من علم الفلك القرآني

الدكتور عدنان الشريف

من علم الفلك القرآني

المؤلف:

الدكتور عدنان الشريف


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلم للملايين
الطبعة: ٢
الصفحات: ١٧٢

( وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ. لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ )

( الحجر : ١٤ ، ١٥ )

« الدين دواء والعلم غذاء ، وليس الدواء بمغن عن الغذاء ولا الغذاء بمغن عن الدواء »

( الإمام الغزالي )

قال فلكي معاصر عند ما ترجم له معنى قوله تعالى : ( وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) ( يس : ٤٠ ) : « لا يمكن أن يصدر هذا القول منذ خمسة عشر قرنا إلا ممن عاين الكون من أعلى مكان فيه من خالق الكون »

١٢١
١٢٢

الفصل الخامس

النفاذ من أقطار السماوات والأرض

أولا : ( لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ )

( يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا ، لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ ) ( الرحمن : ٣٣ )

١ ـ النفاذ من أقطار السماوات

لغويّا :

النفاذ : جواز الشيء والخلوص منه.

أقطار : جمع قطر ، أي النواحي والجوانب من الشيء.

السلطان : الحجة ، والبرهان ، والقدرة.

منذ الرابع من تشرين الأول سنة ١٩٥٧ تاريخ أول قمر اصطناعي أطلقه الاتحاد السوفياتي حول الأرض ، وحتى كتابة هذه الكلمات ، نفذ الإنسان من أقطار السماوات بسلطان العلم فدار حول الأرض ومشى على سطح القمر وأرسل محطات فضائية ودرس الكواكب التي تتبع النظام الشمسي. إلا أن نفاذ الإنسان من أقطار السماوات لا يزال وسيظل محدودا ومحدودا جدّا ، فأبعد مسافة نفذ إليها الإنسان بشخصه هي ثانية ضوئية ونيف أي المسافة بين الأرض والقمر ( ٣٨٤ ألف كلم ) ، وأبعد مسافة وصل إليها الإنسان بآلته بعد عشر سنوات ونيف هي المسافة بين الأرض والكواكب

١٢٣

( يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ )

صورة للصاروخ ساتورن ٥ وهو « السلطان » الذي بواسطته نفذ الإنسان من أقطار السماوات ، وانتقل من طبق الأرض إلى طبق القمر : طوله ٤٢ مترا ، وعرضه ٧ أمتار ، ويحوي ١٢٣ كلم من الأسلاك الكهربائية ، قوة دفعه ٣٤٠٠ طن ، ويحرق ١٥ طنّا من وقود الكيروزين في الثانية حين انطلاقه

١٢٤

« نبتون » ( Neptune ) أي ٥٤٠٤ مليون كلم. أما أقرب نجم إلينا فيبعد عنا أربع سنوات ضوئية ، وأما أبعد شبه نجم ( الكازار ) فتفصله عنا مسافة تزيد عن عشرة مليارات سنة ضوئية. فالإنسان حتى الآن لم يكتشف من الفضاء إلا مقدار نقطة ماء من محيط. ولقد أنبأ المولى في تنزيله بأن الإنسان سينفذ من أقطار السماوات والأرض بواسطة سلطان العلم ، كما أنبأ أيضا بأن النفاذ من أقطار السماوات يبقى محفوفا بالمخاطر ، ومنها تعرّض المركبات ومن فيها لشواظ من النار والنحاس : ( يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ ) ( الرحمن : ٣٥ ). فالإنس والجن لن يستطيعا استكشاف جميع أقطار السماوات والأرض أو العيش طويلا خارج أقطار الأرض. وتاريخ اكتشاف الفضاء لم يخل يوما من المآسي ، ومنها انفجار المكوك الفضائي الأميركي « تشالنجر ». وبالرغم من أن علماء الفلك يخططون اليوم للنفاذ إلى الأجرام البعيدة بواسطة محطات فضائية ، إلا أن قدرتهم على سبر آفاق الكون تبقى محدودة جدّا بالنسبة للمقاييس الكونية الهائلة. ولو سلّمنا جدلا ، كما يقول أحد علماء الفلك ، أن باستطاعة العلم بناء مركبة فضائية تصل سرعتها إلى سرعة الضوء ، أي ٣٠٠ ألف كلم في الثانية ( وهذا في حدود الاستحالة ، فأسرع المركبات اليوم لا تتجاوز سرعتها ٣٠ كلم في الثانية ) ، فسيبقى الإنسان مدة أربع سنوات على ظهر مركبة تسير بسرعة الضوء حتى يصل إلى أقرب نجم إلينا ، وثلاثين ألف سنة حتى يصل إلى مركز مجرّتنا اللبنية ، و ٢٠٠ ألف سنة حتى يدور حولها ، وعشرة مليارات سنة ونيّفا ليصل إلى أبعد نجم استطاع أن يرصده ، و ٤٠ مليار سنة ليدور حول هذا الكون ، هذا إن بقي الكون بدون توسّع منذ انطلاقه!!!

