محاضرات في أصول الفقه - ج ١

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
المطبعة: الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٠٠

له بواسطة ما هو مساو له ، وهو صفة الإدراك (هذا في الواسطة المساوية الخارجة عن ذات ذيها بان لا تكون جزئه).

وقد يعرض على شيء بواسطة جزئه الداخليّ المساوي له في الصدق ، كعروض عوارض الفصل على النوع ، مثل عروض النطق على الإنسان بواسطة النّفس الناطقة ؛ أو بواسطة أمر أخص ، كعروض عوارض النوع أو الفصل على الجنس ، كما هو الحال في أكثر مسائل العلوم ، فان نسبة موضوعات مسائلها إلى موضوعات العلوم نسبة الأنواع إلى الأجناس ، فعروض عوارضها لها من العارض على الشيء بواسطة أمر أخص ؛ أو بواسطة أمر أعم كعروض عوارض الأجناس للأنواع مثل صفة المشي العارضة للإنسان بواسطة كونه حيواناً (هذا في الأعم الداخليّ). وربما يعرض على شيء بواسطة أعم خارجي ـ أي خارج عن ذاته ولا يكون جنسه ولا فصله ـ ، أو بواسطة أمر مباين له ، كعروض الحرارة للماء بواسطة النار أو الشمس ؛ أو عروض الحركة للسيارة أو الطيارة ، بواسطة القوة الكهربائية.

وملخص ما ذكرناه هو أن الواسطة إما مساوية أو أعم ، وهما إما داخليان : كالجنس والفصل ، وإما خارجيان ، وإما خارجي أخص ، وإما مباين ؛ فهذه ستة أقسام ؛ والسابع منها ما لا يكون له واسطة.

إذا عرفت ذلك فأقول : ان المعروف والمشهور بل المتفق عليه بينهم ، ان ما لا واسطة له ، أو كانت أمراً مساوياً داخلياً ، من العوارض الذاتيّة ؛ كما أن ما كانت الواسطة فيه أمراً مبايناً أو أعم خارجياً ، من العوارض الغريبة عندهم ؛ واما الثلاثة الباقية فكلماتهم فيها مختلفة غاية الاختلاف : فاختار جمع منهم ان عوارض النوع ليست ذاتية للجنس ، ومنه عوارض الفصل ؛ وبهذا يشكل كون محمولات العلوم عوارض ذاتية لموضوعاتها ؛ فانها إنما تعرض لموضوعات المسائل أولا وبالذات. وبوساطتها تعرض لموضوعات العلوم ؛ فإذا فرض ان عوارض

٢١

الأنواع ليست ذاتية للأجناس وبالعكس ، لزم أن يكون البحث في العلوم عن العوارض الغريبة ، لوضوح ان نسبة موضوعات المسائل إلى موضوعات العلوم نسبة الأنواع إلى الأجناس ؛ كما ان البحث في عدة من مسائل هذا العلم عما يعرض لموضوعه بواسطة أمر أعم ، كمباحث الألفاظ والاستلزامات العقلية ؛ فان موضوع العلم خصوص الكتاب والسنة ، وموضوع البحث الأعم منهما ؛ إذاً بناء على ان عوارض الجنس ليست ذاتية للنوع ، يكون البحث فيهما عن العوارض الغريبة لموضوع العلم.

وملخص الكلام ان هذا الإشكال يبتنى على أمرين : الأول : أن يكون البحث في العلوم عن العوارض الذاتيّة لموضوعها.

الثاني : ان لا تكون عوارض النوع ذاتية للجنس وبالعكس.

ثم انهما يبتنيان على أمر واحد وأصل فارد وهو الالتزام بلزوم الموضوع في كل علم ، وإلا فلا موضوع لهذين الأمرين فضلا عن الإشكال.

وكيف كان ، فقد ذهب غير واحد من الاعلام والمحققين في التفصي عنه يميناً وشمالا ؛ منهم صدر المتألهين في الأسفار ؛ إلا ان جوابه لا يجدى إلا في المسائل الفلسفية فقط [١].

__________________

[١] قال : «نعم يلحق الشيء لأمر أخص وكان ذلك الشيء مفتقراً في لحوقه له إلى ان يصير نوعاً متهيّئاً لقبوله ليس عرضاً ذاتياً بل عرض غريب على ما هو المصرح به في كتب الشيخ وغيره. كما ان ما يلحق الموجود بعد أن يصير تعليمياً أو طبيعياً ، ليس البحث عنه من العلم الإلهي في شيء ، وما أظهر لك أن تفطن بان لحوق الفصول الطبيعية الجنس كالاستقامة والانحناء للخط ـ مثلا ـ ليس بعد أن يصير نوعاً متخصص الاستعداد ، بل التخصص إنما يحصل بها لا قبلها ، فهي مع كونها أخص من طبيعة الجنس أعراض أولية ...» (الأسفار الأربعة ج ١ ، فصل موضوع العلم الإلهي) وأوضحه بعض المحققين بما إليك نصه : «توضيحه : ان الموضوع في علم المعقول ـ مثلا ـ هو الموجود أو الوجود ، وهو ينقسم ـ أولا ـ إلى الواجب والممكن ،

٢٢

ولكن على ضوء ما حققناه سابقاً يتضح لك انه لا أساس للإشكال المذكور فانه يبتنى على الالتزام بالأمرين المزبورين اللذين هما مبتنيان على أصل وأساس واحد ، وهو الالتزام بلزوم الموضوع في كل علم ، وقد سبق انه لا دليل عليه (بصورة عامة) وعرفت قيام الدليل على عدمه (بصورة خاصة) في بعض العلوم ،

