من علم الفلك القرآني

الدكتور عدنان الشريف

من علم الفلك القرآني

المؤلف:

الدكتور عدنان الشريف


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلم للملايين
الطبعة: ٢
الصفحات: ١٧٢

مسافة عشرة آلاف مليون كلم تقريبا (٩٦٠٠) لتتم دورة كاملة واحدة حول الشمس هي مدة السنة الشمسية ( تتألف السنة الشمسية من ٣٦٥ يوما و ٦ ساعات و ٩ دقائق و ٩ ثوان ونصف ، أي ٢٥٦٣٦١ ، ٣٦٥ يوما ).

٢ ـ ( أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً ) ( المرسلات : ٢٥ )

كلمة « كفاتا » لم ترد إلا مرة واحدة في كتاب الله الكريم ، ولذلك نلجأ إلى معاجم اللغة للبحث عن معانيها. ففي لسان العرب لابن منظور نجد أن « كفت » تعني أسرع في العدو والطيران ، ويقال عدوّ كفيت وكفات أي سريع. ومن معاني الكفات أيضا : الموضوع الذي يضم فيه الشيء ويقبض. لذلك نعتقد أن من معاني قوله تعالى : ( أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً ) هو : ألم نجعل الأرض سريعة الدوران ، فهي تدور حول الشمس بسرعة ٨ ، ٢٩ كلم في الثانية وتدور حول نفسها بسرعة ١٦٦٦ كلم في الساعة عند خط الاستواء و ١٥٠٠ كلم في المناطق القطبية. وهكذا نستطيع القول إن القرآن الكريم حدد أن الأرض ليست فقط متحركة بل سريعة الحركة كما بيّنته الأرقام العلمية لا حقا في القرن التاسع عشر ، علما أن لقوله تعالى : ( أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً. أَحْياءً وَأَمْواتاً ) ( المرسلات : ٢٥ ، ٢٦ ) معاني علمية أخرى سنتوقف عندها مطولا في كتاب الثوابت العلمية القرآنية في العلوم الأرضية الذي نعتزم تأليفه قريبا إن شاء الله.

٣ ـ ( رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ ) ( الرحمن : ١٧ )

تمر الأرض خلال دورانها دورة كاملة كل سنة حول الشمس في أربعة مواقع مميزة :

في ٢١ آذار و ٢٣ أيلول يتساوى طول الليل والنهار في كل بقعة من الأرض لأن الشمس في هذا الوقت تكون في مستوى خط الاستواء الأرضي ، فهل مشرق الشمس ومغربها في ٢١ آذار و ٢٣ أيلول وهو ما يسمى بالاعتدالين (Equinoxe du printemps et d’autonne ) هو من معاني قوله تعالى ( رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ )؟ لعل في ذلك إشارة علمية إلى أن مسار الأرض حول الشمس يتخذ شكلا إهليلجيّا وليس دائريّا؟ الله أعلم.

١٠١

وفي ٢١ حزيران يكون أطول نهار وأقصر ليل في السنة بالنسبة للنصف الشمالي من الكرة الأرضية ( Solstice de I’ete ) ، وفي ٢٣ كانون الأول يكون أقصر نهار وأطول ليل في السنة بالنسبة للنصف الشمالي من الكرة الأرضية ( Solstice de I’hiver ). والعكس من هذا بالنسبة للنصف الجنوبي من الكرة الأرضية. فهل مشرق الشمس ومغربها في ٢١ حزيران و ٢٣ كانون الأول هو من معاني قوله تعالى : ( رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ )؟ الله أعلم.

وكل سنة تشرق الشمس في القطب الشمالي لمدة ستة أشهر في نفس الوقت الذي يكون فيه القطب الجنوبي غارقا في ليل دامس ، ثم تنعكس الحال في النصف الآخر من السنة. فهل المشرقان والمغربان في قطبي الأرض هما من معاني قوله تعالى : ( رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ )؟ الله أعلم.