وعدا مشكلة المسافات الهائلة في الكون ، هناك مشكلة اصطدام المركبة بالنجوم والكويكبات والنيازك. وتكفي الإشارة إلى أن ذرات الهيدروجين الموجودة في الفضاء الكوني والتي تتحول إلى أشعة كونية قاتلة لدى اصطدامها بمركبة تسير بسرعة الضوء وحتى بسرعة أقل من ذلك بكثير.

١٢٥

٢ ـ النفاذ من أقطار الأرض

وكما نفذ الإنسان من أقطار السماوات بسلطان العلم منذ سنة ١٩٥٧ ، كذلك نفذ الإنسان من أقطار الأرض في النصف الآخر من القرن العشرين ، وسبر أعماق المحيطات ووصل فيها إلى عمق ١٠ كلم تقريبا ، وحفر في قشرة الأرض الصلبة بضعة عشر كيلومترا. إلا أنه يبقى أيضا في نفاذه من أقطار الأرض محدودا ، فشعاع الأرض أي المسافة من سطحها إلى مركزها هي ٦٣٧٥ كلم. وفي جوف الأرض شواظ من نار ونحاس أين منهما شواظ الفضاء الخارجي ، فالبراكين المشتعلة والزلازل المدمرة تعطي فكرة عما ينتظر الإنسان وآلته إذا تجاوز الحدود في سبر أقطار الأرض مصدقا لقوله تعالى : ( يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ ) ( الرحمن : ٣٥ ).

تعليق

رأى كثير من المفسرين ممن نجلّ ونحترم ، في الآيتين الكريمتين أعلاه ، مشهدا من مشاهد يوم القيامة ، فقد كتب ابن كثير : « معنى الآية أنكم لا تستطيعون هربا من أمر الله وقدره ، بل هو محيط بكم لا تقدرون على التخلص من حكمه ، أينما ذهبتم أحيط بكم فلا يقدر أحد على الذهاب إلا بسلطان ، أي بأمر الله وإرادته ». وهذا التفسير هو وجه من وجوه الآيتين الكريمتين أعلاه ، يؤيده قوله تعالى على لسان مؤمن بني فرعون منذرا قومه : ( وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ. يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ ، وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ ) ( غافر : ٣٢ ، ٣٣ ). كما أن القول بأن الآيتين الكريمتين هما نبأ من القرآن الكريم أن الإنسان سينفذ يوما ما من أقطار السماوات والأرض هو وجه آخر من معانيهما ، استنادا إلى قوله تعالى أيضا : ( لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ ) ( الانشقاق : ١٩ ). إلا أن هذا لا يمنعنا دائما من القول : الله أعلم بتأويل كلماته ، فلكل آية عدا المحكم ، معان عدة ، والاختلاف في فهم بعض الآيات الكريمة لا يتعارض مع احترام ما جاء عن كل ذي علم من المفسرين من الأقدمين والمحدثين.

