محاضرات في أصول الفقه - ج ١

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
المطبعة: الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٠٠

.......................................

__________________

والجواب عنه ان المشتق إذا سلم انه مجاز في المنقضى فالإضافة أيضاً بما انها ظاهرة في التلبس الفعلي كان حكمها حكم المشتق فالحكم بالحرمة يبتنى على كون المشتق موضوعاً للأعم ، وعليه فعنوان أمهات نسائكم في الآية الشريفة ظاهر في الفعلية وحمله على الأعم أو على خصوص المنقضى عنه المبدأ خلاف الظاهر فلا يمكن المصير إليه إلا بقرينة وحيث لم تقم قرينة لا من الداخل ولا من الخارج على ان المراد منه في الآية المعنى الأعم لا يمكننا أن نرفع اليد عن ظهوره.

(الثالث) : انا لو سلمنا ان المشتق حقيقة في المتلبس فعلا إلا ان المراد منه في الآية الكريمة هو الأعم ، وذلك بقرينة ذكر أمهات النساء في سياق قوله تعالى : (وربائبكم اللاتي في حجوركم) إذ لا إشكال في انه لا يعتبر في حرمة الربيبة ان تكون من الزوجة الفعلية المدخول بها ، بل يكفي في حرمتها ان تكون من الزوجة المدخول بها ولو بعد زوال زوجيتها وبوحدة السياق نستكشف انه لا يعتبر في حرمة أمهات النساء أيضاً ان تكون البنت زوجة فعلا وعلى ذلك فتندرج المرضعة في المقام تحت عنوان أمهات نسائكم فتحرم.

وغير خفي ان حرمة الربيبة مطلقاً ولو لم تكن الأم زوجة مدخولا بها حال أمومتها قد ثبتت بقرينة خارجية لا من ناحية ظهور الآية المباركة ، فلو كنا ونحن وهذه الآية ولم يكن دليل من الخارج لكنا نقول بعدم الحرمة في الصورة المذكورة ، إذاً لا مجال لتوهم وحدة السياق أصلا فان المجال لهذا التوهم لو كان فانما يكون فيما إذا كانت الآية في نفسها ظاهرة في المعنى المزبور مع ان للمناقشة على هذا أيضاً مجالا واسعاً كما لا يخفى.

(الرابع) : ان زمان زوجية الصغيرة وزمان انقضائها وان كانا في الواقع زمانين إلا انهما كذلك بنظر الدقي الفلسفي واما بنظر المسامحي العرفي فيرى الزمانان زماناً واحداً ، فان زوجية الصغيرة وانقضائها عنها وأمية الكبيرة جميعاً متحدات في الزمان وان كانت مترتبات في الرتبة ، فأول زمن الأمية متصل بآخر زمن الزوجية ،

٢٢١

...........................................

__________________

وهذا المقدار كاف في صدق عنوان أم الزوجة والاندراج تحت الآية المباركة.

ويرده : ان الأنظار العرفية انما تتبع في تعيين مفاهيم الألفاظ سعة وضيقاً لا في تطبيقاتها على مصاديقها ، فان المتبع في ذلك هو النّظر الدقي ولا عبرة بالمسامحات العرفية ، والخصم بعد ما سلم ان المشتق حقيقة في خصوص المتلبس بالمبدإ فعلا دون الأعم لم يبق له مجال لدعوى صدق الآية وانطباقها على المقام إلا بنظر مسامحي عرفي الّذي لا اعتداد به مطلقاً.

(الخامس) : ان زوجية الصغيرة وان كانت زائلة في زمان أمية الكبيرة زماناً إلا ان زوالها في مرتبة متأخرة عن تحقق الأمية ، ففي مرتبة الأمية لم تكن الزوجية زائلة ، وهذا المقدار كاف في صدق بعنوان أم الزوجة على الكبيرة فتحرم عليه ، بيان ذلك : انه لا ريب في أن العلة تتقدم على المعلول رتبة وتتحد معه زماناً ، وهكذا الحكم والموضوع. فان نسبة الحكم إلى الموضوع نسبة المعلول إلى العلة فيتقدم الموضوع على الحكم رتبة وان كان يتحد معه زماناً ، وحيث ان ارتفاع الزوجية عن الصغيرة معلول لتحقق عنوان البنوة لها كان متأخراً عنه رتبة وان كان متحداً معه زماناً قضاء لحق العلية والمعلولية. وعليه فلا محالة انها تكون زوجة في رتبة البنتية وإلا لزم ارتفاع النقيضين عن تلك الرتبة. وبما أن عنوان أمومة الكبيرة قد تحقق في رتبة تحقق عنوان بنوة الصغيرة وملازم له فانهما متضايفان والمتضايفان متكافئان في القوة والفعل فلا محالة تكون أمّا للزوجة الصغيرة التي هي في رتبة بنوتها لا في رتبة انتفاء الزوجية عنها المتأخرة رتبة عن عنوان البنوة ، إذاً يصدق عليها انها أم زوجة في رتبة البنوة ، وهذا المقدار كاف في الاندراج تحت الآية المباركة وشمول أدلة التحريم.

لا يخفى أن ذلك مخدوش من وجهين :

(الأول) : انا قد ذكرنا غير مرة ان الأحكام الشرعية مترتبة على

٢٢٢

......................................

__________________

الموجودات الزمانية ولا أثر للرتبة فيها أصلا ، فان الأدلة المتكفلة ببيان الأحكام الشرعية من العمومات أو غيرها كلها ناظرة إلى إثبات تلك الأحكام للموجودات الزمانية ، وتتقدر تلك الأحكام بالزمان لا بالرتبة. وعلى ذلك فلا أثر لكون أمية الكبيرة في رتبة بنوة الصغيرة التي كانت الزوجية متحققة في تلك الرتبة ، ولا يوجب ذلك أن تشملها عمومات التحريم من الآية ونحوها ، لما عرفت من انها غير ناظرة إلى إثبات الأحكام للرتبة.

نعم لو كانت أمومة الكبيرة مقارنة مع زوجية الصغيرة زماناً لشملتها العمومات لا محالة ، ولكن قد عرفت انها متأخرة عنها زماناً ، ومعه لا أثر لكون الأمومة في رتبة سابقة على ارتفاع الزوجية أصلا.

