محاضرات في أصول الفقه - ج ١

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
المطبعة: الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٠٠

المتصدي لها مثالا أعلى للمجتمع الإنساني (في علو الشأن وجلالة القدر والمكانة) فمن عبد الوثن في زمن معتد به كيف يكون أهلا لذلك ، وكيف يجعله الله تعالى ممثلا وهادياً للأمة ، والحال انه كغيره من افراد الأمة ، ولا امتياز له عن البقية في شيء. وهذا مما تستدعيه مناسبة الحكم والموضوع.

ويؤكده أمران آخران أيضاً :

(الأول) : نفس إطلاق الحكم في الآية المباركة ، فان الإتيان بصيغة المضارع وهي كلمة «لا ينال» بلا تقييدها بوقت خاص يدل على عدم اختصاص الحكم بزمن دون زمن ، وانه ثابت أبداً لمن تلبس بالظلم ولو آنا ما.

(الثاني) قد ورد في عدة من الروايات (١) النهي عن الصلاة خلف المحدود. والمجذوم. والأبرص. وولد الزنا. والأعرابي. فتدل على أن المتلبس بأحد هذه العناوين لا يليق أن يتصدى هذا المنصب الكبير ، لعدم المناسبة بينهما. وبالأولوية القطعية تدل على ان المتلبس بالظلم وعبادة الوثن أولى بعدم اللياقة للجلوس على كرسي الخلافة ، لعلو المنصب وعظم المعصية ، بل أن المحدود بالحد الشرعي في زمان ما لا يليق للمنصب المزبور إلى الأبد وان تاب بعد ذلك وصار من الأتقياء الخيار.

فقد أصبحت نتيجة ما ذكرناه حول الآية المباركة ان الاستدلال بها على عدم لياقة عبدة الأوثان للخلافة أبداً لا يبتنى على النزاع في وضع المشتق للأعم أو للمتلبس بالمبدإ.

__________________

(١) منها حسنة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام في حديث قال «قال» : أمير المؤمنين عليه‌السلام لا يصلين أحدكم خلف المجذوم والأبرص والمجنون والمحدود وولد الزنا والأعرابي لا يؤم المهاجرين.

ومنها ـ صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام انه قال : خمسة لا يؤمون الناس ولا يصلون بهم صلاة فريضة في جماعة : الأبرص والمجذوم وولد الزناء والأعرابي حتى يهاجر والمحدود وما شاكلهما من الروايات. في الوسائل في الباب ١٥ من أبواب صلاة الجماعة.

٢٦١

بل ومن مطاوي ما ذكرناه يستبين انه لا تترتب ثمرة على النزاع في وضع المشتق أصلا. بيان ذلك : ان الظاهر من العناوين الاشتقاقية المأخوذة في موضوعات الأحكام أو متعلقاتها ـ بنحو القضايا الحقيقية ـ هو أن فعلية الأحكام تدور مدار فعليتها حدوثاً وبقاء ، وبزوالها تزول لا محالة. وان قلنا بان المشتق موضوع للأعم ، فمن هذه الجهة لا فرق بينها وبين العناوين الذاتيّة. نعم قد ثبت في بعض الموارد بمناسبة داخلية أو خارجية أن حدوث العنوان علة محدثة ومبقية معاً كما تقدم. وكيف ما كان فلا أثر للقول بان المشتق وضع للأعم أو للأخص ، إذ على كلا التقديرين كانت الأحكام في فعليتها تابعة لفعلية العناوين المأخوذة في موضوعاتها ، وبانقضائها وزوال التلبس عنها تنقضي بتاتاً.

ومن هنا لم يلتزم الفقهاء بترتب أحكام الحائض. والنفساء. والمستحاضة والزوجية. وما شاكلها بعد انقضاء المبدأ عنها ، حتى على القول بكون المشتق موضوعاً للأعم ، بل لم يحتمل ابتناء هذه المسائل وما شابهها على النزاع في مسألة المشتق ، فتصبح المسألة بلا ثمرة مهمة.

وما نسبه شيخنا الأستاذ ـ قده ـ إلى الفخر الرازي غير صحيح من أنه قد اعترف بدلالة الآية الشريفة على عدم لياقة الخلفاء الثلاث للخلافة الإلهية أبداً ، لأنهم كانوا عابدين للوثن في زمان معتد به ، وفي ذلك الزمان شملهم قوله تعالى : (لا ينال عهدي الظالمين) فدلت على عدم اللياقة إلى الأبد [١].

__________________

[١] وإليك نصّ كلامه :

(المسألة الرابعة) ـ الروافض احتجوا بهذه الآية على القدح بإمامة أبي بكر وعمر من ثلاثة أوجه :

(الأول) : ان أبا بكر وعمر كانا كافرين ، فقد كانا حال كفرهما ظالمين ، فوجب أن يصدق عليهما في تلك الحالة انهما لا ينالان عهد الإمامة البتة ، وإذا صدق عليهما في ذلك الوقت انهما لا ينالان عهد الإمامة البتة ولا في شيء من الأوقات ثبت انهما لا يصلحان للإمامة

(الثاني) : ان من كان مذنباً في الباطن كان من الظالمين ، فإذاً ما لم يعرف ان

٢٦٢

.........................................

__________________

ـ أبا بكر وعمر ما كانا من الظالمين المذنبين ظاهراً وباطناً وجب أن لا يحكم بإمامتهما ، وذلك انما يثبت في حق من تثبت عصمته ، ولما لم يكونا معصومين بالاتفاق وجب أن لا تتحقق إمامتهما البتة.

(الثالث) : قالوا كانا مشركين ، وكل مشرك ظالم ، والظالم لا يناله عهد الإمامة فيلزم أن لا ينالهم عهد الإمامة ، واما انهما كانا مشركين فبالاتفاق ، واما أن المشرك ظالم فلقوله تعالى (ان الشرك لظلم عظيم) وأما ان الظالم لا يناله عهد الإمامة فبهذه الآية.

