محاضرات في أصول الفقه - ج ١

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
المطبعة: الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٠٠

فتبين : أن حال المعاني الحرفية والمفاهيم الأدوية في عالم المفهوم ، حال المقولات التسع العرضية في عالم العين. إذا عرفت ذلك فنقول : قد اتضح من ضوء هذا البيان أن المفاهيم الاسمية ، حيث انها كانت إخطارية ومتقررة ومستقلة في عالم المفهوم والمعنى ، فيستحيل أن تكون الأسماء موجدة إياها في الكلام ، ضرورة عدم إمكان كونها إيجادية بهذا المعنى ؛ لما عرفت من أن معانيها تخطر في الذهن عند التكلم بها ، سواء كانت مفردة أم كانت في ضمن تركيب كلامي ؛ ولكن لما لم تكن بينها رابطة ذاتية توجب ربط بعضها ببعض ، دعت الحاجة في مقام الإفادة والاستفادة إلى روابط تربط بعضها ببعضها الآخر ، وليست تلك الروابط إلا الحروف وتوابعها ، فان شأنها إيجاد الربط بين مفهومين مستقلين ، ولذا قلنا ان معانيها إيجادية محضة نسبية كانت كحرف (من وعلى وإلى) ، ونحوها أو غير نسبية كحرف النداء والتشبيه والتمني والترجي ، فانها في كلا القسمين موضوعة لإيجاد المعنى الربطي بين المفاهيم الاسمية في التراكيب الكلامية ـ مثلا ـ كلمة (في) موضوعة لإيجاد معنى ربطي بين الظرف والمظروف. وكلمة (على) موضوعة لإيجاد معنى ربطي بين المستعلى والمستعلى عليه. وكلمة (من) لإيجاده بين المبتدأ به والمبتدأ منه.

وبعبارة جامعة : أن كل واحد منها موضوع لإيجاد معنى ربطي خاص في تركيب مخصوص ، ولا واقع له سواه ، فلو لا وضع الحروف لم توجد رابطة بين اجزاء الكلام أبداً ، بداهة أنه لا رابطة بين مفهوم زيد ومفهوم الدار في أنفسهما ، لأنهما مفهومان متباينان بالذات ، فلا بد من رابط يربط أحدهما بالآخر وليس ذلك إلا كلمة (في) ـ مثلا ـ التي هي الرابطة بينهما ، كما أن كلمة (من) رابطة بين المبتدأ به والمبتدأ منه وكلمة (على) رابطة بين المستعلى والمستعلى عليه ، وهكذا.

وعلى الجملة أن المعاني الحرفية بأجمعها معان إيجادية ، وليس لها واقع في أي وعاء من الذهن والخارج وعالم الاعتبار ما عدا التراكيب الكلامية ؛ ونظيرها صيغ العقود والإيقاعات بناء على ما ذهب إليه المشهور فيها من أنها آلات وأسباب

٦١

لإيجاد مسبباتها ، كالملكية والزوجية والرقية ونحوها ، ولكن الفرق بينها وبين المقام من ناحية أخرى وهي أنها بتوسط الاستعمال توجد مسبباتها في عالم الاعتبار فوعاؤها هو عالم الاعتبار ، واما الحروف فهي موجدة لمعانيها غير الاستقلالية في وعاء الاستعمال ، على أن معاني صيغ العقود والإيقاعات مستقلة في موطنها دون معاني الحروف ، فالفرق إذاً من جهتين :

(الأولى) : ان المعاني الإنشائية مستقلة في أنفسها دون المعاني الحرفية.

(الثانية) : ان معانيها موجودة في عالم الاعتبار ، فوعاؤها ذلك العالم دون المعاني الحرفية ، فان وعاءها عالم الاستعمال. وإلى ما ذكرناه من أن المعنى الحرفي إيجادي ، أشارت الرواية المنسوبة إلى أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام وهي : «أن الحرف ما أوجد معنى في غيره» وقال (قده) : إن هذا التعريف أجود تعريفات الباب من حيث اشتماله على أركان المعاني الحرفية كلها.

وقد اتضح مما قدمناه أن المعاني إما إخطارية مستقلة بحد ذاتها في عالم مفهوميتها ، وإما إيجادية غير مستقلة كذلك في ذلك العالم فلا ثالث لهما ، فالإخطارية تلازم الاستقلالية بالذات ، والإيجادية تلازم عدمها كذلك ، وعليه فحكمة الوضع دعت إلى وضع الأسماء للطائفة الأولى من المعاني ، ووضع الحروف والأدوات للطائفة الثانية منها ، لتكون رابطة بين الطائفة الأولى بعضها ببعض ، وبذلك يحصل الغرض من الوضع.

ومن هنا أجاد أهل العربية عند ما عبروا في مقام التفسير عن المفاهيم الحرفية بأن كلمة (في) للظرفية ، ولم يقولوا بأن في هي الظرفية ، كما هو ديدنهم في مقام التعبير عن المفاهيم الاسمية وان تسامحوا من جهة عدم التصريح بالنسبة ، بأن يقولوا كلمة (في) للنسبة.

ثم قال (قده) : يشبه المعاني الحرفية جميع ما يكون النّظر فيه آلياً ، كتعظيم شخص لأجل تعظيم آخر ، أو إهانة شخص لأجل إهانة آخر ، وهكذا.

٦٢

ويتلخص ما أفاده (قده) في أمور :

الأول : أن المعنى الحرفي والاسمي متباينان بالذات والحقيقة ، ولا اشتراك لهما في طبيعي معنى واحد.

الثاني : أن المفاهيم الاسمية مفاهيم استقلالية بحد ذاتها وأنفسها ، والمفاهيم الحرفية مفاهيم غير استقلالية كذلك ، بل هي متقومة بغيرها ذاتاً وهوية.

الثالث : أن معاني الأسماء جميعاً معان إخطارية ومعاني الحروف معان إيجادية ولا يعقل أن تكون إخطارية كمعاني الأسماء وإلا لكانت مثلها في الافتقار إلى وجود رابط يربطها بغيرها فيلزم أن يكون في مثل قولنا : (زيد في الدار) مفاهيم ثلاثة إخطارية : كمفهوم (زيد) ومفهوم (الدار) ومفهوم (الظرفية) دون أن تكون هناك رابطة بين هذه المفاهيم التي لا يرتبط بعضها ببعض ، فإذاً لا يتحقق التركيب ولا يصح الاستعمال لتوقفهما على وجود الرابط بين المفاهيم الاستقلالية ، ومن الواضح انه ليس إلا الحروف أو ما يشبهها.