(الثاني) : ان تقدم شيء على شيء رتبة يحتاج إلى ملاك يوجب ذلك ولا يكون ذلك أمراً جزافياً ، فالعلة تتقدم على المعلول قضاء لحق العلية ، والشرط يتقدم على المشروط قضاء لحق الشرطية ، والموضوع يتقدم على الحكم قضاء لحق الموضوعية .. وهكذا. ولذا لا وجه لتقدم العلة على عدم المعلول ، والشرط على عدم المشروط ... وهكذا ، فانه بلا ملاك يقتضى ذلك ، إذاً لا وجه لتقدم أمومة الكبيرة على انتفاء الزوجية عن الصغيرة لعدم مقتضى لذلك ، وتقدم عنوان بنوتها على ارتفاع زوجيتها انما هو بملاك العلية وذلك الملاك منتف هنا.

وعليه فلو سلمنا ثبوت الحكم للرتبة فائضاً لا يصدق عليها عنوان أم الزوجة لأن الأمية لا تقدم لها على ارتفاع زوجية الصغيرة رتبة وانما المتقدم عليها عنوان البنتية.

فالنتيجة من ذلك أمران :

(الأول) : انه لا أثر للتقدم والتأخر والتقارن الرتبي في الأحكام الشرعية أصلا.

٢٢٣

.....................................

__________________

(الثاني) : انه على فرض تسليم ان لها أثر فيها أيضاً لا يجدى في المقام كما عرفت.

(السادس) : برواية علي بن مهزيار عن أبي جعفر عليه‌السلام (قال : قيل له ان رجلا تزوج بجارية صغيرة فأرضعتها امرأته ثم أرضعتها امرأة له أخرى ، فقال : ابن شبرمة حرمت عليه الجارية وامرأتاه ، فقال : أبو جعفر عليه‌السلام أخطأ ابن شبرمة تحرم عليه الجارية وامرأته التي أرضعتها أولا ، فاما الأخيرة فلم تحرم عليه كأنها أرضعت ابنته).

فدلت الرواية على حرمة المرضعة الأولى وان كانت موردها فيمن كان له زوجتان كبيرتان فأرضعتا زوجته الصغيرة إلا انها تدل على حكم المقام أيضاً كما لا يخفى وقد ناقش فيها في المسالك بما إليك نصه : ولكنها ضعيفة السند في طريقها صالح بن أبي حماد وهو ضعيف ، ومع ذلك فهي مرسلة لأن المراد بأبي جعفر عليه‌السلام حيث يطلق الباقر عليه‌السلام وقرينته قول ابن شبرمة في مقابله لأنه كان في زمنه ، وابن مهزيار لم يدرك الباقر عليه‌السلام ولو أريد من أبي جعفر الثاني وهو الجواد عليه‌السلام بقرينة انه أدركه وأخذ عنه فليس فيه انه سمع منه ذلك ، بل قيل له ، وجاز أن يكون سمع ذلك بواسطة ، فالإرسال متحقق على التقديرين ، مع ان هذا الثاني بعيد لأن إطلاق أبي جعفر لا يحمل على الجواد عليه‌السلام انتهى.

يتلخص ما في المسالك إلى أمور ثلاث :

(الأول) : ان الرواية ضعيفة السند بصالح بن أبي حماد ، ودعوى انجبارها بعمل المشهور مدفوعة بعدم إحراز استنادهم إليها في مقام الإفتاء ، بل عدم الاستناد إليها معلوم ، لأنهم أفتوا بحرمة كلتا المرضعتين لا خصوص الأولى فقط والرواية دلت على حرمة الأولى دون الثانية بل صرحت فيها بعدم حرمتها.

(الثاني) : انها مرسلة من جهة ان الظاهر من إطلاق أبي جعفر عليه‌السلام

٢٢٤

.........................................

__________________

الإمام الباقر عليه‌السلام دون الإمام الجواد عليه‌السلام ومما يدل على ذلك قول ابن شبرمة في مقابله فانه كان في عصر الباقر عليه‌السلام ومن الواضح ان ابن مهزيار لم يدرك الإمام الباقر عليه‌السلام لأن ابن مهزيار يدور بين كونه من أصحاب الرضا عليه‌السلام كما قال بعض ، وكونه من أصحاب الجواد عليه‌السلام كما قال بعض آخر ، وكونه من أصحاب العسكري عليه‌السلام كما قال ثالث ، فعلى كل تقدير لا يمكن أن يروى ابن مهزيار عن الباقر عليه‌السلام بلا واسطة ، إذاً الواسطة التي يروى عنها ابن مهزيار قد سقطت عن سند الرواية يقيناً ، وحيث ان حال الواسطة مجهولة لنا فتصبح الرواية مرسلة.

(الثالث) : انا لو سلمنا ان المراد من أبي جعفر عليه‌السلام الإمام الجواد إلا انه ليس في الرواية شيء يدل على ان ابن مهزيار سمع منه ذلك بلا واسطة ، إذ من الجائز أن يكون سمع ذلك بواسطة ، وذلك بقرينة قوله قال : قيل له.

أقول : اما ما ذكره ـ قده ـ أولا من ان الرواية ضعيفة سنداً بصالح بن أبي حماد فالأمر كذلك ، إذ لم يثبت توثيقه ولا حسنه ، وان عده بعض من الحسان

وأما ما ذكره ثانياً من ان أبي جعفر عليه‌السلام حيث أطلق فالظاهر منه الإمام الباقر عليه‌السلام فالأمر أيضاً كذلك ، فان أبي جعفر عليه‌السلام إذا أطلق فالمراد منه الباقر عليه‌السلام وإذا قيد بالثاني فالمراد منه الجواد عليه‌السلام فالتمييز بينهما في رواياتنا بذلك هذا الظهور في نفسه لا بأس به إلا انه يمكن أن يعارض ذلك الظهور بظهور الرواية في أن علي بن مهزيار رواها عن الإمام عليه‌السلام بلا واسطة ، وهذا قرينة على ان المراد من أبي جعفر عليه‌السلام الإمام الجواد دون الإمام الباقر عليه‌السلام حيث انه أدرك زمانه ورواه عنه بلا واسطة في غير مورد.

واما ما ذكره ثالثاً من انه على تقدير تسليم ان يكون المراد من أبي جعفر عليه‌السلام الإمام الجواد كانت الرواية مرسلة فلا يمكن المساعدة عليه ، وذلك لأن مجرد عدم ذكر

٢٢٥

.........................................