__________________

ـ ثم الممكن إلى الجوهر والمقولات العرضية ، ثم الجوهر إلى عقل ونفس وجسم ، ثم العرض كل مقولة منه. إلى أنواع ، والكل من مطالب ذلك العلم ومن لواحقه الذاتيّة ، مع ان ما عدا تقسيم الأول ، يتوقف على تخصص الموضوع بخصوصية أو خصوصيات ، إلا ان جميع تلك الخصوصيات مجعولة بجعل واحد وموجودة بوجود فارد ، فليس هنا سبق في الوجود لواحد بالإضافة إلى الآخر ، كي يتوقف لحوق الآخر على سبق استعداد وتهيؤ للموضوع بلحوق ذلك الواحد المفروض تقدمه رتبة ، فان الموجود لا يكون ممكنا أولا ثم يوجد له وصف الجوهرية أو العرضية ، بل إمكانه بعين جوهريته وعرضيته ، كما ان جوهريته بعين العقلية أو النفسيّة أو الجسمية ، ففي الحقيقة لا واسطة في العروض والحمل الّذي هو الاتحاد في الوجود ، بل الإمكان يتحد مع الوجود بعين الاتحاد الجوهري العقلي أو النفسيّ أو الجسماني في الوجود ، فليس هناك عروضان حتى يكون أحدهما بالذات والآخر بالعرض ، بخلاف لحوق الكتابة والضحك للحيوان ، فانه يتوقف على صيرورة الحيوان متخصصاً بالنفس الإنسانية تخصصاً وجودياً حتى يعرضه الضحك والكتابة ، وليس الضحك والكتابة بالإضافة إلى الإنسان كالعقلية والنفسيّة بالإضافة إلى الجوهر ، بداهة أن إنسانية الإنسان ليست بضاحكيته وكاتبيته ، نعم تجرد النّفس وما يماثله مما يكون تحققه بتحقق نفس الإنسانية ، من الاعراض الذاتيّة للحيوان كالنفس».

ثم قال (قده) أيضا : «وهذا الجواب وإن كان أجود ما في الباب ، إلا أنه وجيه بالنسبة إلى علم المعقول ، وفي تطبيقه على سائر الموضوعات للعلوم ، لا يخلو عن تكلف ، فان موضوع علم الفقه هو فعل المكلف ، وموضوعات مسائله الصلاة والصوم والحج ، إلى غير ذلك ، وهذه العناوين نسبتها إلى موضوع العلم كنسبة الأنواع إلى الجنس ، وهي وان كانت لواحق ذاتية له إلا انه لا يبحث عن ثبوتها ، والحكم الشرعي ليس بالإضافة إليها كالعقلية بالإضافة إلى الجوهرية ، بل هما موجودان متباينان وكذا الأمر في النحو والصرف».

٢٣

كعلم الفقه والأصول.

وتوهم ان وحدة العلم تدور مدار وحدة موضوعه ، فإذا فرض انه لا موضوع له فلا وحدة له ، مدفوع بان وحدة كل علم ليست وحدة حقيقية ، لنحتاج إلى تكلف إثبات وجود جامع حقيقي بين موضوعات مسائله ؛ بل وحدته ، وحدة اعتبارية ، فان المعتبر يعتبر عدة من القضايا والقواعد المتباينة بحسب الموضوع والمحمول علماً ويسميها باسم فارد من جهة اشتراكها في الدخل في غرض واحد.

ثم لو تنزلنا عن ذلك وسلمنا لزوم الموضوع للعلم ، فلا دليل على اعتبار ان يكون البحث فيها عن العوارض الذاتيّة لموضوعه بالمعنى الّذي فسرها المشهور به ؛ والوجه في ذلك ما بيناه من ان حقيقة العلم عبارة عن عدة من المسائل والقواعد المختلفة (موضوعاً ومحمولا) التي جمعها الاشتراك في غرض واحد ؛ وعليه فيبحث في كل علم عما له دخل في غرضه ، سواء كان من العوارض الذاتيّة في الاصطلاح ، أم كان من الغريبة ؛ ضرورة انه لا ملزم بان يكون البحث عن العوارض الذاتيّة فقط ، بعد فرض دخل العوارض الغريبة أيضاً في المهم.

ولو تنزلنا عن هذا أيضاً وسلمنا ان البحث في العلوم عن العوارض الذاتيّة لموضوعاتها ، إلا انه لا دليل على ان عوارض الأنواع ليست ذاتية للأجناس وبالعكس ، بل الصحيح ان ما يلحق الشيء بتوسط نوعه أو جنسه ، ذاتي له لا غريب ؛ بداهة ان المراد منه ليس ما يعرض الشيء أولا وبالذات ومن دون واسطة ، فان لازمه خروج كثير من محمولات العلوم التي لها دخل في الأغراض المترتبة عليها.

وبالجملة لا وجه للقول بكون عوارض النوع غريبة للجنس ، فان البحث عنها لا بد منه في العلوم ، وبدونه لا يتم أمرها ، وعليه فنقول : لا بد من الالتزام بأحد أمرين : أما ان نلتزم بان عوارض النوع ذاتية للجنس ؛ واما ان نلتزم بان المبحوث عنه في العلوم أعم من العوارض الذاتيّة والغريبة ، وهو : (كل ما له دخل

٢٤

في الغرض ذاتياً كان أو غريباً) ومع التنزل عن الثاني ، فلا مناص من الالتزام بالأول ؛ وعلى ذلك ، فملاك الفرق بينهما هو أن ماله دخل في الغرض ، فليس بعرض غريب ؛ وما لا دخل له فيه ، غريب. ومن ذلك ظهر انه لا وجه لإطالة الكلام في المقام ، في بيان ان عارض النوع ذاتي للجنس وبالعكس ، أولا؟ كما صنعه شيخنا الأستاذ ـ قده ـ وغيره.

ثم ان مرادنا من العرض ، مطلق ما يلحق الشيء ، سواء كان من الأمور الاعتبارية أم من الأمور المتأصلة الواقعية ؛ لا خصوص ما يقابل الجوهر.

واما الكلام في الجهة الثالثة : فقد اشتهر أن تمايز العلوم بعضها عن بعض بتمايز الموضوعات. وقد خالف في ذلك صاحب الكفاية ـ قده ـ واختار ان تمايز العلوم بتمايز الأغراض المترتبة عليها الداعية إلى تدوينها (كالاقتدار على الاستنباط) في علم الأصول (وصون اللسان عن الخطأ في المقال) في علم النحو و (صون الفكر عن الخطأ في الاستنتاج) في علم المنطق ، وهكذا ...

وأورد على المشهور بما ملخصه : ان الملاك في تمايز العلوم لو كان تمايز موضوعاتها ، فلازمه أن يكون كل باب ـ بل كل مسألة ـ علماً على حدة ؛ لتحقق هذا الملاك فيهما.

