محاضرات في أصول الفقه - ج ١

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
المطبعة: الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٠٠

والجواب عنه يظهر مما بيناه سابقاً : فان الصحة الفعلية التي هي منتزعة عن انطباق المأمور به على المأتي به خارجاً في موارد الامتثال والأجزاء غير مأخوذة في المأمور به قطعاً ، بل لا يعقل ذلك كما سبق ، وانما النزاع في أخذ الصحة بمعنى التمامية أعني به تمامية الشيء من حيث الأجزاء ، والقيود في المسمى فالقائل بالصحيح يدعى وضع لفظ ال «صلاة» مثلا للصلاة التامة من حيث الأجزاء ، والشرائط. والقائل بالأعم يدعى وضع اللفظ للأعم ، وعلى ذلك فلو شككنا في اعتبار شيء جزء ، أو قيداً في المأمور به كالسورة ـ مثلا ـ فعلى القول بالوضع للصحيح كان صدق اللفظ بما له من المعنى على الفاقد لها غير معلوم ، لاحتمال دخلها فيه ، وإمكان أن يكون المجموع هو المسمى بلفظ ال «صلاة» ومعه لا يمكن التمسك بالإطلاق. وعلى القول بالوضع للأعم كان صدق اللفظ على الفاقد معلوماً ، وانما لشك في اعتبار امر زائد عليه ، وفي مثله لا مانع من التمسك بالإطلاق لنفي اعتبار الشيء المشكوك فيه ، وبه نثبت ان المأمور به هو طبيعي ال «صلاة» الجامع بين الفاقدة والواجدة للسورة ، ومن انطباق ذلك الطبيعي على المأتي به بلا سورة ننتزع الصحة فالصحة بمعنى التمامية تثبت بنفس التمسك بالإطلاق بضميمة ما علم من الأجزاء والشرائط تفصيلا ، والصحة المنتزعة غير مأخوذة في المأمور به فضلا عن المسمى.

وعلى الجملة فالمأمور به على كلا القولين وان كان هو ال «صلاة» الواجدة لجميع الأجزاء ، والشرائط فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلا ، الا ان الاختلاف بينهما في نقطة أخرى ، وهي ان صدق اللفظ على الفاقد لما يشك في اعتباره معلوم على القول الأعمي ، وانما الشك في اعتبار امر زائد عليه. وأما على الصحيحي فالصدق غير معلوم. وعلى أساس تلك النقطة يجوز التمسك بالإطلاق على القول بالأعم دون القول بالصحيح.

فقد أصبحت النتيجة ان هذه الشبهة مبتنية على أخذ الصحة الفعلية في المأمور به ولكن قد تقدم فساده.

١٨١

ومن هنا قال شيخنا الأستاذ ـ قده ـ ان هذه الشبهة ليست بذات أهمية كما اهتم بها شيخنا العلامة الأنصاري ـ قده ـ وأطال الكلام فيها واعتنى بالجواب عنها فوق ما تستحق ، والصحيح ما أفاده ـ قده ـ.

وربما قيل بان ثمرة النزاع تظهر في النذر وذلك كما لو نذر أن يعطى ديناراً للمصلي ركعتين فبناء على القول بالأعم يجزى الإعطاء للمصلي ركعتين ، ولو كانت صلاته فاسدة ، وعلى القول بالصحيح لا يجزى ذلك بل يجب عليه الإعطاء للمصلي صلاة صحيحة ، ولا تبرأ ذمته إلا بذلك.

لا يخفى أن أمثال هذه الثمرة غير قابلة للذكر والعنوان في المباحث الأصولية لأنها ليست ثمرة للمسألة الأصولية فان ثمرتها استنباط الحكم الكلي الفرعي ، وأما تطبيقه على موارده ومصاديقه فليس ثمرة للبحث الأصولي ، بل لا يصلح هذه الثمرة ثمرة لأية مسألة علمية ولو كانت المسألة من المبادئ.

هذا مضافا إلى أن وجوب الوفاء بالنذر تابع لقصد الناذر في الكيفية ، والكمية ، وأجنبي عن الوضع للصحيح ، أو الأعم ، فلو قصد الناذر من كلمة المصلى من أتى بالصلاة الصحيحة لم تبرأ ذمته بالإعطاء لمن «يصلى» فاسدة ، ولو قلنا بوضع الألفاظ للأعم ، ولو قصد منها الآتي بالصلاة ولو كانت فاسدة برئت ذمته بذلك ، وان قلنا بوضع الألفاظ للصحيح.

على ان الصحة المتنازع دخلها في المسمى غير الصحة المعتبرة في مرحلة الامتثال فيمكن أن يكون المأتي به صحيحاً من جهة وجدانه تمام الأجزاء ، والشرائط ، وفاسداً من الجهات الأخر ، وعليه تحصل براءة الذّمّة بالإعطاء لمن «يصلى» فاسدة أيضاً.

ثم انا قد ذكرنا في الدورة السابقة ثمرة لهذه المسألة غير ما ذكره القوم. وهي ان الحكم الوارد على عنوان ال «صلاة» ومفهومها يختلف باختلاف القولين ـ مثلا ـ قد ورد النهي عن «صلاة» الرّجل وبحذائه امرأة «تصلي» فعلى القول

١٨٢

الصحيح لو علمنا بفساد «صلاة» المرأة لا تكون «صلاة» الرّجل منهياً عنها لعدم صدق ال «صلاة» على ما أتت المرأة به فلا يصدق حينئذ انه «صلى» وبحذائه امرأة «تصلي» واما على القول بالأعم كانت منهياً عنها. هذا.

ولكن قد تبين مما تقدم ان هذه الثمرة أيضاً ليست بثمرة لبحث أصولي ، بل لا تترتب على النزاع بين القولين ، فانك عرفت ان القول بالصحيح لا يلازم الصحة في مقام الامتثال ، فان الصحة هناك غير الصحة المأخوذة في المسمى على هذا القول ، كما مر.

فقد استبان من مجموع ما ذكرناه تحت عنوان الثمرة لحد الآن أمور :

(الأول) : ان البحث عن هذه المسألة ليس بحثاً أصولياً ، بل بحث عن المبادي ، وذكرها في هذا العلم لأجل ان لها فائدة جلية ، ومناسبة شديدة مع بعض المسائل الأصولية.

