه المولى كما بدأه : ( يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ ) ( الأنبياء : ١٠٤ ) ، بمعنى أن السماوات والأرض ستعودان مجتمعتين كما كانتا في بدء نشأتهما ، كما جاء في قوله تعالى : ( أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما ) ( الأنبياء : ٣٠ ). ثم يبدأ المولى النشأة الأخرى بكون غير الكون الذي نعرفه اليوم كما جاء في قوله تعالى : ( يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ) ( إبراهيم : ٤٨ ).

وفي الآيات الكريمة التالية التي تصور نهاية الكون بعض التفاصيل التي تشرح حال السماء والنجوم والأرض والجبال عند نهاية الكون وقيام الساعة ، وكلها تؤيد نظرية عودة الكون إلى ما كان عليه في بدء نشأته والله أعلم :

( يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ، كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ ، وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ ) ( الأنبياء : ١٠٤ )

( وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ، سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) ( الزمر : ٦٧ )

( إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ. وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ. وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ ) ( التكوير : ١ ـ ٣ )

( وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ ) ( التكوير : ٦ )

( وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ ) ( التكوير : ١١ )

( إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ. لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ. خافِضَةٌ رافِعَةٌ. إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا. وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا. فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا ) ( الواقعة : ١ ـ ٦ )

( إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ. وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ. وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ ) ( الانفطار : ١ ـ ٣ )

٣٧

( فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ ) ( الرحمن : ٣٧ )

( فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ. وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ. وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ ) ( المرسلات : ٨ ـ ١٠ )

( وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً. فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً. لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً ) ( طه : ١٠٥ ـ ١٠٧ ).

( يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ. وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ ) ( المعارج : ٨ ، ٩ ).

( يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً. وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً ) ( الطور : ٩ ، ١٠ )

ففي كل آية من هذه الآيات الكريمة حقيقة علمية ثابتة لما ستكون عليه حالة السماء والنجوم والكواكب والجبال والبحار عند ما ينتهي الكون الذي يبحثون اليوم علميّا عن كيفية موته. ولو اعتمد علماء الفلك المسلمون في أبحاثهم العلمية اليوم ما أنبأ به القرآن الكريم عن نهاية الكون لكانوا السبّاقين في الوصول إلى أن يثبتوا علميّا بأن الكون سيعود كما بدأ كتلة غازيّة ملتهبة ، فمعجزات القرآن العلمية لا تنتهي ، بعضها اكتشفه العلم منذ قرون أو سنوات ، والبعض الآخر سيكتشفه لاحقا مصدقا لقوله تعالى : ( لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ) ( الأنعام : ٦٧ ).

وهكذا وخلال فترة تصاعدية بدءا من الكوارك وانتهاء بالإنسان ، بدأ تاريخ الكون منذ خمسة عشر مليار سنة تقريبا من الفراغ ، ثم من الجبلة الأولى للجزئيات الأولية ، وانتهاء بجسم الإنسان المؤلف من ٣٠ مليار مليار مليار ( ٣* [ تصوير ] ٢٨ ـ ١٠ ) جزيئ من الذرة. فوجود الإنسان على سطح الأرض لا يشكّل إلا لمحة بصر في تاريخ نشأة الكون وتطوره ، ولو حاولنا أن نصغّر ونضغط تاريخ الكون منذ نشأته وتطوره إلى يومنا هذا بيوم واحد ، لكان ظهور الشمس والأرض في الساعة ١٧ من هذا اليوم ، وظهور الأسماك والزواحف في الساعة ٤١ : ٢٣ منه ، وظهور الديناصور في الساعة ٤٥ : ٢٣ منه وانقراضها بعد تسع دقائق ، وظهور القرود في الساعة ٥٨ : ٢٣. أما الإنسان فلم يظهر على ظهر الأرض إلا منذ إحدى عشرة ثانية فقط.

٣٨

ولو استلهم العلماء المسلمون الأقدمون والمحدثون ـ إلا القلة النادرة منهم ـ كتاب الله الكريم لوجدوا الخطوط الرئيسية العريضة لعلوم الفلك والأجنّة والوراثة والطب الوقائي والمناعة ، وعلوم الأرض المختلفة ، كعلم الجيولوجيا ( علم طبقات الأرض ) وعلم الغلاف الجوّي وعلوم المياه والبحار ، وعلوم توازن البيئة وتلوّثها ، وغيرها من العلوم المادية الطبيعية ، ولكانوا السابقين إلى القول بالمبادئ الأساسية لهذه العلوم ؛ ولو فعلوا ذلك ربما لم تنتظر الإنسانية قرونا طويلة بعد التنزيل حتى تكتشف مع العلماء « كوبرنيك » ( Copernic ) و « غاليله » ( Galilee ) و « كابلر » ( Kepler ) و « نيوتن » ( Newton ) و « هبل » ( Hubble ) و « غاموف » ( Gamov ) و « لوميتر » ( Lemaitre ) و « فون ألن » ( Von Allen ) و « مانديل » ( Mendel ) و « باستور » ( Pasteur ) و « بوفري » ( Bovari ) وغيرهم ، بعض المبادئ الأساسية للعلوم المادية الطبيعية والتي نجدها في كتاب الله الكريم.

٣٩
٤٠