لا يقال : انهما كانا ظالمين حال كفرهما ، فبعد زوال الكفر لا يبقى هذا الاسم. لأنا نقول الظالم من وجد منه الظلم ، وقولنا وجد منه الظلم أعم من قولنا وجد منه الظلم في الماضي أو في الحال ، بدليل ان هذا المفهوم يمكن تقسيمه إلى هذين القسمين ، ومورد التقسيم بالتقسيم بالقسمين مشترك بين القسمين ، وما كان مشتركا بين القسمين لا يلزم انتفائه لانتفاء أحد القسمين ، فلا يلزم من نفي كونه ظالماً في الحال نفي كونه ظالماً في الماضي. والّذي يدل عليه نظراً إلى الدلائل الشرعية ان «النائم» يسمى مؤمناً ، والإيمان هو التصديق ، والتصديق غير حاصل حال كونه نائماً ، فدل على انه يسمى مؤمناً لأن الإيمان كان حاصلا قبل ، وإذا ثبت هذا وجب أن يكون ظالماً لظلم وجد من قبل.

وأجاب عنه بقوله كل ما ذكرتموه معارض بما انه لو حلف لا يسلم على كافر فسلم على إنسان مؤمن في الحال إلا انه كان كافراً قبل بسنين متطاولة فانه لا يحنث ، فدل على ما قلناه لأن التائب عن الكفر لا يسمى كافراً ، والتائب عن المعصية لا يسمى عاصياً ـ انتهى كلامه ج ١ من تفسير الفخر الرازي ص ٧١١ ـ ٧١٢.

وغير خفي : ان ما ذكره من الجواب عن دلالة الآية أجنبي عنها بالكلية ، بل هما في طرفي النقيض ، وذلك لأن دلالة الآية المباركة على الحكم المذكور مبنية على وجوه ثلاثة :

(الأول) : مناسبة الحكم والموضوع ، فانها تقتضي بقاء الحكم أبداً.

(الثاني) : الإتيان بصيغة المضارع وهي كلمة «لا ينال» وعدم توقيتها بوقت خاص فهي على هذا تدل على بقاء الحكم واستمرارها حتى بعد زوال التلبس.

(الثالث) : ما ورد من نظائره في الشريعة المقدسة ، فانه يدل على ان بقاء هذا الحكم

٢٦٣

ونستنتج مما ذكرناه حول القولين في وضع المشتق عدة أمور :

(الأول) : ان الوضع للمتلبس أو الأعم غير مبتن على القول بالبساطة والتركيب في المفاهيم الاشتقاقية.

(الثاني) : ان تصوير الجامع على كلا القولين : (البساطة والتركيب) ممكن بأحد الوجهين المتقدمين.

(الثالث) : ان المشتق موضوع للمتلبس دون الأعم ، وذلك بوجوه :

ـ ١ ـ التبادر. ـ ٢ ـ صحة السلب بالتقريب المتقدم. ـ ٣ ـ ارتكاز التضاد بين المشتقين المتضادين في المبدأ.

(الرابع) : ان قوله عز من قائل : (لا ينال عهدي الظالمين) دل على عدم لياقة عبدة الأوثان للخلافة الإلهية أبداً.

(الخامس) : انه لا ثمرة تترتب على النزاع في وضع المشتق.

هل المشتق بسيط أم مركب؟

ان المفاهيم الاشتقاقية هل هي بسيطة ، أو انها مركبة؟ قولان في المسألة : المشهور بين المتأخرين هو بساطتها منهم السيد الشريف والمحقق الدواني ـ قده ـ وخالف فيه جماعة منهم صاحب شرح المطالع فذهب إلى التركيب ، حيث قال في مقام تعريف الفكر : (بأنه ترتيب أمور معلومة لتحصيل أمر مجهول).

وأورد عليه بأنه يصح تعريف الشيء بالخاصة وبالفصل وحده ، ولا يجب

__________________

ـ في الآية المباركة وعدم زواله بزوال المبدأ أولى. ومن الواضح أن شيئاً من هذه الوجوه الثلاثة لا تجري فيما ذكره من الجواب ، بل المتفاهم العرفي كما عرفت من الأمثلة التي ذكرها هو أن الحكم يدور مدار العنوان حدوثاً وبقاء على عكس المتفاهم من الآية الكريمة.

على ان النذر تابع لقصد الناذر في الكيفية والكمية ، وأجنبي عن دلالة اللفظ وظهوره في شيء.

٢٦٤

أن يكون التعريف دوماً بالحد أو بالرسم التام ، بل كما يمكن أن يكون به يمكن أن يكون بالحد أو الرسم الناقص ، فيقال : (الإنسان ضاحك أو ناطق) وعليه فلا يكون تعريف الفكر بهذا تعريفاً جامعاً لخروج تعريف الشيء بالحد أو الرسم الناقص عنه لعدم ترتيب أمور معلومة فيه ، بل التعريف حينئذ بأمر واحد.

وأجاب عنه بان الخاصة أو الفصل وان كانت في بداية الأمر وبالنظر السطحي أمراً واحداً إلا انها في الواقع وبالنظر الدقي تنحل إلى أمرين : ذات ومبدأ ، فالناطق ينحل إلى ذات. ونطق. وكذا الضاحك ، فلا يكون هنا ترتيب أمر واحد ، بل ترتيب أمور معلومة عند النّفس لتحصيل شيء مجهول.

وأشكل عليه المحقق الشريف في الهامش بأنه لا يمكن أخذ الشيء في مفهوم المشتق ، وذلك لأن المأخوذ فيه إن كان مفهوم الشيء فيلزم دخول العرض العام في الفصل وهو محال ، وان كان مصداقه فيلزم انقلاب القضية الممكنة إلى الضرورية ـ مثلا ـ جملة (الإنسان ضاحك) قضية ممكنة ، فإذا انحلت إلى قولنا (الإنسان إنسان له الضحك) صارت قضية ضرورية ، لأن ثبوت الشيء لنفسه ضروري وهو خلف.

ومن مجموع ذلك يستبين ان مركز النزاع هو البساطة والتركيب بحسب التحليل والواقع ، لا بحسب الإدراك والتصور ، وذلك لأن البساطة الإدراكية تجتمع مع تركب المفهوم حقيقة ، ضرورة ان المتفاهم في مرحلة التصور من كل لفظ مفرد عند الإطلاق معنى بسيط ، سواء أكان في الواقع أيضاً بسيطاً ، أم كان مركباً؟ وهذا بلا فرق بين المشتقات وغيرها من الألفاظ إذاً لا معنى لأن يجعل مركز البحث البساطة والتركيب بحسب التصور والإدراك. ومن هنا سلم شارح المطالع البساطة اللحاظية ، إلا انه قال : بحسب التحليل ينحل إلى شيئين : ذات متصفة بالمبدإ.