(الثاني) : أن ما ذكروه من الثمرات لها عمدتها الثمرة الأولى ، والثانية ليس بثمرة للبحث عن هذه المسألة كما عرفت.

(الثالث) : ان جواز الرجوع إلى البراءة ، أو عدم جوازه غير مبنى على القول بالوضع للصحيح ، أو الأعم ، بل مبنى على انحلال العلم الإجماليّ ، وعدمه في مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين.

(الرابع) : ان القول بالوضع للأعم يحقق موضوع جواز التمسك بالإطلاق أو العموم ، كما ان القول بالوضع للصحيح يحقق موضوع عدم جوازه. هذا تمام الكلام في المقام الأول.

١٨٣

المقام الثاني في المعاملات

ويقع البحث عنه في مقامين :

(الأول) : فيما ذهب إليه المشهور من جواز التمسك بإطلاقات المعاملات من العقود ، والإيقاعات على كلا القولين ، ولا يختص الجواز باختيار الوضع للأعم ومن هنا تنتفي الثمرة المتقدمة في العبادات هنا.

(الثاني) : فيما ذكره جماعة منهم المحقق صاحب الكفاية ـ قده ـ من ان النزاع في المعاملات انما يجري فيما إذا كانت الألفاظ أسام للأسباب ، دون المسببات ، فان المسببات أمور بسيطة غير قابلة لأن تتصف بالصحّة ، والفساد ، بل هي تتصف بالوجود عند وجود أسبابها ، وبالعدم عند عدمها.

ولتحقيق الكلام في المقامين نقول :

أما المقام الأول فالأمر كما ذهب إليه المشهور من جواز التمسك بالإطلاقات حتى على القول بالصحيح ، والوجه في ذلك هو أن المعاملات أمور عرفية عقلائية وليست من الماهيات المخترعة عند الشارع المقدس ، وانما هي ماهيات قد اخترعها العقلاء قبل هذه الشريعة لتمشية نظام الحياة ، ثم لما جاء نبينا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يخالفهم في هذه الطريقة المستقرة عندهم ، ولم يجعل صلى‌الله‌عليه‌وآله طرقاً خاصة لا بد للناس ان يمشي على طبق تلك الطرق ، بل ولم يتصرف فيها تصرفاً أساسياً ، بل أمضاها على ما كانت عندهم ، وتكلم بلسانهم فهو صلى‌الله‌عليه‌وآله كأحدهم من هذه الجهة.

نعم قد تصرف صلى‌الله‌عليه‌وآله فيها في بعض الموارد فنهى عن بعض المعاملات كالمعاملة الربوية ، وما شاكلها ، وزاد في بعضها قيداً ، أو جزء لم يكن معتبراً عند العقلاء كاعتبار البلوغ في المتعاقدين ، واعتبار الصيغة في بعض الموارد.

وعلى ذلك الأصل نحمل ما ورد في الشرع من الآيات والروايات كقوله تعالى

١٨٤

(أوفوا بالعقود) (وأحل الله البيع) (وتجارة عن تراض) وكقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله (النكاح سنتي) (والصلح جائز) ونحو ذلك على المفاهيم التي قد استقرت عندهم ، وجرى ديدنهم عليها ، فانه صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يتصرف فيها لا لفظاً ولا معنى ، وتكلم بما تكلموا به من الألفاظ ، واللغات ، إذاً تكون تلك الأدلة مسوقة لإمضاء المعاملات العرفية العقلائية ، وحيث أن المعاملات عندهم قسمان فعلى ، وقولي إلا في بعض الموارد فتلك الأدلة تدل على إمضاء كلا القسمين إلا في بعض الموارد الخاصة التي اعتبر الشارع فيها اللفظ ، أو اللفظ الخاصّ ، كما في الطلاق ، والنكاح ، وما يشبههما وعليه فان دل دليل من قبل الشارع على اعتبار شيء جزء ، أو قيداً فنأخذ به ، وان شككنا فيه فنتمسك بإطلاقات تلك الأدلة ، ونثبت بها عدم اعتباره.

ومن هنا يظهر فساد ما ربما يورد على الشهيد ـ قده ـ حيث قال : «ان الماهيات الجعلية كال «صلاة» وال «صوم» وسائر العقود حقيقة في الصحيح ، ومجاز في الفاسد إلا الحج ، لوجوب المضي فيه» مع انه ـ قده ـ كغيره يتمسك بإطلاقات المعاملات ، والحال ان الصحيحي لا يمكنه التمسك بها لإجمال الخطاب. ووجه الفساد هو ما عرفت من انه لا مانع من التمسك بإطلاقات المعاملات على القول بالصحيح ، كما عرفت.

وعلى الجملة فالمعاملات المأخوذة في موضوع أدلة الإمضاء كالبيع ، ونحوه معاملات عرفية عقلائية ولم يتصرف الشارع فيها أي تصرف لا من حيث اللفظ ، ولا من حيث المعنى ، بل أمضاها بما لها من المفاهيم التي قد استقر عليها الفهم العرفي وتكلم بالألفاظ التي كانت متداولة بينهم في محاورتهم قبل الشريعة الإسلامية ، فحينئذ ان شك في اعتبار أمر زائد على ما يفهمه العرف والعقلاء فنتمسك بإطلاق الأدلة وننفي بذلك اعتباره ، كما انه لم يكن معتبراً عند العرف ، إذ لو كان معتبراً للزم على الشارع المقدس بيانه وحيث انه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان في مقام البيان ولم يبين فعلم عدم اعتباره.

١٨٥

ومن هنا تفترق المعاملات عن العبادات ، فان العبادات حيث انها ماهيات مخترعة عند الشارع بجميع اجزائها ، وشرائطها فلو كانت موضوعة للصحيحة يمكننا التمسك بإطلاقاتها عند الشك في جزئية شيء ، أو شرطيته ، لاحتمال دخله في المسمى كما سبق. وهذا بخلاف المعاملات فانها ماهيات مخترعة عند العرف فلو شككنا في اعتبار شيء فيها شرعاً فيكون الشك في أمر زائد على ما كان معتبراً عندهم ، وفي مثله لا مانع من التمسك بالإطلاق ولو على القول بكونها موضوعة للصحيحة.