والتحقيق في المقام ان يقال : ان إطلاق كل من القولين ليس في محله. وبيان ذلك ان التمايز في العلوم تارة يراد به التمايز في مقام التعليم والتعلم ، لكي يقتدر المتعلم ويتمكن من تمييز كل مسألة ترد عليه ، ويعرف انها مسألة أصولية أو مسألة فقهية أو غيرهما ، وأخرى يراد به التمايز في مقام التدوين ، وبيان ما هو الداعي والباعث لاختيار المدون عدة من القضايا والقواعد المتخالفة ، وتدوينها علماً واحداً ، وتسميتها باسم فارد ، واختياره عدة من القضايا والقواعد المتخالفة الأخرى وتدوينها علماً آخر وتسميتها باسم آخر وهكذا.

اما التمايز في المقام الأول ، فيمكن أن يكون بكل واحد من الموضوع

٢٥

والمحمول والغرض ، بل يمكن أن يكون ببيان فهرس المسائل والأبواب إجمالا. والوجه في ذلك هو ان حقيقة كل علم ، حقيقة اعتبارية وليست وحدتها ، وحدة بالحقيقة والذات ليكون تمييزه عن غيره ـ بتباين الذات ـ كما لو كانت حقيقة كل واحد منهما من مقولة على حدة ، ـ أو بالفصل ـ كما لو كانت من مقولة واحدة ؛ بل وحدتها بالاعتبار ؛ وتمييز كل مركب اعتباري عن مركب اعتباري آخر ، يمكن بأحد الأمور المزبورة.

واما التمايز في المقام الثاني فبالغرض ، إذا كان للعلم غرض خارجي يترتب عليه ، كما هو الحال في كثير من العلوم المتداولة بين الناس كعلم الفقه والأصول والنحو والصرف ونحوها. وذلك لأن الداعي الّذي يدعو المدون لأن يدون عدة من القضايا المتباينة علماً كقضايا علم الأصول ـ مثلا ـ وعدة أخرى منها علماً آخر ، كقضايا علم الفقه ، ليس إلا اشتراك هذه العدة في غرض خاص ، واشتراك تلك العدة في غرض خاص آخر ، فلو لم يكن ذلك ملاك تمايز هذه العلوم بعضها عن بعض في مرحلة التدوين ، بل كان هو الموضوع ، لكان اللازم على المدون ان يدون كل باب ـ بل كل مسألة ـ علماً مستقلا لوجود الملاك كما ذكره صاحب لكفاية (قده).

واما إذا لم يكن للعلم غرض خارجي يترتب عليه سوى العرفان والإحاطة به ، كعلم الفلسفة الأولى ، فامتيازه عن غيره إما بالذات أو بالموضوع أو بالمحمول. كما إذا فرض ان غرضاً يدعو إلى تدوين علم يجعل الموضوع فيه (الكرة الأرضية) ـ مثلا ـ ويبحث فيه عن أحوالها من حيث الكمية والكيفية والوضع والأين ، إلى نحو ذلك ، وخواصها الطبيعية ومزاياها على أنحائها المختلفة. أو إذا فرض ان غرضاً يدعو إلى تدوين علم يجعل موضوعه (الإنسان) ويبحث فيه عن حالاته الطارئة عليه ، وعن صفاته من الظاهرية والباطنية ، وعن أعضائه وجوارحه وخواصها ؛ فامتياز العلم عن غيره في مثل ذلك ، إما بالذات أو

٢٦

بالموضوع ؛ ولا ثالث لهما ، لعدم غرض خارجي له ما عدا العرفان والإحاطة ، ليكون التمييز بذلك الغرض الخارجي.

كما انه قد يمكن الامتياز بالمحمول فيما إذا فرض ان غرض المدون يتعلق بمعرفة ما تعرضه الحركة ـ مثلا ـ فله أن يدون علماً يبحث فيه عن ما تثبت الحركة له ، سواء كان ما له الحركة من مقولة الجوهر أم من غيرها من المقولات ؛ فمثل هذا العلم لا امتياز له إلا بالمحمول.

وبما حققناه تبين لك وجه عدم صحة إطلاق كل من القولين ، وان تميز أي علم عن آخر كما لا ينحصر بالموضوع ، كذلك لا ينحصر بالغرض بل كما يمكن أن يكون بهما ، يمكن أن يكون بشيء ثالث ـ لا هذا ولا ذاك ـ.

ثم ان من القريب جداً أن يكون نظر المشهور فيما ذهبوا إليه من أن تمايز العلوم بالموضوعات ، إلى تقدم رتبة الموضوع على رتبتي المحمول والغرض ؛ ولعلهم لأجله قالوا ان التمايز بها ، وليس مرادهم الانحصار ، وإلا فقد عرفت عدمه.

ويتلخص ما ذكرناه في أمور : الأول : ان صحة تدوين أي علم ، لا تتوقف على وجود موضوع له ، لما بينا من ان حقيقة العلم عبارة عن : (مجموع القضايا والقواعد المتخالفة التي جمعها الاشتراك في غرض خاص لا يحصل ذلك الغرض إلا بالبحث عنها).

الثاني : انه لا منافاة بين ما ذكرناه من عدم قيام الدليل على لزوم الموضوع في العلوم ، وبين أن يكون لبعض العلوم موضوع ؛ وذلك لأن ما ذكرناه إنما هو من جهة عدم قيام البرهان على لزوم الموضوع في كل علم ، بحيث لا يكون العلم علماً بدونه ؛ ولذا يبحث في أكثر العلوم عن محمولات مسائلها المترتبة على موضوعاتها ، وذلك لا ينافي وجود الموضوع لبعض العلوم ، كما إذا فرض تعلق غرض المدون بمعرفة موضوع ما ، فيدون علماً يبحث فيه عن عوارض موضوعه.

الثالث : ان تمايز العلوم بعضها عن بعض كما لا ينحصر بالموضوع ،

٢٧

كذا لا ينحصر بالغرض ؛ بل كما يمكن أن يكون بهما ، يمكن أن يكون بالمحمول ، وببيان الفهرس والأبواب إجمالا ؛ بل بالذات تارة ، على حسب اختلاف العلوم والمقامات. هذا كله في موضوع العلم بصورة عامة.