__________________

السائل لا يكون قرينة على الإرسال ، بل لعل عدم ذكره لعدم دخله في المقصود كما هو ظاهر.

نعم الموجود في نسخة الكافي والتهذيب علي بن مهزيار رواه عن أبي جعفر عليه‌السلام وهي ظاهرة في إرسال الرواية وإلا لم تكن حاجة لذكر كلمة رواه كما لم تذكر في سائر الروايات المسندة.

وعلى كل حال فالمتحصل من المجموع ان الرواية ساقطة عن الاعتبار فلا يمكن الاعتماد عليها في مقام الاستنباط.

فقد أصبحت النتيجة مما ذكرناه لحد الآن ان شيئاً من هذه الوجوه الست لا يدل على حرمة المرضعة.

ومما يؤكد ما ذكرناه عدة من الروايات التي تعرضت لحكم الصغيرة وحكمت بحرمتها بلا تعرض لها لحكم الكبيرة نفياً أو إثباتاً.

منها ـ صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام في رجل تزوج بجارية صغيرة فأرضعتها امرأته وأم ولده قال عليه‌السلام تحرم عليه.

ومنها ـ صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : ان رجلا تزوج جارية رضيعة فأرضعتها امرأته فسد النكاح ، والظاهر منها فساد نكاح الصغيرة دون الكبيرة ، فانها مسكوت عنها في الصحيحة من هذه الجهة.

ثم ان هذه الرواية نقلت بثلاث طرق أحدها طريق الشيخ إلى علي بن فضال وهو ضعيف ، والطريقان الآخران أحدهما صحيح والآخر حسن بابن هاشم.

وقد تحصل انه مضافا إلى ان عدم حرمة الكبيرة على طبق القاعدة من جهة عدم صدق عنوان أم الزوجة عليها يؤكده الصحيحتان المتقدمتان ونحوهما من جهة سكوت الإمام عليه‌السلام فيها عن حكم الكبيرة.

هذا كله فيما إذا كانت الكبيرة مدخولا بها. وأما إذا لم تكن كذلك

٢٢٦

.........................................

__________________

وأرضعت الصغيرة فهل يفسد نكاحهما معاً أم لا؟ المعروف والمشهور هو الأول مستدلا على ذلك بان فساد نكاح إحداهما دون الأخرى ترجيح من غير مرجح

وفيه انه بناء على ما هو المشهور بينهم في المسألة الأولى من الحكم بحرمة المرضعة من جهة صدق عنوان أم الزوجة وأم النساء عليها فالقول بحرمة المرضعة هنا وفساد نكاحها متعين بعين الملاك المزبور فيها. واما الصغيرة فهي لا تحرم بلا إشكال لفرض عدم الدخول بالكبيرة ، وأما بطلان نكاحها فلا وجه له لعدم صدق بنت الزوجة عليها ، بناء على ما هو الصحيح من ظهور المشتق في فعليه التلبس ومن هنا يظهر فساد ما ذكروه من انه لا ترجيح لبطلان نكاح إحداها دون الأخرى ، إذ عرفت ان الترجيح موجود.

(الفرع الثاني) (فيمن كانت له زوجتان كبيرتان فأرضعتا زوجته الصغيرة مع فرض دخوله بإحداهما) المعروف والمشهور بل ادعى عدم الخلاف والإشكال في المسألة حرمة المرضعة الأولى بعين الملاك في الفرع الأول ، وانما الإشكال والخلاف هنا في حرمة المرضعة الثانية.

ولكن مما ذكرناه في الفرع الأول يستبين حال هذا الفرع ، فان حرمة المرضعة الأولى هنا مبتنية على تمامية أحد الوجوه الستة المذكورة ، وعمدتها الوجوه الثلاثة الأخيرة ، وقد عرفت عدم تمامية شيء منها. وحرمة الثانية مبتنية على تمامية أحد الوجوه الثلاثة الأولى لعدم جريان الثلاثة الأخيرة عليها كما لا يخفى.

فالنتيجة ان مقتضى القاعدة والروايات المتقدمة عدم حرمة المرضعة الأولى فضلا عن الثانية.

نعم لا إشكال في حرمة الصغيرة لأنها بنت لزوجة قد دخل بها.

٢٢٧

ثم ان النزاع في هذه المسألة في وضع الهيئة وفي سعة مفهوم الاشتقاقي وضيقه من دون اختصاص لها بمادة دون مادة ، فلا ينظر إلى أن المادة ذاتية أو عرضية وبزوالها تنتفي الذات أو لا تنتفي ، فان كل ذلك لا دخل له في محل النزاع.

نعم المادة إذا كانت ذاتية لا يعقل فيها بقاء الذات مع زوال التلبس. لكن الهيئة غير مختصة بها ، بل تعم ما يعقل فيه بقاء الذات مع زوال التلبس ـ مثلا ـ المادة في الناطق ذاتية ولكن الهيئة لا يختص وضعها بها ، بل يعم غيرها كالقائم ونحوه ، وهكذا المادة في الحيوان فانها ذاتية ولا يعقل بقاء الذات بدونها إلا ان الهيئة غير مختصة بها ، بل تعم غيرها أيضاً كالعطشان ونحوه .. وهكذا.

وعلى الجملة فالنزاع هنا يختص بوضع الهيئة فقط وانها موضوعة لمعنى وسيع أو لمعنى ضيق؟ ولا ينظر إلى المادة والمبدأ أصلا ، فلا فرق بين أن يكون المبدأ ذاتياً أو عرضياً ، فان ذاتية المبدأ لا تضر بوضع الهيئة للأعم إلا إذا كان وضع الهيئة مختصاً بذلك المبدأ كما في العناوين الذاتيّة ، حيث أن الوضع فيها شخصي فلا يجري النزاع فيها.

فالنتيجة ان الخارج عن البحث العناوين الذاتيّة من الجوامد ، والأفعال والمصادر من المشتقات.

ولشيخنا الأستاذ ـ قده ـ في المقام كلام وهو أن ما يكون المبدأ فيه منتزعاً عن مقام الذات ولا يحاذيه شيء في الخارج وكان من الخارج المحمول كالعلة والمعلول والممكن وما يقابلانه من الواجب والممتنع خارج عن محل البحث.