نعم لو شككنا في اعتبار شيء فيها عرفاً كاعتبار المالية ـ مثلا ـ أو نحوها فلا يمكننا التمسك بالإطلاق لعدم إحراز صدق البيع على فاقد المالية ، أو نحوها هذا بناء على القول بالصحيح. واما بناء على الأعم فلا مانع من التمسك بالإطلاق حتى إذا كان الشك في اعتبار شيء فيها عرفاً إلا فيما إذا كان الشك في دخله في المسمى.

وصفوة القول ان حال المعاملات عند العرف حال العبادات عند الشارع المقدس ، فكما أن ثمرة جواز الأخذ بالإطلاق ، وعدم جوازه تظهر بين القولين في العبادات ، فكذلك تظهر بينهما في المعاملات ، وإنما تنتفي الثمرة بين القولين فيها أي (المعاملات) لو شككنا في اعتبار جزء ، أو قيد فيها شرعاً ، لا عرفاً فانه يجوز حينئذ التمسك بالإطلاق مطلقاً حتى على القول بالوضع للصحيح ، كما مر.

وربما يورد بان حديث التمسك بالإطلاق في المعاملات انما يتم فيما لو كانت المعاملات أسامي للأسباب ، دون المسببات ، فانه حينئذ مجال للتمسك بإطلاق قوله تعالى (أحل الله البيع) (وتجارة عن تراض) ونحوهما لإثبات إمضاء كل سبب عرفي إلا ما نهى عنه الشارع. وأما لو كانت المعاملات أسامي للمسببات فالإمضاء الشرعي المتوجه إليها لا يدل على إمضاء أسبابها ، لعدم الملازمة بين إمضاء المسبب وهو المبادلة في البيع وما شاكلها ، وإمضاء السبب وهو المعاطاة أو الصيغة الفارسية ـ مثلا ـ ومن الواضح ان أدلة الإمضاء جميعاً من الآيات ، والروايات متجهة إلى

١٨٦

إمضاء المسببات ، ولا تنظر إلى إمضاء الأسباب أصلا ، ضرورة ان الحلية في قوله تعالى أحل الله البيع ثابتة لنفس المبادلة والملكية في مقابل تحريمها ، ولا معنى لحلية نفس الصيغة أو حرمتها ، ووجوب الوفاء في قوله تعالى : (أوفوا بالعقود) ثابت للملكية والمبادلة ، فان الوفاء على ما ذكرناه بمعنى الإنهاء والإتمام ، ومن المعلوم انه لا يتعلق بنفس العقد فانه آني الحصول فلا بقاء له ، بل لا بد وان يتعلق بما له قابلية البقاء والدوام وهو ليس في المقام إلا نفس المسبب ، والنكاح في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله (النكاح سنتي) نفس علاقة الزواج بين المرء والمرأة ، لا نفس الصيغة وكذا الصلح في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (الصلح جائز) ونحو ذلك ، وعليه فلو شككنا في حصول مسبب من سبب خاص كالمعاطاة ـ مثلا ـ فمقتضى الأصل عدم حصوله ، والاقتصار على الأخذ بالقدر المتيقن إلا فيما إذا كان له سبب واحد ، فان إمضاء مسببه يستلزم إمضائه لا محالة ، وإلا لكان إمضائه بدونه لغواً محضاً ، وكذا فيما إذا لم يكن في البين قدر متيقن ، فان نسبة المسبب حينئذ إلى الجميع على حد سواء فلا يمكن الحكم بإمضاء بعض دون بعض ، وفي غير هاتين الصورتين لا بد من الاقتصار على القدر المتيقن ، وفي الزائد عليه نرجع إلى أصالة العدم.

وقد أجاب عنه شيخنا الأستاذ ـ قده ـ بان نسبة صيغ العقود إلى المعاملات ليست نسبة الأسباب إلى مسبباتها ، ليكونا موجودين خارجيين يترتب أحدهما على الآخر ترتباً قهرياً ، ويكون تعلق الإرادة بالمسبب بتبع تعلقها بالسبب من جهة ان اختيارية المسبب باختيارية السبب ، كما هو الحال في جميع الأفعال التوليدية ، بل نسبتها إليها نسبة الآلة إلى ذيها ، والإرادة تكون متعلقة بنفس المعاملة ابتداء ، كما هو الحال في سائر الإنشاءات ، فان قولنا «بعت» أو «صل» ليس بنفسه موجداً للملكية ، أو الطلب في الخارج ، نظير الإلقاء الموجد للإحراق ، بل الموجد في الواقع هو الإرادة المتعلقة بإيجاده إنشاء ، فتحصل انه إذا لم تكن الصيغ من قبيل الأسباب ، والمعاملات من قبيل المسببات فلم يكن هناك موجودان خارجيان

١٨٧

مترتبان كي لا يكون إمضاء أحدهما إمضاء للآخر ، بل الموجود واحد غاية ما في الباب انه باختلاف الآلة ينقسم إلى أقسام عديدة ، فالبيع المنشأ بالمعاطاة قسم ، وبغيرها قسم آخر ، وباللفظ العربي قسم ، وبغير العربي قسم آخر .. وهكذا ، فإذا كان دليل إمضاء البيع ـ مثلا ـ في مقام البيان ولم يقيده بنوع دون نوع فيستكشف منه عمومه لجميع الأقسام والأنواع ، كما في بقية المطلقات حرفاً بحرف هذا ما أجاب به ـ قده ـ عن الإشكال.

ولكن لا يمكن المساعدة على ما أفاده ـ قده ـ وذلك لعدم الفرق في محل الكلام بين أن يعبر عن صيغ العقود بالأسباب ، أو يعبر عنها بالآلات ، فان أدلة الإمضاء إذا لم تكن ناظرة إلى إمضاء تلك الصيغ فلا يفرق بين كونها أسباباً ، أو آلة ، ولا أثر للاختلاف في مجرد التعبير.