واما الكلام في موضوع هذا العلم ، فقد سبق انه أقمنا البرهان على أنه لا موضوع له واقعاً ، وان حقيقته عبارة عن : (عدة من القضايا والقواعد المتباينة بحسب الموضوع والمحمول التي جمعها في مرحلة التدوين ، اشتراكها في الدخل في غرض واحد) ولو تنزلنا عن ذلك ، وفرضنا أن له موضوعاً ، فما هو الموضوع له؟ قيل : (ان موضوعه الأدلة الأربعة بوصف دليليتها) وهذا القول هو مختار المحقق القمي ـ قده ـ كما هو ظاهر كلامه في أول كتابه ، وقد صرح بذلك في هامشه عليه.

ويرد عليه : ان لازم ذلك خروج المسائل الأصولية عن علم الأصول ، وكونها من مباديه : كمباحث الحجج والأمارات ، ومباحث الاستلزامات العقلية ، والأصول العملية : الشرعية والعقلية ، ومبحث حجية العقل ، وظواهر الكتاب بل مبحث التعادل والترجيح ؛ ما عدا مباحث الألفاظ ، فان كبرى هذه المسألة ـ وهي مسألة حجية الظواهر ـ مسلمة عند الكل ، ولم يخالف فيها أحد ولم يقع البحث عنها في أي علم من العلوم ، فلا كلام فيها.

وإنما الكلام في صغريات هذه الكبرى ، أعني ظهور الألفاظ في شيء وعدم ظهورها فيه ، كالبحث عن ان الأمر أو النهي هل هو ظاهر في الوجوب أو التحريم أم لا؟ وغير ذلك. وعليه فيكون البحث عنها عن عوارض الدليل بما هو دليل ، فانه لا شبهة في دليلية الكتاب والسنة في أنفسهما ، وانما الكلام هناك في تعيين مدلولهما ، وذلك من عوارضهما.

أما خروج مباحث الحجج والأمارات فواضح لأن البحث فيها بأسرها عن الدليليّة وهو بحث عن ثبوت الموضوع لا عن عوارضه الذاتيّة فتدخل ـ إذاً ـ في

٢٨

مقدماته ومباديه لا في مسائله ، حتى مبحث التعادل والترجيح ، على ما هو الصحيح من ان البحث فيه ـ في الحقيقة ـ عن حجية أحد الخبرين المتعارضين في هذا الحال.

وأما خروج مباحث الاستلزامات العقلية ، فلأجل ان البحث فيها ليس عن عوارض أحد الأدلة الأربعة ، لا بما هي أدلة ولا بما هي هي ، بل عن أحوال الأحكام بما هي أحكام ، مع قطع النّظر عن كونها مستفادة منها ومداليل أدلة.

ويظهر بذلك وجه خروج الأصول العملية : الشرعية والعقلية.

ولأجل ذلك عدل صاحب الفصول ـ قده ـ عن هذا المسلك ، واختار ان الموضوع (ذوات الأدلة الأربعة بما هي هي) وعليه فالبحث عن دليليتها بحث عن عوارض الموضوع لا عن ثبوته.

ويرد عليه أيضاً لزوم خروج كثير من مسائل هذا العلم عن كونها أصولية : كمباحث الحجج والأمارات ـ ما عدا مبحث حجية العقل وظواهر الكتاب ـ ومباحث الاستلزامات العقلية ، والأصول العملية : الشرعية والعقلية. والوجه في ذلك هو أن البحث في كل علم ، لا بد أن يكون عن العوارض الذاتيّة لموضوعه وإذا لم يكن كذلك ، فهو ليس من مباحث العلم ومسائله في شيء ؛ وعليه فكل مسألة يكون البحث فيها عن العوارض الذاتيّة لأحد الأدلة الأربعة ، فهي من مسائل علم الأصول ؛ وإلا فلا. وعلى ذلك يترتب خروج مباحث الاستلزامات العقلية ، فان البحث فيها ليس عن أحوال أحد الأدلة مطلقاً بل عن الاستحالة والإمكان ؛ وخروج مسألة حجية خبر الواحد ؛ إذ البحث فيها ليس عن عوارض السنة التي هي موضوع علم الأصول ، بل عن عوارض الخبر ؛ وخروج مسألة حجية الإجماع المنقول والشهرة الفتوائية ، ومبحث التعادل والترجيح ، والأصول العملية : الشرعية والعقلية ؛ فان البحث في جميع هذه المسائل ليس عن العوارض الذاتيّة لأحد الأدلة الأربعة كما هو ظاهر.

فتحصل انه لا فرق بين هذا القول والقول الأول إلا في مسألة حجية ظواهر

٢٩

الكتاب وحجية العقل ؛ فانهما ليستا من المسائل الأصولية على القول الأول ، وتكونان منها على هذا القول.

ومن هنا التجأ شيخنا العلامة الأنصاري ـ قده ـ إلى إرجاع البحث عن مسألة حجية خبر الواحد ، إلى البحث عن أحوال السنة ، وان مرجعه إلى ان السنة ـ أعني قول المعصوم أو فعله أو تقريره ـ هل تثبت بخبر الواحد أو لا؟ وبذلك تدخل في مسائل أصول الفقه الباحثة عن أحوال الأدلة.

ويرد عليه انه غير مفيد ؛ وذلك لأنه لو أريد من الثبوت ، الثبوت التكويني الواقعي ، أعني كون خبر الواحد واسطة وعلة لثبوت السنة واقعاً ، فهذا غير معقول ؛ بداهة ان خبر الواحد ليس واقعاً في سلسلة علل وجودها ، وكيف يمكن أن يكون كذلك وهو حاك عنها ، والحكاية عن شيء متفرعة عليه وفي مرتبة متأخرة عنه؟ على ان البحث في هذه المسألة ـ حينئذ ـ يكون عن مفاد (كان التامة) أي عن ثبوت الموضوع ، لا عن عوارضه.

ولو أريد منه الثبوت التكويني الذهني ، أعني كون خبر الواحد واسطة لإثبات السنة واقعاً ووجداناً ، فهو أيضاً غير معقول ؛ ضرورة ان خبر الواحد لا يفيد العلم الوجداني بالسنة ، ولا يعقل انكشاف السنة به واقعاً كما تنكشف بالمتواتر والقرينة القطعية ؛ ومع فرض الانكشاف حقيقة ، لا تبقى للبحث عن حجية خبر الواحد ، موضوعية أصلا ، فان العبرة حينئذ بالعلم الوجداني الحاصل بالسنة ، فيجب الجري على وفقه دون الخبر بما هو. والحاصل ان لازم خبر الواحد بما هو ان يحتمل الصدق والكذب ، فكما لا يعقل أن يكون واسطة في ثبوت السنة واقعاً ، فكذلك لا يعقل أن يكون واسطة لإثباتها كذلك.

