محاضرات في أصول الفقه - ج ١

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
المطبعة: الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٠٠

فحاله حال الجمل الإنشائية. بيان ذلك أن الجمل على قسمين : أحدهما إنشائية والثاني خبرية ، والمشهور بينهم أن الأولى موضوعة لإيجاد المعنى في الخارج ؛ ومن هنا فسروا الإنشاء بإيجاد ما لم يوجد. والثانية موضوعة للدلالة على ثبوت النسبة في الواقع أو نفيها عنه.

والصحيح ـ على ما سيأتي بيانه ـ أن الجملة الإنشائية وضعت للدلالة على قصد المتكلم إبراز أمر نفساني غير قصد الحكاية عند إرادة تفهيمه. والجملة الخبرية موضوعة للدلالة على قصد المتكلم الحكاية عن الواقع ثبوتاً أو نفياً.

توضيح ذلك : ان هذا القسم من الحروف كالجملة الإنشائية ، بمعنى أنه وضع للدلالة على قصد المتكلم إبراز أمر نفساني غير قصد الحكاية عند قصد تفهيمه ؛ فحروف النداء ك (يا) ـ مثلا ـ وضعت لإبراز قصد النداء وتوجيه المخاطب إليه ؛ وحروف الاستفهام موضوعة لإبراز طلب الفهم ؛ وحروف التمني موضوعة لإبراز التمني ؛ وحروف الترجي موضوعة لإبراز الترجي وكذا حروف التشبيه ونحوها.

وبتعبير آخر : أن وضع هذا القسم من الحروف لذلك المعنى أيضا من نتائج وثمرات مسلكنا في مسألة الوضع ، فان لازم القول بالتعهد والالتزام هو تعهد كل متكلم بأنه متى ما قصد تفهيم معنى خاص تكلم بلفظ مخصوص. فاللفظ مفهم له ودال على أنه أراد تفهيمه به ، فلو قصد تفهيم (التمني) يتكلم بلفظ خاص وهو كلمة (ليت) ، ولو قصد تفهيم (الترجي) يتكلم بكلمة (لعل) وهكذا. فالواضع تعهد ذكر هذا القسم من الحروف عند إرادة إبراز أمر من الأمور النفسانيّة من التمني والترجي ونحوهما.

ومن هنا يظهر بطلان ما عن شيخنا الأستاذ ـ قده ـ من أن معاني هذه الحروف أيضا إيجادية. ووجهه ما تبين لك من أن معانيها ثابتة في عالم المفهومية كمعاني الجمل الإنشائية ؛ ولا فرق بينهما من هذه الجهة. فالنتيجة هي : أن حال هذا

٨١

القسم من الحروف حال الجمل الإنشائية ، كما أن القسم الأول منها حاله حال الهيئات الناقصة. هذا تمام الكلام في المقام الأول.

واما الكلام في المقام الثاني وهو : (أن الموضوع له في الحروف عام أو خاص؟) فيتضح مما بيناه في المقام الأول ، فان نتيجة ذلك أن الموضوع له فيها خاص والوضع عام. اما في الطائفة الأولى فلأنها لم توضع بإزاء مفاهيم التضييقات والتحصصات لأنها من المفاهيم الاسمية الاستقلالية في عالم مفهوميتها ، بل لواقعها وحقيقتها ـ أي ما هو بالحمل الشائع تضييق وتحصص ـ ومفاهيمها ليست بهذا الحمل تضييقاً وإن كان لذلك بالحمل الأولى الذاتي. نعم لا بد من أخذ تلك المفاهيم بعنوان المعرف والآلة للحاظ أفرادها ومصاديقها إجمالا حتى يمكن الوضع بإزائها.

وبتعبير آخر : انه كما لا يمكن أن يكون وضعها خاصاً كالموضوع له لما تقدم من أن حصص المعنى الواحد غير متناهية فضلا عن المعاني الكثيرة ، فلا يمكن تصور كل واحد منها على وجه التفصيل ، كذلك لا يمكن أن يكون الموضوع لها عاماً كالوضع ، فانه لا يعقل ذلك إلا أن توضع لمفاهيم الحصص والتضييقات ؛ والمفروض أنها من المفاهيم الاسمية وليست من المعاني الحرفية في شيء ، ولا جامع مقولي بين أفراد التضييق وأنحائه لتوضع بإزائه ، فلا بد حينئذ من أن نلتزم بكون الموضوع له فيها خاصاً والوضع عاماً ، بأن نقول : إن كل واحد من هذه الحروف موضوع لسنخ خاص من التضييق في عالم المعنى ، فكلمة (في) لسنخ من التضييق (وهو سنخ التضييق الأيني) ؛ وكلمة (على) لسنخ آخر منه (وهو سنخ التضييق الاستعلائي ؛ وكلمة (من) لسنخ ثالث منه (وهو سنخ التضييق الابتدائي) وهكذا سائر هذه الحروف.

ومن هنا يظهر أن الموضوع له في الهيئات الناقصة كهيئات المشتقات وهيئة الإضافة والتوصيف أيضا من هذا القبيل ـ يعنى أن الوضع فيها عام والموضوع له خاص ـ لما عرفت من عدم الفرق بينها وبين هذا القسم من الحروف ـ أصلا ـ.

٨٢

واما القسم الثاني منها فأيضاً كذلك. ضرورة أن الحروف في هذا القسم لم توضع لمفهوم التمني والترجي والتشبيه ونحوه ، لأنها من المفاهيم الاسمية الاستقلالية.

على أن لازمه أن تكون كلمة لعل مرادفاً للفظ الترجي ، وكلمة ليت مرادفاً للفظ التمني ، وهكذا ، وهو باطل يقيناً ، كما أنها لم توضع بإزاء مفهوم إبراز هذه المعاني ، فانه أيضا من المفاهيم الاسمية ، بل وضعت لما هو بالحمل الشائع إبراز للتمني والترجي والاستفهام ونحو ذلك ، ولا جامع ذاتي بين مصاديق الإبراز وأفراده ليكون موضوعاً بإزاء ذلك الجامع ، ولأجل ذلك في هذا القسم أيضا يكون الموضوع له خاصاً والوضع عاماً بمعنى أن الواضع تصور مفهوماً عاماً كإبراز التمني ـ مثلا ـ فوضع كلمة ليت بإزاء أفراده ومصاديقه ، وتعهد بأنه متى ما قصد تفهيم التمني يتكلم بكلمة (ليت) ، وهكذا. هذا تمام الكلام في تحقيق المعاني الحرفية والمفاهيم الأدوية وما يشبهها.