ومما يؤكد ذلك تصدى المحقق الشريف لإقامة البرهان على البساطة بان

٢٦٥

الالتزام بالتركيب يستلزم أحد المحذورين المتقدمين ؛ وظاهر ان إثبات البساطة اللحاظية لا يحتاج إلى مئونة استدلال ، وإقامة برهان ، فان المرجع الوحيد لإثباتها فهم أهل العرف ، أو اللغة ، ولا إشكال في انهم يفهمون من المشتق معنى واحداً كما يفهمون من غيره من الألفاظ المفردة ذلك.

ومن الغريب ما صدر عن المحقق صاحب الكفاية ـ قده ـ حيث قال : ما لفظه هذا : إرشاد لا يخفى ان معنى البساطة بحسب وحدته أدركا وتصوراً ، بحيث لا يتصور عند تصوره إلا شيء واحد ، لا شيئان ، وان انحل بتعمل من العقل إلى شيئين ، كانحلال مفهوم الحجر والشجر إلى شيء له الحجرية أو الشجرية مع وضوح بساطة مفهومهما ، وبالجملة لا ينثلم بالانحلال إلى الاثنينية بالتعمل العقلي وحدة المعنى وبساطة المفهوم ، كما لا يخفى ، وإلى ذلك يرجع الإجمال والتفصيل الفارقان بين المحدود والحد ، مع ما هما عليه من الاتحاد ذاتاً ، فالعقل بالتعمل يحلل النوع ويفصله إلى جنس وفصل بعد ما كان أمراً واحداً إدراكا وشيئاً فاردا تصوراً ، فالتحليل يوجب فتق ما هو عليه من الجمع والرتق.

وجه الغرابة : هو ما عرفت من أن ما يصلح لأن يكون مورد البحث والنزاع هو البساطة والتركيب بحسب التحليل العقلي ، لا بحسب الإدراك والتصور ، ضرورة ـ ان البساطة اللحاظية لا تصلح لأن تكون محوراً للبحث ومركزاً لتصادم الأدلة والبراهين العقلية ، بل لا تقع تحت أي بحث علمي كما لا يخفى. وقد أشرنا آنفاً ان المرجع في إثباتها فهم العرف ، لأن واقعها انطباع صورة علمية واحدة في مرآة الذهن ، سواء أكانت قابلة للانحلال في الواقع كمفهوم الإنسان ونحوه أم لم تكن. فمناط البساطة اللحاظية وحدة المفهوم إدراكا بل وحدة المفهوم في مرحلة التصور في كل مفهوم ومدلول للفظ واحد مما لم يقع لأحد فيه شك وريب.

وقد تحصل من ذلك ان المحقق صاحب الكفاية ـ قده ـ بالنتيجة من القائلين

٢٦٦

بالتركيب ، لا البساطة. وكيف كان فالمشهور بين الفلاسفة والمتأخرين من الأصوليين منهم شيخنا الأستاذ ـ قده ـ بساطة المفاهيم الاشتقاقية ، وقد أصروا على انه لا فرق بينها وبين المبادئ حقيقة وذاتاً ، وانما الفرق بينهما بالاعتبار ولحاظ الشيء مرة لا بشرط ، وبشرط لا مرة أخرى ، خلافاً لجماعة منهم شيخنا المحقق ـ قده ـ وصاحب شرح المطالع فذهبوا إلى التركيب.

ويجب علينا أولاً تحقيق الأمر في أن المفاهيم الاشتقاقية بسيطة أو مركبة؟ ثم على تقدير التركيب فهل هي مركبة من مفهوم الشيء والمبدأ أو من واقعه؟

فنقول : الصحيح هو انها مركبة لا بسيطة ، وتركبها انما هو لأخذ مفهوم الشيء فيها. فلنا دعويان :

(الأولى) : ان مفاهيم المشتقات مركبة ، وغير بسيطة.

(الثانية) : انها مركبة من مفهوم الشيء ، لا من مصداقه.

وأما دعوى انها مركبة من المبدأ ومصداق الشيء والذات فهي باطلة جزماً وذلك لاستلزامها أن يكون المشتق من متكثر المعنى فان الذوات متباينة بالضرورة فإذا قلنا (زيد قائم) و (الجدار قائم) و (الصلاة قائمة) فالذات المأخوذة في كل واحدة من هذه الجمل مباينة للذات المأخوذة في غيرها ، فإذا كان المأخوذ في مفهوم المشتق هو واقع الذات لتكثر مفهوم القائم لا محالة ، فلا مناص من أن يكون الوضع عاماً والموضوع له خاصاً ، وهذا مخالف للفهم العرفي يقيناً ، وقد قدمنا سابقاً ان المشتقات كالجوامد وضعت لمعنى عام ، فيكون الموضوع له فيها كالوضع عاماً ، فلا تكون من متكثر المعنى ، كما ان الجوامد لم تكن معانيها متكثرة.

وعليه فالأمر دائر بين بساطة المفاهيم الاشتقاقية ، وأخذ مفهوم الشيء فيها ، والصحيح هو الثاني. وقبل التكلم في ذلك ينبغي لنا بيان ما هو المراد من الذات المأخوذة في المشتقات.

فنقول : المراد منها ذات مبهمة في غاية الإبهام ، ومعراة عن كل خصوصياً

٢٦٧

من الخصوصيات ما عدا قيام المبدأ بها ، فهي لمكان إبهامها واندماجها قابلة للحمل على الواجب والممكن. والممتنع على نسق واحد ، بل هي مبهمة من جهة انها عين المبدأ أو غيره ، ومن هنا يصدق المشتق على الجوهر. والعرض. والأمر الاعتباري. والانتزاعي. والزمان. وما فوقه (من الواجب تعالى وغيره) على وتيرة واحدة ، من دون لحاظ عناية في شيء منها ، فهي كالموصولات في جهة الإبهام فكما انها مبهمة من جميع الجهات إلا من ناحية صلتها ، ولذا سميت بالمبهمات ، فكذلك هذه.

ومن هنا يصح التعبير عنها بما ومن الموصولتين أو بكلمة الّذي على اختلاف الموضوعات باعتبار كونها من ذوي العقول ، أو من غيرها ، فإذا قيل «العالم» فلا يراد منه إلا من ثبت له صفة العلم ، وإذا قيل «الماشي» فلا يراد منه إلا من له صفة المشي ، أو ما له صفة المشي .. وهكذا. إذا عرفت هذا.