ثانيا : دوران الأرض حول نفسها

في نفس الوقت الذي تدور الأرض فيه حول الشمس ، تدور أيضا حول نفسها ، وقد رمز القرآن الكريم إلى دوران الأرض حول نفسها في آيات عديدة منها :

١ ـ ( اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ )

وردت جملة ( اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ ) في خمس آيات كريمة هي :

( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) ( البقرة : ١٦٤ )

( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ ) ( آل عمران : ١٩٠ )

١٠٢

( وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ )

تدور الأرض حول الشمس في فلك بيضاوي طول محوره الكبير ٣٠٠ مليون كلم ومحيطه ٩٦٠٠ مليون كلم بحيث تكمل دورة واحدة كل سنة حول الشمس ، وتجري الأرض مسافة ٢٤٠٠٠٠٠ كلم يوميّا

١٠٣

( إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ ) ( يونس : ٦ )

( وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ ، أَفَلا تَعْقِلُونَ ) ( المؤمنون : ٨٠ )

( وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ ) ( الروم : ٢٢ )

وعند ما تتكرر الجملة الواحدة في الآيات الكريمة فإن في ذلك تنبيها للقارئ لكي يتدبر المعاني العلمية الكامنة فيها.

وفيما يلي ننظر في « تعاقب » الليل والنهار ، وفي « تفاوتهما » :

تعاقب الليل والنهار : من معاني « اختلاف الليل والنهار » تعاقبهما ، أي أن الليل يأتي بعد النهار والنهار يتلو الليل بفعل دوران الأرض حول نفسها بصورة معتدلة كما نلاحظ من خلال الوقت الممتد بين الغروب والعشاء والفجر وطلوع الشمس. فلو زادت سرعة دوران الأرض حول نفسها عما قدّرها المولى ( ١٠٧ كلم في الساعة ) لحلّ الليل والنهار فجأة خلال تعاقبهما ، ولو نقص دوران الأرض عن سرعته الحالية لحصل العكس. ونلاحظ الإعجاز اللغوي والعلمي في كلمات « نسلخ » و « يغشي » و « حثيثا » و « عسعس » و « تنفّس » في الآيات الكريمة التالية التي تعطي القارئ صورة سمعية حسّيّة ، وتكاد تكون بصرية ، عن التدرّج في تعاقب الليل والنهار :

( وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ ) ( يس : ٣٧ )

( ... يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً ... ) ( الأعراف : ٥٤ )

( وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ. وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ ) ( التكوير ١٧ ، ١٨ )

تفاوت الليل والنهار : من معاني « اختلاف الليل والنهار » أيضا عدم تشابههما بالميزات والخصائص ، فلا ليل يتشابه مع آخر ولا نهار مع آخر منذ خلق الله الأرض وحتى قيام الساعة وهو معنى قوله تعالى : ( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً ) ( الفرقان : ٦٢ ).

١٠٤

( رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ )

تدور الأرض في مسار إهليلجي ( بيضاوي ) حول الشمس وخلال دورة كاملة ، تمر الأرض في أربع مواقع مميزة : في ٢٠ آذار و ٢١ أيلول يتساوى الليل والنهار في كل بقعة من بقاع الأرض ، وفي ٢١ حزيران من كل سنة يكون أطول نهار وأقصر ليل ، وفي ٢١ كانون الأول يكون أطول ليل وأقصر نهار ، فهل مشرقا الأرض ومغرباها في ٢١ آذار و ٢٣ أيلول هما المشرقان والمغربان اللذان أقسم بهما المولى؟ وهل مشرقا الشمس ومغرباها في ٢١ حريزان و ٢١ كانون الأول هما المشرقان والمغربان اللذان أقسم بهما المولى؟ الله أعلم! أليس في هذا القسم دليل علمي قرآني على أن مسار الأرض حول الشمس بيضاوي وليس دائريّا؟؟

١٠٥

ولمن أراد أن يتذكر قدرة المولى في الخلق نورد المعلومات الفلكية عن دوران الأرض حول نفسها والتي جعلت الليل والنهار خلفة أي متعاقبين وغير متشابهين :

تدور الأرض حول نفسها بشكل مائل وليس مستقيم ، أي أن محور دورانها حول نفسها يشكّل مع محورها العمودي زاوية قدرها ٣٧ ، ٢٣ درجة.