ومن الغريب انه ـ قده ـ قد استدل على شمول أدلة الإمضاء لصيغ العقود بان الآلة وذيها ليسا كالسبب والمسبب يمتاز أحدهما من الآخر في الوجود ، بل هما موجودان بوجود واحد فإمضاء ذي الآلة يلازم إمضاء الآلة لا محالة. وجه الغرابة انه لا ريب في تعدد وجود الصيغ ووجود ما يعبر عنه بالمسببات في باب المعاملات فان المسببات هي الأمور الاعتبارية النفسانيّة التي لا وجود لها إلا في عالم الاعتبار ، والأسباب عبارة عن الأفعال والألفاظ ، وهما من الموجودات الحقيقية الخارجية سواء عبر عنها بالأسباب ، أو بالآلات ، فكما ان إمضاء المسبب لا يلازم إمضاء السبب ، فكذلك إمضاء ذي الآلة لا يلازم إمضاء الآلة ، لعدم تفاوت بينهما إلا في التعبير. وعليه فلا بد من الاقتصار على القدر المتيقن على كل تقدير ، فلو شك في حصول مسبب كالملكية ، أو نحوها من سبب خاص كالمعاطاة ـ مثلا ـ أو بغير العربي ، أو نحو ذلك فمقتضى الأصل عدم حصوله إلا إذا كان له سبب واحد فان إمضاء المسبب حينئذ يلازم إمضاء سببه لا محالة ، وإلا لكان إمضائه لغواً.

والصحيح في الجواب عنه هو انا لو سلمنا ان نسبة صيغ العقود إلى المعاملات

١٨٨

نسبة الأسباب إلى مسبباتها ، أو نسبة الآلة إلى ذيها وأغمضنا النّظر عما سلكناه في باب المعاملات من انها أسام للمركب من المبرز والمبرز خارجاً فلا سبب ولا مسبب ولا آلة ولا ذيها كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى ، فمع ذلك لا يتم الإشكال المزبور ، فانه انما يتم فيما إذا كان هناك مسبب وأحد وله أسباب عديدة ، فحينئذ يقال أن إمضائه لا يلازم إمضائها جميعاً ، فلا بد من الاقتصار على القدر المتيقن لو كان ، وفي الزائد نرجع إلى أصالة عدم حصوله.

نعم لو فرضنا انه لم يكن بينها قدر متيقن ، بل كانت نسبة الجميع إليه على حد سواء أمكننا أن نقول بان إمضاء المسبب إمضاء لجميع أسبابه ، فان الحكم بإمضاء بعض دون بعض ترجيح من دون مرجح ، والحكم بعدم الإمضاء رأساً مع إمضاء المسبب على الفرض غير معقول ، ولكنه فرض نادر جداً ، بل لم يتحقق في الخارج ، وأما إذا كانت المسببات كالأسباب متعددة كما هو كذلك فلا يتم الإشكال بيان ذلك : ان المراد بالمسبب اما أن يكون هو الاعتبار النفسانيّ كما هو مسلكنا. أو يكون هو الوجود الإنشائي المتحصل من الصيغة أو غيرها كما هو مسلكهم في باب الإنشاء ، حيث انهم فسروا الإنشاء بإيجاد المعنى باللفظ ، ومن هنا قالوا ان صيغ العقود أسباب للمعاملات من جهة انها لا توجد إلا بها فالبيع لا يوجد إلا بعد قوله بعت وكذا غيره ، أو ان المراد بالمسبب هو الإمضاء العقلائي فانه مسبب وفعل البائع ـ مثلا ـ سبب ، فإذا صدر من البائع بيع يترتب عليه إمضاء العقلاء ترتب المسبب على السبب واما الإمضاء الشرعي فلا يعقل أن يكون مسبباً ، بداهة ان المسبب هو ما يتعلق به الإمضاء من قبل الشارع المقدس فلا يعقل أن يكون هو نفسه ، وإلا لزم تعلق الإمضاء بنفسه في مثل قوله تعالى : (أحل الله البيع) و (أوفوا بالعقود) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله (النكاح سنتي) ونحو ذلك ، فان المعنى حينئذ هو أن الله أحل البيع الّذي أحله ، وأوجب الوفاء بالعقد الّذي أوجب الوفاء به ، وان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله سن النكاح الّذي سنه ... وهكذا. وان كان ربما يظهر من كلام المحقق صاحب الكفاية ـ قده ـ

١٨٩

في مبحث النهي عن المعاملات حيث قال : بعد ما حكى عن أبي حنيفة والشيباني دلالة النهي على الصحة «والتحقيق انه في المعاملات كذلك إذا كان عن المسبب أو التسبيب لاعتبار القدرة في متعلق النهي كالأمر ولا يكاد يقدر عليهما إلا فيما إذا كانت المعاملة مؤثرة صحيحة» وكيف كان فاحتمال أن يكون المسبب هو الإمضاء الشرعي فاسد قطعاً. وعلى جميع التقادير المذكورة لا يتم إشكال عدم التلازم بين إمضاء المسبب وإمضاء سببه.

أما بناء على أن يكون المسبب عبارة عن الاعتبار القائم بالنفس فلا محالة يتعدد المسبب بتعدد مبرزه خارجاً ـ مثلا ـ لو اعتبر زيد ملكية داره لشخص فأبرزها باللغة العربية ، واعتبر ملكية بستانه لآخر فأبرزها باللغة الفارسية ، واعتبر ملكية فرسه لثالث فأبرزها بالمعاطاة ، واعتبر ملكية كتابه لرابع فأبرزها بالكتابة ، أو الإشارة ، فهنا اعتبارات متعددة خارجاً ، وكل واحد منها يباين الآخر لا محالة ، وان كان الجميع صادراً من شخص واحد فضلا عما إذا صدر عن اشخاص متعددة ، كما إذا باع زيد فرسه بالصيغة العربية ، وباع عمرو داره بالصيغة الفارسية ، وباع ثالث كتابه بالمعاطاة ... وهكذا. حيث لا شبهة في أن الاعتبار القائم بزيد المبرز في الخارج بالصيغة العربية يباين كلا من الآخرين ، وكذا كل واحد منها بالإضافة إلى الآخرين.

وعلى ذلك فإذا فرضنا ان الشارع أمضى الاعتبار المبرز في الخارج باللغة الفارسية أو بالمعاطاة فلا محالة أمضى المعاطاة أو الصيغة الفارسية التي يعبر عنها بالسبب ، وإلا لكان إمضائه بدون إمضائها لغواً محضاً ، بداهة انه لا معنى لأن يمضى الشارع الملكية المبرزة بالمعاطاة ولا يمضى نفس المعاطاة ، ويمضى الملكية المظهرة بالعقد الفارسي ولا يمضى نفس هذا العقد ... وهكذا ، فان معنى عدم إمضاء الشارع هذا السبب عدم حصول الملكية به خارجاً ، وهذا مناقض لحصولها به وإمضاء الشارع إياها.