بتقريب ان في أمثال هذه العناوين لا يعقل بقاء الذات وزوال التلبس فتكون كالعناوين الذاتيّة ، فان الإمكان ـ مثلا ـ منتزع عن مقام ذات الممكن وهو الإنسان ، لا عن امر خارج عن مقام ذاته وإلا فلازمه أن يكون الممكن في مرتبة ذاته خالياً عن الإمكان ولا يكون متصفاً به ، وحينئذ لزم انقلاب الممكن إلى الواجب أو الممتنع ، لاستحالة خلو شيء عن أحد المواد الثلاثة.

٢٢٨

أو فقل ان المواد الثلاثة أعني بها (الوجوب والإمكان والامتناع) وان كانت خارجة عن ذات الشيء وذاتياته ، لأنها نسبة إلى وجود الشيء الخارج عن مقام ذاته إلا انها منتزعة عن ذلك المقام فلا تعقل ان تخلو ماهية من الماهيات عن إحدى هذه المواد الثلاث في حال من الأحوال ، وهكذا العلية والمعلولية ، فانهما وان كانتا خارجيتين عن مقام ذات العلة وذات المعلول إلا انهما منتزعتان عن نفس ذاتهما لا عن خارج مقام الذات ، فلا يعقل زوال المادة مع بقاء الذات وإلا للزم اتصاف ذات العلة وذات المعلول بغيرهما. وهو كما ترى.

ولكن بالتأمل فيما ذكرناه يظهر الجواب عنه ، وذلك لأن البحث في المشتق كما أشرنا إليه آنفاً انما هو في وضع الهيئة فقط بلا اختصاص لها بمادة دون مادة ، لما تقدم سابقاً من أن وضع الهيئات نوعي لا شخصي ـ مثلا ـ هيئة «فاعل وضعت لمعنى ، وهيئة «مفعول» وضعت لمعنى ، وزنة «مفعل» وهي : (اسم فاعل من باب الأفعال) وضعت لمعنى .. وهكذا. ومن الواضح ان عدم جريان النزاع في بعض افراد الهيئة من جهة عدم إمكان بقاء الذات فيها مع زوال المبدأ لا يوجب عدم جريانه في كلي الهيئة التي تعم ما يعقل فيه بقاء الذات مع انقضاء المبدأ ، ولا يكون البحث حينئذ من سعة مفهوم هذه الهيئة وضيقه لغواً بعد ما كانت الذات باقية حال الانقضاء في جملة من المواد. وما نحن فيه من هذا القبيل ، فان النزاع في وضع هيئة «مفعل» وهيئة «فاعل» وهيئة «مفعول» ولا ريب أن هذه الهيئات لا تختص بالمواد التي لا يعقل فيها بقاء الذات مع زوالها ك (الممكن والواجب والممتنع والعلة والمعلول) وما شاكل ذلك لئلا يجري النزاع فيها ، بل تعم ما يمكن فيه بقاء الذات مع زوال التلبس وانقضاء المبدأ عنها ك (المقيم والمنعم والقائم والضارب والمملوك والمقدور) وأشباه ذلك. ومن المعلوم ان عدم جريان النزاع في بعض الأفراد والمصاديق لا يوجب لغوية النزاع عن الكلي بعد ما كانت الذات في أكثر مصاديقه قابلة للبقاء مع زوال المادة.

٢٢٩

نعم لو كانت الهيئة في مثل لفظ الممكن وما يقابلانه موضوعة بوضع على حده لكان لما أفاده شيخنا الأستاذ ـ قده ـ مجالا واسعاً ، وكان البحث عن سعة مفهومهما وضيقه حينئذ لغواً محضاً إلا ان الأمر ليس كذلك ، فان الهيئة فيها موضوعة في ضمن وضع لفظ جامع بينها وبين غيرها بوضع نوعي وهو هيئة «مفعل» ـ مثلا ـ.

فما أفاده شيخنا الأستاذ ـ قده ـ فيه خلط بين جريان النزاع في الهيئات الخاصة والهيئات العامة التي لا يختص وضعها بمادة.

ومن جميع ما ذكرناه يستبين ان الخارج عن البحث امران :

أحدهما ـ العناوين الذاتيّة.

وثانيهما ـ الأفعال والمصادر.

ثم انه قد يشكل في دخول هيئة اسم الزمان في محل النزاع باعتبار انها فاقدة للركن الثاني الّذي قد مر اعتباره في دخول شيء في محل البحث وهو بقاء الذات مع انقضاء المبدأ عنها ، لأن الذات فيه وهي الزمان من الأمور المتقضية والمتصرمة في الوجود آناً فآناً ، فلا يعقل بقاؤها فيه مع زوال المبدأ عنها ليكون داخلا في موضع النزاع ، واما إطلاق اسم الزمان في بعض الموارد كإطلاق مقتل الحسين عليه‌السلام على يوم العاشر من المحرم في كل عام فهو من باب التجوز والعناية بلا إشكال.

وقد أجاب عنه المحقق صاحب الكفاية ـ قده ـ وإليك نصه : «ويمكن حل الإشكال بان انحصار مفهوم عام بفرد كما في المقام لا يوجب أن يكون وضع اللفظ بإزاء الفرد دون العام وإلا لما وقع الخلاف فيما وضع له لفظ الجلالة. مع ان الواجب موضوع للمفهوم العام مع انحصاره فيه تبارك وتعالى».

وتوضيحه ان انحصار مفهوم كلي في فردين أحدهما ممكن والآخر ممتنع لا يوجب عدم إمكان وضع اللفظ للكلي لمضطر إلى وضعه للفرد الممكن ، فانه

٢٣٠

القبيل فان انحصار مفهوم اسم الزمان في فرد لا يوجب وضعه له ، بل يمكن ملاحظة المفهوم العام ووضع اللفظ بإزائه ، غاية الأمر انحصاره في الخارج في فرد واحد وهو الزمان المتلبس بالمبدإ بالفعل ، وامتناع تحقق فرده الآخر وهو الزمان المنقضى عنه المبدأ ، ولا مانع من وضع لفظ للجامع بين الفرد الممكن والمستحيل أصلا ، وكم له من نظير.