الرابع : أن حال المعاني الحرفية والمفاهيم الأدوية حال الألفاظ في مرحلة الاستعمال ، فكما أن الألفاظ في حال الاستعمال ملحوظة آلة والمعاني ملحوظة استقلالا ، فكذلك المعاني الحرفية فانها في مقام الاستعمال ملحوظة آلة والمعاني الاسمية ملحوظة استقلالا.

الخامس : أن جميع ما يكون النّظر إليه آلياً يشبه المعاني الحرفية كالعناوين الكلية المأخوذة معرفات وآليات لموضوعات الأحكام أو متعلقاتها.

(أقول) : أما ما أفاده ـ قده ـ أولا وثانياً من أن المعنى الحرفي والاسمي متباينان بالذات والحقيقة ومن أن المعاني الاسمية مستقلة بحد ذاتها في عالم المفهومية والمعاني الحرفية ليست كذلك ، ففي غاية الصحة والمتانة ، بل ولا مناص من الالتزام بذلك كما سيأتي بيانه عن قريب ـ إن شاء الله تعالى ـ.

وأما ما ذكره ـ قده ـ ثالثاً من أن معاني الأسماء إخطارية ومعاني الحروف

٦٣

إيجادية ، ففيه أن المعاني الاسمية وإن كانت إخطارية تخطر في الأذهان عند التكلم بألفاظها سواء كانت في ضمن تركيب كلامي أم لم تكن ، إلا أن المعاني الحرفية والمفاهيم الأدوية ليست بإيجادية. وذلك لأن المعاني الحرفية وإن كانت غير مستقلة في أنفسها ومتعلقة بالمفاهيم الاسمية بحد ذاتها وعالم مفهوميتها بحيث لم تكن لها أي استقلال في أي وعاء فرض وجودها من ذهن أو خارج ، إلا أن هذا كله لا يلازم كونها إيجادية بالمعنى الّذي ذكره ـ قده ـ لأن ربط الحروف بين المفاهيم الاسمية في التراكيب الكلامية غير المربوطة بعضها ببعض ، إنما هو من جهة دلالتها على معانيها التي وضعت بإزائها لا من جهة إيجادها المعاني الربطية في مرحلة الاستعمال والتركيب الكلامي. مثلا كلمة (في) في قولهم : (زيد في الدار) باعتبار دلالتها على معناها الموضوع له رابطة بين جزئيّ هذا الكلام غير المربوط أحدهما بالآخر ذاتاً ، لا أنها توجد الربط في نفس ذلك التركيب ، ولا واقع له في غير التركيب الكلامي ؛ فكما أن الأسماء تحكى عن مفاهيمها الاستقلالية في حد أنفسها في عالم مفهوميتها ، كذلك الحروف تحكى عن المفاهيم غير المستقلة كذلك.

فالكاشف في مقام الإثبات عن تعلق قصد المتكلم في مقام الثبوت بإفادة المعاني الاستقلالية هو الأسماء ؛ والكاشف عن تعلق قصده كذلك بإفادة المعاني غير الاستقلالية هو الحروف وما يحذو حذوها.

ونتيجة ذلك عدم الفرق بين الاسم والحرف إلا في نقطة واحدة ، وهي أن المعنى الاسمي مستقل بحد ذاته في عالم المعنى وبذلك يكون إخطاريا ، والمعنى الحرفي غير مستقل كذلك فلا يخطر في الذهن إلا بتبع معنى استقلالي ، وهذا لا يستلزم كونه إيجادياً.

ومن هنا يظهر فساد ما أفاده ـ قده ـ من أن المعنى إما إخطاري مستقل وإما إيجادي غير مستقل ولا ثالث لهما ، فالأوّل معنى اسمي والثاني معنى حرفي.

وتوضيح الفساد هو أن المعنى الحرفي وإن لم يكن إخطاريا في نفسه لعدم

٦٤

استقلاله في نفسه إلا أنه ليس بإيجادي أيضا لما قدمناه من أن له نحو ثبوت في وعاء المفاهيم كالمعنى الاسمي.

وقد ظهر مما ذكرناه أمران :

الأول : بطلان القول بأن المعاني الحرفية والمفاهيم الأدوية إيجادية محضة وليس لها ثبوت في أي وعاء ، إلا الثبوت في ظرف الاستعمال ؛ وان المعاني الحرفية تساوى المعاني الاسمية في أنها متقررة في عالم المفهومية والتعقل.

الثاني : ان عدم استقلالية المعاني الحرفية في حد أنفسها وتقومها بالمفاهيم الاسمية المستقلة لا يستلزم كونها إيجادية ، لإمكان أن يكون المعنى غير مستقل في نفسه ، ومع ذلك لا يكون إيجادياً.

وأما ما ذكره ـ قده ـ رابعاً : من أن المعاني الحرفية مغفول عنها في حال الاستعمال ، دون المعاني الاسمية ، فلا أصل له أيضا ، وذلك لأنهما من واد واحد من تلك الجهة ، فكما أن اللحاظ الاستقلالي يتعلق بإفادة المعاني الاسمية عند الحاجة إلى إبرازها والتعبير عنها ، فكذلك يتعلق بالمفاهيم الحرفية من دون فرق بينهما في ذلك ، بل كثيراً ما يتعلق اللحاظ الاستقلالي بالمعاني الحرفية ، وانما يؤتى بغيرها في الكلام مقدمة لإفادة تلك الخصوصية والتضييق ، فيقال في جواب السائل عن كيفية مجيء زيد مع العلم بأصله : إنه جاء في يوم كذا ؛ ومعه كيف يمكن القول بأن المعاني الحرفية ملحوظة آلة في حال الاستعمال ، ومغفول عنها في تلك الحال؟

فقد تحصل مما بيناه : أن الفرق بين المعنى الحرفي والاسمي في نقطة واحدة ، هي استقلال المعنى بالذات في الاسم وعدم استقلاله في الحرف ، وأما من بقية الجهات فلا فرق بينهما أصلا.

