من علم الفلك القرآني

الدكتور عدنان الشريف

من علم الفلك القرآني

المؤلف:

الدكتور عدنان الشريف


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلم للملايين
الطبعة: ٢
الصفحات: ١٧٢

الفصل السادس

اليوم والنسبية في القرآن الكريم

أولا : نسبية الزمن

معاني « اليوم » في القرآن الكريم

سبقت الإشارة إلى أن الجملة والسياق القرآنيين هما اللذان يعطيان للكلمة معانيها في القرآن الكريم وليس العكس ، والتنزيل هو الذي أغنى ويغني اللغة العربية بمعاني المفردات ، إذ إن للكلمة في القرآن الكريم معاني عدة. ومن الأمثلة على ذلك معنى كلمة « اليوم » ، وهو مدة زمنية نسبية أي مرتبطة بالمكان والسرعة :

فيوم القيامة أو يوم الحساب فترة زمنية لا يعرف توقيتها ومدتها إلا الخالق ، وهو من الأشياء الغيبية.

و « اليوم » بالنسبة لمن يعيش على الأرض أو « اليوم الأرضي » هو المدة الزمنية التي يتطلبها دوران الأرض حول نفسها دورة كاملة ، ومدته ٢٤ ساعة تقريبا.

واليوم بالنسبة للملائكة والروح يعادل خمسين ألف سنة من أيام الدنيا : ( تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) ( المعارج : ٤ ). وقوله تعالى هذا نفهمه ، والله أعلم ، بأن ما تقطعه الملائكة من مسافة في يوم واحد يتطلب مدة خمسين ألف سنة من سني

١٤١

الدنيا وبالسرعة التي استطعنا أن نعدّها وهي سرعة الضوء أي ٣٠٠ ألف كلم في الثانية. وفي ذلك إشارة خفية إلى السرعة الهائلة التي زوّد بها المولى الملائكة والروح حين تعرج إليه.

واليوم بالنسبة لمن ينفّذ أمر الله من جنوده ، ( وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ ) ( المدثر : ٣١ ) ، يعادل ألف سنة من أيام الدنيا : ( يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ) ( السجدة : ٥ ). وفي ذلك أيضا إشارة لطيفة إلى السرعة الهائلة في تدبير وتنفيذ أوامر الله ، والله أعلم. والإنسان اليوم يعدّ بالسنين الضوئية المسافات الهائلة التي تفصله عن النجوم والمجرات.

ويوم من العذاب في الآخرة ، الذي يستعجله الكفّار في الحياة الدنيا ، معادل لألف سنة من أيام العذاب في الدنيا : ( وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ ، وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ) ( الحج : ٤٧ ) ، والله أعلم.

« والستة أيام » التي خلق فيها المولى السماوات والأرض وما بينهما هي حقب زمنية طويلة أرجعها العلم إلى مليارات السنين من أيام الدنيا ( ١٦ مليار سنة تقريبا ) وإن كان تقديرها الصحيح لا يعرفه ولن يعرفه إلا المولى : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ ) ( ق : ٣٨ ).

واليومان اللذان خلق فيهما المولى الأرض هما حقبتان زمنيتان قدّرهما العلماء بمئات الملايين من السنين : ( قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ، ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ ) ( فصلت : ٩ ).

وكذلك بالنسبة للأيام الأربعة التي استغرقها خلق الجبال وتقدير أقوات الأرض فيها ومباركتها : ( وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ ) ( فصلت : ١٠ ). وكذلك اليومان أيضا بالنسبة للانتهاء من تسوية طبقات الأرض وغلافها الجوي : ( ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ، قالَتا أَتَيْنا

١٤٢

طائِعِينَ. فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها ) ( فصلت : ١١ ـ ١٢ ).

تنبيه

وردت جملة « ستة أيام » ، وهي الحقب الزمنية التي خلق فيها المولى السماوات والأرض ، في سبع آيات كريمة هي الآتية :

( إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً ، وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ ، أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ، تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ ) ( الأعراف : ٥٤ )

( إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ، يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ، ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ، ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ، أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) ( يونس : ٣ )

( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ، وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ ) ( هود : ٧ )

( الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ، الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً ) ( الفرقان : ٥٩ )

( اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ، ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ ، أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ ) ( السّجدة : ٤ )

( وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ ) ( ق : ٣٨ )

( هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ، يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها ، وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) ( الحديد : ٤ )

١٤٣

أما مجموع الأيام في الآيات التالية من سورة « فصّلت » فهي ثمانية :

( قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ، ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ ) ( فصّلت : ٩ )

( وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ. ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ، قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ. فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها ، وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ ، وَحِفْظاً ، ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ) ( فصلت : ١٠ ـ ١٢ )