ومن هنا وقع النزاع في وضع لفظ الجلالة «الله» وانه اسم للجامع أو علم لذاته المقدسة ، فلو لم يمكن الوضع للكلي بين الممكن والممتنع لم يصح النزاع فيه ، بل كان المتعين انه علم لا اسم جنس ، إذ لو كان من قبيل الثاني لكان الوضع لا محالة للمعنى الجامع ، مع ان بقية افراده غير ذاته المقدسة ممتنعة ، بل قال ـ قده ـ ان ذلك واقع في كلمة الواجب ، فانها موضوعة للمعنى الجامع مع استحالة سائر افراده غير ذاته تعالى.

ولا يخفى ان ما أفاده ـ قده ـ من أنه لا مانع من وضع لفظ للمعنى الجامع بين الفرد الممكن والممتنع صحيح ، بل انه لا مانع من وضع لفظ لخصوص الفرد الممتنع كوضع لفظ بسيط للحصة المستحيلة من الدور أو التسلسل أو لمفهوم اجتماع النقيضين فضلا عن الوضع للجامع بين ما يمكن وما يستحيل ، كما هو الحال في لفظ الدور والتسلسل والاجتماع وما شاكل ذلك ، فان الجميع وضع للمفهوم العام مع امتناع بعض افراده في الخارج كاجتماع النقيضين والضدين وتوقف العلة على المعلول المتوقف على علته ، فانه دور مستحيل والتسلسل فيما لا يتناهى ، وكثير من افرادها ممكنة في الخارج كدور الشيء حول نفسه والتسلسل فيما يتناهى وغيرهما.

وعلى الجملة فلا شبهة في إمكان هذا الوضع على جميع المسالك في تفسيره ، وهذا واضح. ولكن وقوع مثل هذا الوضع متوقف على تعلق الحاجة بتفهيم الجامع المزبور ، وذلك لأن الغرض من الوضع التفهيم والتفهم في المعاني التي تتعلق الحاجة بإبرازها كما في الأمثلة المذكورة ، فان الحاجة كثيراً ما تتعلق باستعمال تلك الألفاظ

٢٣١

في الجامع ، بل تطلق كثيراً ويراد منها خصوص الفرد المستحيل والحصة الممتنعة. وأما إذا لم تتعلق الحاجة بذلك كان الوضع له لغواً ، فلا يصدر عن الواضع الحكيم ولما لم تكن حاجة متعلقة باستعمال اسم الزمان في الجامع بين الزمان المنقضى عنه المبدأ والزمان المتلبس به فعلا كان الوضع له لغواً ، إذاً يخرج عن مورد النزاع.

ومن هنا يظهر فساد قياس المقام باسم الجلالة الّذي وقع الخلاف في انه علم لذاته المقدسة أو اسم جنس ، وذلك لأن الحاجة تتعلق باستعمال لفظ الجلالة في الجامع في مسألة البحث عن التوحيد وغيره. وهذا بخلاف اسم الزمان ، فان الحاجة لا تتعلق باستعمال اللفظ في الجامع بين المنقضى والمتلبس إذاً كان وضع اللفظ بإزائه لغواً.

واما تمثيله لما وضع للجامع مع استحالة بعض أفراده بلفظ الواجب فهو غريب ، وذلك لأن الواجب بمعنى الثابت ، وهو مفهوم جامع بين الواجب تعالى وغيره ، فانه يصدق على كل موجود ، فان كل موجود واجب لا محالة. نعم انه تعالى واجب لذاته وغيره واجب بإرادته ، والواجب لذاته وان كان منحصراً بالله تعالى إلا ان هذه الجملة لم توضع بوضع واحد ليكون من الوضع للعام مع انحصار فرده في واحد.

وعلى الجملة فلفظ الواجب مرادف لكلمة الثابت فهو يصدق على الأمور التكوينية والتشريعية ، وبزيادة كلمة الوجود إليه يعم جميع الموجودات من الواجب لذاته وبغيره ، وبزيادة كلمة لذاته ينحصر بالله سبحانه فلا يشمل غيره إلا ان ذلك أجنبي عن وضع لفظ بإزاء جامع ينحصر بفرد ، فان الانحصار فيه من ضم مفهوم إلى مفاهيم أخر ومن باب تعدد المدلول بتعدد الدال.

والتحقيق في المقام ان أسماء الأزمنة لم توضع بوضع على حدة في قبال أسماء الأمكنة ، بل الهيئة المشتركة بينهما وهي هيئة «مفعل» وضعت بوضع واحد لمعنى واحد كلي ، وهو ظرف وقوع الفعل في الخارج أعم من أن يكون زماناً أو مكاناً

٢٣٢

وقد سبق ان النزاع انما هو في وضع الهيئة بلا نظر إلى مادة دون مادة ، فإذا لم يعقل بقاء الذات في مادة مع زوالها لم يوجب ذلك عدم جريان النزاع في الهيئة نفسها التي هي مشتركة بين ما يعقل فيه بقاء الذات مع انقضاء المبدأ عنها وما لا يعقل فيه ذلك ، وحيث ان الهيئة في محل البحث وضعت لوعاء المبدأ الجامع بين الزمان والمكان كان النزاع في وضعها لخصوص المتلبس أو الأعم نزاعاً معقولا ، غاية الأمر ان الذات إذا كانت زماناً لم يعقل بقاؤها مع زوال التلبس عن المبدأ ، وإذا كانت مكاناً يعقل فيه ذلك ، وقد عرفت انه لا مانع من وضع اللفظ للجامع بين الفرد الممكن والممتنع إذا تعلقت الحاجة بتفهيمه.

نعم لو كانت هيئة اسم الزمان موضوعة بوضع على حده لخصوص الزمان الّذي وقع فيه الفعل لم يكن مناص من الالتزام إلا بخروج اسم الزمان عن النزاع.

(الأمر الثاني) : قد سبق ان المصادر المزيد فيها ، بل المصادر المجردة ، والأفعال جميعاً خارجة عن محل النزاع ، لأنها غير جارية على الذوات.

أما المصادر فلأنها وضعت للدلالة على المبادئ التي تغاير الذوات خارجاً فلا تقبل الحمل عليها.

وأما الأفعال فلأنها وضعت للدلالة على نسبة المادة إلى الذات على أنحائها المختلفة باختلاف الأفعال ، فالفعل الماضي يدل على تحقق نسبة المبدأ إلى الذات ، والفعل المضارع يدل على ترقب وقوع تلك النسبة ، وفعل الأمر يدل على طلب تلك النسبة. ومن المعلوم ان معانيها هذه تأبى عن الحمل على الذوات.