وبذلك يتضح فساد ما أفاده ـ قده ـ من أن الفرق بينهما في أركان أربعة : وتوضيح الفساد أن الأركان التي جعلها ملاك الفرق في المقام كلها فاسدة.

أما الركن الأول : فلأنه يبتنى على المقابلة بين إيجادية المعاني وإخطاريتها ،

٦٥

فنفي الأولى يستلزم إثبات الثانية. ولكنك عرفت أنه لا مقابلة بينهما أصلا ، ومعه لا يكون نفي الإيجادية عن المعاني الحرفية مستلزماً لإخطاريتها ، فان ملاك إخطارية المعنى الاستقلال الذاتي ، فإذا كان كذلك يخطر في الذهن عند التعبير عنه سواء كان في ضمن تركيب كلامي أم لم يكن ، وملاك عدم الإخطارية عدم الاستقلال كذلك ، ولذا لا يخطر في الذهن عند التكلم به منفرداً ، وهذا غير كونه إيجادياً وعليه فلا مقابلة بينهما.

وأما الركن الثاني وهو أنه لا واقع للمعاني الحرفية بما هي معان حرفية في ما عدا التراكيب الكلامية ، فلما بيناه من أنها كالمعاني الاسمية ثابتة ومتقررة في عالم المفهومية ، سواء استعملت الحروف والأدوات فيها أم لم تستعمل ، غاية الأمر لا استقلال لها بحسب الذات.

وأما الركن الثالث وهو الفرق بين الإيجاد في الإنشاء والإيجاد في الحروف فيظهر فساده بما ذكرناه من أن معانيها ليست إيجادية ليكون الفرق بينهما مبتنياً على ما ذكره ـ قده ـ من أنه لا وعاء لها غير الاستعمال والتركيب الكلامي ، وهذا بخلاف الإيجاد في الإنشاء فان له وعاء مناسباً وهو عالم الاعتبار.

وأما الركن الرابع وهو أن حال المعاني الحرفية حال الألفاظ حين استعمالاتها فيتضح بطلانه أيضا بما تقدم.

ثم إن من الغريب جداً أنه ـ قده ـ جعل هذا الركن هو الركن الوطيد في المقام ، وذكر أن بانهدامه تنهدم الأركان كلها ، فان المعنى الحرفي لو كان ملتفتاً إليه لكان إخطاريا وكان له واقع غير التركيب الكلامي. وذلك لأنه مضافاً إلى ما بيناه من أن المعنى الحرفي كالمعنى الاسمي مقصود في مقام التفهيم أن الملاك في إخطارية المعنى استقلاليته بالذات كما عرفت لا الالتفات إليه واللحاظ الاستقلالي ، ضرورة أن الالتفات إلى المعنى لا يجعله إخطاريا ، إذا لم يكن مستقلا بحد ذاته ، بحيث كلما يطلق يخطر في الذهن ولو كان وحده ولم يكن في ضمن تركيب كلامي ، ومن هنا قلنا :

٦٦

إن المعنى الحرفي مع كونه ملتفتاً إليه ، غير إخطاري لعدم استقلاله في عالم مفهوميته.

وأما ما ذكره ـ قده ـ خامساً من أن جميع ما يكون النّظر إليه آلياً يشبه المعاني الحرفية ، فيرد عليه :

أولا ما ذكرناه الآن من أن النّظر إلى المعنى الحرفي ، كالنظر إلى المعنى الاسمي استقلالي.

وثانياً : لو تنزلنا عن ذلك ، وسلمنا أن النّظر إليه آلي ، إلا أنه لا يكون ملاكا لحرفية المعنى ، كما أن اللحاظ الاستقلالي لا يكون ملاك الاسمية بل ملاك المعنى الحرفي التبعية الذاتيّة ، وأنها تعليقية محضة وملاك الثانية الاستقلالية الذاتيّة وأنها بحد ذاتها غير متقومة بالغير.

وبتعبير آخر : أنه على المبنى الصحيح كما بنى ـ قده ـ عليه من أن المعنى الحرفي والاسمي ، متباينان بالذات والحقيقة لا يدور المعنى الحرفي والاسمي بما هما كذلك مدار اللحاظ الآلي والاستقلالي ، بداهة أن المعنى حرفي وإن لوحظ استقلالا واسمي وإن لوحظ آلة ، لعدم كونهما متقومين بهما ليختلف باختلافهما.

(القول الثالث) : ما اختاره بعض مشايخنا المحققين ـ قدس‌سرهم ـ من أن المعاني الحرفية والمفاهيم الأدوية عبارة عن النسب والروابط الخارجية التي ليس لها استقلال بالذات بل هي عين الربط لا ذات له الربط.

وأفاد في وجه ذلك ما ملخصه : أن المعاني الحرفية ، تباين الاسمية ذاتاً بدون أن تشتركا في طبيعي معنى واحد ، فان الفرق بين الاسم والحرف لو كان بمجرد اللحاظ الآلي والاستقلالي ، وكانا متحدين في المعنى ، لكان قابلا لأن يوجد في الخارج على نحوين ، كما يوجد في الذهن كذلك ، مع أن المعاني الحرفية كأنحاء النسب والروابط لا توجد في الخارج إلا على نحو واحد ، وهو الوجود لا في نفسه.

وبيان ذلك أن الفلاسفة قد قسموا الوجود على أقسام أربعة :

(القسم الأول) : وجود الواجب ـ تعالى شأنه ـ. فان وجوده في نفسه

٦٧

ولنفسه وبنفسه ـ يعنى أنه موجود قائم بذاته وليس بمعلول لغيره ـ فالكائنات التي يتشكل منها العالم بشتى ألوانها وأشكالها ، معلولة لوجوده ـ تعالى وتقدس ـ ، فانه سبب أعمق وإليه تنتهي سلسلة العلل والأسباب بشتى أشكالها وأنحائها.

(القسم الثاني) : وجود الجوهر ، وهو وجود في نفسه ولنفسه ولكن بغيره ـ يعنى أنه قائم بذاته لكنه معلول لغيره ـ ولذا يقال : الجوهر ما يوجد في نفسه لنفسه.