ولقد تبادر إلى ذهن البعض من اللامزين أن هناك تناقضا في مضمون الآيات الكريمة السابقة ، ربما لأنهم لم يعقلوا المعنى العلمي للسماوات في الآيات السبع الأولى ( الأعراف : ٥٤ ، يونس : ٣ ، هود : ٧ ، الفرقان : ٥٩ ، السجدة : ٤ ، ق : ٢٨ ، الحديد : ٤ ) ، وهي تعني كل ما علا الأرض من مخلوقات في الكون ، أي جميع الأجرام السماوية والمجرات ، وكذلك السماوات الطباق التي تحيط بالأرض أي طبقات الغلاف الجوي. أما الآيات الكريمة ( من ٩ إلى ١٢ ) في سورة فصّلت فهي تتكلم عن خلق الأرض وغلافها الجوي وتسويتهما. فكلمة السماوات فيها تعني طبقات الأرض والغلاف الجوي ، كما سيأتي شرحه في فصل الغلاف الجوي في كتاب لنا لا حق. و « الستة أيام » أي الستة أحقاب التي خلق المولى فيها الكون قد تكون أكبر زمنيّا من الثمانية أيام أي الثمانية أحقاب التي خلق فيها المولى الأرض وسوّاها ، فاليوم حقبة زمنية قد تطول وتقصر كما أسلفنا في بداية هذا المقال. وعلماء الفلك اليوم يقدرون عمر الكون التقريبي بستة عشر مليار سنة وعمر الأرض بأربعة مليارات سنة ونيّف ( ٦ ، ٤ ).

ومن المفيد ذكره أن أحد علماء الفلك المعاصرين « هيوبرت ريفز » (Hubert Reeves) قسّم في كتابه « التطور الكوني » (١) مختلف مراحل نشأة

__________________

(١) Hurbert Reeves. Patience dans L\'azur : L\'Evolution Cosmique. Editions du Seuil.

١٤٤

الكون وتسويته إلى ستّ أحقاب زمنية ( هي تصور علمي وليست بعد بحقائق ثابتة يجمع عليها العلماء ) ، وذلك كالآتي :

الحقبة الأولى : هي حقبة الجبلّة الأولى التي ابتدأ منها الكون وفيها تكونت جزيئات النواة من اتحاد الكوارك بين بعضها ( الكوارك هو أصغر جزئي في الذرة متفق عليه حتى الآن.

الحقبة الثانية : وهي حقبة تكوّن نواة الذرات.

الحقبة الثالثة : وهي حقبة تكوّن الذرات والعناصر البسيطة والغبار على سطح الأرض وبين النجوم.

الحقبة الرابعة : تكوّن العناصر العضوية في المحيط البدائي.

الحقبة الخامسة : تكوّن الخلايا في المحيط البدائي.

الحقبة السادسة : تكوّن النبات والحيوان في المحيط البدائي والقارات.

ثانيا : نسبية الشعور بمرور الزمن

( إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً. وَنَراهُ قَرِيباً ) ( المعارج : ٦ ، ٧ )

إن شعور الإنسان وإدراكه لمدة زمنية معينة مرتبط بالمكان والسرعة ، هذه القاعدة في النسبية الخاصة عايشها رواد الفضاء وكذلك بعض المسافرين وأدركوا شخصيّا معنى نسبية الزمن ، على ضوء هذه القاعدة نفهم العديد من الآيات الكريمة التالية التي تصف ما يقوله الكافرون عن شعورهم بمرور الوقت بين موتهم وبعثهم بعد أن كانوا يظنون في الحياة الدنيا أن رجعتهم إلى الحياة بعد الموت مستحيلة أو بعيدة جدّا : ( أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ، ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ) ( ق : ٣ ).

( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ ، كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ ) ( الروم : ٥٥ )

( يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ، وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً. يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ

١٤٥

لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً ، نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً ) ( طه : ١٠٢ ـ ١٠٤ )

( قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ. قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ ) ( المؤمنون : ١١٢ ، ١١٣ )

( ... كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ ... ) ( الأحقاف : ٣٥ )

( وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ ، قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ ) ( يونس : ٤٥ )

فالإحساس بمرور الزمن كما أسلفنا مرتبط بالمكان والسرعة ، وعند ما يموت الإنسان الموتة الأولى وهي موتة الحياة الدنيا ، لا يفنى منه إلا نفسه ، أما روحه فتنتقل إلى حياة أخرى هي الحياة الروحية بعد الموت وقبل البعث ، حيث تنتقل فيها الروح إلى مكان لا يعلمه إلا الله. أما سرعتها فقد حدّدها المولى بقوله : ( تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) ( المعارج : ٤ ). وبما أن الروح هي العلة الأولى والمفتاح الأساسي لإحساسنا وإدراكنا للأشياء ومنها مرور الزمن ، لذلك يحسب الكافرون بأنهم لم يلبثوا إلا يوما أو بعض يوم ، أما الذين أوتوا العلم والإيمان فيعلمون تقدير المدة الحقيقة للزمن الذي انقضى بين موتهم وبعثهم كما جاء في قوله تعالى : ( وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ ، فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ ، وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) ( الروم : ٥٦ ).