ثم ان المشهور بين النحويين دلالة الأفعال على الزمان وقالوا : ان الفعل الماضي يدل على تحقق المبدأ في الزمن السابق على التكلم ، والمضارع يدل على تحققه في الزمن المستقبل أو الحال ، وصيغة الأمر تدل على الطلب في الزمان الحال ، ومن هنا قد زادوا في حد الفعل الاقتران بأحد الأزمنة الثلاثة ، دون الاسم والحرف.

ولكن الصحيح عدم دلالته على الزمان ، والوجه في ذلك هو أن كون

٢٣٣

الزمان جزءً لمدلول الأفعال باطل يقيناً ، لأنها لا تدل عليه لا مادة ولا هيئة ، أما بحسب المادة فظاهر لأنها لا تدل إلا على نفس الطبيعة المهملة غير مأخوذة فيها اية خصوصية فضلا عن الزمان ، واما بحسب الهيئة فقد تقدم ان مفادها نسبة المادة إلى الذات على نحو من أنحاء النسبة فالزمان أجنبي عن مفاد الفعل مادة وهيئة.

والحاصل ان احتمال كون الزمان جزء لمدلول الفعل فاسد في نفسه والقائلون بدلالته على الزمان لم يريدوا ذلك يقيناً.

وأما احتمال كون الزمان قيداً لمداليل الأفعال بان يكون معنى الفعل مقيداً به على نحو يكون القيد خارجاً عنه والتقيد به داخلا فهو وان كان أمراً ممكناً في نفسه إلا انه غير واقع ، وذلك لأن دلالة الأفعال عليه لا بد أن تستند إلى أحد امرين : إما إلى وضع المادة. أو إلى وضع الهيئة. ومن الواضح أن المادة وضعت للدلالة على نفس طبيعي الحدث اللابشرط ، والهيئة وضعت للدلالة على تلبس الذات به بنحو من أنحائه كما عرفت ، وشيء منهما لا يدل عليه.

ومما يدلنا على ذلك ما نرى من صحة اسناد الأفعال إلى نفس الزمان وإلى ما فوقه من المجردات الخالية عن الزمان ، والخارجة عن دائرته من دون لحاظ عناية في البين فلا فرق بين قولنا (علم الله) و (علم زيد) و (أراد الله) و (أراد زيد) و (مضى الزمان) و (مضى الأمر الفلاني) فالفعل في جميع هذه الأمثلة استعمل في معنى واحد وعلى نسق فارد ، فلو كان الزمان مأخوذاً فيه قيداً لم يصح اسناده إلى نفس الزمان بلا لحاظ تجريد ، فان الزمان لا يقع في الزمان وإلا لدار أو تسلسل ، وكذا لم يصح اسناده إلى ما فوق الزمان من المجردات ، إذ أفعالها لا تقع في الزمان لأنها غير محدودة بحد ، وما كان في الزمان محدود بحد لا محالة. وبهذا يستكشف كشفاً قطعياً عن ان الزمان غير مأخوذ في الفعل لا جزء ولا قيداً.

نعم الفعل المسند إلى الزماني وان كان يدل على وقوع الحدث في أحد الأزمنة

٢٣٤

الثلاثة إلا انه ليس من جهة الوضع بل من جهة ان الأمر الزماني لا بد وان يقع في أحد الأزمنة.

فتحصل ان الأفعال لا تدل على الزمان وان استعمالها في جميع الموارد على نحو الحقيقة ، ولا فرق بين استعمالها في الزمان وما فوقه واستعمالها في الزماني ، فالإسناد في الجميع اسناد حقيقي.

ولكن مع هذا كله يمتاز الفعل الماضي عن المضارع بخصوصية ثابتة في كل واحد منهما ، ولأجل تلك الخصوصية لا يصح استعمال أحدهما في موضع الآخر ويكون الاستعمال غلطاً واضحاً.

وتفصيل ذلك ان الخصوصية في الفعل الماضي هي انه وضع للدلالة على قصد المتكلم الحكاية عن تحقق المادة مقيداً بكونه قبل زمان التكلم ، وهذه الدلالة موجودة في جميع موارد استعمالاته سواء أكان الإسناد إلى نفس الزمن وما فوقه أم إلى الزماني فقولنا (مضى الزمان) يدل على قصد المتكلم الحكاية عن تحقق الزمن قبل زمن التكلم وان كان الزمان لا يقع في زمن الزمان ، وكذا قولنا (علم الله) و (أراد الله) وما شاكل ذلك يدل على ان المتكلم قاصد للاخبار عن تحقق المادة وتلبس الذات بها قبل زمن التكلم ، وان كان صدور الفعل مما هو فوق الزمان لا يقع في زمان ، وكذلك إذا أسند الفعل إلى الزماني كقولنا (قام زيد) و (ضرب عمرو) فانه يدل على قصد المتكلم الأخبار عن تحقق المبدأ وتلبس الذات به قبل حال التكلم فهذه الخصوصية موجودة في الفعل الماضي في جميع موارد استعمالاته من دون دلالة له على وقوع المبدأ في الزمان الماضي.

نعم بين الإسناد إلى الزماني والإسناد إلى غيره فرق من ناحية أخرى : وهي ان الإسناد إلى الزماني يدل بالالتزام على وقوع الحدث في الزمان الماضي. فهذه الدلالة وان كانت موجودة إلا انها غير مستندة إلى أخذ الزمان في الموضوع له ، بل من جهة ان صدور الفعل من الزماني قبل حال التكلم يستلزم وقوعه في الزمان الماضي لا محالة.

٢٣٥

وأما الخصوصية في الفعل المضارع فهي انه وضع للدلالة على قصد المتكلم الحكاية عن تحقق المادة في زمن التكلم أو ما بعده ولا يدل على وقوعها في الحال أو الاستقبال ، كيف فان دلالته على ذلك في جميع موارد اسناده على حد سواء فلا فرق بين اسناده إلى الزمن وما فوقه كقولنا (يمضى الزمان) و (يريد الله) و (يعلم الله) وبين اسناده إلى الزماني ، غاية الأمر إذا أسند إلى الزماني يدل على وقوع المبدأ في الزمن الحال أو الاستقبال بالالتزام من جهة ان الفاعل الزماني يقع فعله في الزمن لا محالة ، وإلا فالمضارع بوضعه لا يدل إلا على تحقق المبدأ حال تحقق التكلم أو ما بعده من دون ان يدل على وقوعه في الزمان.