الإنشاء والاخبار

قال المحقق صاحب الكفاية ـ قده ـ بعد ما اختار أن المعنى الحرفي والاسمي متحدان بالذات والحقيقة ومختلفان باللحاظ الآلي والاستقلالي : «لا يبعد أن يكون الاختلاف بين الإنشاء والخبر أيضا من هذا القبيل بمعنى أن طبيعي المعنى الموضوع له واحد فيهما والاختلاف بينهما انما هو في الداعي فانه في الإنشاء قصد إيجاد المعنى ، وفي الخبر قصد الحكاية عنه ، وكلاهما خارجان عن حريم المعنى».

توضيح ذلك : أن الصيغ المشتركة كصيغة (بعت وملكت وقبلت) ونحوها تستعمل في معنى واحد مادة وهيئة في مقام الاخبار والإنشاء.

٨٣

أما بحسب المادة فظاهر لأن معناها الطبيعي اللا بشرط وهي تستعمل في ذلك الطبيعي دائماً سواء كانت الهيئة الطارئة عليها تستعمل في مقام الاخبار أو الإنشاء.

واما بحسب الهيئة فلأنها تستعمل في نسبة إيجاد المادة إلى المتكلم في كلا المقامين غاية الأمر أن الداعي في مقام الإنشاء إنما هو إيجادها في الخارج وفي مقام الاخبار لحكاية عنها ؛ فالاختلاف بينهما في الداعي لا في المستعمل فيه.

وإن شئت قلت : إن العلقة الوضعيّة في أحدهما غير العلقة الوضعيّة في الثاني فانها قل الجمل الإنشائية تختص بما إذا قصد المتكلم إيجاد المعنى في الخارج ، وفي الجمل الخبرية تختص بما إذا قصد الحكاية عنه [١].

(أقول) : ما ذكره ـ قده ـ مبنى على ما هو المشهور بينهم ، بل المتسالم عليه من أن الجمل الخبرية موضوعة لثبوت النسبة في الخارج أو عدم ثبوتها فيه ، فان طابقت النسبة الكلامية النسبة الخارجية فصادقة وإلا فكاذبة ، وإن الجمل الإنشائية

__________________

[١] ـ وقد أورد عليه بعض الأعاظم ـ قده ـ على ما نسب إليه بعض مقرري بحثه : من أن لازم تقوم الإنشاء بقصد الإيجاد وتقوم الخبر بقصد الحكاية أن يكون الكلام الصادر من المتكلم إذا لم يقصد به أحد الأمرين لا إنشاء ولا خبراً. وهذا فاسد لانحصار الكلام الّذي يصح السكوت عليه فيهما وإن لم يكن قاصداً لأحدهما. هذا أولا.

وثانياً لزوم تعلق القصد بالقصد في مقام الإنشاء والإخبار ، لأنهما فعلان اختياريان محتاجان إلى القصد. والمفروض أن هنا قصداً سابقاً عليه مقوماً لهما فيلزم تعلقه به ، وهذا خلاف الوجدان والبرهان.

ولكن لا يمكن المساعدة عليه فلأن ما ذكره أولا يرد عليه أن الكلام المفيد الّذي يصح السكوت عليه لا ينفك عن قصد الحكاية أو الإنشاء كما هو ظاهر.

ويرد على ما ذكره ثانياً أنه مبنى على أخذ الإرادة في المعنى الموضوع له والمستعمل فيه ، ولكن الأمر ليس كذلك. فان المعنى الموضوع له على ما هو عليه من الإطلاق والسعة من دون تقييده بقصد الحكاية والإيجاد. بل هي مأخوذة في العلقة الوضعيّة بمعنى أنها تقيدت في الإنشاء بقصد الإيجاد في مقام الاستعمال ، وبقصد الحكاية في الاخبار.

٨٤

موضوعة لإيجاد المعنى في الخارج الّذي يعبر عنه بالوجود الإنشائي ، كما صرح ـ قده ـ به في عدة من الموارد وقال ان الوجود الإنشائي نحو من الوجود ، ولذا لا تتصف بالصدق أو بالكذب ، فانه على هذا لا مانع من أن يكون المعنى واحداً في كلتا الجملتين ، وكان الاختلاف بينهما من ناحية الداعي إلى الاستعمال.

(أقول) ـ يقع الكلام هنا في مقامين :

المقام الأول ـ في الجملة الخبرية.

والمقام الثاني ـ في الجملة الإنشائية.

اما الكلام في المقام الأول ـ فالصحيح هو ان الجملة الخبرية موضوعة للدلالة على قصد الحكاية والأخبار عن الثبوت أو النفي في الواقع ، ولم توضع للدلالة على ثبوت النسبة في الواقع أو نفيها عنه ، وذلك لسببين :

(السبب الأول) ـ انها لا تدل على ثبوت النسبة خارجاً أو على عدم ثبوتها ولو ظناً مع قطع النّظر عن حال المخبر وعن القرائن الخارجية ، مع ان دلالة اللفظ لا تنفك عن مدلوله الوضعي بقانون الوضع ، وإلا لم يبق للوضع فائدة ، فإذا فرضنا ان الجملة بما هي لا تدل على تحقق النسبة في الواقع ولا كاشفية لها عنه ـ أصلا ـ حتى ظناً ، فما معنى كون الهيئة موضوعاً لها ، بل يصبح ذلك لغواً فلا يصدر من الواضع الحكيم. نعم انها وان كانت عند الإطلاق توجب تصور الثبوت أو النفي في الواقع ، إلا انه ليس مدلولا للهيئة ، فان التصور لا يكون مدلولا للجملة التصديقية بالضرورة. وعلى الجملة ان قانون الوضع والتعهد يقتضى عدم تخلف اللفظ عن الدلالة على معناه الموضوع له في نفسه فلو كانت الجملة الخبرية موضوعة للدلالة على النسبة الخارجية لدلت عليها لا محالة.