١٩٠

وأما بناء على أن يكون المسبب عبارة عن الوجود الإنشائيّ الحاصل بالتلفظ بصيغ العقود كصيغة بعت ونحوها فهو أوضح من الأول ، بداهة انه متى ما حصل التلفظ بصيغة بعت أو نحوها يتحقق المسبب خارجاً ، فلو قال زيد ـ مثلا ـ بعت داري ، ثم قال بعت بستاني ، ثم قال بعت فرسي ... وهكذا يتحقق بكل واحد من هذه الصيغ والأسباب وجود إنشائي الّذي يعبر عنه بالمسبب على مسلك القوم ، فكما ان لكل صيغة وجوداً ، فكذلك لكل منشأ وجوداً إنشائياً بوجود سببه ، فلا يعقل انفكاك المنشأ عن الإنشاء والسبب ، ولا سيما فيما إذا كانت الأسباب مختلفة الحقائق كالعربية والعجمية وغيرهما.

وعلى الجملة فالتلفظ بالصيغة يوجب تحصل وجود إنشائي للبيع على مسلكهم فلا يتصور انفكاكه عنه. وعليه فإمضاء الوجود الإنشائيّ والتنزيلي إمضاء لسببه ، فلا يعقل تعلق الإمضاء بأحدهما دون الآخر كما تقدم.

واما لو كان المراد من المسبب إمضاء العقلاء فالأمر فيه أوضح من الأولين ، ضرورة ان العقلاء يمضون كل بيع صادر من البائع إذا كان واجداً للشرائط بان يكون صادراً من أهله ووقع في محله ـ مثلا ـ لبيع زيد كتابه إمضاء عقلائي ، ولبيع زيد داره إمضاء عقلائي آخر ، ولبيع زيد فرسه إمضاء عقلائي ثالث ... وهكذا ، وليس إمضاؤهم متعلقاً بطبيعي البيع ، فانه لا أثر له ، والآثار انما تترتب على آحاد المترتبة عليها الآثار ، وليس إمضاء أحدها عين إمضاء الآخر بل لكل واحد منها إمضاء على حياله واستقلاله ، كما هو مقتضى كون البيع سبباً لإمضاء عقلائي ، وكيف كان فلا ريب في أن لكل بيع من البيوع الموجودة في الخارج إمضاء عقلائياً يباين إمضاء عقلائياً آخر .. وهكذا ، سواء كانت البيوع صادرة من شخص واحد ، أو من أشخاص متعددة.

وعليه فإذا كان لدليل الإمضاء إطلاق قد دل بإطلاقه على نفوذ كل إمضاء

١٩١

عقلائي فلا محالة دل بالالتزام على إمضاء كل سبب يتسبب إليه ، وإلا فلا يعقل إمضائه بدون إمضائه ، فانه نقض للغرض كما لا يخفى.

فالنتيجة من جميع ذلك ان الإيراد المزبور إنما يتم فيما لو كان هناك مسبب واحد وله أسباب عديدة ، ولكن قد عرفت انه لا أصل له على جميع المسالك في تفسير المسبب ، ولا يعقل أن يكون لمسبب واحد أسباب متعددة على الجميع بل لكل سبب مسبب ، فإمضاؤه بعينه إمضاء لسببه.

هذا كله بناء على مسلك القوم في باب المعاملات.

التحقيق أن كون صيغ العقود أسباباً ، أو آلة كل ذلك لا يرجع إلى معنى صحيح ، وذلك لما حققناه سابقاً من أن ما هو المشهور من أن الإنشاء إيجاد المعنى باللفظ فاسد ، فانهم ان أرادوا به الإيجاد التكويني الخارجي فهو غير معقول بداهة أن اللفظ لا يكون واقعاً في سلسلة علل وجوده وأسبابه. وان أرادوا به الإيجاد الاعتباري فيرده انه يوجد بنفس اعتبار المعتبر سواء كان هناك لفظ يتلفظ به أم لم يكن؟ فاللفظ لا يكون سبباً لإيجاده ولا آلة له ، فلا يكون محتاجاً إليه أصلا ، كيف فان الأمر الاعتباري لا واقع له ما عدا اعتبار المعتبر في أفق النّفس وأما الخارج عنه من اللفظ ، والكتابة ، والإشارة ، والفعل فأجنبي عنه بالكلية نعم إبراز ذلك الأمر الاعتباري في الخارج يحتاج إلى مبرز ، وذلك المبرز قد يكون لفظاً كما هو الغالب ، وقد يكون إشارة ، وقد يكون كتابة ، وقد يكون فعلا.

ومن هنا ذكرنا في بحث المعاملات انها أسام للمركب من الأمر الاعتباري النفسانيّ وإبرازه باللفظ أو نحوه في الخارج ، فان الآثار المترقبة منها لا تترتب إلا على المركب من الأمرين ، فالبيع والإيجار والصلح والنكاح وما شاكلها لا يصدق على مجرد الاعتبار النفسانيّ بدون إبرازه في الخارج بمبرز ما ، فلو اعتبر أحد ملكية داره «لزيد ـ مثلا ـ أو ملكية فرسه «لعمرو» بدون أن يبرزها في

١٩٢

الخارج باللفظ أو ما شاكله فلا يصدق انه باع داره من «زيد» أو فرسه من «عمرو» كما انه لا يصدق هذه العناوين على مجرد إطلاق اللفظ أو نحوه ، من دون اعتبار نفساني كما لو كان في مقام تعداد صيغ العقود أو الإيقاعات ، أو كان التكلم بها بداع آخر غير إبراز ما في أفق النّفس من الأمر الاعتباري ، فلو قال أحد بعت أو زوجت أو نحو ذلك من دون اعتبار نفساني ، فلا يصدق عليه عنوان البيع أو عنوان التزويج والنكاح ... وهكذا.