وقد تحصل من ذلك امران :

(الأول) : ان الأفعال جميعاً لا تدل على الزمان لا بنحو الجزئية ولا بنحو القيدية لا بالدلالة المطابقية ولا بالدلالة الالتزامية. نعم انها تدل عليه بالدلالة الالتزامية إذا كان الفاعل امراً زمانياً ، وهذه الدلالة غير مستندة إلى الوضع ، بل هي مستندة إلى خصوصية الإسناد إلى الزماني ولذا هذه الدلالة موجودة في الجمل الاسمية أيضاً إذا كان المسند إليه فيها زمانياً فإذا ، قيل (زيد قائم) فهو يدل على قصد المتكلم الحكاية عن تحقق المبدأ وتلبس الذات به في الخارج بالمطابقة وعلى وقوعه في أحد الأزمنة الثلاثة بالالتزام.

(الثاني) : ان كلا من الفعل الماضي والمضارع يدل على خصوصية بها يمتاز أحدهما عن الآخر وتلك الخصوصية مأخوذة في المعنى على نحو التقييد فيكون معنى الفعل الماضي تحقق المادة مقيداً بكونه قبل زمن التلفظ بنحو دخول التقيد وخروج القيد ، ومعنى المضارع تحقق المادة مقيداً بكونه في زمن التكلم أو فيما بعده. هذا كله فيما إذا كان الفعل مطلقاً فيدل على تحقق المادة ونسبتها إلى الذات قبل زمن التكلم أو مقارناً معه أو متأخراً عنه. ولكن قد يقيد بالسبق واللحوق أو التقارن بالإضافة إلى شيء آخر غير التكلم ، إذاً لا يكون الماضي ماضياً حقيقة والمستقبل

٢٣٦

مستقبلا كذلك وإنما يكون ماضياً أو مستقبلا بالإضافة إلى شيء آخر ، كما في قولنا (جاءني زيد قبل سنة) وهو (يضرب غلامه) فاللحوق أو التقارن انما يلاحظ في هذا المثال بالقياس إلى شيء آخر وهو المجيء ، لا زمن التلفظ و (يجيء زيد في شهر كذا) و (قد ضرب عمراً قبله بأيام) فالسبق هنا إنما يلاحظ بالإضافة إلى شيء آخر وهو مجيء زيد ، لا زمن التكلم.

وعلى الجملة لا ريب في صحة استعمال الماضي والمضارع في هذه الموارد في اللغة العربية وغيرها.

فقد ظهر ان الملاك في صحة استعمال الماضي جامع السبق ، سواء كان بالإضافة إلى زمن التكلم أم كان بالإضافة إلى شيء آخر ، وان كان الظاهر عند الإطلاق خصوص الأول ، والملاك في صحة استعمال المضارع جامع التقارن أو اللحوق ، وان كان الظاهر عند الإطلاق خصوص التقارن أو اللحوق بالإضافة إلى زمن التكلم

(الأمر الثالث) : ان مواد المشتقات ومبادئها تنقسم إلى أقسام :

منها ـ ما يكون من قبيل الأفعال الخارجية كالقيام والقعود والركوع والسجود والتكلم والمشي وما شاكل ذلك ، ويكون الانقضاء فيها برفع اليد عن تلك الأفعال ولو آنا ما.

ومنها ـ ما يكون من قبيل الملكة والقوة والاستعداد كما في المجتهد والمهندس والمفتاح والمكنسة وما شاكل ذلك ، والانقضاء فيها لا يكون إلا بزوال القوة والملكة والاستعداد ، فما دامت قوة الاستنباط موجودة في المجتهد أو استعداد الفتح موجودا في المفتاح ـ مثلا ـ فالتلبس فعلى وغير زائل. نعم إذا زالت الملكة عن شخص ـ مثلا ـ كان صدق عنوان المجتهد عليه حقيقة داخلا في محل الكلام.

ومنها ـ ما يكون من قبيل الحرفة والصنعة كما في الخياط والبناء والبزاز والحداد والنساج والتمار ونحو ذلك ، ويكون التلبس بها بأخذ تلك المبادئ حرفة أو صنعة له فالبناء ـ مثلا ـ هو من اتخذ البناء حرفة له ، والانقضاء في مثل ذلك إنما يكون

٢٣٧

بترك هذه الحرفة ، فما دام لم يتركها ولم يعرض عنها فالتلبس فعلى وان لم يشتغل بالبناء فعلا ، ففعلية التلبس بتلك المبادئ تدور مدار اتخاذها شغلا وكسباً ، وانتسابها إلى الذات ، سواء كان ذلك الانتساب انتساباً حقيقياً كما في الخياط والنساج وما شاكلهما أم كان انتساباً تبعياً كما في البقال والبزاز والتامر واللابن والحداد وأمثالها ، لأن موادها ومبادئها من أسماء الأعيان» ومن المعلوم انها غير قابلة للانتساب إلى الذات حقيقة ، فلا محالة يكون انتسابها إليها بتبع اتخاذ الفعل المتعلق بها حرفة وشغلا ، فمن اتخذ بيع التمر شغلا له صار التمر مربوطاً به تبعاً ، ومن اتخذ بيع اللبن شغلا صار اللبن مربوطاً به .. وهكذا.

ثم ان كون التلبس بالمادة على نحو القوة والاستعداد قد يكون من جهة ان المادة موضوعة لذلك كما في الاجتهاد ونحوه وقد يكون من جهة استفادة ذلك من الهيئة كما في المكنس والمفتاح ، فان المادة فيهما وهي الفتح والكنس ظاهرة في الفعلية ، لا في القابلية والاستعداد ، ولكن الهيئة فيها موضوعة لإفادة تلبس الذات بها شأناً واستعداداً فالمفتاح والمكنس موضوعان لما من شأنه الفتح والكنس لا للمتلبس بالفتح أو الكنس فعلا.