(السبب الثاني) ـ ان الوضع على ما سلكناه عبارة عن التعهد والالتزام النفسانيّ ، ومقتضاه تعهد كل متكلم من أهل أي لغة انه متى ما قصد تفهيم معنى خاص ان يتكلم بلفظ مخصوص ، فاللفظ مفهم له ودال على ان المتكلم أراد تفهيمه بقانون

٨٥

الوضع ، ومن الواضح ان التعهد والالتزام لا يتعلقان إلا بالفعل الاختياري ، إذ لا معنى للتعهد بالإضافة إلى امر غير اختياري ؛ وبما ان ثبوت النسبة أو نفيها في الواقع خارج عن الاختيار فلا يعقل تعلق الالتزام والتعهد به ، فالذي يمكن ان يتعلق الالتزام به هو إبراز قصد الحكاية في الأخبار وإبراز أمر نفساني غير قصد الحكاية في الإنشاء لأنهما امر ان اختياريان داعيان إلى التكلم باللفظ في الجملة الخبرية والإنشائية.

إذا عرفت ذلك فنقول : على ضوء هذا البيان قد أصبحت النتيجة ان الجملة الخبرية لم توضع للدلالة على ثبوت النسبة في الخارج أو نفيها عنه ، بل وضعت لإبراز قصد الحكاية والأخبار عن الواقع ونفس الأمر.

وتوضيح ذلك على وجه أبسط : هو أن الإنسان لما كان محتاجاً في تنظيم حياته (المادية والمعنوية) إلى آلات بها يبرز مقاصده وأغراضه ، والإشارة ونحوها لا تفي بجميع موارد الحاجة في المحسوسات فضلا عن المعقولات فلا مناص من التعهد والمواضعة بجعل ألفاظ خاصة مبرزة لها في موارد الحاجة ودالة على ان الداعي إلى إيجاد تلك الألفاظ إرادة تفهيمها ؛ وعليه فالجملة الخبرية بمقتضى تعهد الواضع بأنه متى ما قصد الحكاية عن الثبوت أو النفي في الواقع أن يتكلم بها ، تدل على ان الداعي إلى إيجادها ذلك ، فتكون بنفسها مصداقا للحكاية ، وهذه الدلالة لا تنفك عنها حتى فيما إذا لم يكن المتكلم في مقام التفهيم والإفادة في مقام الثبوت والواقع إذا لم ينصب قرينة على الخلاف في مقام الإثبات ، غاية ما في الباب ان تكلمه حينئذ يكون على خلاف مقتضى تعهده والتزامه ؛ واما الدلالة فهي موجودة لا محالة ويكون كلام المتكلم حجة عليه ببناء العقلاء من جهة التزامه وتعهده.

نعم تنتفي هذه الدلالة فيما إذا نصب قرينة على الخلاف ، كما إذا نصب قرينة على انه في مقام الإرشاد ، أو السخرية ، أو الاستهزاء ، أو الهزل ، أو في مقام تعداد الجمل وذكرها من باب المثال ، فان الجملة حينئذ لا تدل على قصد الحكاية

٨٦

عن الواقع ؛ بل تدل على ان الداعي إلى إيجادها امر آخر غير قصد الحكاية.

ويترتب على ما ذكرناه ان الجملة الخبرية من جهة الدلالة الوضعيّة لا تتصف بالصدق أو الكذب ، فانها ثابتة على كلا تقديري الصدق والكذب ، فقولنا «زيد عادل» يدل على ان المتكلم في مقام قصد الحكاية عن ثبوت العدالة لزيد ، اما انه مطابق للواقع أو غير مطابق فهو أجنبي عن دلالته على ذلك بالكلية.

ومن هنا يظهر انه لا فرق بينها وبين الجمل الإنشائية في الدلالة الوضعيّة ، فكما ان الجملة الإنشائية لا تتصف بالصدق أو الكذب ، بل انها مبرزة لأمر من الأمور النفسانيّة ، فكذلك الجملة الخبرية فانها مبرزة لقصد الحكاية عن الواقع نفياً أو إثباتاً ، حتى فيما إذا علم المخاطب كذب المتكلم في اخباره ؛ فالجملة الإنشائية والإخبارية تشتركان في أصل الإبراز والدلالة على أمر نفساني ، وانما الفرق بينهما في ما يتعلق به الإبراز ، فانه في الجملة الإنشائية امر نفساني لا تعلق له بالخارج ، ولذا لا يتصف بالصدق أو الكذب ؛ بل يتصف بالوجود أو العدم ، وفي الجملة الخبرية امر متعلق بالخارج فان طابقه فصادق وإلا فكاذب.

ومن هنا يتضح ان المتصف بالصدق والكذب انما هو مدلول الجملة لانفسها ، واتصاف الجملة بهما انما هو بتبع مدلولها وبالعرض والمجاز ، ولذا لو أمكن فرضاً الحكاية عن شيء بلا دال عليها في الخارج لكانت الحكاية بنفسها متصفة بالصدق أو الكذب لا محالة.

ومما ذكرنا ظهر انه لا فرق في إبراز الحكاية بين اللفظ وغيره من الإشارة أو الكتابة أو نحوهما ، فان كل ذلك بالإضافة إلى إبراز الحكاية في الخارج على نسق واحد ؛ كما انه لا فرق في ذلك بين الجملة الاسمية والفعلية.

ثم ليعلم ان مرادنا من الخارج هو واقع نفس الأمر المقابل للفرض والتقدير أعم من الخارج والذهن ، بل كل وعاء مناسب لثبوت النسبة وعدمها ، فان موارد استعمالات الجملة الخبرية كما عرفت لا تنحصر بالجواهر والاعراض ، بل تعم

٨٧

الواجب والممكن والممتنع والأمور الاعتبارية على نحو واحد ، هذا تمام الكلام في تحقيق معنى الجملة الخبرية.

واما الكلام في المقام الثاني فالصحيح هو ان الجملة الإنشائية موضوعة لإبراز أمر نفساني غير قصد الحكاية ولم توضع لإيجاد المعنى في الخارج. والوجه في ذلك هو انهم لو أرادوا بالإيجاد الإيجاد التكويني كإيجاد الجوهر والعرض فبطلانه من الضروريات التي لا تقبل النزاع ، بداهة ان الموجودات الخارجية بشتى أشكالها وأنواعها ، ليست مما توجد بالإنشاء ، كيف والألفاظ ليست واقعة في سلسلة عللها وأسبابها كي توجد بها.