( لمزيد من الشرح عن الحياة الروحية بعد الموت وقبل البعث ليرجع القارئ إلى كتابنا « من علم النفس القرآني » فصل الموت في المفهوم القرآني والمنظار العلمي ).

١٤٦

( سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ، أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ )

( فصلت : ٥٢ )

« الأثر يدلّ على المسير ، والبعرة تدلّ على البعير ، سماء ذات أبراج ، وأرض ذات فجاج ، وبحار ذات أمواج ، ألا يدلّ كلّ ذلك على العزيز الوهاب »

( أعرابي عاقل )

« إن الدقة التي نظمت العمليات التي تحكّمت في نشأة الكون وتطوره إلى ما هو عليه الآن ، شبيهة بدقة من يستطيع أن يصيب بسهمه هدفا مساحته سنتيمتر مربع من مسافة تبعد خمسة عشر مليار سنة ضوئية هي حدود الكون الحالي »

( « ترن تيان » عالم فلكي معاصر )

١٤٧
١٤٨

الفصل السابع

( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ ) ( الزمر : ٣٨ )

مقابلة مع العالم الفلكي « ترين تيان »

نشرت مجلة « باري ماتش » الفرنسية مقالا علميّا فلسفيّا عن وجود الخالق في مقابلة أجرتها مع عالم الفلك المعاصر « ترين تيان » ( Trinh Thuan ) وجدنا من المفيد ترجمته بتصرف إلى العربية مع التعليق على بعض فقراته.

المتعلمون اليوم يحاولون أن يراهنوا على وجود الله ، هل الكون بحاجة لخالق؟ حتى السنوات الماضية اعتقد العلم أن باستطاعته الإجابة على هذا السؤال بجواب ناف ، أما اليوم فالعلم يبدو أكثر ارتباكا : فالفيزيائيون والأحيائيون والفلكيون الواحد بعد الآخر يقرّون اليوم بأن الاعتراف بوجود مهندس أكبر للكون يسمح بشرح أشياء كثيرة بدونه تبدو وكأنها طلاسم ، وآخرهم كان البروفسور الفيتنامي « ترين تيان » أستاذ الفيزياء الفلكية في إحدى الجامعات الأميركية ، والذي نشر كتابا بعنوان « النغم السري » (La Melodie Secrete) أو الرسالة التي تأتينا من أعماق الكون ومن مسافات مليارات السنين الضوئية. فهو يتساءل : هل هذه الرسالة هي

١٤٩

( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ )

صورة للمنطقة المركزية في مجرة الطريق اللبني التي يتبع لها نظامنا الشمسي كما التقطها مرصد « بالومار » في الولايات المتحدة ؛ أما نظامنا الشمسي المؤلف من الشمس والكواكب التسعة السيارة والذي يمتد إلى مسافة خمسة مليارات كلم عن الشمس التي تتوسطه فمن الممكن أن نتخيله بنقطة صغيرة على أطراف هذه الصورة الرائعة

١٥٠

حقّا دليل على وجود الخالق؟ بالنسبة للبروفسور « ترين تيان » يجب أن نقفز الخطوة ، فهو على حذو « باسكال » (١) يراهن على وجود الله. وفيما يلي الحوار الذي جرى معه :

١ ـ سؤال : منذ بضع سنوات ، هناك موجة تجتاح العالم العلمي ، فالحقائق التقليدية تهتز والملحدون يفقدون ثقتهم ، وأنتم أيضا حذوتم حذو « أندريه مالرو » (٢) (Andre Malraux) إذ تجرأتم بالكتابة قائلين : « العلم في القرن الحادي والعشرين سيكون روحيّا أو لا يكون » ، وباختصار فالعلم لم يعد محاربا لفكرة الإرادة الخالقة.