وان أريد منه الثبوت التعبدي ـ كما هو الظاهر ـ فالأمر وان كان كذلك ، أي أن السنة الواقعية تثبت تعبداً بخبر الواحد ، إلا انه من عوارض الخبر دون السنة ؛ وذلك لأن الثبوت التعبدي ـ بناء على ما سلكناه ـ عبارة عن إعطاء الشارع

٣٠

صفة الطريقية والكاشفية لشيء وجعله علماً للمكلف شرعاً بعد ما لم يكن كذلك. وهذا وان استلزم إثبات السنة وانكشافها شرعاً ـ وهو من عوارضها ولو أحقها ـ ، إلا انه ليس هو المبحوث عنه في هذه المسألة ، وإنما المبحوث عنه فيها طريقية خبر الواحد وجعله علماً تعبداً ؛ ومن الواضح انها من عوارض الخبر دون السنة. والثبوت التعبدي بناء على ما سلكه المشهور عبارة عن إنشاء الحكم الظاهري على طبق الخبر ، وهو أيضاً من عوارضه دونها كما هو ظاهر. ومنه يظهر الحال على ما سلكه المحقق صاحب الكفاية من انه عبارة عن جعل المنجزية والمعذرية ؛ فانهما أيضاً من عوارضه وصفاته لا من عوارضها ، وهو واضح.

فتحصل ان البحث في هذه المسألة على جميع المسالك بحث عن عوارض الخبر لا عن عوارض السنة الواقعية. على ان ما أفاده ـ قده ـ لو تم فانما يتم في خصوص هذه المسألة دون غيرها ، وقد عرفت ان الإشكال المزبور غير منحصر فيها.

ولذلك عدل صاحب الكفاية ـ قده ـ عن مسلك المشهور وذهب إلى ان موضوع العلم عبارة عن : (جامع مقولي واحد بين موضوعات مسائله).

ولكن قد مر الكلام في هذا مفصلا وذكرنا هناك انه لم يقم برهان على لزوم موضوع كذلك في العلوم فضلا عن علم الأصول ، بل سبق منا انه لا يعقل وجود جامع ذاتي بين موضوعات مسائله لتباينها تبايناً ذاتياً.

ثم ان أبيت إلا ان يكون لكل علم موضوع ولو كان واحداً بالعنوان كعنوان (الكلمة والكلام) في علم النحو ؛ وعنواني (المعلوم التصديقي والتصوري) في علم المنطق ؛ وعنوان (فعل المكلف) في علم الفقه وهكذا ، فأقول : ان موضوع علم الأصول هو : (الجامع الّذي ينتزع من مجموع مسائله المتباينة) كعنوان ما تقع نتيجة البحث عنه في طريق الاستنباط وتعيين الوظيفة في مقام العمل.

٣١

في الوضع

الأمر الرابع في الوضع ويقع الكلام فيه من جهات :

الجهة الأولى في أن منشأ دلالة الألفاظ على المعاني هل هي المناسبة الذاتيّة بينهما لتصبح الدلالة ذاتية؟ أو الجعل والمواضعة لتصبح جعلية محضة؟

الجهة الثانية في ان الواضع هل هو الله تبارك وتعالى أو البشر؟

الجهة الثالثة في ان الوضع من الأمور الواقعية أو من الأمور الاعتبارية؟

الجهة الرابعة في أقسام الوضع إمكاناً مرة ، ووقوعاً مرة أخرى.

أما الجهة الأولى فربما يقال فيها : ان دلالة الألفاظ على معانيها ناشئة عن مناسبة ذاتية بينهما.

وفيه انه لو أريد بذاتية الدلالة ان الارتباط الذاتي والمناسبة الذاتيّة بينهما بحد يوجب ان يكون سماع اللفظ علة تامة لانتقال الذهن إلى معناه ، فبطلانه من الوضوح بمكان لا يقبل النزاع ، فان لازم ذلك تمكن كل شخص من الإحاطة بتمام اللغات فضلا عن لغة واحدة.

ولو أريد ان الارتباط المزبور والمناسبة المزبورة بينهما بحد يوجب أن يكون سماع اللفظ مقتضياً لانتقال الذهن إلى معناه أي أن المناسبة اقتضائية لا علة تامة ، ففيه ان ذلك وان كان بمكان من الإمكان ثبوتاً وقابلا للنزاع ـ إذ لا مانع عقلا من ثبوت هذا النحو من المناسبة بين الألفاظ ومعانيها ، نظير الملازمة الثابتة بين أمرين فانها ثابتة في الواقع والأزل بلا توقف على اعتبار أي معتبر أو فرض أي فارض وبلا فرق بين ان يكون طرفاها ممكنين أو مستحيلين أو مختلفين ، إذ صدقها لا يتوقف على صدق طرفيها فهي صادقة مع استحالتهما كما في قوله تعالى : (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) نعم ان سنخ ثبوتها غير سنخ ثبوت المقولات كالجواهر والأعراض ، ولذا ليست داخلة تحت شيء منها ـ ، إلا انه لا دليل على

٣٢

ثبوتها كذلك في مرحلة الإثبات فلا يمكن الالتزام بها.

وأما ما قيل من انه لو لا هذه المناسبة بين الألفاظ والمعاني ، لكان تخصيص الواضع لكل معنى لفظاً مخصوصاً بلا مرجح ، وهو محال كالترجح بلا مرجح ـ أي وجود حادث من دون سبب وعلة ـ ، فيرد عليه :

أولا ـ ان المحال هو الثاني دون الأول ؛ بل لا قبح فيه فضلا عن الاستحالة إذا كان هناك مرجح لاختيار طبيعي الفعل مع فقد الترجيح بين أفراده ومصاديقه على ما يأتي بيانه في (الطلب والإرادة) إن شاء الله تعالى ؛ وحيث ان المرجح لاختيار طبيعي الوضع والتخصيص موجود فهو كاف في تخصيص الواضع وجعله لكل معنى لفظاً مخصوصاً وإن فقد الترجيح بين كل فرد من افراده.