فأقول : يدل على تركب المعنى الاشتقاقي بالمعنى الّذي أوضحناه ، الوجدان والبرهان :

أما الوجدان فلأجل ان المتبادر عرفاً من المشتق عند إطلاقه هو الذات المتلبسة بالمبدإ على نحو الإبهام والاندماج ـ مثلا ـ عند إطلاق لفظ «ضارب» تمثل في النّفس ذات مبهمة متلبسة بالضرب .. وهكذا. وهذا المعنى وجداني لا ريب فيه.

واما البرهان فلما سنذكره من أنه لا يمكن تصحيح حمل المشتق على الذات إلا بأخذ مفهوم الشيء فيه ، لأن المبدأ مغاير معها ذاتاً وعيناً ، ولا يمكن تصحيح حمله عليها بوجه ، لمكان المغايرة بينهما حقيقة وخارجاً. ومجرد اعتباره لا بشرط لا يوجب اتحاده معها ، ولا يقلبه عما هو عليه من المغايرة والمباينة ، لأن المغايرة لم تكن اعتبارية لتنتفي باعتبار آخر على ما سيأتي بيانه تفصيلا. ومع هذا.

قد استدل القائلون بالبساطة بوجوه :

(الأول) : ما عن المحقق الشريف من أن الذات لو كانت مأخوذة في

٢٦٨

المشتقات فلا يخلو الحال أما أن يكون الملحوظ حال الوضع مفهوم الذات أو مصداقها ، فان كان الأول لزم دخول العرض العام في الفصل ك «الناطق» ـ مثلا ـ وهو محال ، لأن الشيء عرض عام فيستحيل أن يكون مقوماً للجوهر النوعيّ ، لأن مقومه ذاتي له ، والعرض العام خارج عنه. وان كان الثاني لزم انقلاب القضية الممكنة إلى الضرورية ، فان جملة (الإنسان ضاحك) قضية ممكنة ، إذ الضحك بماله من المعنى ممكن الثبوت للإنسان ، فلو كان الإنسان الّذي هو مصداق الشيء مأخوذاً فيه لكان صدقه على الإنسان ضروريا لا محالة ، لأنه من ثبوت الشيء لنفسه.

وأجاب عنه صاحب الكفاية ـ قده ـ وجماعة من الفلاسفة المتأخرين منهم السبزواري في حاشيته على منظومته ان الناطق فصل مشهوري ، وليس بفصل حقيقي ، ليكون مقوماً للجوهر النوعيّ ، وذلك لتعذر معرفة حقائق الأشياء وفصولها الحقيقية ، وعدم إمكان وصول أحد إليها ما عدا الباري عزوجل. ومن هنا وضعوا مكانه ما هو لازمه وخاصته ، ليشيروا به إليه ، فالناطق ليس بفصل حقيقي للإنسان ، بل هو فصل مشهوري وضع مكانه. والوجه فيه هو ان النطق المأخوذ في مفهوم الناطق ان أريد به النطق الظاهري الّذي هو خاصة من خواص الإنسان فهو كيف مسموع ، فلا يعقل أن يكون مقوماً للجوهر النوعيّ. وان أريد به الإدراك الباطني أعني إدراك الكليات فهو كيف نفساني ، وعرض من أعراض الإنسان أيضاً ، فكيف يكون مقوماً له ، فان العرض انما يعرض الشيء بعد تقومه بذاته وذاتياته ، وتحصله بفصله.

ومما يدل على هذا انهم جعلوا الناهق فصلا للحمار. والصاهل فصلا للفرس ، وكلاهما كيف مسموع ، فلا يعقل أن يقوم الجوهر النوعيّ به. ومن هنا ربما يجعلون لازمين وخاصتين مكان فصل واحد ، فيقولون (الحيوان حساس متحرك بالإرادة) فان الحساس والمتحرك بالإرادة خاصتان للحيوان ، وليستا بفصلين له. ضرورة أن

٢٦٩

الشيء الواحد لا يعقل أن يتقوم بفصلين ، فان كل فصل مقوم للنوع وذاتي له ، فلا يعقل اجتماعهما في شيء واحد. وعليه فلا يلزم من أخذ الشيء في المشتق دخول العرض العام في الفصل ، بل يلزم منه دخوله في الخاصة ، ولا محذور فيه ، إذ قد يتقيد العرض العام بقيد فيكون خاصة. فما أفاده السيد الشريف من استلزام أخذ مفهوم الشيء في المفهوم الاشتقاقي دخول العرض في الفصل غير تام بوجه. هذا.

وقد أورد عليه شيخنا الأستاذ ـ قده ـ بان الناطق بمعنى التكلم أو إدراك الكليات وان كان من لوازم الإنسان وعوارضه إلا انه بمعنى صاحب النّفس الناطقة فصل حقيقي فيلزم من أخذ مفهوم الشيء في مفهوم المشتق دخول العرض العام في الفصل.

وغير خفي ان هذا من غرائب ما صدر منه فان صاحب النّفس الناطقة هو الإنسان وهو نوع لا فصل إذاً لا مناص من الالتزام بكون الناطق فصلا مشهورياً وضع مكان الفصل الحقيقي لتعذر معرفته غالباً بل دائماً.

وأغرب منه ما أفاده ـ قده ـ من أن الشيء ليس من العرض العام في شيء بل هو جنس الأجناس وجهة مشتركة بين الجميع ، وذكر في وجه هذا ان العرض العام ما كان خاصة للجنس القريب أو البعيد (كالماشي والتحيز) والشيئية تعرض لكل ماهية من الماهيات وتنطبق عليها فهي جهة مشتركة بين جميعها وليس وراءها أمر آخر يكون ذلك الأمر هو الجهة المشتركة وجنس الأجناس لتكون الشيئية عارضة عليه وخاصة له كما هو شأن العرض العام وعلى هذا فاللازم من أخذ مفهوم الشيء في المشتق دخول الجنس في الفصل لا دخول العرض العام فيه ؛ بل قال ـ قده ـ ولم يظهر لنا بعد وجه تعبير المحقق الشريف عنه بالعرض العام وان ارتضاه كل من تأخر عنه ، ومن البين كما يستحيل دخول العرض العام في الفصل كذلك يستحيل دخول الجنس فيه لأن لكل واحد من الجنس والفصل ماهية تباين ماهية الآخر ذاتاً وحداً فلا يكون أحدهما ذاتياً للآخر فالحيوان ليس ذاتياً للناطق وبالعكس بل هو لازم أعم بالإضافة إليه وذاك لازم أخص. وعليه فيلزم من دخول الجنس في الفصل انقلاب الفصل إلى النوع وهو محال.