وان أرادوا به الإيجاد الاعتباري كإيجاد الوجوب والحرمة أو الملكية والزوجية وغير ذلك ، فيرده انه يكفي في ذلك نفس الاعتبار النفسانيّ من دون حاجة إلى اللفظ والتكلم به ، ضرورة ان اللفظ في الجملة الإنشائية لا يكون علة لإيجاد الأمر الاعتباري ، ولا واقعاً في سلسلة علته ، فانه يتحقق بالاعتبار النفسانيّ ، سواء كان هناك لفظ يتلفظ به أم لم يكن؟

نعم اللفظ مبرز له في الخارج لا انه موجد له ، فوجوده بيد المعتبر وضعاً ورفعاً فله ان يعتبر الوجوب على ذمة أحد وله ان لا يعتبر وله ان يعبر ملكية مال لشخص وله ان لا يعتبر ذلك وهكذا.

واما الاعتبارات الشرعية أو العقلائية فهي وان كانت مترتبة على الجمل الإنشائية ، إلا ان ذلك الترتب انما هو فيما إذا قصد المنشئ معاني هذه الجمل بها لا مطلقاً ، والمفروض في المقام ان الكلام في تحقيق معانيها ، وفيما يترتب عليه تلك الاعتبارات.

وبتعبير آخر ان الجمل الإنشائية وان كانت مما يتوقف عليها فعلية تلك الاعتبارات وتحققها خارجاً ، ولكن لا بما انها ألفاظ مخصوصة ، بل من جهة انها استعملت في معانيها.

٨٨

على ان في كل مورد من موارد الإنشاء ليس فيه اعتبار من العقلاء أو من الشرع ، فان في موارد إنشاء التمني والترجي والاستفهام ونحوها ليس أي اعتبار من الاعتبارات لا من الشارع ولا من العقلاء ، حتى يتوصل بها إلى ترتبه في الخارج إذا عرفت ذلك فنقول : قد ظهر مما قدمناه ان الجملة الإنشائية ـ بناء على ما بيناه من ان الوضع عبارة عن التعهد والالتزام النفسانيّ ـ موضوعة لإبراز أمر نفساني خاص ، فكل متكلم متعهد بأنه متى ما قصد إبراز ذلك يتكلم بالجملة الإنشائية ـ مثلا ـ إذا قصد إبراز اعتبار الملكية يتكلم بصيغة بعت أو ملكت ، وإذا قصد إبراز اعتبار الزوجية يبرزه بقوله زوجت أو أنكحت ، وإذا قصد إبراز اعتبار كون المادة على عهدة المخاطب يتكلم بصيغة افعل ونحوها وهكذا.

ومن هنا قلنا انه لا فرق بينها وبين الجملة الخبرية في الدلالة الوضعيّة والإبراز الخارجي ، فكما انها مبرزة لاعتبار من الاعتبارات كالملكية والزوجية ونحوهما ، فكذلك تلك مبرزة لقصد الحكاية والأخبار عن الواقع ونفس الأمر.

فتحصل مما ذكرناه انه لا وجه لما ذكره المحقق صاحب الكفاية ـ قده ـ من ان طبيعي المعنى في الإنشاء والأخبار واحد ، وإنما الاختلاف بينهما من ناحية الداعي إلى الاستعمال ، فانك عرفت اختلاف المعنى فيهما ، فانه في الجملة الخبرية شيء وفي الجملة الإنشائية شيء آخر.

ومما يؤكد ما ذكرناه انه لو كان معنى الإنشاء والأخبار واحداً بالذات والحقيقة ، وكان الاختلاف بينهما من ناحية الداعي ، كان اللازم أن يصح استعمال الجملة الاسمية في مقام الطلب كما يصح استعمال الجملة الفعلية فيه ، بان يقال المتكلم في الصلاة معيد صلاته ، كما يقال انه يعيد صلاته أو انه إذا تكلم في صلاته أعاد صلاته ؛ مع انه من أفحش الأغلاط ، ضرورة وضوح غلطية استعمال «زيد قائم» في مقام طلب القيام منه ؛ فانه مما لم يعهد في أي لغة من اللغات.

٨٩

نعم يصح إنشاء المادة بالجملة الاسمية ، كما في جملة «أنت حر في وجه الله» أو «هند طالق» ، ونحو ذلك.

أسماء الإشارة والضمائر

قال صاحب الكفاية ـ قده ـ يمكن ان يقال ان المستعمل فيه في أسماء الإشارة والضمائر ونحوهما أيضاً عام ، وان تشخصه انما جاء من قبل طور استعمالها ، حيث ان أسماء الإشارة وضعت ليشار بها إلى معانيها ، وكذا بعض الضمائر وبعضها ليخاطب بها المعنى ، والإشارة والتخاطب يستدعيان التشخص كما لا يخفى ، فدعوى ان المستعمل فيه في مثل هذا وهو وإياك إنما هو المفرد المذكر ، وتشخصه إنما جاء من قبل الإشارة والتخاطب بهذه الألفاظ إليه ، فان الإشارة والتخاطب لا يكاد يكون إلا إلى الشخص أو معه غير مجازفة. انتهى.

والتحقيق انا لو سلمنا اتحاد المعنى الحرفي والاسمي ذاتاً وحقيقة ، واختلافهما باللحاظ الآلي والاستقلالي لم نسلم ما أفاده ـ قده ـ في المقام ، والوجه فيه هو ان لحاظ المعنى في مرحلة الاستعمال مما لا بد منه ولا مناص عنه ، ضرورة ان الاستعمال فعل اختياري للمستعمل فيتوقف صدوره على تصور اللفظ والمعنى ، وعليه فللواضع ان يجعل العلقة الوضعيّة في الحروف بما إذا لو حظ المعنى في مقام الاستعمال آلياً ، وفي الأسماء بما إذا لو حظ المعنى استقلالا ، ولا يلزم على الواضع ان يجعل لحاظ المعنى آلياً كان أو استقلالياً قيداً للموضوع له ، بل هذا لغو وعبث بعد ضرورة وجوده ، وانه في مقام الاستعمال مما لا بد منه.