جواب : على كل حال هذا ما يحصل في حقل اختصاص علم الفلك ، حيث نرى أن تبدّلات عجيبة تحصل منذ وقت قليل : لعلكم تتذكرون قصة « نابوليون » مع العالم « لابلاس » (٣) ( Laplace ) عند ما سأله عن كتابه « الميكانيك السماوي » ولما ذا لم يشر فيه إلى المهندس الأكبر للكون ، « يعني الله » ، وقد كان جواب « لابلاس » ( Laplace ) بكل اعتزاز بأنه ليس بحاجة لهذا الاحتمال. أما اليوم فموقف « لابلاس » لا يراهن عليه ، لأن علم الكونية ، أي علم الكون بمجمله ، يفرض اليوم وجود فكرة الخلق. فمسألة وجود الخالق تطرح بشكل لا يمكن تفاديه ، ونحن نعرف الآن أن الكون كان له بداية بالانفجار الكبير.

أما كيف تطور الكون فالبعض يفضّل القول بالصدفة؟ أما فيما يخصني ، واستنادا إلى الدقة العجيبة للآليات التي تحكّمت في تطور الكون حتى انتهت إلى الإنسان ، فإني أفضّل أن أكون في صف الذين يقولون باحتمال وجود الخالق.

__________________

(١) عالم فرنسي عاش في القرن السابع عشر.

(٢) سياسي وفيلسوف فرنسي معاصر ( ١٩٠١ ـ ١٩٧٦ ).

(٣) عالم فلكي فرنسي ( ١٧٤٩ ـ ١٨٢٧ ).

١٥١

٢ ـ سؤال : ومع ذلك فإن لفرضية الصدفة أيضا أنصارا أقوياء ، فما الذي جعلك تفضل فرضية المهندس الأكبر؟

جواب : الأمل حداني إلى ذلك. إن فرضية الصدفة مقلقة ، فمن خلالها لا يكون للكون ولا لوجود الإنسان معنى. وهذا ما يشرح يأس بعض المفكرين أمثال « جاك مونود » (١) الذي كتب : « الإنسان ضائع في الكون الواسع اللامبالي الذي خرج منه صدفة » ، أو الفيزيائي الأميركي « وايبرغ » ( Weiberg ) الذي قال : « كلما فهمنا الكون بدا لنا خاليا من المعنى ». ومنذ عشرين سنة ثار بعض الفيزيائيين ضد هذه الوضعية ، فبالنسبة إليهم من الخطأ الاعتقاد بأن الإنسان ظهر صدفة في كون لا مبال ، بل على العكس هم يعتبرون الكون والإنسان في علاقة حميمة ، وإذا وصل الكون إلى ما هو عليه الآن فلأن الإنسان موجود يراقبه ويسأل نفسه.

إن وجود الإنسان مكتوب في خصائص كل ذرّة من الكون وفي القواعد الفيزيائية التي تنظّم الكون ، فالإنسان والكون مترابطان ترابطا لا ينفصم ، ففي الكون جميع الميزات المطلوبة لظهور مخلوق واع وعاقل كما يقول عالم الفلك « براند كارتر » (Brand Carter) الذي قال بمبدإ « الأنتروبي » (Principe Anthropique) ، أي بمبدإ الإنسانية في الكون. وهكذا فالأمل يولد من جديد فيكون لوجودنا معنى. يبقى أن نعرف إن كانت أفكار « كارتر » صحيحة؟ فإذا كانت النواميس التي أوجدت هذا الكون مختلفة عما كانت عليه ، هل كنا هنا لنتناقش؟ المسألة جديرة بالتدقيق. فعند ما يحاول باحث إثبات فرضية عليه إجراء تجارب ، ولكن ما العمل عند ما يتعلق الأمر بتجارب على نشأة الكون؟ إذ ليس من الممكن إجراء تجارب في المختبر عن قوانين الانفجار الكبير والنواميس التي حكمت نشأة الكون. فلكي نعيد الشروط التي كان عليها الكون في بدايته يجب بناء مسارع للجزئيات بقطر عدة سنين ضوئية وهذا شيء مستحيل. لكن

__________________

(١) طبيب معاصر حائز على جائزة نوبل في الطب.

١٥٢

العلم الحديث يملك وسائل أخرى هي الحاسبات وبفضلها يستطيع الفيزيائيون خلق ما يسمّونه « بالأكوان اللّعب » (Univers Jouets) ، بمعنى أن نأخذ المعطيات البدائية التي كانت في بدء الكون مع القواعد الفيزيائية التي كانت سائدة ونعطيها للحساب ، وقد كان الجواب احتمال وجود مليارات العوالم العقيمة الخالية من أي شعور أو عقل ، ذلك بأن المعطيات التي سمحت بنشأة كون ككوننا هي فريدة من بين مليارات الاحتمالات.

تعليق

مبدأ الإنسانية في الكون يعني أن ما في الكون هو مسخّر لظهور وجود الإنسان ، مصداقا لقوله تعالى : ( وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) ( الجاثية : ١٣ ).

