محاضرات في أصول الفقه - ج ١

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
المطبعة: الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٠٠

في شيء بل هي مترتبة عليه فلا بد حينئذ من تحقيق معناه وانه ما هو الّذي تترتب عليه تلك الملازمة؟

(القول الثاني) : ان حقيقة الوضع عبارة عن اعتبار وجود اللفظ وجود تنزيلياً للمعنى ، فهو هو في عالم الاعتبار وان لم يكن كذلك حقيقة.

بيان ذلك : ان الموجود على قسمين : أحدهما ما له وجود تكويني عيني في نظام التكوين والعين ، كالمقولات الواقعية من الجواهر والاعراض. والثاني ما له وجود اعتباري فهو موجود في عالم الاعتبار وان لم يكن موجوداً في الخارج ، وذلك كالأمور الاعتبارية الشرعية أو العرفية من الأحكام التكليفية والوضعيّة ، وقد قيل إن حقيقة العلقة الوضعيّة من قبيل القسم الثاني بمعنى أن الواضع جعل وجود اللفظ وجوداً للمعنى في عالم الاعتبار واعتبره وجوداً تنزيلياً له في ذلك العالم دون عالم الخارج والعين كالتنزيلات الشرعية أو العرفية مثل قوله عليه‌السلام : «الطواف في البيت صلاة» وقوله عليه‌السلام : «الفقاع خمر استصغره الناس» ونحوهما. ومن ثمة يكون نظر المستعمل إلى اللفظ آلياً في مرحلة الاستعمال ، وإلى المعنى استقلالياً بحيث لا يرى في تلك المرحلة إلا المعنى ولا ينظر إلا إليه.

وإن شئت قلت : إن الوضع لأجل الاستعمال ومقدمة له ، فهمّ المستعمل في هذه المرحلة إيجاد المعنى باللفظ وإلقائه إلى المخاطب ، فلا نظر ولا التفات له إلا إليه. ويرد عليه

أولا : أن تفسيرها بهذا المعنى تفسير بمعنى دقيق بعيد عن أذهان عامة الواضعين غاية البعد ولا سيما القاصرين منهم كالأطفال والمجانين الذين قد يصدر الوضع منهم عند الحاجة ، بل قد يصدر الوضع من بعض الحيوانات أيضا ؛ وكيف كان فحقيقة الوضع حقيقة عرفية سهل التناول والمأخذ ، فلا تكون بهذه الدقة التي تغفل عنها أذهان الخاصة فضلا عن العامة.

وثانياً ان الغرض الداعي إلى الوضع ، هو استعمال اللفظ في المعنى الموضوع

٤١

له لكي يدل عليه ويفهم منه معناه ؛ فالوضع مقدمة للاستعمال والدلالة ، ومن الواضح ان الدلالة اللفظية إنما تكون بين شيئين أحدهما دال والآخر مدلول فاعتبار الوحدة بينهما بان يكون وجود اللفظ وجوداً للمعنى أيضا لغو وعبث.

وأما ما ذكره أخيراً ففيه ان لحاظ اللفظ آلة في مقام الاستعمال ، لا يستلزم أن يكون ملحوظاً كذلك في مقام الوضع للفرق بين المقامين.

وبكلمة واضحة : ان حال واضع اللفظ كحال صانع المرآة ومستعمله كمستعملها ، فكما أن صانع المرآة في مقام صنعها يلاحظها استقلالا من حيث الكم والكيف والوضع وفي مرحلة استعمالها تلاحظ آلياً ، فكذلك وضع الألفاظ واستعمالاتها من هذه الناحية. وعلى الجملة ان لحاظ اللفظ آلياً في مرحلة الاستعمال لا يلازم اعتبار وجوده وجوداً للمعنى حال الوضع بوجه.