(القسم الثالث) : وجود العرض ، وهو وجود في نفسه ولغيره ـ يعنى أنه غير قائم بذاته بل متقوم بموضوع محقق في الخارج وصفة له ـ ، فان وجوده في نفسه عين وجوده لموضوعه ، فلا يعقل تحقق عرض ما بدون موضوع موجود في العين ؛ ولذا يقال : العرض ما يوجد في نفسه لغيره ، ويسمى ذلك الوجود بالوجود الرابطي في الاصطلاح.

(القسم الرابع) : الوجود الرابط في مقابل الوجود الرابطي ، وهو وجود لا في نفسه ، فان حقيقة الربط والنسبة ، لا توجد في الخارج إلا بتبع وجود المنتسبين من دون نفسية واستقلال لها أصلا ، فهي بذاتها متقومة بالطرفين لا في وجودها ، وهذا بخلاف العرض فان ذاته غير متقومة بموضوعه ؛ بل لزوم القيام به ذاتي وجوده.

وقد استدلوا على ذلك ـ أي على الوجود الرابط في مقابل الوجود الرابطي ـ : بأن كثيراً ما كنا نتيقن بوجود الجوهر والعرض ولكن نشك في ثبوت العرض له ، ومن الواضح جداً أنه لا يعقل أن يكون المتيقن بعينه هو المشكوك فيه ، بداهة استحالة تعلق صفة اليقين والشك بشيء في آن واحد ، لتضادهما غاية المضادة ، وبذلك نستدل على أن للربط والنسبة وجوداً في مقابل وجود الجوهر والعرض ، وهو مشكوك فيه دون وجودهما.

أما أن وجوده وجود لا في نفسه ، فلأن النسبة والربط لو وجدت في الخارج بوجود نفسي ، لزمه أن لا يكون مفاد القضية الحملية ثبوت شيء لشيء ، بل ثبوت

٦٨

أشياء ثلاثة ، فيحتاج حينئذ إلى الرابطة بين هذه الموجودات الثلاثة ، فإذا كانت موجوداً في نفسه احتجنا إلى رابطة ، وهكذا إلى ما لا يتناهى.

ويترتب على ذلك : أن الأسماء موضوعة للماهيات القابلة للوجود المحمولي (الوجود في نفسه) بجواهرها وأعراضها على نحوين ، كما توجد في الذهن كذلك ، والتي تقع في جواب (ما هو) إذا سئل عن حقيقتها.

والحروف والأدوات موضوعة للنسب والروابط الموجودات لا في أنفسها المتقومة بالغير بحقيقة ذاتها لا بوجوداتها فقط ، ولا تقع في جواب ما هو فان الواقع في جواب ما هو ، ما كان له ماهية تامة ، ووجود الرابط سنخ وجود لا ماهية له ، ولذا لا يدخل تحت شيء من المقولات ، بل كان وجوده أضعف جميع مراتب الوجودات.

ومن هنا يظهر أن تنظير المعنى الحرفي والاسمي بالجوهر والعرض في غير محله ، إذ العرض موجود في نفسه لغيره.

ثم إن الحروف والأدوات ، لم توضع لمفهوم النسبة والربط فانه من المفاهيم الاسمية الاستقلالية في عالم مفهوميتها ، وانما الموضوع لها الحروف ، واقع النسبة والربط ـ أي ما هو بالحمل الشائع نسبة وربط ـ الّذي نسبة ذلك المفهوم إليه نسبة العنوان إلى المعنون لا الطبيعي وفرده ، فانه متحد معه ذهناً وخارجاً دون العنوان فانه لا يتعدى عن مرحلة الذهن إلى الخارج ، ومغاير للمعنون ذاتاً ووجوداً نظير مفهوم العدم ، وشريك الباري عزوجل واجتماع النقيضين ، بل مفهوم الوجود على القول بأصالة الوجود ، فان نسبة هذه المفاهيم إلى واقعها نسبة العنوان إلى المعنون لا الطبيعي وافراده ، لأن تلك المفاهيم لا تتعدى عن مرحلة الذهن إلى الخارج ؛ ولأجل ذلك لا يصح حملها على واقعها بالحمل الشائع الصناعي ، فمفهوم النسبة والربط نسبة وربط بالحمل الأولى الذاتي ولا يكون كذلك بالحمل الشائع الصناعي ، فان ما كان بهذا الحمل نسبة وربط معنون هذا العنوان وواقعه.

ومن ثمة كان المتبادر من إطلاق لفظ الربط والنسبة واقعه لا مفهومه فان

٦٩

إرادته تحتاج إلى عناية زائدة ، كما هو الحال في قولهم : (شريك الباري ممتنع) ، و (اجتماع النقيضين مستحيل) ، و (المعدوم المطلق لا يخبر عنه) ، فان المحكوم به بهذه الأحكام معنونات هذه الأمور لا مفاهيمها فانها غير محكومة بها ، كيف وأنها موجودة وغير معدومة ولا ممتنعة.

تحصل مما ذكرناه : أن الحروف موضوعة لأنحاء النسب والروابط مطلقاً سواء كانت بمفاد (هل المركبة) ، أم بمفاد (هل البسيطة) ، أم كانت من النسب الخاصة المقومة للاعراض النسبية ، ككون الشيء في الزمان أو المكان ، أو نحو ذلك.

واما الموضوع بإزاء مفاهيمها فهي ألفاظ النسبة والربط ونحوهما من الأسماء ، المحكية عنها بتلك الألفاظ ، لا بالحروف والأدوات. هذا ملخص ما أفاده شيخنا المحقق ـ قدس‌سره ـ.

أقول : يقع الكلام هنا في مقامين :

المقام الأول : في ان للنسبة والربط وجود في الخارج في مقابل وجودي الجوهر والعرض ، أم لا؟

المقام الثاني : على تقدير تسليم ان لها وجوداً ، فهل الحروف موضوعة لها؟

اما الكلام في المقام الأول : فالصحيح هو انه لا وجود لها في الخارج في قبال وجود الجوهر أو العرض ، وان أصر على وجودها جماعة من الفلاسفة.