ومن هذا الدوران المائل للأرض نشأت الفصول واختلف الليل والنهار ، فلو كان دوران الأرض مستقيما حول محورها العمودي وليس مائلا كما هي حال الكوكبين « جوبيتر » ( Jupiter ) و « فينوس » ( Venus ) لحصل على أرضنا الآتي :

أ ـ لانعدمت الفصول وتساوى الليل والنهار في كل بقعة من الأرض وفي كل أيام السنة.

ب ـ لتفاوتت درجات الحرارة بين الليل والنهار تفاوتا كبيرا بحيث تنعدم إمكانية الحياة على سطح الأرض.

ج ـ لاختلّ كل النظام البديع في تصريف الرياح وتوزيع السحب والماء في مختلف بقاع الأرض.

فلو لا دوران الأرض حول نفسها بشكل مائل ما كان اختلاف الليل والنهار ، لذلك كان اختلاف الليل والنهار آية ، أي برهانا علميّا على وجود الله لقوم يعقلون ولأولي الألباب.

أما القدرة التي جعلت من الأرض مائلة في دورانها حول نفسها دون بقية الكواكب فقد أرجعها الذين نقلنا عنهم هذه المعلومات الفلكية إلى المصادفة العجيبة أو السعيدة حسب أقوالهم ، فهؤلاء ، رغم علمهم ، لا يعقلون وليسوا بأولي الألباب بحسب التعريف القرآني لهم.

ولمن أراد أن يشكر المولى على جعله الليل والنهار « خلفة » نورد المعلومات العلمية التالية المتعلقة باختلاف الليل والنهار :

اختلاف الليل والنهار هو المنظّم لوجود الأحياء : فهجرة الطيور والأسماك والحشرات وغيرها من الأحياء وتوالدها ، وكذلك نمو النبات وتفتّح

١٠٦

( أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً )

لو كان محور دوران الأرض حول نفسها عموديّا وليس مائلا كما يظهر في الصورة لما كانت الأرض مهادا

١٠٧

أزهارها ونضج ثمارها مرتبط باختلاف الليل والنهار. فقد تبين لعلماء الأحياء مؤخرا في القرن العشرين أن في داخل كل حي « ساعة » داخلية حياتية ، أي بيولوجية ، تتأثر بطول النهار والليل وتوقيت الشروق والغروب وكذلك بدرجة الحرارة ، ومنها تعلّم علماء الأحياء دراسة الخصائص الحياتية عند المخلوقات المتأثرة باختلاف الليل والنهار فكانت الزيادة الهائلة في الإنتاج النباتي والحيواني التي عرفناها في القرن العشرين.

فمبدأ البيوت الزجاجية التي تنتج الفواكه والخضار في غير أوانها ، ومبدأ مزارع الدواجن الحديثة والأسماك الاصطناعية التي زادت من إنتاج الثروة الحيوانية بصورة مذهلة ، قائم على فهم التصرفات الحياتية كالنمو والنضج والتوالد والهجرة عند النبات والحيوان. وقد أثبت علم الأحياء أن هذه التصرفات تتأثر مباشرة باختلاف الليل والنهار. من هنا نفهم البعد العلمي الدفين في الرد الذي أوحاه الله لسيدنا موسى عند ما سأله فرعون : من ربّ العالمين؟

( قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ ) ( الشعراء : ٢٣ ) ، ، ( قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ) ( الشعراء : ٢٨ ). فجميع المخلوقات الحية الموجودة ما بين المشرق والمغرب تتأثر ميزاتها وتصرفاتها الحياتية بالمشرق والمغرب واختلافهما. ومن هذه الزاوية العلمية نفهم أيضا معنى من معاني الآيات التي وردت فيها كلمة المشرق والمغرب : ( فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ ). ( المعارج : ٤٠ ) ( رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ ) ( الصافات : ٥ ) ( رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً ) ( المزمل : ٩ ) ( رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) ( الرحمن : ١٧ ، ١٨ ).