٣ ـ سؤال : هل تستطيع إعطاءنا مثلا على ذلك؟

جواب : إن أهم المعطيات في نشأة الكون ، كثافة المادة الموجودة في الكون حين نشأته. فكون كثيف جدّا في بدايته يكون عمره قصيرا ، إذ بعد توسّعه لسنة أو شهر أو بعض ثوان ينهار على نفسه من جديد بفعل الجاذبية. ولا إمكانية إذن في هذا الاحتمال لوجود أية حياة ، ذلك بأن المخلوقات الحية هي مكونة من عناصر كالكربون لا تتألف إلا في قلب النجوم. ولتكون هذه العناصر متوافرة يجب انتظار أول دفعة من النجوم التي تعيش ثم تموت فتخصب بموتها المحيط الموجود بين النجوم بموادّ قابلة للاشتعال ثم علينا الانتظار حتى تتكثف هذه المواد لتؤلف كوكبنا حيث يمكن للحياة أن توجد فيه بصورة تصاعدية ومعقدة وصولا إلى الدماغ الإنساني ، وهذا ما يتطلب مليارات السنين. أما إذا كانت كثافة المادة الموجودة في بدء نشأة الكون قليلة جدّا ، فإن المجرات والنجوم لا تستطيع التكثف ، ويبقى الكون أزليّا وعقيما. فقط كون فريد بدقة مذهلة وبكثافة معينة محددة ( أي ثلاث ذرات في المتر المكعب ) يستطيع أن يعطي نجوما ويبقى لمدة كافية لظهور الحياة فيه ، وهي حالة الكون الذي نعيش فيه. وفي كل مرة نحاول أن نغيّر بعض المعطيات التي حكمت نشأة الكون ،

١٥٣

كالجاذبية والقوة الكهرطيسية أو إحدى القوتين النووية الضعيفة والقوية ، نجدكم من الضروري أن تتوافر جميع المعطيات وبمنتهى الدقة لكي ينشأ كون كالكون الذي نعيش فيه. لقد حسبوا بالأرقام الدقة التي يجب أن تتوافر في النواميس التي كان عليها الكون في بدئه ليصل إلى ما هو عليه الآن. ولا أريد أن أعطي هذه الأرقام فهي لا تعني شيئا بالنسبة للقارئ العادي ، ولكن الدقة التي نظّمت العمليات التي تحكّمت في نشأة الكون ووصوله إلى ما هو عليه الآن هي شبيهة بدقة من يستطيع أن يصيب بسهمه هدفا مساحته سنتيمتر مربع واحد من مسافة تبعد خمسة عشر مليار سنة ضوئية هي حدود الكون الحالي ( السنة الضوئية تعادل عشرة آلاف مليار كلم تقريبا ).

٤ ـ سؤال : إذن إن مبدأ « الأنتروبي » الذي يقول بأن الكون وجد لخدمة الإنسان يمكن اعتباره ذا قيمة.

جواب : أعتقد ذلك ، فالإنسان على ضوء علم الكون الحديث يأخذ المكان الأول في الكون ، وليس مجرّد المكان المركزي في النظام الشمسي الذي كان يحتله قبل « كوبرنيك » (١). فلا يجب أن نخاف أمام ضخامة الكون فهي ضرورية لظهور الحياة ، وإذا كان الكون واسعا فلأنه وجد منذ مدة طويلة استلزمت مرور مليارات السنين تهيأت خلالها الشروط التي سمحت بظهورنا على مسرح الكون.

٥ ـ سؤال : إذن الإيمان والعلم يمكنهما أن يتصالحا من جديد بفضل علم الفلك الحديث. ولكن متى تخاصما؟

جواب : في القرن الثامن عشر حصل الطلاق بين العلم والدين (٢) ، ولكن الخلاف بينهما بدأ في القرن السادس عشر وفيه تعارضت الاكتشافات الأولى الكبيرة « لكوبرنيك » و « غاليله » مع تعاليم اللاهوت التي كانت تقول مع « توما الأكويني » (٣) بأن شكل الأرض كروي وأنها ثابتة في مركز الكون ،

__________________

(١) عالم فلكي بولندي ( ١٤٧٣ ـ ١٥٤٣ ) قال بدوران الأرض وبأنها ليست مركز الكون.

(٢) يعني بذلك الدين المسيحي ، وليس كل الأديان وخاصة الإسلام.

(٣) يسمّى بالقديس توما الأكويني أو « فم الذهب » ، وهو الذي دافع عن الدين المسيحي في القرن الثالث عشر الميلادي.