على انه لا يعقل تحقق المناسبة المذكورة بين جميع الألفاظ والمعاني ، لاستلزام ذلك تحققها بين لفظ واحد ومعاني متضادة أو متناقضة ، كما إذا كان للفظ واحد معان كذلك كلفظ «جون» الموضوع للأسود والأبيض ؛ ولفظ «القرء» للحيض والطهر ، وغيرهما وهو غير معقول ، فان تحققها بين لفظ واحد ومعان كذلك يستلزم تحققها بين نفس هذه المعاني كما لا يخفى.

وثانياً : سلمنا امتناع الترجيح بلا مرجح ، إلا ان المرجح غير منحصر بالمناسبة المزبورة كي يلزم الالتزام بها ، بل يكفي فيه وجود مرجح ما وان كان أمراً اتفاقياً ، ضرورة ان العبرة انما هي بما لا يلزم معه الترجيح بلا مرجح سواء كان ذاتياً أو اتفاقياً.

على ان المرجح لا بد وأن يقوم بالفعل الصادر من الفاعل فيجوز ان يكون الرجحان في نفس الوضع وان لم يكن هناك مناسبة بين اللفظ والمعنى.

واما الكلام في الجهة الثانية فقد اختار المحقق النائيني ـ قده ـ ان الله تبارك وتعالى هو الواضع الحكيم ؛ وقال في وجهه : «فانا نقطع بحسب التواريخ التي بين أيدينا ، انه ليس هنا شخص أو جماعة وضعوا الألفاظ المتكثرة في لغة واحدة

٣٣

لمعانيها التي تدل عليها فضلا عن سائر اللغات ، كما انا نرى وجداناً عدم الدلالة الذاتيّة ، بحيث يفهم كل شخص من كل لفظ معناه المختص به ، بل الله تبارك وتعالى هو الواضع الحكيم جعل لكل معنى لفظاً مخصوصاً باعتبار مناسبة بينهما مجهولة عندنا ، وجعله تبارك وتعالى هذا واسطة بين جعل الأحكام الشرعية المحتاج إيصالها إلى إرسال رسل وإنزال كتب ، وجعل الأمور التكوينية التي جبل الإنسان على إدراكها كحدوث العطش عند احتياج المعدة إلى الماء ونحو ذلك. فالوضع جعل متوسط بينهما لا تكويني محض حتى لا يحتاج إلى أمر آخر ، لا تشريعي صرف حتى يحتاج إلى تبليغ نبي أو وصى ، بل يلهم الله تبارك وتعالى عباده ـ على اختلافهم ـ كل طائفة بلفظ مخصوص عند إرادة معنى خاص. ومما يؤكد المطلب : انا لو فرضنا جماعة أرادوا إحداث ألفاظ جديدة بقدر ألفاظ أي لغة ، لما قدروا عليه ، فما ظنك بشخص واحد مضافاً إلى كثرة المعاني التي يتعذر تصورها من شخص أو اشخاص متعددة؟»

أقول : يتلخص نتيجة ما أفاده ـ قده ـ في أمور :

الأول : ان الواضع هو الله تبارك وتعالى ، ولكن لا بطريق إرسال الرسل وإنزال الكتب ، كما هو الحال في إيصال الأحكام الشرعية إلى العباد ، ولا بطريق جعل الأمور التكوينية التي جبل الإنسان على إدراكها ؛ بل بطريق الإلهام إلى كل عنصر من عناصر البشر على حسب استعداده.

الثاني : التزامه ـ قده ـ بوجود مناسبة مجهولة بين الألفاظ والمعاني.

الثالث : ان وضعه تبارك وتعالى انما كان على طبق هذه المناسبة.

الرابع : ان الوضع جعل متوسط بين الجعل التكويني والجعل التشريعي.

الخامس : انه (قدس‌سره) بعد نفي الدلالة الذاتيّة استند في دعوى ان الله تبارك وتعالى هو الواضع الحكيم دون غيره إلى أمرين :

الأول : انه لا يمكن أن يكون الواضع هو البشر لعدم إمكان إحاطته

٣٤

بتمام ألفاظ لغة واحدة فضلاً عن جميع اللغات ، فإذا امتنع أن يكون البشر واضعاً تعين ان الله تعالى هو الواضع الحكيم.

الثاني : انه على فرض تسليم ان البشر قادر على وضع الألفاظ لمعانيها بمعنى ان شخصاً أو جماعة معينين من أهل كل لغة يتمكن من وضع ألفاظها لمعانيها إلا انه لما كان من أكبر خدمات للبشر فلا بد من تصدى التواريخ لضبطه التي هي معدة لضبط الأخبار السالفة والوقائع المهمة خصوصاً مثل هذا الأمر المهم ، مع أنه لم يكن فيها عن حدوث الوضع في أي عصر وزمان وعن من تصدى له عين ولا أثر ، فإذا فرض ان البشر كان هو الواضع لنقل ذلك في التواريخ فانها تتكفل بنقل ما هو دونه فكيف بمثله؟

ولكن للتأمل في جميع هذه الأمور مجالا واسعاً :

أما الأول فيظهر ضعفه مما نذكره من ضعف ما اعتمد عليه من الوجهين المذكورين.

واما الثاني فيرده انه تحرص على الغيب ، لما قد سبق من انه لا دليل على وجود هذه المناسبة بين الألفاظ والمعاني بل الدليل قائم على عدمها في الجميع.

واما الثالث فيرد عليه انا لو سلمنا وجود المناسبة الذاتيّة بين اللفظ والمعنى فلا نسلم ان الواضع جعل لكل معنى لفظاً مخصوصاً على طبق تلك المناسبة ، وذلك لأن الغرض من الوضع يحصل بدون ذلك ، ومعه فأي شيء يستدعى رعاية تلك المناسبة في الوضع؟ اللهم إلا ان يتمسك بذيل قاعدة استحالة الترجيح من دون مرجح ، ولكن قد عرفت بطلانها.

واما الرابع وهو ان الوضع وسط بين الأمور التكوينية والجعلية ، فهو مما لا يرجع إلى معنى محصل ، وذلك لعدم واسطة بينهما ، ضرورة ان الشيء إذا كان من الموجودات الحقيقية التي لا تتوقف في وجودها على اعتبار أي معتبر ، فهو من الموجودات التكوينية ، وإلا فمن الأمور الاعتبارية الجعلية ؛ ولا نعقل ما يكون وسطا بين الأمرين. واما حديث الإلهام فهو حديث صحيح ولا

٣٥

اختصاص له بالوضع.