٢ ـ إيلاج الليل في النهار والنهار في الليل

( تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ ) ( آل عمران : ٢٧ )

١٠٨

( ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ) ( الحج : ٦١ )

( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) ( لقمان : ٢٩ )

( يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ، ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ ، وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ) ( فاطر : ١٣ )

( يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ ، وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ) ( الحديد : ٦ )

الإيلاج هو إدخال شيء في آخر برفق. والمولى ، سبحانه وتعالى ، بجعله الأرض مائلة عن محورها العمودي خلال دورانها حول نفسها يولج جزءا من الليل في النهار خلال ستة أشهر من السنة فيقصر الليل ويطول النهار ( من ٢١ كانون الأول أطول ليل في السنة ، حتى ٢٢ حزيران أطول نهار في السنة بالنسبة للنصف الشمالي من الكرة الأرضية ، والعكس من ذلك بالنسبة للنصف الجنوبي من الكرة الأرضية ). والمولى سبحانه يولج جزءا من النهار في الليل خلال ستة أشهر من السنة فيقصر النهار ويطول الليل ( من ٢٢ حزيران أطول نهار في السنة ـ ١٥ ساعة تقريبا ـ إلى ٢١ كانون الأول أطول ليل في السنة ـ ١٥ ساعة تقريبا ـ بالنسبة للنصف الشمالي من الكرة الأرضية ، والعكس من ذلك بالنسبة للنصف الجنوبي من الكرة الأرضية ). ويتساوى الليل والنهار في ٢٣ آذار و ٢٣ أيلول تقريبا. ولم ير الإنسان الأسباب الفلكية لزيادة الليل والنهار ونقصهما وتعادلهما إلا بعد قرون من التنزيل مصداقا لقوله تعالى : ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) ( لقمان : ٢٩ ).

١٠٩

٣ ـ امتداد الظل

( أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً ) ( الفرقان : ٤٥ )

إن طول وقصر وانعدام ظل الأشياء غير الشفافة التي تسقط عليها أشعة الشمس يكون تبعا لدوران الأرض حول نفسها ، ولو سكنت الأرض لسكن الظل. ومبدأ الساعة الشمسية قائم على امتداد الظل وموقعه خلال مختلف أوقات النهار ، فالشمس هي دليل الظل ( أي هي تقوده وتسيّره ) والظل دليل على أوقات النهار.

٤ ـ نعمة اختلاف الليل والنهار

( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ ) ( القصص : ٧١ )

( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ ) ( القصص : ٧٢ )

لو سكنت الشمس والأرض عن الدوران لغرق نصف الكرة الأرضية في ليل سرمدي وغرق نصفها الآخر في نهار سرمدي. ومن عاش لبعض الوقت في المناطق القطبية حيث يبقى النهار تقريبا لمدة ستة أشهر وكذلك الليل ، يعرف نعمة تعاقب الليل والنهار التي هي من رحمة الله علينا : ( وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) ( القصص : ٧٣ ).

٥ ـ المشارق والمغارب

( فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ ) ( المعارج : ٤٠ )

ومثاني هذه الآية قوله تعالى : ( وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها. وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها ) ( الشمس : ٣ ، ٤ ) ( هنا يقسم المولى بوقت معيّن في النهار وذلك عند ما تتجلى الشمس أي بشروقها ، ويقسم بوقت معيّن من الليل وذلك عند ما تغشى الظلمة الشمس أي بغروبها ) في الآيات الكريمة دلالة أيضا على دوران الأرض حول