١٥٤

( سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ )

الكوكب الثامن في النظام الشمسي نبتون Neptune كما صورته في ٢٥ آب ١٩٨٩ العربة الفضائية المسماة المسافر ٢ ( ٢Voyager ) بعد رحلة استغرقت اثنتي عشرة سنة قطعت فيها مسافة ٧ مليارات كلم

١٥٥

وأن القمر والشمس والكواكب والنجوم تدور حولها ، وأن جميع هذه الأجرام ترتكز على كرات من الكريستال تمنعها من السقوط ووراء الكرات حيث تتعلق النجوم ، تصوّر « توما الأكويني » وجود كرة إضافية أولى ذات حركة ثابتة ، فالله حسب علم الكونية اللاهوتي موجود في كل مكان ، فهو لم يخلق الكون فحسب ، بل هو يرعى جميع شئونه ، يساعده في هذه المهمة جيش من الملائكة المكلفين بتأمين دوران الكواكب. وتحت كرة القمر يوجد حدودان : المنطقة ما تحت القمرية ، والطبقات العليا حيث العبور إليها محروس بالملائكة ، وفي منطقة ما تحت القمر يوجد المطهر ثم الأرض مسرح الأموات أمثالنا ، وأخيرا في أحشاء الأرض توجد النار حيث الشياطين والمحكومون بالعذاب.

تعليق

لم يتعارض الإسلام ولم يتخاصم يوما مع أي علم صحيح من العلوم المادية أو الإنسانية. بل إن الإسلام وكل علم مفيد صحيح ، توأمان ، فجميع لمعلومات المادية الطبيعية في حقول العلوم الطبية والكونية والفلكية والأرضية التي جاءت في مئات الآيات الكريمة هي اليوم نواميس ومبادئ وثوابت علمية يعتمدها العلماء في مختلف اختصاصاتهم كما سبق تفصيله المطول في كتبنا : من علم النفس القرآني ، ومن علم الطبّ القرآني ، وهذا الكتاب بالذات.

٦ ـ سؤال : ولكن ألم يكن هؤلاء الرجال يعتقدون أيضا بالله؟

جواب : طبعا ، ففي ذلك الوقت ـ ولنقل في أواخر القرن السابع عشر ـ كان الإنسان الذي يراقب السماء ، أي عالم الفلك ، يشعر وكأنه محمول على أرض ضئيلة ، ضائع في كون لا متناه ، في كون خلقه الله وركّبه وسيّر آلته وتركه من بعد ذلك من دون أي تدخّل منه. يأتي بعد ذلك ، أي في القرن الثامن عشر ، انتصار العقل لدرجة أن « لابلاس » قرر أنه يستطيع التخلي عن فرضية الله في شرح الكون. وهكذا بعد أن أزاح « كوبرنيك » الإنسان من مكانه المركزي في الكون كما كان يعتقد ، أصبح الإنسان ضئيلا جدّا

١٥٦

بالنسبة للكون اللامتناهي ، ثم جاء « نيوتن » فحاول إقناع الإنسان بأن الله ليس بحاجة للتدخل في كون خلقه بنفسه. إلا أن « نيوتن » بقي يعتقد بأنه من ذرّية آدم وحواء اللذين خلقهما الله ليكونا وذرّيتهما أسياد الأرض. ثم يأتي « داروين » ليؤكد بأن الإنسان تحدّر من القرد مرورا بالزواحف والأسماك والأحياء البحرية المجهرية ذوات الخلية الواحدة. فالكون الذي قدّر « نيوتن » عمره بستة آلاف سنة أصبح عمره مليارات السنين.

٧ ـ سؤال : وعندئذ هل انعكس الاتجاه؟

جواب : كلا. ليس فجأة ، لأن شبح « كوبرنيك » ظل هو الغالب. إلا أن تقدم الآلة والاختراعات أظهر إلى أيّ مدى أرضنا ضئيلة بالنسبة للكون. فلقد وجب الانتظار حتى القرن الماضي لنعلم بدقة اتساع النظام الشمسي مع اكتشاف « نيوتن » للكوكب « نبتون » ( Neptune ) الذي يبعد عن الشمس أربع ساعات ضوئية أي أربعة مليارات كلم تقريبا لأن سرعة الضوء ٣٠٠ ألف كلم في الثانية ، علما أن الكواكب « بلوتن » ( Pluton ) الذي اكتشف في سنة ١٩٣٠ يبعد عن الشمس خمس ساعات ضوئية. ففي ذلك الوقت لم يكن عند الإنسان فكرة عن بعد النجوم وأبعاد المجرة اللبنية التي تتبع لها. وفي بداية القرن العشرين بدأ الإنسان ببناء المراصد القوية وبفضلها وفضل تصوير طيف الضوء والتصوير العادي تمكّن الفلكيون من الغوص في أعماق الكون ، فاعتمدوا السنين الضوئية في حساباتهم ( أقرب نجم بالنسبة للأرض يبقى نوره أربع سنوات ليصل إلينا ) ، وهكذا تمكنوا من حساب شكل وأبعاد المجرة اللبنية وهي أسطوانة رقيقة لا تتجاوز سماكتها ألف سنة ضوئية أما قطرها فيزيد عن ٩٠ ألف سنة ضوئية. وشمسنا التي توجد على أطراف هذه الأسطوانة في الثلث الخارجي تقريبا ، هي نجم في ضاحية المجرة اللبنية ، متوسط الكتلة واللمعان ولا شيء يميزه من بين مائة مليار نجم ، أقول مائة مليار نجم ، تسكن المجرة اللبنية.