٢٧٠

فقد أصبحت النتيجة. ان خروج مفهوم الشيء عن مفهوم المشتق أمر ضروري سواء أقلنا بان الشيء عرض عام أو جنس ، وسواء أكان الناطق فصلا حقيقياً أم مشهورياً فان دخول الجنس في اللازم كدخوله في الفصل الحقيقي محال. هذا ملخص ما أفاده ـ قدس‌سره ـ.

ولكنه غريب فان الشيء لا يعقل أن يكون جنساً عالياً للأشياء جميعاً من الواجب والممكن والممتنع ، فانه وان كان صادقاً على الجميع حتى على الممتنعات فيقال : (اجتماع النقيضين شيء مستحيل) و (شريك الباري عزوجل شيء ممتنع) .. وهكذا. إلا ان صدقه ليس صدقاً ذاتياً ، ليقال انه جنس عال له ، بداهة استحالة الجامع الماهوي بين المقولات المتأصلة والماهيات المنتزعة والأمور الاعتبارية ، بل لا يعقل الجامع الماهوي بين المقولات المتأصلة بأنفسها ، مع أنه كيف يعقل أن يكون الشيء جامعاً ماهويا بين ذاته تعالى وبين غيره؟

وعلى الجملة ان صدق مفهوم الشيء على الواجب والممتنع والممكن على نسق واحد ، فلا فرق بين ان يقال : (الله شيء) وبين أن يقال : (زيد شيء) و (شريك الباري شيء) وحيث أنه لا يعقل أن يكون صدقه على الجميع ذاتياً فلا محالة يكون عرضياً.

فما أفاده ـ قده من ـ أن الشيء جنس لما تحته من الأجناس العالية لا نعقل له معنى محصلا ، لأنه ان أراد بالجنس معناه المصطلح عليه ـ فهو غير معقول ، وان أراد به معنى آخر فلا نعقله ، ضرورة أن الشيء إما جنس أو عرض عام فلا ثالث.

ودعوى انه جنس لما تحته من المقولات الواقعية التي هي أجناس عاليات دون غيرها مدفوعة :

أولا ـ بان صدق الشيء بماله المفهوم على الجميع على حد سواء ، وليس صدقه على المقولات ذاتياً ، وعلى غيرها عرضياً.

وثانياً ـ ان الشيء لا يمكن أن يكون جنساً للمقولات الحقيقة لاستحالة جامع

٢٧١

حقيقي بينها ، بل قد برهن في محله أن الجامع الحقيقي لا يعقل بين المقولات التسع العرضية فضلا عن الجامع بين جميع المقولات. فتحصل أن مفهوم الشيء يستحيل أن يكون جنساً تندرج تحته الأجناس العالية.

فالتحقيق : ان مفهوم الشيء مفهوم عام مبهم معرى عن كل خصوصية من الخصوصيات كمفهوم الأمر والذات ، ويصدق على الأشياء جميعاً صدقاً عرضياً فيكون من العرض العام لا من العرض المقابل للجوهر ، فانه لا يصدق على وجود الواجب تعالى ولا على غيره من الاعتبارات والانتزاعات ونحوهما. ومن الواضح ان الشيء بما له من المفهوم يصدق على الجميع على نسق واحد.

ثم ان مرادنا من العارض هنا ما هو خارج عن ذات الشيء ومحمول عليه. فهذا هو الضابط للعرض العام والخاصّ ، والعموم والخصوص يختلفان بالإضافة ، فالماشي عرض عام باعتبار وإضافة ، وخاص باعتبار آخر وإضافة أخرى .. وهكذا.

وعلى ضوء هذا الضابط يظهر بطلان ما ذكره شيخنا الأستاذ ـ قده ـ من الضابط للعرض العام وهو ما كان خاصة للجنس القريب أو البعيد (كالماشي والتحيز) ـ مثلا ـ وذلك لعدم الشاهد والبرهان عليه ، بل الشاهد والبرهان على خلافه كما مر ، ولذا ذكروا ان الوجود من عوارض الماهية بمعنى انه خارج عن حيطة ذاتها ومحمول عليها. فما ذكره السيد الشريف وغيره من ان الشيء عرض عام هو الصحيح

وأما ما ذكره ـ قده ـ من ـ أنه على تقدير أخذ مصداق الشيء في المشتق لزم انقلاب مادة الإمكان إلى الضرورة ـ فيرده أولا أن المأخوذ ليس واقع الشيء ومصداقه ، بل مفهومه كما عرفت. وثانياً ـ على تقدير تسليم ان المأخوذ مصداقه إلا انه لا يوجب الانقلاب كما توهمه ، لما سيجيء بيانه تفصيلا إن شاء الله تعالى ، بل عدم أخذه من جهة محذور آخر قد تقدم بيانه.

(الثاني) : ما ذكره صاحب الفصول ـ قده ـ من انه لو أخذ مفهوم الشيء في المشتقات يلزم انقلاب القضية الممكنة إلى الضرورية ، فان قولنا : (الإنسان

٢٧٢

ضاحك) من القضايا الممكنة نظراً إلى أن كلا من ثبوت الضحك وعدمه ممكن للإنسان ، فلو كان معنى الكاتب شيء له الكتابة فالقضية ضرورية ، باعتبار ان صدق الشيء بما هو على جميع الأشياء ضروري ، فلو كان الشيء مأخوذاً في المشتق لزم الانقلاب.