وقد ذكرنا في تفسير قوله تعالى : (اهدنا الصراط المستقيم) ان الله تبارك وتعالى كما منّ على عباده بهدايتهم تشريعاً ، وسوقهم إلى الحياة الأبدية بإرسال الرسل وإنزال الكتب ، كذلك من عليهم بهدايتهم تكوينا بإلهامهم إلى سيرهم نحو كمالهم ، بل ان هذه الهداية موجودة في جميع الموجودات ، فهي تسير نحو كمالهم بطبعها أو باختيارها ، والله هو الّذي أودع فيها قوة الاستكمال فترى الفأرة تفرّ من الهرة ولا تفر من الشاة.

وعلى الجملة ان مسألة الإلهام أجنبية عن تحقق معنى الوضع بالكلية ، فان الإلهام من الأمور التكوينية الواقعية ، ولا اختصاص له بباب الوضع والمبحوث عنه هو معنى الوضع كان الوضع بإلهام إلهي أم لم يكن.

وأما الأمر الخامس وهو استناده فيما ذكره من أن الله تبارك وتعالى هو الواضع الحكيم ، لو تم فانما يتم لو كان وضع الألفاظ لمعانيها دفعياً وفي زمان واحد ، إلا أن الأمر ليس كذلك ، فان سعة دائرة الوضع وضيقها تتبع سعة دائرة الغرض وضيقها ؛ ومن الواضح ان الغرض منه ليس إلا ان يتفاهم بها وقت الحاجة وتبرز بها المعاني التي تختلج في النفوس لئلا يختل نظام حياتنا (المادية والمعنوية) ومن الظاهر ان كمية الغرض الداعي إليه تختلف سعة وضيقاً بمرور الأيام والعصور ؛ ففي العصر الأول (وهو عصر آدم عليه‌السلام) كانت الحاجة إلى وضع ألفاظ قليلة بإزاء معان كذلك ، لقلة الحوائج في ذلك العصر ، وعدم اقتضائها أزيد من ذلك ، ثم ازدادت الحوائج مرة بعد أخرى وقرناً بعد آخر بل وقتاً بعد وقت ، فزيد في الوضع كذلك.

وعليه فيتمكن جماعة بل واحد من أهل كل لغة على وضع ألفاظها بإزاء معانيها في أي عصر وزمن ، فان سعة الوضع وضيقه تابعان لمقدار حاجة الناس إلى التعبير عن مقاصدهم سعة وضيقاً.

٣٦

ولما كان مرور الزمن موجباً لاتساع حاجاتهم وازديادها ، كان من الطبيعي ان يزداد الوضع ويتسع.

اما الذين يقومون بعملية الوضع ، فهم أهل تلك اللغة في كل عصر من دون فرق بين أن يكون الواضع واحداً منهم أو جماعة ، وذلك أمر ممكن لهم ، فان المعاني الحادثة التي يبتلى بها في ذلك العصر إلى التعبير عنها ليست بالمقدار الّذي يعجز عنه جماعة من أهل ذلك العصر أو يعجز عنه واحد منهم ، فانها محدودة بحد خاص.

وقد تلخص من ذلك أمران : الأول : ان أهل اللغة ليسوا بحاجة إلى وضع ألفاظها للمعاني التي تدور عليها الإفادة والاستفادة في جميع العصور ، ليقال ان البشر لا يقدر على ذلك ، بل يمكن الوضع بشكل تدريجي في كل عصر حسب تدريجية الحاجة إلى التعبير عنها.

الثاني : اننا لسنا بحاجة إلى وضع جميع الألفاظ لجميع المعاني ، فان الوضع لما يزيد عن مقدار الحاجة لغو محض.

واما الثاني وهو (ان الواضع لو كان بشراً لنقل ذلك في التواريخ لأن مثل هذا العمل يعتبر من أعظم الخدمات للبشر ولذلك تتوفر الدواعي على نقله) فيرد عليه ان ذلك إنما يتم لو كان الواضع شخصاً واحداً أو جماعة معينين ؛ وأما إذا التزمنا بما قدمناه من أن الواضع لا ينحصر بشخص واحد أو جماعة معينين ، بل كل مستعمل من أهل تلك اللغة واضع بشكل تدريجي ، فلا يبقى مجال للنقل في التواريخ.

نعم لو كان الواضع شخصاً واحداً أو جماعة معينين ، لنقله أصحاب التواريخ لا محالة.

ومما يؤكد ما ذكرناه ما نراه من طريقة الأطفال عند ما يحتاجون إلى التعبير. عن بعض المعاني فيما بينهم ، فانهم يضعون الألفاظ لهذه المعاني ويتعاهدون ذكرها عند إرادة إبراز ما يختلج في أذهانهم من الأغراض والمقاصد ، ولا نجدهم يتخلفون عن هذه الحال ، حتى انهم لو عاشوا في مناطق خالية من السكان لتكلموا

٣٧

بلغة مجعولة لهم لا محالة ؛ ولا نعنى بالوضع إلا هذا التعهد وهذا الالتزام ، وإليه أشار تعالى بقوله : «خلق الإنسان علمه البيان» وذلك وان كان ينتهى إليه تعالى لأنه من لطفه وعنايته ؛ إلا انه أمر آخر غير انه هو الواضع الحكيم.

وهذا الّذي ذكرناه من دفع الإشكالين المتقدمين لا يفرق فيه بين مسلكنا ومسلك القوم في تفسير العلقة الوضعيّة فان تدريجية الوضع وعدم اختصاصه بشخص خاص لا تدع مجالا للإشكال المزبور ، غاية الأمر انه بناء على مسلكنا كان كل مستعمل واضعاً وان كانت كلمة الواضع عند إطلاقها تنصرف إلى الواضع الأول إلا انه من جهة الأسبقية ؛ وهذا بخلاف غيره من المسالك كما لا يخفى.

فالمتحصل مما ذكرناه أمران : الأول : ان الله تبارك وتعالى ليس هو الواضع الحكيم. الثاني : ان الواضع لا ينحصر بشخص واحد أو جماعة معينين على جميع المسالك في تفسير حقيقة الوضع.