والوجه في ذلك هو انه لا دليل على ذلك سوى البرهان المذكور وهو غير تام ، وذلك لأن صفتي اليقين والشك وان كانتا صفتين متضادتين فلا يكاد يمكن أن تتعلقا بشيء في آن واحد من جهة واحدة ، إلا ان تحققهما في الذهن لا يكشف عن تعدد متعلقهما في الخارج ، فان الطبيعي عين فرده ومتحد معه خارجاً ، ومع ذلك يمكن أن يكون أحدهما متعلقا لصفة اليقين والآخر متعلقاً لصفة الشك ، كما إذا علم إجمالا بوجود إنسان في الدار ولكن شك في انه زيد أو عمرو فلا يكشف تضادهما عن تعدد متعلقيهما بحسب الوجود الخارجي ، فانهما موجودان بوجود

٧٠

واحد حقيقة ، وذلك الوجود الواحد من جهة انتسابه إلى الطبيعي متعلق لليقين ، ومن جهة انتسابه إلى الفرد متعلق للشك. أو إذا أثبتنا ان للعالم مبدأ ، ولكن شككنا في انه واجب أو ممكن على القول بعدم استحالة التسلسل فرضاً ؛ أو أثبتنا أنه واجب ولكن شككنا في أنه مريد أو لا؟ إلى غير ذلك مع ان صفاته تعالى عين ذاته خارجاً وعيناً كما أن وجوبه كذلك.

وما نحن فيه من هذا القبيل فان اليقين متعلق بثبوت طبيعي العرض للجوهر ، والشك متعلق بثبوت حصة خاصة منه له ، فليس هنا وجودان أحدهما متعلق لليقين والآخر للشك ، بل وجود واحد حقيقة مشكوك فيه من جهة ومتيقن من جهة أخرى.

تلخص : ان تضاد صفتي اليقين والشك لا يستدعى إلا تعدد متعلقهما في أفق النّفس ، وأما في الخارج عنه فقد يكون متعدداً وقد يكون متحداً.

وان شئت فقل : ان الممكن في الخارج إما جوهر أو عرض ، وكل منهما زوج تركيبي ـ يعنى مركب من ماهية ووجود ـ ولا ثالث لهما ، والمفروض أن ذلك الوجود ـ أي الوجود الرابط ـ سنخ وجود لا ماهية له ، فلا يكون من أقسام الجوهر ولا من أقسام العرض ، والمفروض انه ليس في الخارج موجود آخر لا يكون من أقسام الجوهر ولا العرض.

واما الكلام في المقام الثاني على تقدير تسليم ان للنسبة والرابط وجوداً في الخارج في مقابل الجوهر والعرض ، فلا نسلم ان الحروف والأدوات موضوعة لها ، لما بيناه سابقاً من ان الألفاظ موضوعة لذوات المفاهيم والماهيات لا للموجودات الخارجية ولا الذهنية ، فان الأولى غير قابلة للإحضار في الذهن وإلا فلا تكون بخارجية ، والثانية غير قابلة للإحضار ثانياً ، فان الموجود الذهني لا يقبل وجوداً ذهنياً آخر ، والمفروض ان الغرض من الوضع التفهيم والتفهم وهو لا يجتمع مع الوضع للموجود الذهني أو الخارجي ، بل لا بد أن يكون الوضع لذات المعنى

٧١

القابل لنحوين من الوجود.

وبتعبير آخر : ان اللفظ موضوع بإزاء المعنى اللابشرطي سواء كان موجوداً في الخارج أم معدوماً ، ممكناً كان أو ممتنعاً. وقد يعبر عنه بالصور المرتسمة العلمية أيضا ، وعلى ذلك فلا يمكن أن تكون الحروف موضوعة لأنحاء النسب والروابط ، لأنها كما عرفت سنخ وجود لا ماهية لها فلا تكون قابلة للإحضار في الذهن ، وأما مفاهيم نفس النسب والروابط فهي من المفاهيم الاسمية وليست مما وضعت لها الحروف والأدوات.

هذا ولو تنزلنا عن ذلك وسلمنا إمكان وضع اللفظ للموجود بما هو ، ولكنا نقطع بان الحروف لم توضع لأنحاء النسب والروابط لصحة استعمالها بلا عناية إلى موارد يستحيل فيها تحقق نسبة ما حتى بمفاد (هل البسيطة) فضلا عن المركبة ، فلا فرق بين قولنا : (الوجود للإنسان ممكن) و (لله تعالى ضروري) و (لشريك الباري مستحيل) فان كلمة اللام في جميع ذلك تستعمل في معنى واحد وهو تخصص مدخولها بخصوصية ما في عالم المعنى على نسق واحد بلا عناية في شيء منها وبلا لحاظ أية نسبة في الخارج حتى بمفاد (كان التامة) فان تحقق النسبة بمفاد (كان التامة) انما هو بين ماهية ووجودها كقولك : «زيد موجود». وأما في الواجب تعالى وصفاته وفي الانتزاعيات والاعتبارات فلا يعقل فيها تحقق أية نسبة أصلا.

فالمتحصل مما ذكرناه : هو ان صحة استعمال الحروف في موارد يستحيل فيها ثبوت أية نسبة خارجية كما في صفات الواجب تعالى وغيرها من دون لحاظ أية علاقة ، تكشف كشفاً يقينياً عن ان الحروف لم توضع لأنحاء النسب والروابط في الخارج.

ومن هنا يظهر ان حكمة الوضع لا تدعو إلى وضع الحروف لتلك النسب ، وانما تدعو إلى وضعها لما يصح استعمالها فيه في جميع الموارد. فهذا القول لو تم فانما يتم في خصوص الجواهر والاعراض ، وما يمكن فيه تحقق النسبة بمفاد (هل

٧٢

البسيطة) واما في غير تلك الموارد فلا.

(القول الرابع) : ما عن بعض الأعاظم ـ قده ـ من ان الحروف والأدوات وضعت للاعراض النسبية الإضافية كمقولة الأين والإضافة ونحوهما. وملخص ما أفاده ـ قده ـ هو ان الموجود في الخارج على أنحاء ثلاثة :

(النحو الأول) : ما يكون وجوده وجوداً لنفسه كالجوهر بأصنافه.

(النحو الثاني) : ما يكون وجوده في نفسه وجوداً لغيره كالإعراض التسع التي قد يعبر عن وجودها بالوجود الرابطي ، وهي على طائفتين :

إحداهما ما يحتاج في تحققه إلى موضوع واحد في الخارج ويستغنى به ك (الكم) و (الكيف) ونحوهما.