والجواب عنه ما ذكره صاحب الكفاية وشيخنا الأستاذ ـ قدهما ـ وتوضيحه ان الشيء تارة يلاحظ مطلقاً ولا بشرط ، وأخرى يلاحظ مقيداً بقيد ، وذلك القيد أما أن يكون مبايناً للإنسان ، أو مساوياً له ، أو عاماً ، أو خاصاً ، فان لوحظ على النحو الأول فثبوته وان كان للإنسان وغيره ضرورياً إلا انه خارج عن الفرض. وان لوحظ على النحو الثاني فان كان القيد الملحوظ فيه امراً مبايناً للإنسان امتنع ثبوته له ، كما إذا لوحظ الشيء مقيداً بالطيران إلى السماء ـ مثلا ـ أو ما شابه ذلك ، فانه بهذا القيد يستحيل صدقه عليه فالامتناع حينئذ ضروري. وان كان القيد امراً مساوياً له فهو إما أن يكون ممكن الثبوت له أو ثبوته ضروري ، فعلى الأول القضية ممكنة كقولنا (الإنسان ضاحك أو متعجب أو كاتب) وعلى الثاني ضرورية كقولنا : (الإنسان متكلم أو ناطق) وان كان عاماً فثبوته له دائماً ضروري كقولنا : (الإنسان حيوان أو ماش أو جوهر) وما شاكله. وان كان خاصاً فثبوت الإنسان له ضروري على عكس المقام ، كقولنا : (زيد إنسان) (العربي إنسان) (العجمي إنسان) .. وهكذا. وهذا أي ثبوت الإنسان للأخص منه إنما يكون ضرورياً إذا لوحظ الإنسان لا بشرط. وأما إذا لوحظ بشرط شيء من العلم أو الكتابة أو ما شاكل ذلك فلا يكون ثبوته لزيد أو نحوه ضرورياً ، بل هو ممكن وان كان ثبوته لمن هو متصف بهذا الشيء فعلا ضرورياً ، والسر في جميع هذا هو ان المحمول ليس ذات المقيد بما هي ، بل المقيد بما هو مقيد على نحو خروج القيد ودخول التقيد.

وعلى هذا الضوء يتبين ان ثبوت مفهوم الشيء بما هو ومطلقا لما صدق عليه

٢٧٣

وان كان ضرورياً إلا انه لا يستلزم ان يكون ثبوته مقيداً بقيد ما وبشرط شيء أيضاً كذلك لما عرفت من اختلاف القيود وجوباً وإمكاناً وامتناعا.

فما أفاده المحقق صاحب الفصول ـ قده ـ من لزوم الانقلاب في صورة أخذ مفهوم الشيء في المشتق غير صحيح ، بل انه حسب التحليل لا يرجع إلى معنى معقول أصلا.

ومن مجموع ما ذكرناه يستبين انه لا وجه لدعوى الانقلاب. حتى لو كان المأخوذ فيه مصداق الشيء وواقعه ، وذلك : لأن قضية (الإنسان كاتب) ـ مثلا ـ وان انحلت على هذا إلى قضية (الإنسان إنسان له الكتابة) إلا ان المحمول فيها ليس هو الإنسان وحده ، ليكون ثبوته للإنسان من قبيل ثبوت الشيء لنفسه الّذي هو ضروري ، بل المحمول هو الإنسان المقيد بالكتابة ، ومن المعلوم ان ثبوته بهذا الوصف لا يكون ضرورياً.

ودعوى ـ انحلال القضية على هذا إلى قضيتين : إحداهما ضرورية ، والأخرى ممكنة ـ مدفوعة بأنا لا نسلم الانحلال ، وذلك لأنه ان أريد بالانحلال انحلال عقد الوضع إلى قضية فعلية أو ممكنة على النزاع بين الشيخ الرئيس والفارابي فهو جار في جميع القضايا فلا يختص ببعض دون بعض ، وان أريد به الانحلال الحقيقي بان يدعى ان قضية (الإنسان كاتب) ـ مثلا ـ تنحل حقيقة إلى قضيتين مزبورتين ففيه انا لا نعقل له معنى محصلا. نعم المحمول منحل إلى أمرين ، وهذا ليس من انحلال القضية إلى قضيتين في شيء ، إلا ان يقال ان مرادهم من انحلال القضية ذلك ، فلو كان كذلك فلا بأس بهذا الانحلال ، ولا محذور فيه ، وانما المحذور هو انقلاب مادة الإمكان إلى الضرورة ، وقد عرفت ان تركب المشتق لا يستلزمه.

فتلخص انه لا محذور في أخذ مصداق الشيء في المشتق إلا ما ذكرناه. وكيف كان فالأمر ظاهر ، فلا وجه لإطالة الكلام في ذلك كما عن شيخنا المحقق ـ قده ـ وغيره (الثالث) : ما أشار إليه المحقق صاحب الكفاية ـ قده ـ من أن أخذ مفهوم

٢٧٤

الشيء في المفاهيم الاشتقاقية يستلزم تكرر الموضوع في قضية (زيد قائم) (الإنسان كاتب) وما شاكلهما ، والتكرر خلاف الوجدان والمتفاهم عرفاً من المشتقات عند استعمالاتها في الكلام.

ولا يخفى انه قد سبق : ان المأخوذ فيها شيء مبهم معرى عن كل خصوصية من الخصوصيات ما عدا قيام المبدأ به ، ولا تعين له إلا بالانطباق على ذوات معينة في الخارج ، ك «زيد» و «عمرو» ونحوهما. وعليه فلا يلزم التكرار في مثل قولنا (زيد قائم) و (الإنسان كاتب) ونحوهما ، بداهة انه لا فرق بين جملة (الإنسان كاتب) وجملة (الإنسان شيء له الكتابة) فكما لا تكرار في الجملة الثانية فكذلك في الأولى على التركيب فان التكرار إعادة عين ما ذكر أولا مرة ثانية ، وهو منتف هنا.

نعم إنما يلزم ذلك لو كان المأخوذ في المشتقات مصداق الشيء وواقعه ، ولكنك عرفت انه غير مأخوذ فيه ، فالمأخوذ هو مفهوم الشيء على نحو الإبهام والاندماج ، وعليه فلا تكرار.

(الرابع) : ما ذكره شيخنا الأستاذ ـ قده ـ من انا لو سلمنا إمكان أخذ الشيء في المبدأ الاشتقاقي إلا انه لم يقع في الخارج ، وذلك لأن الواضع في مقام وضع لفظ لمعنى لا بد له من ملاحظة فائدة مترتبة عليه ، وإلا كان الوضع لغواً فلا يصدر من الواضع الحكيم ، والفائدة المترقبة من أخذ مفهوم الذات في المشتق هي توهم عدم صحة حمله على الذات بدونه ، ولكن الأمر ليس كذلك ، فان الملاك المصحح للحمل هو اعتبار المبدأ في المشتق لا بشرط على ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى ، فإذاً يصبح أخذ مفهوم الشيء والذات فيه لغواً محضاً.