١٢٦

( وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ )

صورة توضيحية لطريق العودة من الفضاء الخارجي الذي يجب أن تسلكه المركبة الفضائية : إن سلكت المركبة المسار رقم (١) فسترجع إلى الفضاء ، وإن سلكت المسار رقم (٣) فستحترق في الغلاف الجوي الأرضي ، لذا يجب أن تسير في طريق معيّن رقم (٢) ومن خلال زاوية معيّنة حتى تتمكن من أن تصل إلى الأرض سالمة

( فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ. وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ )

صورة تاريخية لانتقال الإنسان من طبق الأرض إلى طبق القمر في ٢١ تموز ١٩٦٩

١٢٧

ثانيا : ( لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ )

( فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ. وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ. وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ. لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ ) ( الانشقاق : ١٦ ـ ١٩ )

جاء في لسان العرب أن الطبق غطاء كل شيء ، طبق الأرض وجهها ، والسماوات الطباق سمّيت بذلك لمطابقة بعضها بعضا أي بعضها فوق بعض. وفي الحديث : « لله مائة رحمة ، كل رحمة منها كطباق الأرض ». عن صفات المولى : « حجابه النور لو كشف طبقة لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره ». وعن الصحابي الجليل ابن مسعود رضي‌الله‌عنه قوله في معنى ( لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ ) : لتركبن السماء حالا بعد حال. وعن الزجّاج : لتركبنّ طبقا عن طبق من أطباق السماء.

أقسم المولى بالشفق والليل والقمر بأن الإنسان سيركب طبقا عن طبق. ولقد ظل الإنسان يحلم بالطيران والانتقال من طبق الأرض إلى أطباق السماوات منذ القدم إلى أن تحقق حمله هذا منذ القرن الثامن.

وهذه بالأرقام المحطات التاريخية الكبرى الناجحة في انتقال الإنسان من طبق الأرض إلى أطباق السماوات :

في ٢١ تشرين الثاني ١٧٨٣ انتقل الإنسان بواسطة المنطاد ( Ballon ) من طبق الأرض إلى طبقة الغلاف الجوي الأولى المسمّاة « بالتروبوسفار » ( Troposphere ) ، فارتفع الفرنسي المدعو « روزيه » مئات الأمتار فوق باريس لمدة خمس وعشرين دقيقة.

وفي ١٧ كانون الأول ١٩٠٣ انتقل الأخوان « رأيت » على متن أول طائرة بنياها بنفسيهما ، ولمدة عشرات الثواني فقط ، من طبق الأرض إلى الطبقة السفلى من الغلاف الجوي الأرضي أيضا.

وفي ١٨ آذار ١٩٦٥ ركب أول إنسان الفضاء الخارجي ، إذ مشى الرائد « ألكسي ليونوف » ( LeonovAlexi ) خلال ١٢ دقيقة على طبق الفضاء

١٢٨

الخارجي بعيدا عن جاذبية الأرض التي انتقل منها بواسطة المركبة « فوسكود » ( Voskhod ).

وفي ٢١ تموز ١٩٦٩ انتقل الرائدان الفضائيان « أرمسترونغ » ( Armstrong ) و « ألدرين » ( Aldrin ) من طبق الأرض إلى طبق القمر ، وقد شاهد ذلك الحدث ملايين الناس من على شاشات التلفزة. وبين عامي ١٩٦٩ و ١٩٧٢ وطئ الإنسان أرض القمر سبع مرات.

وفي ١٤ أيار سنة ١٩٧٣ أرسلت الولايات المتحدة الأميركية أول محطة فضائية أسمتها مختبر الفضاء ( Skylab ) ، وهي أسطوانية الشكل طولها ١٥ مترا وعرضها ٦ ، ٦ أمتار ووزنها ٧٠ طنّا ، وهي بشكل الطبق ، وقد انتقل إليها من طبق الأرض ثلاث مجموعات من رواد الفضاء ، فأمضت المجموعة الأولى ٢٨ يوما ، والثانية ٤٥ يوما ، والثالثة ٨٤ يوما ، ثم رجعت هذه المجموعات إلى طبق الأرض.