وعلى ضوء ما ذكرناه يتضح انه لا سبب ولا مسبب في باب المعاملات ، ولا آلة ولا ذي الآلة ، ليشكل ان إمضاء أحدهما لا يلازم إمضاء الآخر ، بل المعاملات بعناوينها الخاصة من البيع والهبة وما شاكلها أسام للمركب من الأمرين ، فلا يصدق على كل واحد منهما بالخصوص كما عرفت ، والمفروض انها بهذه العناوين مأخوذة في أدلة الإمضاء كقوله تعالى (أحل الله البيع) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله (النكاح سنتي) (الصلح جائز) إلى غير ذلك ، فالأدلة ناظرة إلى إمضائها بتلك العناوين ، وعليه فمتى صدق هذه العناوين عرفاً وشك في اعتبار امر زائد عليه شرعاً جزء أو شرطاً فلا مانع من التمسك بإطلاقها ، وبه يثبت عدم اعتباره. كما انه يتضح مما ذكرناه ان ما يسمى بالمسبب عبارة عن الأمر الاعتباري النفسانيّ القائم بالمعتبر بالمباشرة من دون احتياج إلى سبب ، ولا آلة.

ومن مجموع ما ذكرناه يستبين انه لا فرق في جواز التمسك بإطلاق أدلة الإمضاء بين أن تكون المعاملات أسامي للأعم أو للصحيحة : أما على الأول فواضح. واما على الثاني فلان الصحة عند العقلاء أعم منها عند الشارع ، إذ رب معاملة تكون مورداً لإمضاء العقلاء ولا تكون مورداً لإمضاء الشارع ، فإذا شك في ذلك يتمسك بالإطلاق. وأما الصحة الشرعية فلا يعقل أخذها في المسمى ، وفي موضوع أدلة الإمضاء ليكون معنى قوله تعالى (أحل الله البيع) ان الله أحل وأمضى البيع الّذي أحله وأمضاه. نعم يمكن أن تكون الصحة عند العقلاء مأخوذة في الموضوع له. ليكون

١٩٣

البيع ـ مثلا ـ اسماً للاعتبار المبرز في الخارج الممضى عند العقلاء ، لا للأعم منه ومن أن لا يكون ممضى عندهم ، فان الاعتبار إذا كان واجداً للشرائط كما إذا كان صادراً من العاقل ـ مثلا ـ فيقع مورداً لإمضائهم ، وإذا كان فاقداً لها كما إذا كان صادراً عن الصبي غير المميز ، أو المجنون ، أو الفضولي ، أو ما شاكل ذلك فلا يقع مورداً لإمضائهم. وعليه فلو شككنا في اعتبار أمر زائد على ما أمضاه العقلاء كاعتبار اللفظ ـ مثلا ـ أو العربية ، أو نحو ذلك فلا مانع من التمسك بالإطلاق ، لإثبات عدم اعتباره ، لأن الشك حينئذ في اعتبار أمر زائد على صدق اللفظ.

ومن هنا تفترق المعاملات عن العبادات ، فان العبادات بما انها ماهيات مخترعة من قبل الشارع المقدس فلو كانت موضوعة للصحيحة فلا يمكننا التمسك بإطلاق أدلتها ، لأن الشك في اعتبار شيء فيها جزء أو شرطاً يرجع إلى الشك في صدق اللفظ على الفاقد للشيء المشكوك فيه ، لاحتمال مدخليته في المسمى. وهذا بخلاف المعاملات ، فانها حيث كانت ماهيات مخترعة من قبل العقلاء ، لتنظيم الحياة المادية للبشر ، فلو كانت أسامي للصحيحة لم يكن مانع من التمسك بالإطلاق ، فان الصحيح عند العقلاء أعم مورداً من الصحيح عند الشارع.

وقد تحصل من ذلك ان نقطة الميز بين البابين التي توجب جواز التمسك بالإطلاق في باب المعاملات ولو كانت موضوعة للصحيحة ، وعدم جوازه في باب العبادات لو كانت كذلك هي ان الصحة التي هي محل البحث في المعاملات الصحة عند العقلاء ، وقد عرفت انها أعم عند الشارع ، والصحة التي هي محل البحث في العبادات الصحة عند الشارع ، فهذه هي النقطة الرئيسية للفرق بين البابين.

نعم تظهر الثمرة بين القولين في المعاملات أيضاً فيما إذ شك في اعتبار أمر عرفي فيها عند العقلاء جزء أو شرطاً ، كما إذا شك في اعتبار المالية في البيع كما هو مقتضى ظاهر تعريف المصباح ، أو في اعتبار شيء آخر عندهم ، فعلى القول

١٩٤

بكونها أسامي للصحيحة لا يجوز التمسك بالإطلاق ، لاحتمال دخل المالية في صدق البيع فلو باع الخنفساء أو مثقالا من التراب أو نحو ذلك مما لا مالية له عند العقلاء فنشك في صدق البيع على ذلك ، ومعه لا يمكننا التمسك بالإطلاق. وعلى القول بالأعم لا مانع من التمسك بالإطلاق في هذه الموارد أيضاً.

وأما الكلام في المقام الثاني فيتضح الحال فيه مما حققناه في المقام الأول وملخصه : هو انا لا نعقل للمسبب في باب المعاملات معنى ما عدا الاعتبار النفسانيّ القائم بالمعتبر بالمباشرة ، ومن الظاهر ان المسبب بهذا المعنى يتصف بالصحّة ، والفساد ، فان الاعتبار إذا كان من أهله وهو البالغ العاقل فيتصف بالصحّة حتى عند العقلاء ، وإذا كان من غير أهله وهو المجنون أو الصبي غير المميز فيتصف بالفساد كذلك. نعم لو كان صادراً من الصبي المميز فيتصف بالصحّة عند العقلاء وبالفساد عند الشارع.