وهذا بخلاف أسماء الإشارة والضمائر ونحوهما ، فان الإشارة إلى المعنى ليست مما لا بد منه في مرحلة الاستعمال ، بيان ذلك انه ان أريد بالإشارة استعمال اللفظ في المعنى ودلالته عليه ، كما قد تستعمل في ذلك في مثل قولنا قد أشرنا إليه

٩٠

فيما تقدم ، أو فلان أشار إلى أمر فلاني في كلامه أو كتابه ، فهذه الإشارة يشترك فيها جميع الألفاظ ، فلا اختصاص لها بأسماء الإشارة ، وما يلحق بها. وان أريد بها أمر زائد على الاستعمال ، فلا بد من أخذه في الموضوع له ، ضرورة انه ليس كلحاظ المعنى مما لا بد منه في مقام الاستعمال ، بمعنى انه ليس شيئا يقتضيه طبع الاستعمال بحيث لا يمكن الاستعمال بدونه ، فلا بد من أخذه قيداً في المعنى الموضوع له ، وإلا فالاستعمال بدونه بمكان من الإمكان.

فالصحيح في المقام ان يقال : ان أسماء الإشارة ، والضمائر ونحوهما وضعت للدلالة على قصد تفهيم معانيها خارجاً ، عند الإشارة والتخاطب لا مطلقاً ، فلا يمكن إبراز تفهيم تلك المعاني بدون الاقتران بالإشارة والتخاطب ، فكل متكلم تعهد في نفسه بأنه متى ما قصد تفهيم معانيها أن يتكلم بها مقترنة بهذين الأمرين ، فكلمة (هذا) أو (ذاك) لا تدل على معناها وهو المفرد المذكر إلا بمعونة الإشارة الخارجية ، كالإشارة باليد كما هي الغالب أو بالرأس أو بالعين ، وضمير الخطاب لا يبرز معناه إلا مقترناً بالخطاب الخارجي.

ومن هنا لا يفهم شيء من كلمة هذا ـ مثلا ـ عند إطلاقها مجردة عن اية إشارة خارجية ، وعلى ذلك جرت سيرة أهل المحاورة في مقام التفهيم والتفهم ، وصريح الوجدان ومراجعة سائر اللغات أقوى شاهد على ما ذكرناه.

ثم لا يخفى ان مثل كلمة هذا أو هو انما وضعت لواقع المفرد المذكر أعني به كل مفهوم كلي أو جزئيّ لا يكون مؤنثاً ، لا لمفهومه وإلا فلازمه أن يكون لفظ هذا مرادفاً مع مفهوم المفرد المذكر ، مع انه خلاف الضرورة والوجدان ، وعلى ذلك فيكون الوضع عاماً والموضوع له خاصاً وقس عليهما غيرهما من أسماء الإشارة والضمائر.

٩١

استعمال اللفظ في المعنى المجازي

الأمر الخامس اختلفوا : في ان ملاك صحة استعمال اللفظ في المعنى المجازي وما يناسب الموضوع له ، هل هو بالطبع أو بالوضع أعني ترخيص الواضع في الاستعمال لوجود علقة من العلائق وجهان بل قولان : فذهب المحقق صاحب الكفاية ـ قده ـ إلى الأول ، بدعوى ان ملاك صحة ذلك الاستعمال قبول الطبع له وكونه حسناً عند العرف ، فأي استعمال مجازي كان حسناً عندهم وقبله الطبع السليم فهو صحيح وان فرض ان الواضع لم يأذن فيه ، بل وان منع عنه ، وكل استعمال لم يقبله الطبع فهو غير صحيح وان اذن الواضع فيه فإطلاق لفظ القمر على حسن الوجه واستعماله فيه صحيح وان فرض ان الواضع لم يأذن فيه ، بل منع عنه هذا.

وذهب المشهور إلى الثاني وان ملاك صحة استعمال اللفظ في المعنى المجازي اذن الواضع وترخيصه ، سواء كان مما يقبله الطبع أم لا؟

وعلى الجملة فعلى القول الأول تدور صحة استعمال اللفظ في المعنى المجازي وعدم صحته مدار حسنه طبعاً وعرفاً وعدم حسنه كذلك ، سواء أكان هناك اذن نوعي من من الواضع أيضاً أم لم يكن؟ وعلى القول الثاني تدور مدار الوضع النوعيّ وجوداً وعدماً كان حسناً عند الطبع والعرف أيضاً أم لم يكن؟

التحقيق في المقام أن يقال : ان البحث عن ذلك يبتنى على إثبات امرين :

(الأول) : وجود الاستعمالات المجازية في الألفاظ المتداولة بين العرف.

(الثاني) : انحصار الواضع بشخص واحد أو جماعة وإلا فلا مجال لهذا البحث ، فانا إذا التزمنا بان كل مستعمل واضع حسب تعهده فهو لم يتعهد إلا بإرادة المعنى الموضوع له عند عدم القرينة على الخلاف ، واما مع وجود القرينة فلا مانع من الاستعمال ، وحيث لم يثبت كلا الأمرين فلا موضوع لهذا البحث.

٩٢

اما عدم ثبوت الأمر الأول فلا مكان ان نلتزم بما نسب إلى السكاكي من ان اللفظ يستعمل دائماً في المعنى الموضوع له ، غاية الأمر ان التطبيق قد يكون مبتنياً على التنزيل والادعاء بمعنى ان المستعمل ينزل شيئاً منزلة المعنى الحقيقي ويعتبره هو فيستعمل اللفظ فيه فيكون الاستعمال حقيقياً ، ولا بعد فيما نسب إليه ، فان فيه المبالغة في الكلام الجارية على طبق مقتضى الحال ؛ وهذا بخلاف مسلك القوم ، فانه لا مبالغة فيه إذ لا فرق حينئذ بين قولنا (زيد قمر) وقولنا (زيد حسن الوجه) أو بين قولنا (زيد أسد) وقولنا (زيد شجاع) مع ان مراجعة الوجدان تشهد على خلاف ذلك ، ووجود الفارق بين الكلامين.

ونظير ذلك ما ذكره المحقق صاحب الكفاية ـ قده ـ من ان كلمة (لا) في مثل قوله عليه‌السلام «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» إنما استعمل في نفي الحقيقة لكنه على نحو الادعاء والمبالغة لا في نفي الصفة أو الكمال وإلا فلا دلالة في الجملة على المبالغة.

وقد ذكرنا في بعض مباحث الفقه ان المبالغة ليست من افراد الكذب ولا مانع منها في ما إذا اقتضتها الحال.

وقد تلخص من ذلك ان ما نسب إلى السكاكي من إنكار المجاز في الكلمة وان جميع الاستعمالات بشتى أنواعها واشكالها استعمالات حقيقية أقرب إلى الحق.