(القول الثالث) : ما عن بعض مشايخنا المحققين ـ قدس الله أسرارهم ـ قال : «وقد لا يكون المعنى المعتبر تسبيبياً كالاختصاص الوضعي ، فانه لا حاجة في وجوده إلا إلى اعتبار من الواضع ؛ ومن الواضح أن اعتبار كل معتبر قائم به بالمباشرة لا بالتسبيب كي يتسبب إلى اعتبار نفسه بقوله : (وضعت) ونحوه ؛ فتخصيص الواضع ليس إلا اعتباره الارتباط والاختصاص بين لفظ خاص ومعنى خاص. ثم إنه لا شبهة في اتحاد حيثية دلالة اللفظ على معناه وكونه بحيث ينتقل من سماعه إلى معناه مع حيثية سائر الدوال كالعلم المنصوب على رأس الفرسخ ، فانه أيضا ينتقل من النّظر إليه إلى ان هذا الموضع رأس الفرسخ ، غاية الأمر أن الوضع فيه حقيقي وفي اللفظ اعتباري بمعنى أن كون العلم موضوعاً على رأس الفرسخ خارجي ليس باعتبار معتبر ، بخلاف اللفظ فانه كأنه وضع على المعنى ليكون علامة عليه ؛ فشأن الواضع اعتبار وضع لفظ خاص على معنى خاص ، ومنه ظهر أن الاختصاص والارتباط من لوازم الوضع لا عينه ؛ وحيث عرفت اتحاد حيثية دلالة اللفظ مع حيثية دلالة سائر الدوال ، تعرف أنه لا حاجة إلى الالتزام بان حقيقة الوضع

٤٢

تعهد ذكر اللفظ عند إرادة تفهيم المعنى كما عن بعض أجلة العصر ، فانك قد عرفت أن كيفية الدلالة والانتقال في اللفظ وسائر الدوال على نهج واحد بلا إشكال ؛ فهل ترى تعهداً من ناصب العلم على رأس الفرسخ؟ بل ليس هناك إلا وضعه عليه بداعي الانتقال من رؤيته إليه ، فكذلك فيما نحن فيه غاية الأمر أن الوضع هناك حقيقي وهنا اعتباري.»

يتلخص ما أفاده ـ قده ـ في أمور :

الأمر الأول : أن حقيقة الوضع ليست أمراً تسبيبياً ، بل هو أمر مباشري قائم بالمعتبر بالمباشرة.

الأمر الثاني : ان الارتباط والاختصاص ليسا من حقيقة الوضع في شيء ، بل هما من لوازمها.

الأمر الثالث : أن حقيقته ليست التعهد والالتزام النفسانيّ ، ولكن من دون أن يشيده بالبرهان.

الأمر الرابع : انها من سنخ وضع سائر الدوال ، غاية الأمر ان الوضع فيها حقيقي خارجي وفي المقام جعلي واعتباري ؛ فهذا الأمر في الحقيقة نتيجة الأمور الثلاثة المتقدمة ووليدتها.

أقول : أما الأمر الأول والثاني فهما في غاية الصحة والمتانة على جميع المسالك في تفسير حقيقة الوضع ـ من دون فرق بين مسلكنا ومسلك القوم ـ واما الأمر الثالث فيدفعه ما سنبينه ـ إن شاء الله تعالى ـ عن قريب من أن الصحيح عند التحقيق هو أن حقيقة الوضع عبارة عن ذلك التعهد والالتزام النفسانيّ.

واما الأمر الرابع وهو ان (سنخ الوضع هنا سنخ الوضع الحقيقي الخارجي) فيرد عليه :

أولا ـ عين الإيراد الّذي أوردناه على القول الثاني وهو أن تفسير الوضع بهذا المعنى على فرض صحته في نفسه ، تفسير بمعنى دقيق خارج عن أذهان عامة الواضعين ولا سيما القاصرين منهم كالأطفال والمجانين ، مع انا نرى صدور الوضع

٤٣

منهم كثيراً ، والحال انهم لا يدركون هذا المعنى الدّقيق ، وانه من قبيل وضع العلم على رأس الفرسخ ، غاية الأمر أن الوضع فيه حقيقي وفي المقام اعتباري. ومن الواضح انه لا يكاد يمكن أن يكون الوضع أمراً يغفل عنه الخواصّ فضلا عن العوام.

وثانياً ـ ان وضع اللفظ ليس من سنخ الوضع الحقيقي كوضع العلم على رأس لفرسخ والوجه في ذلك هو أن وضع العلم يتقوم بثلاثة أركان : الركن الأول الموضوع وهو العلم. الركن الثاني الموضوع عليه وهو ذات المكان. الركن الثالث الموضوع له وهو الدلالة على كون المكان رأس الفرسخ ؛ وهذا بخلاف الوضع في باب الألفاظ فانه يتقوم بركنين : الأول الموضوع وهو اللفظ. الثاني الموضوع له وهو دلالته على معناه ، ولا يحتاج إلى شيء ثالث ليكون ذلك الثالث هو الموضوع عليه ؛ وإطلاقه على المعنى الموضوع له لو لم يكن من الأغلاط الظاهرة فلا أقل من أنه لم يعهد في الإطلاقات المتعارفة والاستعمالات الشائعة ؛ مع ان لازم ما أفاده ـ قده ـ هو أن يكون المعنى هو الموضوع عليه.