في حقيقة الوضع

واما الكلام في الجهة الثانية (وهي تعيين حقيقة الوضع) : فذهب بعض الأعاظم ـ قده ـ إلى انها من الأمور الواقعية لا بمعنى انها من إحدى المقولات ، ضرورة وضوح عدم كونها من مقولة الجوهر لانحصارها في خمسة أقسام : (العقل) (النّفس) (الصورة) (المادة) (الجسم) وهي ليست من إحداها ؛ وكذا عدم كونها من المقولات التسع العرضية أيضا ، لأنها متقومة بالغير في الخارج لاستحالة تحققها في العين بدون موضوع توجد فيه ، فان وجودها في نفسها عين وجودها لغيرها ، وهذا بخلاف حقيقة العلقة الوضعيّة فانها قائمة بطبيعي اللفظ والمعنى ومتقومة بهما فلا يتوقف ثبوتها وتحققها على وجودهما في الخارج ، وهذا واضح ولذا يصح وضع اللفظ لمعنى معدوم بل مستحيل كما لو فرضنا وضع لفظ الدور أو التسلسل لخصوص حصة مستحيلة منه لا للمعنى الجامع بينها وبين غيرها ، فلو

٣٨

كانت حقيقتها من إحدى هذه المقولات لاستحال تحققها بدون وجود اللفظ والمعنى الموضوع له ؛ بل بمعنى انها عبارة عن ملازمة خاصة وربط مخصوص بين طبيعي اللفظ والمعنى الموضوع له ، نظير سائر الملازمات الثابتة في الواقع بين أمرين من الأمور التكوينية ، مثل قولنا : «ان كان هذا العدد زوجاً فهو منقسم إلى متساويين وان كان فرداً فهو غير منقسم كذلك» ، فالملازمة بين زوجية العدد وانقسامه إلى متساويين وبين فرديته وعدم انقسامه كذلك ثابتة في نفس الأمر والواقع أزلاً ، غاية الأمر ان تلك الملازمة ذاتية أزلية وهذه الملازمة جعلية اعتبارية ؛ لا بمعنى ان الجعل والاعتبار مقوم لذاتها وحقيقتها بل بمعنى انه علة وسبب لحدوثها وبعده تصير من الأمور الواقعية ، وكونها جعلية بهذا المعنى لا ينافي تحققها وتقررها في لوح الواقع ونفس الأمر ، وكم له من نظير.

وقد حققنا في محله ان هذه الملازمات ليست من سنخ المقولات في شيء كالجواهر والأعراض فانها وان كانت ثابتة في الواقع في مقابل اعتبار أي معتبر وفرض أي فارض كقوله تعالى : «لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا» فان الملازمة بين تعدد الآلهة وفساد العالم ثابتة واقعاً وحقيقة ، إلا انها غير داخلة تحت شيء منها فان سنخ ثبوتها في الخارج غير سنخ ثبوت المقولات فيه ، كما هو واضح.

والجواب عن ذلك : انه ـ قده ـ ان أراد بوجود الملازمة بين طبيعي اللفظ والمعنى الموضوع له وجودها مطلقاً حتى للجاهل بالوضع ، فبطلانه من الواضحات التي لا تخفي على أحد ، فان هذا يستلزم أن يكون سماع اللفظ وتصوره علة تامة لانتقال الذهن إلى معناه ، ولازمه استحالة الجهل باللغات مع ان إمكانه ووقوعه من أوضح البديهيات. وان أراد ـ قده ـ به ثبوتها للعالم بالوضع فقط دون غيره ، فيرد عليه ان الأمر وان كان كذلك ـ يعنى ان هذه الملازمة ثابتة له دون غيره ـ إلا انها ليست بحقيقة الوضع بل هي متفرعة عليها ومتأخرة عنها رتبة ؛ ومحل كلامنا هنا في تعيين حقيقته التي تترتب عليها الملازمة بين تصور اللفظ والانتقال إلى معناه.

٣٩

وذهب كثير من الأعلام والمحققين (قدس‌سرهم) إلى ان حقيقة الوضع حقيقة اعتبارية ، ولكنهم اختلفوا في كيفيتها على أقوال :

(القول الأول) ما قيل من ان حقيقة الوضع عبارة عن : (اعتبار ملازمة بين طبيعي اللفظ والمعنى الموضوع له) وحقيقة هذه الملازمة متقومة باعتبار من بيده الاعتبار أي (الواضع) كسائر الأمور الاعتبارية من الشرعية أو العرفية. ثم ان الموجب لهذا الاعتبار والداعي إليه انما هو قصد التفهيم في مقام الحاجة لعدم إمكانه بدونه.

ولكن لا يمكن المساعدة عليه ؛ وذلك لأنه لو أريد به اعتبارها خارجاً بمعنى أن الواضع جعل الملازمة بين اللفظ والمعنى في الخارج ، فيردّه انه لا يفيد بوجه ما لم تكن الملازمة بينهما في الذهن ، ضرورة ان بدونه لا يحصل الانتقال إلى المعنى من تصور اللفظ وسماعه ، وعلى تقدير وجودها وثبوتها فالملازمة الخارجية غير محتاج إليها ، فان الغرض وهو الانتقال يحصل بتحقق هذه الملازمة الذهنية سواء كانت هناك ملازمة خارجية أم لم تكن ، فلا حاجة إلى اعتبار المعنى موجوداً في الخارج عند وجود اللفظ فيه ، بل هو من اللغو الظاهر.

وان أريد به اعتبار الملازمة ذهناً يعنى ان الواضع اعتبر الملازمة بين اللفظ والمعنى في الذهن ، ففيه انه لا يخلو إما أن يكون مطلقاً حتى للجاهل بالوضع أو يختص بالعالم به. لا يمكن المصير إلى الأول ، فانه لغو محض لا يصدر من الواضع الحكيم لأنه لا أثر له بالقياس إلى الجاهل به ، ولا معنى لأن يعتبر الانتقال إلى المعنى من سماع اللفظ له ، فانه ان علم بالوضع فالانتقال من اللفظ إلى معناه ضروري له وغير قابل للجعل والاعتبار ؛ وان لم يعلم فالاعتبار يصبح لغواً. ولا إلى الثاني لأنه تحصيل حاصل ، بل من أردإ أنحائه ، فانه لو كان عالما بالوضع كان اعتبار الملازمة في حقه من قبيل إثبات ما هو ثابت بالوجدان بالاعتبار وبالتعبد. وعلى الجملة فالملازمة الذهنية أمر تكويني غير قابلة للجعل والاعتبار وليست معنى الوضع

٤٠