وعلى ذلك لا يبقى مجال لهذا البحث فان موضوعه الاستعمال المجازي والمفروض انه لا مجاز في الكلمة حتى يقع البحث في أن صحته متوقفة على الاذن أو على الطبع. بل المجاز حينئذ إنما هو في الإسناد والتطبيق وبعد التصرف في الإسناد وتنزيل المعنى المجازي بمنزلة المعنى الحقيقي واعتباره فرداً منه ادعاء فالاستعمال استعمال في المعنى الحقيقي لا محالة.

واما عدم ثبوت الأمر الثاني فلما حققناه سابقاً في مبحث الوضع من أن الواضع لا ينحصر بشخص واحد أو جماعة ولا سيما على مسلكنا من انه عبارة عن (التعهد والالتزام

٩٣

النفسانيّ) فانه على هذا كان كل مستعمل واضعاً حقيقة فلا يختص الواضع بشخص دون شخص ، وعليه فنقول ان الواضع كما تعهد بذكر لفظ خاص عند إرادة تفهيم معنى خاص دون ان يأتي بأية قرينة ، كذلك قد تعهد بذكر ذلك اللفظ عند إرادة معنى آخر ، ولكن مع نصب قرينة تدل عليها ، غاية الأمر ان الوضع على الأول شخصي وعلى الثاني نوعي ، وتسميته بذلك بملاحظة ان العلائق والقرائن غير منحصرة بواحدة.

وعلى الجملة فالتعهد والالتزام كما هما موجودان بالقياس إلى تفهيم المعاني الحقيقية ، كذلك موجودان بالقياس إلى تفهيم المعاني المجازية ، فكل متكلم كما تعهد بأنه متى ما قصد تفهيم معنى خاص يتكلم بلفظ مخصوص مجرداً عن القرينة ، كذلك تعهد بأنه متى ما قصد تفهيم معنى مناسب للمعنى الموضوع له يتكلم بذلك اللفظ مصحوباً بالقرينة ليكون المجموع مبرزاً له.

وقد تلخص من ذلك : ان عدم انحصار الواضع بشخص أو جماعة لا يدع مجالا وموضوعاً للبحث المذكور ، فانه مبتن على أن يكون الواضع من أهل كل لغة شخصاً خاصاً أو جماعة معينين ، ليقال ان جواز استعمال اللفظ في المعنى المجازي هل هو منوط بإذنه أم لا؟ واما إذا لم يكن الواضع منحصراً بشخص أو جماعة وكان كل مستعمل واضعاً فلا مجال له أصلاً.

(الأمر السادس) : «ذكر المحقق صاحب الكفاية ـ قده ـ انه لا شبهة في صحة إطلاق اللفظ وإرادة نوعه به ، كما إذا قيل ضرب ـ مثلا ـ «فعل ماض» أو صنفه كما إذا قيل زيد في «ضرب زيد فاعل» إذا لم يقصد به شخص القول أو مثله كضرب في المثال فيما إذا قصد ، وقد أشرنا إلى ان صحة الإطلاق كذلك وحسنه إنما كان بالطبع لا بالوضع وإلا كانت المهملات موضوعة لذلك ، لصحة الإطلاق كذلك فيها والالتزام بوضعها لذلك كما ترى ، واما إطلاقه وإرادة شخصه كما إذا قيل (زيد لفظ) وأريد منه شخص نفسه ففي صحته بدون تأويل نظر».

٩٤

توضيح ذلك : ان العلاقة الخارجية بين المعنى الموضوع له والمعنى المجازي إذا كانت مقتضية لارتباط اللفظ بالمعنى المجازي ولحسن الاستعمال بالطبع كانت العلاقة الذاتيّة بين اللفظ وما استعمل فيه فانه من سنخ اللفظ وفرده مقتضية له لا محالة ، فان الذاتيّة أقوى بمراتب من العلاقة الخارجية الموجودة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي ، واستشهد على ان هذه الاستعمالات طبعية لا وضعية ، بصحة ذلك الإطلاق في الألفاظ المهملة أيضا مع انه لا وضع فيها ـ أصلا ـ فهذا يكشف قطعياً عن انه بالطبع لا بالوضع.

(أقول) : تحقيق الكلام في هذا المقام هو ان ما أفاده ـ قده ـ يبتنى على أمرين :

(الأول) : إثبات ان الواضع شخص واحد أو جماعة معينون ، إذ لو كان كل مستعمل واضعاً لم يستبعد وجود الوضع في المهملات أيضا فانه كما تعهد باستعمال الألفاظ في معانيها ، كذلك قد تعهد بأنه متى ما أراد تفهيم نوع اللفظ أو صنفه أو مثله يبرزها به ولا مانع من الالتزام بمثل ذلك الوضع والتعهد في الألفاظ المهملة أيضاً ، فانه لا يوجب خروجها عن الإهمال إلى البيان ، وذلك لأن إهمالها باعتبار انها لم توضع لإفادة المعاني ، وهذا لا ينافي ثبوت الوضع فيها لإفادة نفسها.

(الثاني) : إثبات ان هذه الإطلاقات من قبل الاستعمال ، فانه إذا لم يكن كذلك لم يبق مجال للبحث عن انه بالوضع أو بالطبع.

والصحيح هو انها ليست من قبيل الاستعمال في شيء بيان ذلك يحتاج إلى تقديم مقدمة وهي ان المعاني لما كانت بأنفسها مما لا يمكن إبرازها في الخارج وإحضارها في الأذهان من دون واسطة ضرورة انه في جميع موارد الحاجة لا يمكن إراءة شخص معنى أو صورته أو ما يشبهه فان كل ذلك لا يفي بالمحسوسات فضلا عن المعقولات والممتنعات فلا محالة نحتاج إلى واسطة بها تبرز المعاني وتحضر في الأذهان ، وتلك الواسطة منحصرة بالألفاظ ، فان بها تبرز المعاني للتعهد بذكرها عند إرادة تفهيمها في موارد الحاجة وهذا بخلاف نفس الألفاظ ، فانها بأنفسها قابلة لأن تحضر في الأذهان من

٩٥

دون اية واسطة خارجية فلا حاجة إلى إبرازها وإحضارها فيها إلى آلة بها تبرز وتحضر ، ضرورة انها لو لم تحضر بنفسها في الذهن واحتج في إحضارها فيه إلى آلة أخرى فتلك الآلة اما ان تكون لفظاً أو غير لفظ اما غير اللفظ فقد عرفت انه غير واف في إبراز المقصود في جميع موارد الحاجة ، واما اللفظ فلانا ننقل الكلام إلى ذلك اللفظ ونقول انه اما ان يحضر في الذهن بنفسه أو لا يحضر وعلى الأول فلا فرق بين لفظ دون لفظ بالضرورة ، وعلى الثاني فان احتاج إلى لفظ آخر فننقل الكلام إلى ذلك اللفظ وهكذا فيذهب إلى غير النهاية ، واما المعنى فهو يحضر فيه بتوسط اللفظ فالحاضر أولا في الذهن هو اللفظ وبتبعه يحضر المعنى ، فكل سامع للفظ الصادر من المتكلم ينتقل إلى اللفظ أولا وإلى المعنى ثانياً وبتبعه.