ويتلخص نتيجة ما ذكرناه إلى الآن في خطوط ثلاثة.

الخطّ الأول بطلان الدلالة الذاتيّة وانها وضعية محضة.

الخطّ الثاني فساد كون حقيقة الوضع حقيقة واقعية.

الخطّ الثالث بطلان تفسير الوضع بكل واحد من التفسيرات الثلاثة المتقدمة ؛ فالنتيجة على ضوئها هي أن حقيقة الوضع ليست إلا عبارة عن التعهد والالتزام النفسانيّ. هذا من ناحية.

ومن ناحية أخرى يرشد إلى ذلك الغرض الباعث على الوضع ، بل الرجوع إلى الوجدان والتأمل فيه أقوى شاهد عليه ؛ وبيان ذلك : ان الإنسان بما انه مدني بالطبع يحتاج في تنظيم حياته (المادية والمعنوية) ، إلى آلات يبرز بها مقاصده وأغراضه ويتفاهم بها وقت الحاجة ؛ ولما لم يمكن أن تكون تلك الآلة الإشارة أو نحوها لعدم وفائها بالمحسوسات فضلا عن المعقولات ، فلا محالة تكون هي الألفاظ التي

٤٤

يستعملها في إبراز مراداته من المحسوسات والمعقولات ، وهي وافية بهما ؛ ومن هنا خص ـ تبارك وتعالى ـ الإنسان بنعمة البيان بقوله عز من قائل : «خلق الإنسان علمه البيان».

ومن هنا ـ أي من أن الغرض منه قصد التفهيم وإبراز المقاصد بها ـ ظهر ان حقيقة الوضع هي التعهد والتباني النفسانيّ ، فان قصد التفهيم لازم ذاتي للوضع بمعنى التعهد. وان شئت قلت : ان العلقة الوضعيّة ـ حينئذ ـ تختص بصورة إرادة تفهيم المعنى لا مطلقاً ؛ وعليه يترتب اختصاص الدلالة الوضعيّة بالدلالة التصديقية كما سيأتي بيانه مفصلا من هذه الجهة ـ إن شاء الله تعالى ـ.

وعلى ذلك فنقول : قد تبين ان حقيقة الوضع عبارة عن التعهد بإبراز المعنى الّذي تعلق قصد المتكلم بتفهيمه بلفظ مخصوص ؛ فكل واحد من أهل أي لغة متعهد في نفسه متى ما أراد تفهيم معنى خاص ، أن يجعل مبرزه لفظاً مخصوصاً. ـ مثلا ـ التزم كل واحد من أفراد الأمة العربية بأنه متى ما قصد تفهيم جسم سيال بارد بالطبع أن يجعل مبرزه لفظ الماء ، ومتى قصد تفهيم معنى آخر ان يجعل مبرزه لفظاً آخر ، وهكذا.

فهذا التعهد والتباني النفسانيّ بإبراز معنى خاص بلفظ مخصوص عند تعلق القصد بتفهيمه ، ثابت في أذهان أهل كل لغة بالإضافة إلى ألفاظها ومعانيها بنحو القوة ، ومتعلق هذا التعهد أمر اختياري وهو التكلم بلفظ مخصوص عند قصد تفهيم معنى خاص.

ثم أن ذلك ثابت بين طبيعي اللفظ والمعنى الموضوع له بنحو القضية الحقيقية. نعم في مرحلة الاستعمال يوجد المستعمل فرداً منه في استعمال ، وفرداً آخر منه في استعمال آخر ، وهكذا.

وبهذا يندفع إشكال الدور الّذي قد يتوهم هنا ، بتقريب ان تعهد ذكر اللفظ عند قصد تفهيم المعنى ، يتوقف على العلم بأنه وضع له ، فلو فرض ان الوضع

٤٥

عبارة عن ذلك التعهد لدار.