وعلى الجملة فكما أن الصيغة تتصف بالصحّة والفساد ، فيقال الصيغة العربية صحيحة ، وغير العربية فاسدة ، أو الصادرة عن البالغ العاقل صحيحة ، ومن غيره فاسدة ، فكذلك الاعتبار ، فيقال ان الاعتبار الصادر من العاقل صحيح ، ومن غيره فاسد ، وعليه فلا أصل لما ذكروه من ان المعاملات لو كانت أسامي للمسببات لم تتصف بالصحّة والفساد ، بل تتصف بالوجود والعدم ، فان هذا إنما يتم لو كان المسبب عبارة عن الإمضاء الشرعي ، فانه غير قابل لأن يتصف بالصحّة والفساد بل هو أما موجود أو معدوم ، وكذا لو كان عبارة عن إمضاء العقلاء ، فانه لا يقبل الاتصاف بهما فاما ان يكون موجوداً أو معدوماً ، الا ان المسبب هنا ليس هو الإمضاء الشرعي أو العقلائي ، ضرورة ان المعاملات من العقود والإيقاعات أسام للافعال الصادرة عن آحاد الناس فالبيع ـ مثلا ـ اسم للفعل الصادر عن البائع والهبة اسم للفعل الصادر عن الواهب .. وهكذا. ومن الواضح انها أجنبية عن مرحلة الإمضاء رأساً. نعم انها قد تقع مورداً للإمضاء إذا كانت واجدة للشرائط

١٩٥

من حيث الاعتبار ، أو مبرزه ، وقد لا تقع مورداً له إذا كانت فاقدة لها كذلك.

فقد تحصل مما ذكرناه : انه لا مانع من جريان النزاع في المسبب بهذا المعنى من هذه الجهة. نعم هو خارج عن محل النزاع من جهة أخرى ، وهي ان عنوان البيع ، وما شاكله لا يصدق عليه عرفاً بدون إبرازه في الخارج ولو على القول بالأعم ، فلا محالة يكون البيع أو نحوه موضوعاً للمؤلف من الاعتبار وإبرازه اما مطلقاً أو فيما أمضاه العقلاء.

وملخص ما ذكرناه في باب المعاملات لحد الآن أمور :

(الأول) : ان المعاملات أمور عرفية عقلائية ، وليست من المخترعات الشرعية

(الثاني) : جواز التمسك بالإطلاق في باب المعاملات مطلقاً ولو كانت أسامي للصحيحة.

(الثالث) : ان الصحة المأخوذة في مسمى المعاملات على القول بالصحيح هي الصحة عند العقلاء ، لا عند الشارع كما عرفت.

(الرابع) : ان المسببات في باب المعاملات عبارة عن الاعتبار القائم بالنفس بالمباشرة لا بالتسبيب ، والآلة ، وقد عرفت انه لا معنى للسببية والمسببية فيها أصلا (الخامس) : ان المعاملات بعناوينها الخاصة أسام للمؤلف من الاعتبار وإبرازه خارجاً فلا يصدق على كل واحد منهما بالخصوص. هذا تمام الكلام في مسألة الصحيح والأعم.

تذييل

ان كل واجب مركب كال «صلاة» ونحوها إذا لوحظ بالقياس إلى عدة أمور فلا يخلو الحال أما أن يكون الواجب أجنبياً عنها بالكلية فلا يكون لها دخل فيه ،

١٩٦

ولا في الفرد المقترن به لا بنحو الجزئية ولا بنحو الشرطية. وهذه الأمور على قسمين :

أحدهما ـ ما كان راجحاً في نفسه كالأدعية الواردة في أيام وليالي شهر رمضان فانها وان كانت مقترنة مع الواجب كال «صوم» أو نحوه وذات رجحان في نفسها إلا انها أجنبية عنه وغير موجبة لمزية فيه.

(الثاني) : ما لم يكن له رجحان في نفسه أيضاً كنزول المطر ـ مثلا ـ مقارناً للصلاة أو نحوها ، أو لا يكون كذلك ، بل لها دخل في الواجب بنحو من أنحاء الدخل ، وهذا على أقسام :

(القسم الأول) : ما هو خارج عن طبيعي الواجب فلا يكون جزئه ولا قيده ولكنه من خصوصيات الفرد ويوجب مزية فيه وذلك كعنوان الجماعة والمسجد والقنوت ونحو ذلك ، فان طبيعي الواجب باق على ما هو عليه من المصلحة فلا تزيد ولا تنقص باختلاف تلك الخصوصيات ، غاية الأمر تطبيقه على الفرد الواجد لها أولى من تطبيقه على الفرد الفاقد. ومن هنا ورد ان الصلاة فريضة والجماعة مستحبة ، هذا لا بمعنى ان الجماعة ليست من أفراد الواجب ، بل بمعنى أن الصلاة جماعة حيث كانت واجدة لهذه الخصوصيات فتطبيق الصلاة عليها مستحب.

(القسم الثاني) : ما يكون له دخل في الواجب بنحو الشرطية ، والضابط في الشرط هو أن يكون تقيد الواجب به داخلا في حقيقته والقيد خارجاً عنها. ومن هنا يظهر أن التقيد لا بد أن يكون اختيارياً للمكلف سواء كان القيد أيضا اختيارياً كالطهارة وما شاكلها أم لم يكن؟ كالقبلة ونحوها.

(القسم الثالث) : ما يكون له دخل في الواجب بنحو الجزئية ، والضابط في الجزء أن يكون الشيء بنفسه متعلقاً للأمر ومقوماً لحقيقة الواجب.

وبعد ذلك نقول : لا إشكال في دخول الأجزاء في محل البحث كما أنه لا إشكال في خروج ما عدا الاجزاء والشرائط عنه وأما الشرائط نفسها فربما قيل

١٩٧

بخروجها عن حريم النزاع. ولكن قد تقدم فساده. والصحيح هو أنها داخلة فيه أيضاً. هذا تمام الكلام فيما يتعلق بالصحيح والأعم.

الاشتراك

الكلام فيه يقع من جهتين :

(الأولى) : في إمكان الاشتراك أو وجوبه أو امتناعه.

(الثانية) : في منشأ الاشتراك هل هو الوضع تعينياً أو تعيناً أو شيء آخر؟

أما الكلام في الجهة الأولى فذهب قوم إلى أن الاشتراك في اللغة واجب بتقريب ان الألفاظ والتراكيب المؤلفة منها متناهية ، والمعاني الموجودة في الواقع ونفس الأمر غير متناهية فالحاجة إلى تفهيم المعاني جميعاً تستدعى لزوم الاشتراك لئلا يبقى معنى بلا لفظ دال عليه.