ومن هنا يصدق لفظ المفتاح حقيقة على كل ما فيه قابلية للفتح ولو لم يقع الفتح به خارجاً ، فما دامت القابلية موجودة فالتلبس فعلى ، ويكون الانقضاء فيها بزوال القابلية عنه ولو بانكسار بعض أسنانه ، فبناء على القول بكون المشتق موضوعاً للمعنى الجامع بين الذات المنقضية عنه المبدأ والمتلبسة به فعلا يصدق عليه انه مفتاح على نحو الحقيقة. وعلى القول بكونه موضوعاً للمتلبس به فعلا لا يصدق عليه إلا مجازاً.

ومما ذكرناه يستبين ان اختلاف المواد في المشتقات لا دخل له في محل البحث أصلا ، فان النزاع انما هو في وضع الهيئات للمشتقات ، وانها موضوعة للمعنى الجامع أو للحصة الخاصة منه ، بلا نظر إلى وضع موادها ، وانها ظاهرة في

٢٣٨

الفعلية أو في القابلية والملكة أو الحرفة والصنعة ، ففي جميع ذلك يجري النزاع ، غاية الأمر ان الانقضاء في كل مورد بحسبه. ومن هنا كان اختلاف المواد من هذه الناحية موجباً لاختلاف زمن التلبس طولا وقصراً كما عرفت.

وبذلك يظهر فساد ما ذكره شيخنا الأستاذ ـ قده ـ من خروج أسماء الآلة وأسماء المفعولين عن محل النزاع تبعاً لصاحب الفصول ـ قده ـ بتقريب ان الهيئة في أسماء الآلة كما عرفت قد وضعت للدلالة على القابلية والاستعداد ، وهذا الصدق حقيقي وان لم يتلبس الذات بالمبدإ فعلا. واما أسماء المفعولين فلأن الهيئة فيها وضعت لأن تدل على وقوع المبدأ على الذات ، وهذا المعنى مما لا يعقل فيه الانقضاء ، لأن ما وقع على الذات كيف يعقل انقضائه عنها ، ضرورة أن الشيء لا ينقلب عما وقع عليه ، والمفروض أن الضرب قد وقع عليها ، فدائماً يصدق انها ممن وقع عليه الضرب ، إذاً لا يفرق في صدق المشتق بين حال التلبس والانقضاء ، ففي كلا الحالين على نسق واحد بلا عناية في البين ، بل لا يتصور فيه الانقضاء كما مر.

وجه الظهور : ان الهيئة في الآلة إذا دلت على قابلية الذات للاتصاف بالمادة شأناً ، فما دامت القابلية موجودة كان التلبس فعلياً وان لم تخرج المادة عن القابلية إلى الفعلية أصلا ، فالمفتاح يصدق على ما من شأنه الفتح وان لم يتلبس به أبداً ، وعليه فانقضاء التلبس انما يكون بسقوطها عن القابلية ، كما لو انكسر بعض أسنانه ـ مثلا ـ ومعه كان الصدق على نحو الحقيقة بناء على الأعم ، وعلى نحو المجاز بناء على الوضع لخصوص المتلبس.

فما أفاده ـ قده ـ مبتن على الخلط بين شأنية الإنصاف بالمبدإ وفعليته به ، تخيل ان المعتبر في التلبس انما هو التلبس بالفعل بالمبدإ.

وأما أسماء المفعولين فلأن ما ذكره ـ قده ـ في وجه خروجها عن محل النزاع عجيب ، والوجه في ذلك : هو انه لو تم ما ذكره لجرى ذلك في أسماء الفاعلين أيضاً ، فان الهيئة فيها موضوعة لأن تدل على صدور الفعل عن الفاعل ، ومن

٢٣٩

المعلوم انه لا يتصور انقضاء الصدور عمن صدر عنه الفعل خارجا ، لأن الشيء لا ينقلب عما وقع عليه ، والمبدأ الواحد كالضرب مثلا لا يتفاوت حاله بالإضافة إلى الفاعل أو المفعول ، غاية الأمر ان قيامه بأحدهما قيام صدوري وبالآخر قيام وقوعي.

وحل ذلك : ان أسماء المفعولين كأسماء الفاعلين وضعت للمفاهيم الكلية ، لما تقدم منا من أن الألفاظ وضعت بإزاء المعاني التي هي قابلة للانطباق على ما في الخارج تارة ، وعلى ما في الذهن أخرى ، لا بإزاء الموجودات الخارجية ، لأنها غير قابلة لأن تحضر في الأذهان ، ومن هنا قد يكون للموضوع له مطابق في الخارج وقد لا يكون له مطابق فيه ، فالمضروب ـ مثلا ـ قد يكون موجوداً ، وقد يكون معدوماً .. وهكذا الحال في سائر الألفاظ ، فالنزاع هنا في أن اسم الفاعل أو اسم المفعول موضوع لمعنى لا ينطبق الا على خصوص المتلبس أو للأعم منه ومن المنقضى.

وعلى الجملة لا نجد فرقاً بين اسم الفاعل والمفعول ، فكما ان النزاع يجري في هيئة اسم الفاعل وانها وضعت لمفهوم كان مطابقه في الخارج فرداً واحداً وهو خصوص المتلبس بالمبدإ فعلا ، أو فردين أحدهما المتلبس والآخر المنقضى ، فكذلك يجري في هيئة اسم المفعول وانها وضعت لمعنى كان مطابقه في الخارج فرداً واحداً أو فردين ـ مثلا ـ لو فرض ان زيداً كان عالماً بقيام عمرو ثم زال عنه العلم به ، فكما أن النزاع جار في صحة إطلاق العالم على زيد وعدم صحة إطلاقه إلا مجازاً ، فكذلك النزاع جار في صحة إطلاق المعلوم على قيام عمرو وعدم صحة إطلاقه عليه الأعلى نحو المجاز ، ضرورة انه لا فرق بين الهيئتين هنا أصلا ، فان المبدأ في كليتهما واحد ، والمفروض ان ذلك المبدأ قد زال ، وبزواله كان إطلاق العالم على زيد ، وإطلاق المعلوم على قيام عمرو من الإطلاق على المنقضى عنه المبدأ لا محالة.

(الأمر الرابع) : ان المراد من الحال المأخوذ في عنوان المسألة ليس زمن النطق يقيناً ، ضرورة عدم دلالة الأوصاف المشتقة عليه ، ولا على غيره من الماضي أو المستقبل لا بنحو الجزئية ولا بنحو القيدية ، فحالها من هذه الجهة كحال

٢٤٠