١١٠

نفسها وحول الشمس : فعلى مدار ٢٤ ساعة ، وفي كل ثانية ، هناك شروق على نقطة معيّنة من الأرض يقابله غروب في نفس الوقت ، وعلى مدار أيام السنة تشرق الشمس من مكان مختلف وتغرب في مكان مختلف عن اليوم الآخر. وللآية مفهوم جغرافي أيضا ، فهي تعني أقطار الأرض الواسعة كالشرق الأوسط والشرق الأقصى وبلاد الغرب كما كشفها وقسّمها لا حقا علماء الجغرافيا. كما أن لها دلالة بيولوجية مهمة جدّا ، فجميع الأحياء البحرية والبرية النباتية والحيوانية تتأثر تصرفاتها الحياتية من نمو وتوالد وهجرة بساعة داخلية تتأثر مباشرة بالضوء والظلام وتعاقب الليل والنهار ، كما سبقت الإشارة إليه.

٦ ـ الجبال التي نحسبها ثابتة

( وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ ، صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ ) ( النمل : ٨٨ )

أخيرا نتوقف عند الآية الكريمة التي نرى فيها دليلا قرآنيّا على دوران الأرض حول نفسها :

تدور الأرض بمن عليها من مخلوقات بنفس السرعة ، لذلك نحسب أي نظن خطأ أن الجبال ثابتة ، بينما هي في الحقيقة متحركة تحرّك السحاب. ولتقريب الصورة من ذهن القارئ يكفي أن نتصور قطارين انطلقا في نفس الوقت والاتجاه والسرعة فالراكب في واحد منهما إذا نظر إلى الراكب الموازي له في القطار الآخر يظنه جامدا لا يتحرك.

ملاحظة

يرى البعض في هذه الآية الكريمة وصفا لمشهد من مشاهد يوم القيامة ، ونرى والله أعلم ، أنها مشهد يومي من مشاهد أيام الدنيا ودليل قرآني إعجازي على دوران الأرض حول نفسها استنادا إلى الأدلة القرآنية التالية :

هذه هي الحالات التي تمر فيها الجبال عند قيام الساعة ، كما جاء وصفها في التنزيل :

١١١

( يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً ) ( المزمل : ١٤ )

( يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ. وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ ) ( المعارج : ٨ ، ٩ )

( إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا. وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا. فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا ) ( الواقعة : ٤ ، ٦ )

( وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً. فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً. لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً ) ( طه : ١٠٥ ـ ١٠٧ )

إذن لا وجود للجبال يوم القيامة لأن المولى ينسفها نسفا.

وكلمة « تحسبها » تعني « تظنها خطأ » ، وقد وردت كلمة « حسب » وما اشتق منها في خمس وأربعين آية كريمة وكلها تعني تخيّل وظن واعتقد خطأ ، منها قوله تعالى : ( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ ) ( المؤمنون : ١١٥ ) ، و ( أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ) ( العنكبوت : ٢ ) ، و ( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ، ساءَ ما يَحْكُمُونَ ) ( الجاثية : ٢١ ) ، و ( وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ) ( إبراهيم : ٤٢ ).

فلو كانت الآية الكريمة التي نحن بصددها مشهدا من مشاهد يوم القيامة لما قال المولى « تحسبها » لأنه لا مجال للظن والشك يوم القيامة فبصر الإنسان يومئذ حديد ، وكل شيء نراه يوم القيامة يقين كما جاء في التنزيل : ( فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) ( ق : ٢٢ ).