٨ ـ سؤال : أيصحّ القول إذن بأن أرضنا ليست شيئا يذكر بالنسبة للكون اللامتناهي؟

١٥٧

جواب : لنتصور الأميبة ( Amoeba ) ) وهي خلية قطرها بضعة أجزاء من الألف من المليمتر ) في وسط المحيط الهادي ، هذه هي تقريبا أبعاد الأرض بالنسبة للكون. ولكن القصة لم تنته بعد ، فباكتشاف حدود المجرة اللبنية اعتقدنا لوقت ما أن حدود الكون انتهت ولا شيء بعد المجرة اللبنية ، وسرعان ما تراجعنا عن هذا الظن ، فلقد لوحظ منذ زمن بعيد أن في كوكبة « أندروميد » (Constellation d’Andromede) ما يشبّه بالغيمة ، وهو سديم كان يعتقد بأنه موجود داخل المجرة اللبنية. إلا أن الحسابات الدقيقة التي أجريت منذ ١٩٢٣ أثبتت أن هذه الغيمة ما هي إلا مجرّة توأما لمجرتنا اللبنية وتبعد عنها ٣ ، ٢ مليون سنة ضوئية. ومنذ ذلك الوقت تهيأت العقول لاكتشافات أخرى متسارعة ، فاكتشفت عشرات المجرات البعيدة ، وكما ضاع النظام الشمسي في الأبعاد الهائلة للمجرة اللبنية ، ضاعت المجرة اللبنية في الأبعاد الهائلة للكون.

٩ ـ سؤال : كم من المجرات نعرف اليوم؟

جواب : اليوم وبعد خمسين سنة من المراقبة يقدّر عدد المجرات بمائة مليار مجرة. أما الكون فتمتد حدوده إلى مسافة خمسة عشر مليار سنة ضوئية. إن الإنسان ضئيل بالنسبة لهذه الأبعاد.

١٠ ـ سؤال : بالفعل ، كما أسلفتم ، يعتقد اليوم كثير من الفلكيين بأن الكون قد خلق من أجل الإنسان ، الذي هو مبرمج ، إلى حدّ ما في الكون. ولكن فرضية الإرادة الخالقة ترتكز على مسلّمة تقول بأنه كان للكون بداية ، وأنه ليس أزليّا ، وأنه مخلوق. فكيف توصلوا إلى هذه الفكرة الثورية الحديثة ، فكرة الانفجار الكبير؟

جواب : بفضل اكتشاف عجيب في القرن العشرين هو قانون توسّع الكون : فلقد ظهر ، خلافا للأفكار المتوارثة منذ القدم ، أن النجوم تتحرك ، وبفعل الجاذبية الكونية فإن كل نجم يجري في مسار محدد به في المجرة التي يتبعها ، فالشمس على سبيل المثال تجري بسرعة ٢٣٠ كلم في الثانية ساحبة معها الكواكب التي تتبعها في مسار حول مركز المجرة اللبنية بحيث يلزمها ٢٥٠ سنة حتى تكمل مسارا واحدا حول مركز