والثانية : ما يحتاج في تحققه إلى موضوعين ليتقوم بهما كالعرض الأيني والإضافي وغير ذلك.

(النحو الثالث) : ما يكون وجوده لا في نفسه كأنحاء النسب والروابط.

وعلى ذلك فنقول : ان الحاجة دعت العقلاء إلى وضع الألفاظ التي تدور عليها الإفادة والاستفادة ؛ وبعد أن فحصنا وجدنا انهم وضعوا الأسماء للجواهر وعدة من الاعراض ، ووضعوا الهيئات من المركبات والمشتقات للنسب والروابط ووضعوا الحروف للاعراض النسبية الإضافية. فكلمة (في) ـ مثلا ـ في قولنا : «زيد في الدار» تدل على العرض الأيني العارض على موضوعه كزيد ، والهيئة تدل على ربط هذا العرض بموضوعه وهكذا.

وان شئت قلت : ان المعاني منحصرة بالجواهر والاعراض وربطها بمحلها ولا رابع لها ؛ ومن المعلوم ان الحروف لم توضع للأولى ولا لبعض الأقسام الثانية لأن الموضوع لها الأسماء ، ولا للثالثة لأن الموضوع لها الهيئات ، فلا محالة تكون موضوعة للاعراض النسبية الإضافية. فكلمة (في) وضعت للأين الظرفي ، وكلمة (من) للأين الابتدائي وهكذا. ولا فرق في ذلك بين أقسام الحروف

٧٣

مطلقاً من الداخل على المركبات الناقصة والداخل على المركبات التامة كحروف التمني والترجي والتشبيه ونحوها.

والجواب عنه يظهر بما ذكرناه من الجواب عن القول الثالث. وتوضيح الظهور :

أولا أنا نقطع بعدم كون الحروف موضوعة للاعراض النسبية الإضافية ، لصحة استعمالها فيما يستحيل فيه تحقق عرض نسبي كما في صفات الواجب تعالى والاعتبارات والانتزاعيات ، فان العرض إنما هو صفة للموجود في الخارج فلا يعقل تحققه بلا موضوع محقق خارجاً ، وعليه فيستحيل وجوده في تلك الموارد.

وكيف كان فلا شبهة في فساد هذا القول فان صحة استعمال الحروف في الواجب والممكن والممتنع على نسق واحد بلا لحاظ عناية في شيء منها ، تكشف كشفا قطعياً عن ان الموضوع لها المعنى الجامع الموجود في جميع هذه الموارد على نحو واحد لا خصوص الاعراض النسبية الإضافية ...

وثانياً : ان ذلك أفسد من القول السابق ، بل لا يترقب صدوره من مثله ـ قده ـ والوجه فيه هو ما بيناه من أن للاعراض التسع جميعاً مفاهيم مستقلة بحد ذاتها وأنفسها في عالم مفهوميتها من دون فرق بين الاعراض النسبية وغيرها غاية الأمر ان الاعراض النسبية تتقوم في وجودها بأمرين ، وغير النسبية لا تتقوم إلا بموضوعها. وكيف فان الاعراض جميعاً موجودات في أنفسها وان كان وجودها لموضوعاتها.

وقد تلخص من ذلك : ان الحروف والأدوات لم توضع للاعراض النسبية الإضافية ، بل الموضوع لها هي الأسماء ككلمة (الظرفية) و (الابتداء) و (الاستعلاء) ، ونحوها. هذا كله بالإضافة إلى معاني الحروف.

واما ما ذكره ـ قده ـ بالإضافة إلى معاني الهيئات وانها موضوعة لأنحاء النسب والروابط ، فيرد عليه عين ما أوردناه على القول المتقدم من عدم الدليل على وجود لنسبة في الخارج في مقابل وجود الجوهر أو العرض أولا ، وعدم وضع اللفظ

٧٤

لها ثانياً ، وعدم ثبوتها في جميع موارد استعمالاتها ثالثاً ، على تفصيل تقدم.

والنتيجة لحد الآن ظهور بطلان جميع الأقوال والآراء التي سبقت ، وعدم إمكان المساعدة على واحد منها.

وعلى ذلك فيجب علينا ان نختار رأياً آخر في مقابل هذه الآراء : التحقيق ان المعاني الحرفية والمفاهيم الأدوية ، وان كانت مرتكزة في أذهان كل أحد ومعلومة لديه إجمالا ، ولذا يستعملها فيها عند الحاجة إلى تفهيمها ، إلا ان الداعي إلى البحث عنها في المقام حصول العلم التفصيلي بها.

وبيان ذلك : ان الحروف والأدوات تباين الأسماء ذاتاً وحقيقة ولا اشتراك لهما في طبيعي معنى واحد. وقد تبين حكم هذه الناحية من مطاوي كلماتنا فيها وانه لا شبهة في تباين المعنى الاسمي والحرفي بالذات فلا حاجة إلى الإعادة والبيان.

وتتكلم فيها فعلا من ناحية أخرى بعد الفراغ عن تلك الناحية ، وهي ان المعاني الحرفية التي تباين الاسمية بتمام الذات ما هي؟

فنقول : ان الحروف على قسمين : أحدهما ما يدخل على المركبات الناقصة والمعاني الإفرادية (كمن) و (إلى) و (على) ونحوها.

والثاني ما يدخل على المركبات التامة ومفاد الجملة كحروف النداء والتشبيه والتمني والترجي وغير ذلك.

اما القسم الأول فهو موضوع لتضييق المفاهيم الاسمية في عالم المفهوم والمعنى وتقييدها بقيود خارجة عن حقائقها ، ومع هذا لا نظر لها إلى النسب والروابط الخارجية ولا إلى الاعراض النسبية الإضافية ، فان التخصيص والتضييق انما هو في نفس المعنى سواء كان موجوداً في الخارج أم لم يكن.

توضيح ذلك ان المفاهيم الاسمية بكليتها وجزئيتها وعمومها وخصوصها قابلة للتقسيمات إلى غير النهاية باعتبار الحصص أو الحالات التي تحتها ، ولها إطلاق وسعة بالقياس إلى هذه الحصص أو الحالات ، سواء كان الإطلاق بالقياس إلى

٧٥

الحصص المنوعة كإطلاق (الحيوان) مثلا بالإضافة إلى أنواعه التي تحته ، أو بالقياس إلى الحصص المصنفة أو المشخصة كإطلاق (الإنسان) بالنسبة إلى أصنافه أو أفراده ، أو بالقياس إلى حالات شخص واحد من كمه وكيفه وسائر أعراضه الطارئة وصفاته المتبادلة على مر الزمن.