ولا يخفى ان أخذ الذات في المشتق مما لا بد منه ، لاحتياج حمل العرض على موضوعه إلى ذلك ، لما سنذكره إن شاء الله تعالى من أن وجود العرض في الخارج مباين لوجود الجوهر فيه ، وان كان وجوده في نفسه عين وجوده لموضوعه إلا انهما لا يكونان متحدين خارجاً ليصح حمل أحدهما على الآخر ، وملاك صحة الحمل

٢٧٥

كما ذكرناه غير مرة الاتحاد في الوجود ، وهو منتف بين العرض وموضوعه ، ومجرد اعتبار العرض لا بشرط لا يوجب اتحاده معه ، فانه لا ينقلب الشيء عما هو عليه من المغايرة والمباينة ، فان المغايرة ليست بالاعتبار لينتفي باعتبار آخر غيره ، ومن الظاهر أن وجود العرض غير وجود الجوهر في نفسه ، ولا يتحد معه باعتبار لا بشرط.

(الخامس) : ما ذكره شيخنا الأستاذ ـ قده ـ أيضاً وهو انه يلزم من أخذ الذات في المشتق أخذ النسبة فيه أيضاً ، إذ المفروض ان المبدأ مأخوذ فيه ، فيلزم حينئذ اشتمال الكلام الواحد على نسبتين في عرض واحد : إحداهما في تمام القضية والأخرى في المحمول فقط. وهذا مما لا يمكن الالتزام به أصلا. على ان لازم ذلك أن تكون المشتقات مبنية لاشتمالها على المعنى الحر في وهو النسبة.

ولا يخفى ما فيه أما ما ذكره ـ قده ـ أولا من لزوم اشتمال الكلام الواحد على نسبتين في عرض واحد فيرده ان ذلك لو صح فانما يلزم فيما لو كان المأخوذ فيه ذات خاصة ، مع انه لا يلزم على هذا أيضاً ، لأن النسبة في طرف المحمول لم تلحظ بنفسها وباستقلالها لتكون نسبة تامة خبرية في عرض النسبة في تمام القضية بل هي نسبة تقييدية المغفول عنها في الكلام وانما تصير تامة خبرية في صورة الانحلال وهي خلاف الفرض ، ولا مانع من اشتمال الكلام الواحد على نسبة تقييدية ونسبة تامة خبرية ، فلو كان هذا محذوراً لم يختص ذلك بالمشتقات بل يعم كثيراً من القضايا والجملات كما لا يخفى. هذا كله على تقدير أن يكون المأخوذ في مفهوم المشتق مصداق الشيء ، ولكن عرفت ان الأمر ليس كذلك ، بل المأخوذ فيه هو ذات مبهمة معراة عن كل خصوصية من الخصوصيات ما عدا قيام المبدأ بها ، وعليه فلا موضوع لما أفاده ـ قده ـ.

واما ما ذكره ـ قده ـ ثانياً فهو غريب ، وذلك لأن مجرد المشابهة للحروف لا يوجب البناء ، وانما الموجب له هو مشابهة خاصة ، وهي فيما إذا شابه الاسم من

٢٧٦

الحروف حسب وضعه كأسماء الإشارة والضمائر والموصولات ، فانها حسب وضعها بما لها من المادة والهيئة تشبه الحروف. وأما ما كان من الأسماء مشتملا على النسبة بهيئته فقط دون مادته كالمشتقات فهو ليس كذلك ، وان هذه المشابهة لا توجب البناء.

أو فقل ان مادة المشتقات وضعت لمعنى حدثي مستقل بوضع على حده فهي لا تشابه الحروف أصلا وأما هيئاتها باعتبار اشتمالها على النسب وان كان تشابه الحروف إلا انها لا توجب البناء.

ومن جميع ما ذكرناه يستبين ان شيئاً من هذه الوجوه لا يتم ، فيتعين حينئذ القول بالتركيب ، بل أصبح هذا ضرورياً.

ثم ان شيخنا الأستاذ ـ قده ـ ذكر : أن وجود العرض في حد نفسه عين وجوده لموضوعه بمعنى ان العرض غير موجود بوجودين : أحدهما لنفسه. والآخر لموضوعه ، بل وجوده النفسيّ عين وجوده الرابطي ، فوجوده في الخارج هو الرابط بين موضوعاته ، وعليه فحيث ان للعرض حيثيتين واقعيتين : إحداهما وجوده في نفسه. والأخرى وجوده لموضوعه فقد يلاحظ بما أنه شيء من الأشياء ، وان له وجوداً بحياله واستقلاله في مقابل وجود الجوهر كذلك ، فهو بهذا الاعتبار عرض مباين لموضوعه وغير محمول عليه. وقد يلاحظ على واقعه بلا مئونة أخرى ، وان وجوده في نفسه عين وجوده لموضوعه فهو بهذا الاعتبار عرضي ومشتق ، وقابل للحمل على موضوعه ، ومتحد معه حيث أنه من شئونه وأطواره فان شأن الشيء لا يباينه. ويرده :

أولا : ان هذا الفرق ليس فارقاً بين المشتق ومبدئه ، بل هو فارق بين المصدر واسم المصدر ، وذلك لأن العرض كالعلم ـ مثلا ـ كما عرفت انه متحيث بحيثيتين واقعيتين : (حيثية وجوده في حد نفسه. وحيثية وجوده لغيره) فيمكن أن يلاحظ مرة بإحداهما وهي انه شيء من الأشياء ، وان له وجوداً في نفسه في

٢٧٧

مقابل وجود الجوهر ، وبهذا الاعتبار يعبر عنه باسم المصدر. ويمكن أن يلاحظ مرة ثانية بالحيثية الأخرى وهي أن وجوده في نفسه عين وجوده لموضوعه ، وانه من أطواره وعوارضه ، وبهذا الاعتبار يعبر عنه بالمصدر ، إذ قد اعتبر فيه نسبته إلى فاعل ما ، دون اسم المصدر.

وان شئت قلت ان اسم المصدر وضع للدلالة على الوجود المحمولي في قبال العدم كذلك ، والمصدر وضع للدلالة على وجود النعتيّ في قبال العدم النعتيّ. هذا بحسب المعنى. وأما بحسب الصيغة ففي اللغة العربية فلما يحصل التغاير بين الصيغتين ، بل الغالب أن يعبر عنهما بصيغة واحدة كالضرب ـ مثلا ـ فانه يراد به تارة المعنى المصدري وأخرى ذات الحدث. فهما مشتركان في صيغة واحدة وأما في اللغة الفارسية ففي الغالب ان لكل واحد منهما صيغة مخصوصة فيقال : كتك. وزدن. گردش. وگرديدن. آزمايش. وآزمودن. إلى غير ذلك.