وفي سنة ١٩٧٦ التحمت المركبة الروسية « ساليوت » ( Saliot ) بالمركبة الفضائية « أبولو » ، واسمها حرفيّا الطبق أبولو ، وانتقل أفراد المركبات من طبق اصطناعي إلى آخر.

أخيرا ، يخطط علماء الفلك اليوم لبناء محطات فضائية عملاقة سابحة في الفضاء الخارجي لكي ينتقل الإنسان منها إلى كواكب أخرى.

تعليق

الآيات الكريمة أعلاه تعطي فكرة واضحة عن الإعجاز العلمي أو التحدي التاريخي في القرآن الكريم أو ما أسميناه بالجدلية العلمية المنطقية في القرآن الكريم. فلقد أقسم المولى « بالشفق » و « الليل » و « القمر » بأن الإنسان سيركب طبقا عن طبق ، أي سينتقل من سماء إلى سماء ، وهذا ما حصل بعد قرون من التنزيل ، ثم أتبع قسمه بقوله : ( فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ ) ( الانشقاق : ٢٠ ، ٢١ ) ، بمعنى : لما ذا لا يؤمن الإنسان وقد رأى الإعجاز في خلق الشفق والليل وما يحويه من كائنات والقمر ، وتحقق كذلك مما أنبأه المولى بأنه سيركب طبقا عن طبق؟

١٢٩

ثالثا : أبواب السماء

( لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ. وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ. لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ ) ( الحجر : ١٣ ـ ١٥ )

في ١٢ نيسان من سنة ١٩٦٢ سرى في العالم نبأ تناقلته وسائل الإعلام بإعجاب وتعجب ، فلقد أرسل الاتحاد السوفياتي أول إنسان إلى الفضاء ليدور حول الأرض ، ولقد كانت الكلمات الأولى التي تفوّه بها الرائد « غاغارين » السوفياتي الهوية ، الشيوعي العقيدة ، عند ما أصبح في مداره حول الأرض ونظر من كوّة مركبته فرأى بديع خلق السماوات والأرض هو ما ترجمته الحرفية : « ما ذا أرى؟ هل أنا في حلم أم سحرت عيناي »؟

أما من تمعّن في كل كلمة من الآيات الكريمة أعلاه عما سيقوله الذين لا يؤمنون بالله ولو فتح عليهم بابا من السماء ، فسيردد بخشوع :

سبحان الذي لا تبديل لكلماته ، والحمد لله الذي صدقنا ما جاء في آياته بعد قرون من التنزيل مصداقا لقوله : ( وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ) ( ص : ٨٨ ).

هل للسماء أبواب؟

نعم. فلقد وصف المولى السماء « بذات الحبك » أي بذات الطّرق ، ولكل طريق أبواب عدة ، ولم ينفذ علماء الفلك من الغلاف الجوي الأرضي ويسبروا شيئا من أقطار السماوات إلا من خلال الأبواب والطرائق الموجودة في الغلاف الجوي الأرضي والفضاء الخارجي. فكل مركبة فضائية يجب أن تنطلق في زاوية معيّنة وفي مسار معيّن كي تستطيع النفاذ من نطاق جاذبية الأرض إلى الفضاء الخارجي. وهناك آلاف الأدمغة الألكترونية التي تصحح سير المركبة كلما ضلّت عن مسارها ، كما أن على المركبات الفضائية خلال عودتها إلى الأرض من الفضاء الخارجي الدخول والسلوك من فتحات وطرائق معيّنة في الغلاف الجوي الأرضي وإلا بقيت

١٣٠

( وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ )

القمر الاصطناعي إيرس Iras حين انطلاقه ، لاحظ مساره المتعرج

١٣١

في الفضاء الخارجي أو احترقت قبل وصولها إلى الأرض. وهو ما كاد يحصل لإحدى المركبات الفضائية منذ سنوات عند ما تعطلت لبعض الوقت الأجهزة التي توجّهها نحو الفتحة أو الباب الذي يجب أن تدخل من خلاله في الغلاف الجوي الأرضي. وقد ظل العلماء يومئذ يحبسون أنفاسهم مع الرواد الثلاثة الذين كانوا على متنها إلى أن يسّر لهم المولى سبل ولوج الباب الذي نفذوا منه بمركبتهم سالمين إلى الأرض. ولقد وصف علماء الفلك عودة رواد الفضاء من القمر إلى الأرض بما ترجمته كالآتي (١) : « في يوم الخميس من ٢٤ تموز سنة ١٩٦٩ وفي الساعة ١٧ و ٢٠ دقيقة ألقى رواد الفضاء من حمولتهم ودخلوا في الغلاف الجوي الأرضي بسرعة ١١ كلم في الثانية من خلال ممرّ ارتفاعه ٦٥ كلم ، فإن دخلوا من ممرّ أعلى ارتدّوا وعادوا إلى الفضاء الخارجي ، وإن دخلوا من ممرّ أسفل من الممر المحدّد كان حريقهم وموتهم ».

والجدير بالذكر أن المسار الذي سلكه الإنسان وآلته في النفاذ من الأرض إلى الفضاء هو طريق متعرج وليس مستقيما ، وهنا نلاحظ الإعجاز العلمي القرآني في كلمة « يعرجون » أي يصعدون بصورة متعرّجة ، ونفهم لما ذا أسمى المولى سورة من كتابه « بالمعارج » ، ولما ذا وصف نفسه « بذي المعارج » أي برب السماء ذات الطرقات المتعرجة : ( سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ. لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ. مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ ) ( المعارج : ١ ـ ٣ ).

وفي كلمة أخيرة نقول : إن ما اكتشفه الإنسان من أبواب وطرائق في السماء ، ما هو إلا القليل. أما يوم القيامة فستفتح جميع أبواب السماء ، من قوله تعالى : ( وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً ) ( النبأ : ١٩ ).

__________________

(١) Frantisek Link. La Lune. Que Sais – Je Presses Universitaires de France, p. ١٢١.

١٣٢

رابعاً : رحلة على متن المركبة الفضائية « كولومبيا »

مع تقدم علم الفلك وصعود الإنسان في مركبات تدور به حول الأرض يعقل المسلم اليوم المعنى الإعجازي العلمي الكامن في كثير من الآيات الكريمة ، ذلك بعد أن يطلع على ما كتبه رواد الفضاء عن الأرض والفضاء الخارجي الذي عاينوه ومشوا فيه. وهذا ملخّص لمقال نشره في « الواشنطن پوست » عام ١٩٨٣ أحد رواد السفينة الفضائية « كولومبيا » العالم الفيزيائي « جوزيف ألن » ( Allen Joseph ) ، خلال إحدى دوراتها حول الأرض في ١١ تشرين الثاني ١٩٨٢ ، مع تعليقنا القرآني على بعض فقراته.

١ ـ « إن طيران المركبة يبدأ بتسارع خاطف من صفر إلى ٢٨ ألف كلم في الساعة في أقل من تسع دقائق ». يفهم القارئ من خلال هذا الشرح معنى كلمة « سلطان » في قوله تعالى : ( يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا ، لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ ) ( الرحمن : ٣٣ ).

٢ ـ « يتأكد المرء بأمّ عينه من كروية الأرض التي نعيش عليها ودورانها حول نفسها وتعاقب الليل والنهار على سطحها وتداخلهما في بعضهما حتى تصبح هذه الحقائق العلمية وكأنها أشياء عادية بالنسبة لرائد الفضاء ».

وفي التنزيل نقرأ : ( وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) ( يس : ٤٠ ) ، ( يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً ) ( الأعراف : ٥٤ ) ، ( يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ ) ( الزمر : ٥ ).

٣ ـ « في الفضاء يحلّ الليل بصورة مفاجأة وبسرعة تقطع الأنفاس وتغشي العيون ، وليس بصورة تدريجية كما هي الحال في الأرض ، فليل الفضاء الخارجي هو من أشد الأشياء السوداء التي رأيتها في حياتي ».

لاحظ وصف القرآن الكريم لظلمة السماء : ( وَأَغْطَشَ ) ( أظلم ) ( لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها ) ( النازعات : ٢٩ ).