وأخيرا ، عند قيام الساعة يهدم المولى كل النظام الكوني الحالي قبل أن يستبدله بنظام آخر. ولو كانت الآية الكريمة مشهدا من مشاهد الساعة لما قال المولى في آخرها : ( صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ) ( النمل : ٨٨ ). لذلك نرى أن المنظر الذي توحيه إلينا الآية الكريمة التي نحن

١١٢

( يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ )

حركات الأرض : الدوران السريع ، والترنح ، والنودان ، هي الحركات الأساسية الثلاث الممثلة بالأشكال أعلاه : فالأرض تدور مائلة حول محورها مرة كل ٢٤ ساعة ( إلى اليسار ) ، ويتأرجح محور الأرض المائل بقدر يكفي لعمل دائرة كاملة مرة كل ٢٦ ألف سنة ، وبذلك يرسم المحور مخروطين ، ( في الوسط ) ، وهذه الحركة التي تعرف باسم ترنّح الاعتدالين ، ليست ممهدة تماما ( ليست ملساء ) نظرا لأن جذب الشمس والقمر معا ، يولّد ظاهرة الميسان أو النودان ، ومعناها الحركة الطفيفة المترددة بين الإقدام والإحجام أو التقدم والتأخر ( إلى اليمين )

١١٣

بصددها هو مشهد من مشاهد الحياة الدنيا ، وفيها أتقن المولى صنع كل شيء ، والله أعلم.

ثالثا : رجفة الأرض

( يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ ) ( النازعات : ٦ )

الراجفة اسم صفة ، والضمير في كلمة « الراجفة » يرجع للأرض ، والمنظر مشهد من مشاهد يوم القيامة كما في قوله تعالى : ( يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً ) ( المزمل : ١٤ ) ، وقوله أيضا :

( إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ. لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ. خافِضَةٌ رافِعَةٌ ) ( الواقعة : ١ ـ ٣ ).

والملاحظ هنا أن المولى أسمى الأرض باسم صفتها « الراجفة » ، فمن أسماء الأرض القرآنية إذا الراجفة. أما الرجفة (Tremblement - Tremor) فتعريفها العلمي بأنها كل حركة منتظمة بالنسبة لسطح أو خطّ ثابت. وحركة الرجفة تختلف عن حركة الدوران ، وقد بيّن علم الفلك أن للأرض بالإضافة إلى حركتي الدوران حول نفسها وحول الشمس ، حركة تدخل في التعريف العلمي للرجفة هي الترنح أو التمايل ( Precession ) ، وهي رجفة بطيئة تتمايل خلالها الأرض من اليمين إلى الشمال بالنسبة لمحورها العمودي في مدة تستغرق ٢٥٨٠٠ سنة. وهناك حركة الميسان ( Nutation ) أو الذبذبة التي تجعل من مسار الأرض حول الشمس متعرجا ، وهذه الحركات المختلفة عن دوران الأرض والتي لا نشعر بتأثيرها هي نتيجة تأثير جاذبية القمر والنجوم وبقية الكواكب على الأرض إلا أن القرآن الكريم لم يغفلها لذلك أسمى الأرض بالراجفة.

رابعا : شكل الأرض

( وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها ) ( النازعات : ٣٠ )

شكل الأرض شبه كروي ، فهي مسطحة قليلا في اتجاه محور القطبين ومنتفخة قليلا في اتجاه محور خط الاستواء بفعل دورانها حول نفسها ، لكن هذه الفروقات بشكل الأرض هي من القلة بحيث لا تستطيع أن

١١٤

( يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ )

صور رائعة متتابعة للأرض كما صورتها الأقمار الاصطناعية وفيها يظهر بصورة حسّيّة كيف ينسلخ النهار عن الليل ، وكيف يتعاقبان ، وكيف يتكور أحدهما على الآخر بفعل دوران الأرض حول نفسها

١١٥

تكشفها إلا الحسابات الدقيقة ، فطول شعاع الأرض عند خط الاستواء هو ١٦ ، ٦٣٧٨ كلم ، وطول شعاع الأرض عند القطب هو ٧٧ ، ٦٣٥٦ كلم ، والفرق الضئيل بين طول شعاعي الأرض في منطقة الاستواء والقطب ( ٢٠ كلم تقريبا ) يجعل الأرض تبدو لنا كروية كما رآها رواد الفضاء وصوّرتها الأقمار الاصطناعية ، وإن كانت في الحقيقة بيضاوية ( Ovoide ) أو إهليلجية ( Ellepsoide ) الشكل.