فعلى ضوء ذلك نقول : قد ظهر ان إطلاق اللفظ وإرادة شخصه أو نوعه أو صنفه أو مثله ليس من قبيل استعمال اللفظ في المعنى لا بالوضع النوعيّ ولا بالوضع الشخصي ، والوجه فيه هو أن الوضع مقدمة للاستعمال وإبراز المقاصد ولولاه لاختلت أنظمة الحياة كلها من (المادية والمعنوية) فتنظيمها وتنسيقها بشتى ألوانها وأشكالها متوقف على الوضع ، فان المعاني النفسانيّة التي تتعلق بها الأغراض المادية أو المعنوية لا يمكن إبرازها وإحضارها في الأذهان إلا بالجعل والمواضعة والتعهد بذكر الألفاظ عند إرادة تفهيم تلك المعاني ، ولذلك السبب فالوضع بصبح ضرورياً.

ومن هنا يتبين لك أن ما لا يحتاج إبرازه وإحضاره في الأذهان إلى واسطة بل يمكن إحضاره فيها بنفسه عند تعلق الغرض به فلا حاجة إلى الوضع فيه أصلا بل هو لغو وعبث.

وحيث ان اللفظ بنفسه قابل لأن يحضر في ذهن المخاطب بلا واسطة أي شيء فالوضع فيه لغو محض لا محالة.

وهذا بيان إجمالي لجميع الأقسام المذكورة.

٩٦

وإليك بيان تفصيلي بالقياس إلى كل واحد منها :

(أقول) : اما القسم الأول منها وهو ما إذا أطلق اللفظ وأريد به شخصه كما إذا قيل (زيد ثلاثي) وأريد به شخص ذلك اللفظ ، فليس هو من قبيل استعمال اللفظ في المعنى في شيء ، وذلك لأن لازمه اتحاد الدال والمدلول ذاتاً وحقيقتاً إذ شخص هذا اللفظ دال وهو بعينه مدلول ، وهذا غير معقول.

وقد أجاب عن ذلك المحقق صاحب الكفاية ـ قده ـ بان الدال والمدلول في المقام وان كانا متحدين حقيقة إلا انه يكفي تعددهما اعتباراً ولا يلزم أن يكون الدال والمدلول متعددين ذاتاً ، وبما أن هنا حيثيتين واقعيتين وهما حيثية صدور اللفظ عن لافظه وحيثية أن شخصه متعلق إرادته فهو من الحيثية الأولى دال ومن الحيثية الثانية مدلول فلا يتحد الدال والمدلول من جميع الجهات.

ويرده ان هذه الدلالة أي دلالة اللفظ على انه مراد ومقصود وان كانت موجودة هنا إلا انها أجنبية عن دلالة اللفظ على المعنى رأساً ، بل هي دلالة عقلية سائرة في جميع الأفعال الاختيارية ، فان كل فعل صادر بالاختيار يدل على انه مراد لا محالة بداهة لزوم سبق الإرادة على الفعل الاختياري في تمام الموارد فهذه الدلالة من دلالة المعلول على علته وهي أجنبية عن دلالة الألفاظ على معانيها بالكلية

ومن هنا قد أجاب شيخنا المحقق ـ قده ـ عن الإشكال بجواب آخر وإليك نصه : «التحقيق ان المفهومين المتضايفين ليسا متقابلين مطلقا بل التقابل في قسم خاص من التضايف وهو ما إذا كان بين المتضايفين تعاند وتناف في الوجود كالعلية والمعلولية والأبوة والبنوة مما قضى البرهان بامتناع اجتماعهما في وجود واحد لا في مثل العالمية والمعلومية والمحبية والمحبوبية ، فانهما يجتمعان في الواحد غير ذي الجهات كما لا يخفى والحاكي والمحكي والدال والمدلول كاد أن يكون من قبيل القسم الثاني حيث لا برهان على امتناع حكاية الشيء عن نفسه كما قال عليه‌السلام «يا من دل على ذاته بذاته» وقال عليه‌السلام «أنت دللتني عليك».

٩٧

ولكن لا يمكن المساعدة عليه أيضا وذلك لأن ما أفاده ـ قده ـ من ان التقابل في قسم خاص من التضايف لا في مطلق المتضايفين وان كان صحيحاً إلا انه أجنبي عن محل كلامنا هنا بالكلية ، فانه في دلالة اللفظ على المعنى وهي قسم خاص من الدلالة التي لا يمكن ان تجتمع في شيء واحد ، لما بيناه من ان حقيقة تلك الدلالة عبارة عن وجود اللفظ وحضوره في ذهن المخاطب أولا وحضور المعنى ووجوده فيه بتبعه ثانياً ، فكل مخاطب بل كل سامع عند سماع اللفظ ينتقل إلى اللفظ أولا وإلى المعنى ثانياً فحضور اللفظ علة لحضور المعنى ، ومن البين الواضح ان ذلك لا يعقل في شيء واحد ، بداهة ان العلية تقتضي الاثنينية والتعدد فلا يعقل علية حضور الشيء في الذهن لحضور نفسه هذا بالقياس إلى المخاطب والسامع.

واما بالقياس إلى المتكلم والمستعمل فحقيقة الاستعمال اما هي عبارة عن إفناء اللفظ في المعنى فكأنه لم يلق إلى المخاطب إلا المعنى ولا ينظر إلا إليه كما هو المشهور فيما بينهم ، أو عبارة عن جعل اللفظ علامة للمعنى ومبرزاً له كما هو الصحيح. فعلى التقديرين لا يعقل استعمال الشيء في نفسه ، ضرورة استحالة فناء الشيء في نفسه وجعل الشيء علامة لنفسه ، فانهما لا يعقلان إلا بين شيئين متغايرين في الوجود.