٤ ـ « في الفضاء الخارجي ، تظهر الشمس فجأة وتلمع كأنها ضوء

١٣٣

صاعقة مبددة في خلال ثوان في هذا الليل الحالك ، إذ لا وجود في الفضاء الخارجي لشروق أو غروب تدريجي للشمس بل في خلال ثوان ، بل هناك ليل مظلم من أحلك الظلمات أو نهار ساطع النور ». نفهم من هذا الوصف نعمة الشروق والغروب وقد أقسم بهما المولى في آيات عديدة توقفنا عندها في فصل سابق.

٥ ـ « بعودة المركبة كولومبيا ، أروع آلة بناها الإنسان ، تكون قد قطعت ثلاثة ملايين كلم دارت خلالها ٨٢ دورة حول الأرض ، بخفة بساط طائر مع حادث طفيف فقط هو احتراق « لمبتين » في مستودع المركبة ».

ملاحظة

إن كان لنا من تعليق على ما كتبه الفيزيائي « جوزيف ألن » فهو أنه كزميله الرائد « غاغارين ». فبالرغم من بديع ما رأى الاثنان خلال دورانهما حول الأرض لم يصلنا عن لسانهما إلا الإعجاب بما صنعه الإنسان ، والذهول أمام عظمة الكون ، والسكوت المطبق عمّن خلق الكون. فسبحان الذي لا تبديل لكلماته في وصف الإنسان : ( إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ ) ( العاديات : ٦ ).

خامسا : ( وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ )

هل من حياة في غير الأرض

( وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ ، وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ ) ( الشورى : ٢٩ )

حتى الآن لم يتأكد علماء الفلك من وجود أحياء إلا في الأرض ، فهي الكوكب الوحيد المأهول بالحياة دون بقية الكواكب التسعة التي تؤلف مع الشمس نظامنا الشمسي ، علما أنه قد يكون في المجرّة اللبنية التي يتبع لها نظامنا الشمسي ملايين النّظم التي تشبه نظامنا ، فلما ذا لا يكون أحياء على كواكب أخرى من غير نظامنا الشمسي؟ وما مجرتنا اللبنية المؤلفة من مائة مليار نجم إلا واحدة من مائة مليار مجرة ، فلما ذا تكون الأرض هي الكوكب

١٣٤

( وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ )

صورة رائعة لكوكب المشتري Saturne مع ستة من أقماره كما التقطتها عربة الفضاء ، المسافر ١١Voyager ) في سنة ١٩٨٠ وجمعتها في صورة واحدة مؤسسة « النازا » في الولايات المتحدة الأميركية

١٣٥

الوحيد المأهول بين الملايين والمليارات من الكواكب في هذا الكون؟ هذا ما تساءل عنه علماء الفلك منذ وقت طويل ، وحاولوا منذ بضع عشرة سنة ، ولسنوات عدة ، التفتيش عن أحياء خارج النظام الشمسي والاتصال بها عبر رسائل لا سلكية أطلقوها من الأرض في جميع اتجاهات الكون ، كما وجّهوا لسنوات محطّات التنصّت الأرضية نحو المجرات البعيدة والقريبة علّهم يتلقّون منها إشارات عن أحياء يفترضون وجودهم في بقية الكواكب ، إلا أن جهودهم هذه باءت بالفشل ، فحتى كتابة هذه الكلمات لم يثبت العلم أن هناك أحياء في غير كوكب الأرض.

من موقع إيماني ، واستنادا إلى كتاب الله العظيم ، ومن خلال العديد من آياته الكريمة ، يمكننا القول إن هناك أحياء غير الملائكة في غير كوكب الأرض ، فمن الآية الكريمة أعلاه والآيات الكريمة التالية يمكننا الاستنتاج أن في السماوات والأرض مخلوقات حية تسبّح لله وتسجد له : ( تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ، وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ، إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً ) ( الإسراء : ٤٤ ) ، و ( وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ. يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ ) ( النحل : ٤٩ ، ٥٠ ).