ومن البديهي ان غرض المتكلم في مقام التفهيم والإفادة كما يتعلق بتفهيم المعنى على إطلاقه وسعته كذلك قد يتعلق بتفهيم حصة خاصة منه فيحتاج ـ حينئذ ـ إلى مبرز لها في الخارج. وبما انه لا يكاد يمكن أن يكون لكل واحد من الحصص أو الحالات مبرزاً مخصوصاً لعدم تناهي الحصص والحالات بل عدم تناهي حصص أو حالات معنى واحد فضلا عن المعاني الكثيرة ، فلا محالة يحتاج الواضع الحكيم إلى وضع ما يدل عليها ويوجب افادتها عند قصد المتكلم تفهيمها ، وليس ذلك إلا الحروف والأدوات وما يشبهها من الهيئات الدالة على النسب الناقصة : كهيئات المشتقات وهيئة الإضافة والتوصيف ، فكل متكلم متعهد في نفسه بأنه متى ما قصد تفهيم حصة خاصة من معنى ، ان يجعل مبرزه حرفاً مخصوصاً أو ما يشبهه على نحو (القضية الحقيقية) لا بمعنى انه جعل بإزاء كل حصة أو حالة حرفاً مخصوصاً أو ما يحذو حذوه بنحو (الوضع الخاصّ والموضوع له الخاصّ) لما عرفت من انه غير ممكن من جهة عدم تناهي الحصص. فكلمة (في) في جملة : «الصلاة في المسجد حكمها كذا» تدل على ان المتكلم أراد تفهيم حصة خاصة من الصلاة ، وفي مقام بيان حكم هذه الحصة لا الطبيعة السارية إلى كل فرد. واما كلمتي الصلاة والمسجد فهما مستعملتان في معناهما المطلق واللابشرط بدون ان تدلا على التضييق والتخصيص أصلا

ومن هنا كان تعريف الحرف (بما دل على معنى قائم بالغير) من أجود التعريفات وأحسنها ، وموافق لما هو الواقع ونفس الأمر ومطابق لما ارتكز في الأذهان من ان المعنى الحرفي خصوصية قائمة بالغير وحالة له.

وان شئت فعبر : ان الأسماء بجواهرها وأعراضها وغيرهما تدل على المعاني

٧٦

المطلقة اللابشرطية ، ولا يدل شيء منها على تضييقات هذه المعاني وتخصيصاتها بخصوصيات ؛ فلا محالة انحصر ان يكون الدال عليها هو الحروف أو ما يقوم مقامها. ـ مثلا ـ كلمة الدور موضوعة لمعنى جامع وسيع ودالة عليه ، ولكن قد يتعلق الغرض بتفهيم حصة خاصة منه وهي خصوص الحصة المستحيلة ـ مثلا ـ فإذا ما الّذي يوجب افادتها؟ وليس ذلك إلا الحرف أو ما يشبهه ، لعدم دال آخر ـ على الفرض ـ ، ونفس الكلمة لا تدل إلا على الطبيعي الجامع وهكذا.

وبكلمة واضحة ان وضع الحروف لذلك المعنى من نتائج وثمرات مسلكنا في مسألة الوضع ، فان القول بالتعهد لا محالة يستلزم وضعها لذلك ؛ حيث عرفت ان الغرض قد يتعلق بتفهيم الطبيعي وقد يتعلق بتفهيم الحصة ، والمفروض انه لا يكون عليها دال ما عدا الحروف وتوابعها ، فلا محالة يتعهد الواضع ذكرها أو ذكر توابعها عند قصد تفهيم حصة خاصة ، فلو قصد تفهيم حصة من طبيعي (الماء) ـ مثلا ـ كماء له مادة أو ماء البئر ، يبرزه بقوله : «ما كان له مادة لا ينفعل بالملاقاة» أو «ماء البئر معتصم» فكلمة اللام في الأول وهيئة الإضافة في الثاني تدلان على ان المراد من الماء ليس هو الطبيعة السارية إلى كل فرد ، بل خصوص حصة منه.

ولا فرق في ذلك بين ان تكون الحصص موجودة في الخارج أو معدومة ، ممكنة كانت أو ممتنعة. ومن هنا يصح استعمالها في صفات الواجب تعالى والانتزاعيات كالإمكان والامتناع ونحوهما ، والاعتباريات كالاحكام الشرعية والعرفية بلا لحاظ عناية في البين. مع ان تحقق النسبة في تلك الموارد حتى بمفاد (هل البسيطة) مستحيل. وجه الصحة هو أن الحروف وضعت لإفادة تضييق المعنى في عالم المفهومية مع قطع النّظر عن كونه موجوداً في الخارج أو معدوماً ، ممكناً كان أو ممتنعاً فانها على جميع التقادير تدل على تضييقه وتخصيصه بخصوصية ما على نسق واحد ؛ فلا فرق بين قولنا : «ثبوت القيام لزيد ممكن» و «ثبوت القدرة لله تعالى

٧٧

ضروري» و «ثبوت الوجود لشريك الباري ممتنع» فكلمة (اللام) في جميع ذلك استعملت في معنى واحد وهو تخصص مدخولها بخصوصية ما في عالم المعنى بلا نظر لها إلى كونه محكوماً بالإمكان في الخارج أو بالضرورة أو بالامتناع ، فان كل ذلك أجنبي عن مدلولها ؛ ومن هنا يكون استعمالها في الواجب والممكن والممتنع على نسق واحد بلا لحاظ عناية في شيء منها.

نعم انها تحدث الضيق في مقام الإثبات والدلالة ، وإلا لبقيت المفاهيم الاسمية على إطلاقها وسعتها ، وهذا غير كون معانيها إيجادية ، وكم فرق بين الإيجادية بهذا المعنى والإيجادية بذلك المعنى وأما بحسب مقام الثبوت فهي تكشف عن تعلق قصد المتكلم بإفادة ضيق المعنى الاسمي ، فما يستعمل فيه الحرف ليس إلا الضيق في عالم المفهومية من دون لحاظ نسبة خارجية حتى في الموارد الممكنة كما في الجواهر والاعراض فضلا عما يستحيل فيه تحقق نسبة ما كما في صفات الواجب تعالى وما شاكلها.