١٥٨

المجرة. ومنذ ولادتها ، أي منذ ٦ ، ٤ مليارات سنة ، وحتى اليوم ، أكملت الشمس ثماني عشرة دورة حول المجرة اللبنية. وجميع المجرات تتحرك أيضا ؛ والعالم الأميركي الكبير « هبل » الذي اكتشف ذلك كما اكتشف المجرات ، فلقد تبين له أن أغلب المجرات في أي مكان وجدت من الكون تبدو هاربة من مجرتنا اللبنية وكأن هذه هي الطاعون ، وأهم من ذلك ، فلقد استطاع أن يبيّن أن سرعة هرب كل مجرة هي بنسبة بعدها عنا ، فكلما بعدت المجرات عنا ، ازدادت سرعة ابتعادها عن مجرتنا. ذلك هو قانون توسع الكون. وبسبب النسبية بين المسافة والسرعة يتبين لنا أن كل مجرة قد يلزمها نفس الوقت للرجوع إلى نقطة انطلاقها. وهكذا إذا عدنا بالوقت إلى الوراء ونظرنا إلى « فيلم » يستعرض حوادث بدء الكون من بدايته يتبين لنا أن كل المجرات انطلقت من نقطة معينة وفي نفس اللحظة ، لذلك نجد أنفسنا مضطرين للاعتراف بأن الكون كان له بداية. وهذه البداية نتصورها ، بفضل أعمال الفيزيائيين ، بشكل انفجار هائل هو الذي أعطى للكون توسيعه ، وهكذا فالكون ليس أزليّا. ولكن ، هل له خالق؟ إن فكرة الخلق الموجودة في الأفكار الكونية عند « توما الأكويني » في القرن السابع عشر والتي أبعدت بتعال على يد « لابلاس » وأتباعه تجد اليوم سندا علميّا ومن حيث لم يكن أحد يتوقع ذلك ، فالدين بدأ يعود إلى العالم العلمي على أطراف أصابعه.

تعليق

نذكّر فقط بقوله تعالى الذي يختصر قانون توسّع الكون : ( وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ) ، ( الذاريات : ٤٧ ) ، ( أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ ، بَناها. رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها ) ( النازعات : ٢٧ ، ٢٨ ). ونذكّر أيضا بقوله تعالى الذي يرمز إلى الانفجار الهائل في الآية الكريمة التالية : ( أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما ) ( الأنبياء : ٣٠ ).

١١ ـ سؤال : هل هناك أدلة أخرى تؤيد « الانفجار الكبير »؟

جواب : إن أحدث الأدلة التي تصطدم بها كل النظريات المعارضة ،

١٥٩

دليل « الإشعاع الأحفوري » (Rayonnement Fossile) الذي اكتشف صدفة سنة ١٩٦٥ عند ما كان فلكيّان أميركيان يجريان تجارب على مرصد راديو ( Radio Telescope ) صنع لاستقبال ما يرسله القمر الاصطناعي ( تليستار ) المخصص للاتصالات اللاسلكية. فقد سجلوا أينما وجّهوا مراصدهم صوتا غريبا دائما ، اعتقدوه في بادئ الأمر تشويشا من خطأ في مرصدهم ، ولكن سرعان ما تبين أنه إشعاع راديو (Rayonnement Radio) يغمر الكون كله ، وهو إشعاع شبيه بذاته في أي اتجاه رصد ، حرارته ثلاث درجات فوق الصفر المطلق ولا يتغير بأكثر من ١ , ٠ %. وقد وجد أنه من الصعب جدّا شرح هذه الظاهرة من دون اللجوء إلى نظرية الانفجار الكبير. أما إذا قبلنا هذه النظرية فشرح هذه الظاهرة سهل جدّا : إن الإشعاع « الراديو الأحفوري » هذا ما هو إلا بقايا من الحرارة الهائلة التي كانت سائدة في الكون بعد قليل من الانفجار البدائي العظيم ، أو بكلمة أخرى إنه رماد النار التي صاحبت خلق الكون.

أضف إلى ذلك أن قاعدة النسبية العامة التي وضعها « أينشتاين » لتصحح وتكمّل بعض النقاط في اكتشافات « نيوتن » تؤيد نظرية الانفجار الكبير ، فالكل يشكّل مجموعة متماسكة.

١٢ ـ سؤال : إذن الكون له بداية ، فهل يجب الاستنتاج بأنه سيكون له نهاية؟

جواب : هذا شيء لا نعرفه بعد ، فنحن أمام احتمالين : هل إن توسع الكون سيتابع طريقه إلى ما لا نهاية وهل إن المجرات ستبقى تتابع هربها وتباعدها إلى وقت غير محدود ، أم أن حركة الهروب هذه ستتوقف يوما ما فتتغلب قوى الجاذبية على قوة الدفع البدائية الناتجة عن الانفجار العظيم ، فتعود المجرات إلى نقطة انطلاقها لتتحطم في انفجار كبير من الطاقة والضوء هو انفجار عكسي مقابل للانفجار البدائي الكبير. ومن الصعب الآن القول أيّ من هذين الاحتمالين هو الراجح. فمن المعروف مثلا أن المجرات واقعة تحت تأثير جاذبية كتلة الكون التي تقيد حركة توسعها وتنقصها ، فلو حسب النقص من سرعة انتشار وتباعد المجرات لأمكن التنبؤ بشيء عن مستقبل الكون. إلا أن كل المحاولات التي جرت حتى الآن لم تنته إلى شيء.

١٦٠