وروي عن الرسول الكريم قوله : « لله دار بيضاء مشحونة خلقا كثيرا ، مسيرة الشمس فيها ثلاثون يوما مثل أيام الدنيا ثلاثين مرة ، لا يعلمون أن الله يعصى في الأرض ولا يعلمون أن الله خلق آدم وإبليس ».

واستنادا إلى كتاب الله الحكيم نستطيع القول أيضا إن هذه الأحياء ليست من الجنس البشري ، فالإنسان مهما بلغ من علم لن يستطيع أن يعيش لمدة طويلة إلا في الأرض ، كما جاء في قوله تعالى : ( وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ ) ( البقرة : ٣٦ ) ، و ( وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ. قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ ) ( الأعراف : ٢٤ ، ٢٥ ).

١٣٦

فحياة الإنسان في المحطات الفضائية الاصطناعية صعبة جدّا ومؤقتة ، هذا عدا التكاليف المالية الباهظة للإقامة في غير الأرض : فلقد جاء في آخر تحقيق عن حياة رواد الفضاء وقد أمضى أحدهم ما يقرب من سنة ( ٣٥٢ يوما ) في المحطة الفضائية الروسية « مير » ( Mir ) ما يلي : « حياة الإنسان في الفضاء الخارجي ، بحكم انعدام الجاذبية ، ليست بالسهلة أبدا ، فالإنسان خلق ليعيش في الجاذبية وليس خارج نطاقها ، فكل حركة من حركاته اليومية يجب أن تدرس وعليه أن يتصرف على أساس عدم وجود الجاذبية ، كما عليه أن يرى نفسه والأشياء تتطاير من حوله ، وعليه القيام كل يوم بساعتين من التمارين الرياضية كي لا تضمر عضلاته وتلين عظامه ويضعف قلبه. أما التغيرات البيولوجية في داخل دمه ووظائف أعضائه فكثيرة وإن كان لم يظهر أثرها السلبي حتى الآن ».

وحتى لو استطاع الإنسان ، كما يفكرون ، بناء مستعمرات في الفضاء وجهّزها بحيث تتوافر فيها جميع الشروط الطبيعية المتواجدة على سطح الأرض فلن يستطيع الانتصار ، مصداقا لقوله تعالى : ( يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا ، لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ. يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ ) ( الرحمن : ٣٣ ـ ٣٥ )

فلينفقوا مليارات الدولارات على أحلام استعمار الفضاء الخارجي ، فلن ينتصروا ، ولو فهموا والتزموا بما أعلمهم به رب العالمين لأنفقوا الأموال الطائلة في تحسين مستوى عيش الإنسانية التي يعاني خمسها اليوم من الفقر والجوع والمرض والجهل ، بدل التخطيط والإنفاق في سبيل استعمار الفضاء وحرب النجوم ، ولكن الإنسان كان ولا يزال وسيظل كما وصفه رب العالمين ظلوما جهولا : ( إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً ) ( الأحزاب : ٧٢ ).

١٣٧
١٣٨

( وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ )

( ق : ٣٨ )

المادة تبطئ الوقت : فالزمن يمر بصورة أبطأ كلما زادت الجاذبية ، والزمن يمر بصورة أسرع كلما قلّت الجاذبية »

( من كتاب « النغم السري » للعالم « ترين تيان »

في شرحه نظرية نسبية الزمن والمكان والسرعة )

« كل ما هو حولنا نسبي ، وكل معارفنا الطبيعية التي توهّمنا أنها حقائق راهنة لا غبار عليها إن هي إلا نتائج نسبية لا حقيقة مطلقة لها ... إن لكل مكان زمانا ... الوقت يقصر أو يطول بتغير الفضاء ولكن لا نشعر بذلك لأن كل المدد والأبعاد تقصر أو تطول بنفس النسبة ... المكان والزمان يختلفان بالمقدار باختلاف الفضاء المنسوبين إليه ... »

( مقتطفات من مقال للعالم « حسن كامل الصباح » في

شرح نظرية النسبية من كتاب : « حسن كامل الصباح :

كتابات مختارة » ، إعداد وتقديم سعيد صباح )

١٣٩
١٤٠