ومن ذلك يتبين أن المصدر أو اسم المصدر لا يصلح أن يكون مبدأ للمشتقات لاشتمال كل واحد منهما على خصوصية زائدة ، والمبدأ الساري فيها لفظاً ومعنى لا بد أن يكون معرى عن كل خصوصية من الخصوصيات حتى لحاظه بأحد النحوين المذكورين ـ مثلا ـ المبدأ في كلمة «ضرب» هو عبارة عن (الضاد والراء والباء) وهو مبدأ لجميع المشتقات منها المصدر واسم المصدر.

أو فقل ان المبدأ كالهيولى الأولى ، فكما انها عارية عن كل خصوصية من الخصوصيات وإلا فلا تقبل أية صورة ترد عليها ، ولا تكون مادة لجميع الأشياء فكذلك المبدأ ، وهذا بخلاف المصدر أو اسم المصدر ، فان كل واحد منهما مشتمل على خصوصية زائدة على نفس الحدث المشترك بينهما.

فالنتيجة ان الفرق المذكور ليس فارقاً بين المبادئ والمشتقات ، بل هو فارق بين المصدر واسم المصدر.

وثانياً ـ لا ريب في أن وجود العرض يباين وجود الجوهر خارجاً ، وان

٢٧٨

كان وجوده في نفسه عين وجوده لموضوعه إلا انه ليس بمعنى أن وجوده وجود موضوعه ، بل هو غيره حقيقة وواقعاً ، وليست هذه المغايرة والمباينة بالاعتبار لينتفي باعتبار آخر. وعليه فكيف يقال : العرض ان لوحظ لا بشرط وعلى ما هو في الواقع وان وجوده في نفسه عين وجوده لموضوعه وانه طور من أطواره وشأن من شئونه ومرتبة من وجوده فهو متحد معه ، وان لوحظ بشرط لا وعلى حياله واستقلاله وانه شيء من الأشياء فهو مغاير له فان كل ذلك لا يصحح اتحاده مع موضوعه وجوداً وحقيقة ، ضرورة ان مجرد اعتباره لا بشرط وكونه من أطوار وجود موضوعه وشئونه لا يوجب انقلاب الشيء عما هو عليه من المغايرة والمباينة إلى الاتحاد بينهما وجوداً. وقد ذكرنا سابقاً في بحث صحة السلب ان حمل شيء على شيء يتوقف على المغايرة من جهة والاتحاد من جهة أخرى ، بان يكونا موجودين بوجود واحد ينسب ذلك الوجود الواحد إلى كل واحد منهما بالذات أو بالعرض أو إلى أحدهما بالذات وإلى الآخر بالعرض ، وما بالعرض لا بد ان ينتهى لا محالة إلى ما بالذات. ومن الواضح ان العرض كما يباين الجوهر مفهوماً ، كذلك بيانه وجوداً ، ومجرد اعتباره لا بشرط بالإضافة إلى موضوعه لا يوجب اتحاده معه حقيقة وخارجاً. وهذا واضح لا ريب فيه.

وثالثاً : لو تم هذا فانما يتم في المشتقات التي تكون مباديها من المقولات التسع العرضية التي يكون وجودها في نفسها عين وجودها لموضوعاتها. ولكن قد سبق ان النزاع لا يختص بها ، بل يعم المشتقات التي تكون مباديها من الأمور الاعتبارية كالملكية والزوجية وما شاكلهما. أو من الأمور الانتزاعية كالإمكان والوجوب والامتناع. أو من الأمور العدمية. ومن الظاهر ان اعتبار اللابشرط في هذه المشتقات لا يجدى في شيء ، بداهة ان العدم ليس من عوارض ذات المعدوم ، وكيف يعقل اتحاده معها إذا لوحظ لا بشرط ، فانه لا وجود له ليقال ان وجوده طور من أطوار وجود موضوعه والامتناع ليس من عوارض

٢٧٩

ذات الممتنع ، فانه لا وجود له خارجاً ليقال ان وجوده في نفسه عين وجوده لموضوعه. والوجوب ليس عرضاً مقولياً لذات الواجب تعالى. والإمكان ليس من عوارض ذات الممكن كالإنسان ـ مثلا ـ وكذا الملكية ليست من عوارض ذات المالك أو المملوك بمعنى العرض المقولي ، ولا وجود لها خارجاً ليقال انه ملحوظ لا بشرط ، وان وجودها في نفسه عين وجودها لمعروضها.

تلخص انا لو سلمنا اتحاد العرض مع موضوعه خارجاً فلا نسلم الاتحاد في هذه الموارد. والتفكيك في وضع المشتقات بين هذه الموارد وتلك الموارد التي يكون المبدأ فيها من الأعراض بان نلتزم بوضعها في تلك الموارد لمعاني بسيطة ـ متحدة مع موضوعاتها ـ وفي هذه الموارد لمعاني مركبة أمر لا يمكن ، ضرورة ان وضع المشتقات بشتى أنواعها وأشكالها على نسق واحد ، فالمعنى إذا كان بسيطاً أو مركباً كان كذلك في جميع الموارد.

ورابعاً ـ لو أغمضنا عن جميع ذلك وقلنا ان كل وصف متحد مع موصوفه سواء أكان من المقولات؟ أم كان من الاعتبارات؟ أو الانتزاعات؟ إلا انا لا نسلم ذلك في المشتقات التي لا يكون المبدأ فيها وصفاً للذات كأسماء الأزمنة والأمكنة وأسماء الآلة ، فان اتحاد المبدأ فيها مع الذات غير معقول ، ضرورة ان الفتح لا يعقل ان يتحد مع الحديد. والقتل مع الزمان أو المكان الّذي وقع فيه ذلك المبدأ .. وهكذا.

وعلى الجملة انا لو سلمنا ـ اتحاد الوصف مع موصوفه في الوعاء المناسب له من الذهن أو الخارج باعتبار ان وصف الشيء طور من أطواره وشأن من شئونه ، وشئون الشيء لا تباينه ـ فلا نسلم اتحاد الوصف مع زمانه. ومكانه. وآلته. وغير ذلك من الملابسات ، إذ كيف يمكن أن يقال : ان المبدأ إذا أخذ لا بشرط يتحد مع زمانه. أو مكانه. أو آلته ، فان وجود العرض انما يكون وجوداً لموضوعه ، لا لزمانه. ومكانه. وآلته ، إذاً لا مناص للقائل ببساطة مفهوم

٢٨٠