وقد تلخص من ذلك ان اتحاد الدال والمدلول في الدلالة اللفظية غير معقول.

ومن هنا يظهر ان قياس المقام بدلالة ذاته تعالى على ذاته قياس مع الفارق ، فان سنخ تلك الدلالة غير سنخ هذه الدلالة ، إذ انها بمعنى ظهور ذاته بذاته وتجلي ذاته لذاته ، بل ظهور جميع الكائنات بشتى ألوانها واشكالها من الماديات والمجردات بذاته تعالى ، وهذا بخلاف الدلالة هنا فانها بمعنى الانتقال من شيء إلى شيء آخر.

فعلى ضوء ذلك يظهر ان إطلاق اللفظ وإرادة شخصه لا يكون من قبيل الاستعمال في شيء فان المتكلم بقوله (زيد ثلاثي) ـ مثلا ـ لم يقصد الا إحضار شخص ذلك اللفظ في ذهن المخاطب وهو بنفسه قابل للحضور فيه ومعه لا حاجة إلى الواسطة كما مر آنفاً.

٩٨

وقد يشكل على هذا بان لازم ذلك تركب القضية الواقعية من جزءين ، فان القضية اللفظية تحكى بموضوعها ومحمولها ونسبتها عن القضية الواقعية ، وحيث قد فرض انه لا موضوع في المقام للقضية الواقعية في قبال القضية اللفظية فليس هناك بحسب الفرض غير المحمول والنسبة ، مع ان تحقق النسبة بدون الطرفين محال هذا.

وقد أجاب عنه المحقق صاحب الكفاية ـ قده ـ بما ملخصه مع أدنى توضيح وهو ان الإشكال المزبور مبتن على ان يكون الموضوع في القضية الحقيقية يحتاج في وجوده وحضوره في الأذهان إلى واسطة كاللفظ بالإضافة إلى المعنى ، فانه واسطة لوجوده وحضوره وليس نفسه بموضوع للقضية ، بل هو لفظ الموضوع وحاك عنه فموضوعية اللفظ لها إنما هي باعتبار انه الواسطة لإحضار ما هو موضوع فيها حقيقة ، نعم هو موضوع في القضية اللفظية.

واما إذا فرض ان الموضوع في القضية الحقيقية لا يحتاج في وجوده وحضوره إلى الواسطة بل كان حاله حال بقية الأفعال الخارجية والموجودات الفعلية فلا يلزم محذور تركب القضية من جزءين ، ومقامنا من هذا القبيل ، فان الموضوع في مثل قولنا (زيد ثلاثي) إذا أريد به شخصه شخص ذلك اللفظ الّذي هو من الكيف المسموع لا أنه لفظه ، ومن البين الواضح ان اللفظ لا يحتاج في وجوده في الذهن إلى اية واسطة لا مكان إيجاده على ما هو عليه وإثبات المحمول له ، وعليه فالقضية مركبة من أجزأ ثلاثة الموضوع وهو ذات اللفظ وشخصه والمحمول وهو ثلاثي مع النسبة بينهما.

وبتعبير آخر ان كون الشيء موضوعاً في القضية باعتبار ان المحمول ثابت له فقد يكون المحمول ثابتاً لما يحتاج في وجوده وحضوره إلى الواسطة كالمعنى كما هو الحال في القضايا المتعارفة ، وقد يكون ثابتاً لما لا يحتاج في وجوده إلى الواسطة كاللفظ ، ولما كان الموضوع في المقام شخص اللفظ من جهة ان المحمول ثابت له فانه سنخ حكم محمول عليه دون المعنى فلا يلزم المحذور المزبور ، فان لزومه هنا

٩٩

مبتن على ان لا يكون الموضوع هو نفس اللفظ واما إذا فرض انه الموضوع في القضية والحكم ثابت له فلا محذور أصلا.

واما القسم الثاني وهو ما إذا أطلق اللفظ وأريد منه نوعه كما إذا قيل (زيد لفظ أو ثلاثي) وأريد به طبيعي ذلك اللفظ فليس من قبيل الاستعمال أيضاً ، بل هو من قبيل إحضار الطبيعي في ذهن المخاطب بإراءة فرده فالمتكلم بذلك اللفظ قد قصد ثبوت الحكم للطبيعي ليسري منه إلى افراده ، فأوجد المتكلم في ذهن المخاطب أمرين : أحدهما شخص اللفظ الصادر منه والثاني طبيعي ذاك اللفظ الجامع بينه وبين غيره ، ولما لم يمكن إيجاده على ما هو عليه في الخارج إلا بإيجاد فرده فلا يكون من قبيل استعمال اللفظ في المعنى في شيء فان وجوده عين وجود فرده في الخارج وإيجاده عين إيجاد فرده ؛ وعليه فلا يعقل ان يجعل وجود الفرد فانياً في وجوده أو مبرزاً له وعلامة عليه فان كل ذلك لا يعقل إلا بين وجودين خارجاً والمفروض انه لا اثنينية في المقام فلا يمكن أن يكون وجود الفرد واسطة لإحضار الطبيعي في الأذهان ، فان الواسطة تقتضي التعدد في الوجود ولا تعدد هنا فيه أصلا.

وقد تلخص من ذلك ان ملاك الاستعمال لا يكون موجوداً في أمثال المقام ، بل لا يعقل الاستعمال كما عرفت. فحال المقام حال ما إذا أشار أحد إلى حية فقال سامة فانه قد أوجد في ذهن المخاطب بإشارته هذه أمرين أحدهما شخص هذه الحية والثاني الطبيعي الجامع بينها وبين غيرها فحكم على الطبيعي بسنخ حكم يسرى إلى أفراده ، فمقامنا من هذا القبيل بعينه.

وعلى الجملة حيث ان إيجاد الطبيعي على ما هو عليه في الخارج أو الذهن بلا وساطة شيء بمكان من الإمكان فلا يحتاج تفهيمه إلى دال ومبرز له.

وأما القسم الثالث والرابع وهما ما إذا أطلق اللفظ وأريد منه صنفه أو مثله فقد يتوهم انهما من قبيل الاستعمال ، بل لعل ذلك مشهور بينهم ولا سيما في القسم الرابع ، وكيف كان فالصحيح هو أن حال هذين القسمين حال القسمين الأولين

١٠٠