وعلى الجملة حيث ان الأغراض تختلف باختلاف الأشخاص والأزمان والحالات فالمستعملين بمقتضى تعهداتهم النفسانيّة يتعهدون ان يتكلموا بالحروف أو ما يشبهها عند تعلق أغراضهم بتفهيم حصص المعاني وتضييقاتها ؛ فلو ان أحداً تعلق غرضه بتفهيم الصلاة الواقعة بين زوال الشمس وغروبها يبرزه بقوله : «الصلاة فيما بين الحدين حكمها كذا» وهكذا.

وملخص ما ذكرناه في المقام هو أن المفاهيم الاسمية وإن كان بعضها أوسع من بعضها الآخر مثلا مفهوم (الممكن) أوسع من مفهوم (الوجود) وهو أوسع من مفهوم الجوهر ، وهكذا إلى أن ينتهى إلى مفهوم لا يكون تحته مفهوم آخر ، ولكل واحد منها لفظ مخصوص يدل عليه عند الحاجة إلى تفهيمه إلا أن حصصها أو حالاتها غير المتناهية ، لم يوضع بإزاء كل واحدة منها لفظ خاص كي يدل عليها عند الحاجة وذلك لعدم تناهيها ، فإذاً ما هو الّذي يوجب إفادتها في الخارج؟

٧٨

وليس ذلك إلا الحروف أو ما يشبهها بالتقريب الّذي قدمناه من أن الواضع تعهد بذكر حرف خاص عند قصد تفهيم حصة خاصة من المعنى ، ففي كل مورد قصد ذلك جعل مبرزه حرفاً من الحروف على اختلاف الموارد والمقامات.

يتلخص نتيجة ما ذكرناه في أمور :

الأمر الأول : ان المعاني الحرفية تباين الاسمية ذاتاً ولا اشتراك لهما في طبيعي معنى واحد ، فانها متدليات بها بحد ذاتها وهي مستقلات في أنفسها ولا جامع بين الأمرين أصلا.

الأمر الثاني : ان معانيها ليست بإيجادية ، ولا بنسبة خارجية ، ولا بإعراض نسبية إضافية ، بل هي عبارة عن تضييقات نفس المعاني الاسمية في عالم المفهومية وتقييداتها بقيود خارجة عن حقائقها بلا نظر إلى أنها موجودة في الخارج أو معدومة ممكنة أو ممتنعة. ومن هنا قلنا : إن استعمالها في الواجب والممكن والممتنع على نسق واحد.

والّذي دعاني إلى اختيار ذلك القول أسباب أربعة :

(السبب الأول) : بطلان سائر الأقوال والآراء.

(السبب الثاني) : ان المعنى الّذي ذكرناه مشترك فيه بين جميع موارد استعمال الحروف من الواجب والممكن والممتنع على نسق واحد ، وليس في المعاني الأخر ما يكون كذلك كما عرفت.

(السبب الثالث) : ان ما سلكناه في باب الوضع من أن حقيقة الوضع هي : (التعهد والتباني) ينتج الالتزام بذلك القول لا محالة ، ضرورة ان المتكلم إذا قصد تفهيم حصة خاصة فبأي شيء يبرزه إذ ليس المبرز له إلا الحرف أو ما يقوم مقامه.

(السبب الرابع) : موافقة ذلك للوجدان ومطابقته لما ارتكز في الأذهان ، فان الناس يستعملونها لإفادة حصص المعاني وتضييقاتها في عالم المعنى ، غافلين عن وجود تلك المعاني في الخارج أو عدم وجودها وعن إمكان تحقق النسبة بينها أو عدم

٧٩

إمكانها. ودعوى إعمال العناية في جميع ذلك يكذبها صريح الوجدان والبداهة كما لا يخفى ؛ فهذا يكشف قطعياً عن أن الموضوع له الحرف ذلك المعنى لا غيره.

الأمر الثالث : ان معانيها جميعاً حكائية ومع ذلك لا تكون إخطارية ، لأن ملاك إخطارية المعنى الاستقلالية الذاتيّة في عالم المفهوم والمعنى وهي غير واجدة لذلك الملاك ، وملاك حكائية المعنى نحو من الثبوت في عالم المعنى هي واجدة له فلا ملازمة بين عدم كونها إخطارية وكونها إيجادية كما عن شيخنا الأستاذ ـ قده ـ.

الأمر الرابع : في نقاط الامتياز بين رأينا وسائر الآراء :

يمتاز رأينا عن القول بأن معاني الحروف إيجادية في نقطة واحدة وهي أن المعنى الحرفي على ذلك الرّأي ليس له واقع في أي وعاء ما عدا التراكيب الكلامية ، وأما على رأينا فله واقع وهو عالم المفهوم وثابت فيه كالمعنى الاسمي ، غاية الأمر بثبوت تعلقي لا استقلالي.

ويمتاز عن القول بأن الحروف وضعت بإزاء النسب والروابط في نقطة واحدة أيضا وهي أن المعنى الحرفي على ذلك الرّأي سنخ وجود خارجي وهو وجود لا في نفسه ولذا يختص بالجواهر والاعراض ولا يعم الواجب والممتنع ؛ وأما على رأينا فالمعنى الحرفي سنخ مفهوم ثابت في عالم المفهومية ويعم الواجب والممكن والممتنع على نسق واحد.

ويمتاز عن القول بأن الموضوع لها الحروف هي الاعراض النسبية في نقطتين :

(النقطة الأولى) : ان المعنى الحرفي على ذلك الرّأي مستقل بالذات ، وأما على رأينا فهو غير مستقل بالذات.

(النقطة الثانية) : ان المعنى الحرفي على ذلك الرّأي سنخ معنى يخص الجواهر والاعراض ولا يعم غيرهما واما على رأينا فهو سنخ معنى يعم الجميع. هذا تمام الكلام في القسم الأول من الحروف.

واما القسم الثاني من الحروف وهو ما يدخل على المركبات التامة أو ما في حكمها ـ كمدخول حرف (النداء) فانه وإن كان مفرداً إلا أنه يفيد فائدة تامة ـ

٨٠