لغويّا ، « دح » تعني الاسترسال والبسط والتوسع والانتفاخ والانفتاح ( يقال رجل دحدح أي قصير وغليظ البطن ). ونلاحظ الإعجاز اللغوي العلمي القرآني في كلمة « دحاها » التي تعني أن المولى جعل الأرض مسطحة وبيضاوية في آن واحد ، فكل جسم عظيم الحجم كالأرض ، وإن كان بيضاوي الشكل ، يبدو للناظر الواقف على جزء منه كأنه مسطح المستوى.

من هذا الشرح المبسط نفهم معنى قوله تعالى : ( وَالْأَرْضِ وَما طَحاها ) ( الشمس : ٦ ) ، و ( وَالْأَرْضَ مَدَدْناها ) ( ق : ٧ ) ، ( وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ) ( الغاشية : ٢٠ ) ، علما أن لهذه الآيات معاني علمية أخرى تدخل في علم الجيولوجيا سنتوسع فيها في كتاب لا حق بإذن الله.

( يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ ) ( الزمر : ٥ )

في هذه الآية الكريمة أيضا دليل على شكل الأرض البيضاوي : فمن معاني كلمة « كوّر » لفّ ، يقال : كوّر الرجل العمامة أي لفّها حول رأسه.

خامسا : هوية الأرض الفلكية

( خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ ) ( التغابن : ٣ )

من معاني كلمة الحق النظام. وهذا ، بالأرقام ، النظام الفلكي الذي جعله المولى في الأرض :

بعدها عن الشمس : وحدة فلكية أي ٦ ، ١٤٩ مليون كلم تقريبا.

سرعة دورانها حول الشمس : ٨ ، ٢٩ كلم في الثانية.

١١٦

سرعة دورانها حول نفسها : ١٦٦٦ كلم في الساعة عند خط الاستواء.

وزنها : ٥٩٧٣ مليار مليار كيلوغرام.

قطرها عند خط الاستواء : ١٢٧٥٦ كلم ( أصغر من قطر الشمس ب ١٠٩ مرات ).

مدة دورانها دورة كاملة حول الشمس : ٣٦٥ يوما وست ساعات و ٩ دقائق وبعض ثوان.

مدة دورانها دورة كاملة حول نفسها : ٢٣ ساعة و ٥٦ دقيقة و ٤ ثوان.

سادسا : ( صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ) ( النمل : ٨٨ )

السببية مبدأ أساسي يعتمده العلم منذ قرون ونبسطه بالآتي : يجب أن تتوافر جميع المسببات المنظّمة في تسلسلها الزمني حتى يكون هناك خلق سوي. فلكل سبب مسبّب ولكل مخلوق أسباب هيّأت ومهّدت لوجوده ، إذ من غير المعقول أن توجد الرئتان قبل وجود الهواء الذي سنتنشقه ، وأن يوجد خيشوم السمكة قبل وجود الماء ، وأن توجد العينان قبل وجود النور. وقد بيّنت علوم الأرض في القرن العشرين أن بدء تكوّن الأرض كان منذ أربعة مليارات سنة ونيف ، ثم سوّيت طبقاتها وأرسيت جبالها وكوّن غلافها الجوي وأخرج منها ماؤها وأمدّت بالطاقة الشمسية خلال مئات الملايين من السنين. وبعدها ظهرت في الماء أول المخلوقات الحية ، وهي الطحالب الزرقاء ذات الخلية الواحدة ، منذ ثلاثة مليارات سنة ونيف. أما تاريخ ظهور أول إنسان على ظهرها فيرجع إلى بضعة ملايين من السنين. هذا التنظيم البديع في تسلسل وإيجاد المسببات الضرورية لحياة الإنسان قبل وجوده على سطح الكرة الأرضية لا يمكن إرجاعه إلا إلى منظّم قادر هو المولى سبحانه وتعالى ، كما يسلّم بذلك أكثر العاقلين من علماء الأحياء الذين قالوا حديثا بمبدإ الغائية ( Intention ) في الكون ، بمعنى أنه تبيّن لهم مؤخرا أن كل شيء في الكون قد وجد لغاية وهدف معيّن ، وأن المخلوقات في الكون كلها مترابطة مع بعضها البعض لغاية أساسية هي خدمة الإنسان. وهذا ما أسموه بمبدإ الأنتروبي ، ومصداقه من قوله تعالى : ( وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ

١١٧

( وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ )

الأرض أو الكواكب الأزرق كما تبدو من الفضاء وهي الكواكب الوحيد من بين كواكب النظام الشمسي التسعة حيث توجد الحياة وذلك بفضل كثافتها وغلافها الجوي وبعدها عن الشمس وغيرها من العوامل التي جعلتها مؤهلة لظهور الحياة على سطحها

١١٨

وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) ( الجاثية : ١٣ ).

( وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ ) ( الرّحمن : ١٠ )

لو كانت الأرض بحجم القمر لانخفضت جاذبيتها إلى السدس مما هي عليه ، فما استطاعت أن تمسك بالماء فوق سطحها ولانعدمت إمكانية الحياة على ظهرها كما هي الحال على سطح القمر ، علما أن القمر والأرض نشئا من كتلة غازية واحدة. من وراء ذلك؟ ( هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ ) ( الحشر : ٢٤ ) ، ( بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) ( البقرة : ٢١٧ ) ، جلّت قدرته.

ولو كانت الأرض بحجم الشمس ، لبلغت جاذبيتها مائة وخمسين مرة عما هي عليه ولارتفع الضغط الجوي على سطحها إلى معدل طنّ واحد في كل بوصة مربّعة ، وفي ذلك استحالة نشأة كل حياة على سطحها ، علما أن الشمس والأرض انفصلتا من كتلة غازية واحدة ، فما علة ذلك؟ ( اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) ( النور : ٣٥ ) ، ( سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) ( الزمر : ٦٧ ).

ولو كانت المسافة التي تفصل الأرض عن الشمس بزيادة أربعة ملايين ونصف المليون من الكيلومترات ( أي ١٥٤ مليون كلم بدلا من ١٥٠ مليون كلم ) لانخفضت درجة حرارتها إلى ١٨٠ درجة تحت الصفر على سطحها ، ولو نقصت هذه المسافة بمقدار مليون ونصف من الكيلومترات ( أي ٥ ، ١٤٨ مليون كلم بدلا من ١٥٠ مليون كلم ) لارتفعت حرارتها إلى ٤٥٠ درجة فوق الصفر ، ولانعدمت في كلتا الحالتين إمكانية الحياة على سطحها. لما ذا هذا الموقع المميّز للأرض بالنسبة للشمس لم يحصل بالنسبة للكواكب الباقية التابعة لنظامنا الشمسي ، علما أن الأرض والشمس وزحل والمشتري والمريخ وعطارد وبقية كواكب النظام الشمسي كانت كتلة واحدة؟ من وراء موقع الأرض المميز؟ الله الذي قال ، عز من قائل : ( أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً ) ( النبأ : ٦ ).

ولو كان دوران الأرض حول محورها العمودي مستقيما وليس مائلا كما

١١٩

هي الحال في دوران كوكب المريخ حول نفسه لانعدمت إمكانية الحياة على سطحها ، ومن وراء ذلك؟ العليم القدير الخبير اللطيف : ( اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً ) ( غافر : ٦٤ ) الّذي ( خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً ) ( الفرقان : ٢ ). ولئن أرجعت القلة من المتعلمين ولا نقول العلماء ، علة هذا النظام المحكم ، المودع في كل الأشياء ، إلى نظريات واهية هي منطق العاجز ، كالأزلية والصدفة والتطور والطبيعة ، فكل عالم حقيقي يرى بعين البصيرة أن كل شيء درسه في حقل اختصاصه هو موقّع بقول رب العالمين : ( صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ) ( النمل : ٨٨ ).

١٢٠