وقد أورد عليه المحقق صاحب الكفاية ـ قده ـ بوجوه :

(الأول) : ان وضع الألفاظ بإزاء المعاني غير المتناهية غير معقول لأنه يستلزم أوضاعاً غير متناهية ، وصدورها من واضع متناه محال.

(الثاني) : انا لو سلمنا إمكان ذلك كما إذا كان الواضع هو الله تبارك وتعالى إلا انه من الواضح أن الوضع مقدمة للاستعمال ولإبراز الحاجة والأغراض ، وهو من البشر لا منه تعالى وتقدس ، إذاً وضع الألفاظ بإزاء المعاني غير المتناهية يصبح لغواً محضاً لأنه زائد على مقدار الحاجة إلى الاستعمالات المتناهية.

وعلى الجملة فالواضع وان فرض ان الله تعالى وهو قادر على أوضاع غير متناهية إلا ان المستعمل هو البشر فالاستعمال منه لا محالة يقع متناهياً فالوضع زائداً على المقدار المتناهي غير محتاج إليه.

(الثالث) : ان المعاني الجزئية وان لم تتناه إلا ان المعاني الكلية متناهية

١٩٨

كالألفاظ ، فلا مانع من وضع اللفظ بإزاء معنى كلي يستعمل في افراده ومصاديقه حسب ما يتعلق الحاجة بها ، ومن الواضع ان الأمر كذلك في جميع أسماء الأجناس من الحيوانات وغيرها فيضع الواضع لفظاً خاصاً لواحد منها ثم يطلقه على كل واحد من افراده من دون أن تكون للافراد أسامي خاصة ـ مثلا ـ لفظ «الهرة» موضوع لطبيعي ذلك الحيوان الخاصّ ثم نستعمله في كل فرد من افرادها دون ان تكون لأفرادها أسماء خاصة ، وكذا لفظ «الأسد» ونحوه.

نعم المتمايز افراده بحسب الاسم من بين الحيوانات الإنسان دون غيره.

فالنتيجة أن المعاني الكلية متناهية فلا مانع من وضع اللفظ بإزائها.

(الرابع) : ان المحذور المزبور إنما يلزم لو كان اللفظ موضوعاً بإزاء جميع المعاني ، ويكون استعماله في الجميع على نحو الحقيقة ، واما إذا كان موضوعاً بإزاء بعض منها ويكون استعماله في الباقي مجازاً فلا يلزم المحذور ، فان باب المجاز واسع ، فلا مانع من أن يكون لمعنى واحد حقيقي معان متعددة مجازية.

فمن جميع ما تقدم يستبين ان الاشتراك ليس بواجب.

ولا يخفى أن ما أفاده ـ قده ـ من امتناع الاشتراك بوضع اللفظ للمعاني غير المتناهية متين جداً لاستلزامه أوضاعاً لا تتناهى. وكذا ما أفاده ـ قده ـ ثانياً من انه لو أمكن الوضع إلى غير متناه فلا يقع في الخارج إلا بمقدار متناه ، فان الوضع إنما يكون بمقدار الحاجة إلى الاستعمال وهو متناه لا محالة ، فالزائد عليه لغو فلا يصدر من الواضع الحكيم.

نعم أن ما سلمه ـ قده ـ من تناهي الألفاظ فهو غير صحيح وذلك لأنه يمكن لنا تصوير هيئات وتراكيب متعددة من الألفاظ باعتبار كونها مؤتلفة من الحروف الهجائية بعضها من بعض إلى عدد غير متناه ، فاللفظ الواحد يختلف باختلاف حركاته ، فلو ضم أوله أو رفع أو كسر فهو في كل حال لفظ مغاير للفظ في حالة أخرى ، وكذا لو رفع آخره أو ضم أو كسر ، وإذا أضيف إليه في جميع

١٩٩

هذه الأحوال حرفاً من الحروف الهجائية صار لفظاً ومركباً ثانياً غير الأول ... وهكذا. فتصبح الألفاظ بهذه النسبة غير متناهية ـ مثلا ـ لفظ «بر» إذا ضم أوله أو رفع أو كسر فهو لفظ غير الأول ، ولو أضيف إليه الاختلاف بالتقديم أو التأخير أو حرفاً من الحروف صار لفظاً آخر .. وهكذا.

وان شئت فقل ان مواد الألفاظ وان كانت مضبوطة ومحدودة من الواحد إلى الثمانية والعشرين حرفا إلا ان الألفاظ المؤتلفة منها والهيئات الحاصلة من ضم بعضها إلى بعضها الآخر تبلغ إلى غير النهاية ، فان اختلاف الألفاظ وتعددها بالهيئات والتقديم والتأخير والزيادة والنقصان والحركات والسكنات يوجب تعددها واختلافها إلى مقدار غير متناه. وهذا :

نظير الأعداد فان موادها وإن كانت آحاداً معينة من الواحد إلى العشرة إلا أن تركبها منها يوجب تعددها إلى عدد غير متناه ، مع انه لم يزد على كل مرتبة من مراتبها إلا عدد واحد وتفاوت كل مرتبة من مرتبة أخرى بذلك الواحد ، فإذا أضيف إليها ذلك صارت مرتبة أخرى .. وهكذا تذهب المراتب إلى غير النهاية.

فالنتيجة أن الألفاظ غير متناهية كالمعاني والاعداد.

وأما ما أفاده ـ قده ـ ثالثاً من أن جزئيات المعاني وان كانت غير متناهية إلا ان كلياتها التي تنطبق عليها متناهية ففيه انه ـ قده ـ.

ان أراد بكليات المعاني المفاهيم العامة كمفهوم الشيء والممكن والأمر فما أفاده ـ قده ـ وان كان صحيحاً ، فانها منحصرة ومتناهية إلا ان جميع الألفاظ لم توضع بإزائها يقيناً على نحو الوضع العام والموضوع له الخاصّ أو الوضع العام والموضوع له العام ضرورة انه لا يمكن تفهيم جميع المعاني والأغراض التي تتعلق الحاجة بإبرازها بواسطة الألفاظ الموضوعة بإزائها لو لم تكن لانفسها أسامي خاصة يقع التفهيم والتفهم بها في مقام الحاجة ، بل ان ذلك مستحيل عادة كما لا يخفى.

وان أراد بها ـ قده ـ المراتب النازلة منها «كالإنسان والحيوان والشجر

٢٠٠