وتوضيح الاندفاع أن ما يتوقف على العلم بالوضع إنما هو التعهد الشخصي الفعلي الثابت في مرحلة الاستعمال دون التعهد الكلي النفسانيّ المتعلق بذكر طبيعي اللفظ عند إرادة تفهيم طبيعي المعنى بنحو القضية الحقيقية ، وقد عرفت ان حقيقة الوضع عبارة عن ذلك التعهد ، ومن الظاهر انه لا يتوقف على شيء ؛ فظهر ان منشأ التوهم خلط المتوهم بين التعهد في مرحلة الاستعمال والتعهد في مرحلة الوضع ، والّذي يتوقف على الثاني هو الأول دونه.

وبتعبير آخر : ان حال الألفاظ حال الإشارات الخارجية ، فكما قد يقصد بها إبراز المعنى الّذي تعلق القصد بتفهيمه مثل ما إذا قصد إخفاء أمر عن الحاضرين في المجلس ، أو قصد تصديق شخص ، أو غير ذلك فيجعل مبرزه الإشارة باليد أو بالعين أو بالرأس ، فكذلك الألفاظ فانه يبرز بها أيضاً المعاني التي يقصد تفهيمها ؛ فلا فرق بينهما من هذه الناحية. نعم فرق بينهما من ناحية أخرى وهي ان الإشارة على نسق واحد في جميع اللغات والألسنة دون الألفاظ.

وعلى ضوء هذا البيان تبين أن كل مستعمل واضع حقيقة ، فان تعهد كل شخص فعل اختياري له ، فيستحيل أن يتعهد شخص آخر تعهده في ذمته ، لعدم كونه تحت اختياره وقدرته. نعم يمكن أن يكون شخص واحد وكيلا من قبل طائفة في وضع لغاتهم ابتداء لمعانيها فيضعها بإزائها ـ يعنى يجعلها مستعدة لإبرازها عند قصد تفهيمها ـ ويتعهد بذلك ؛ ثم انهم تبعاً له يتعهدون على طبق تعهداته. أو يضع لغاتهم بلا توكيل من قبلهم بل فضولياً ولكنهم بعد ذلك يتبعونه في ذلك ويتبانون على وفق تبانيه والتزاماته ؛ ومع هذا فهم واضعون حقيقة.

ومن هنا لا فرق بين الطبقات السابقة واللاحقة ، غاية الأمر ان الطبقات اللاحقة تتبعها في ذلك ، بمعنى انهم يتعهدون على وفق تعهداتهم وتبانيهم ، وقد تتعهد الطبقات اللاحقة تعهدات أخرى ابتدائية بالنسبة إلى المعاني التي يحتاجون

٤٦

إلى تفهيمها في أعصارهم ، وقد سبق أن الوضع تدريجي الحصول فيزيد تبعاً لزيادة الحاجة في كل قرن وزمن.

ومن ذلك تبين ملاك ان كل مستعمل واضع حقيقة ؛ وأما إطلاق الواضع على الجاعل الأول دون غيره فلأسبقيته في الوضع لا لأجل انه واضع في الحقيقة دون غيره.

ولكن ربما يشكل بان التعهد والالتزام حسب ما ارتكز في الأذهان ، أمر متأخر عن الوضع ومعلول له ، فان العلم بالوضع يوجب تعهد العالم به بإبراز المعنى عند قصد تفهيمه بمبرز مخصوص ، لا انه عينه. ومن هنا لا يصح إطلاق الواضع على غير الجاعل الأول ، فلو كان معنى الوضع ذلك التعهد والالتزام النفسانيّ لصح إطلاقه على كل مستعمل من دون عناية ، مع ان الأمر ليس كذلك.

والجواب عنه ان يقال : انه لو أريد بتأخر التعهد عن الوضع تعهد المتصدي الأول للوضع فذاك غير صحيح ، وذلك لأن تعهده غير مسبوق بشيء ما عدا تصور اللفظ والمعنى ، ومن الواضح أن ذلك التصور ليس هو الوضع بل هو من مقدماته ولذا لا بد منه في مقام الوضع بأي معنى من المعاني فسر ؛ وعليه فنقول : ان المتصدي الأول له بعد تصور معنى خاص ولفظ مخصوص ، يتعهد في نفسه بأنه متى قصد تفهيمه ، ان يجعل مبرزه ذلك اللفظ ثم يبرز ذلك التعهد بقوله : «وضعت» أو نحوه في الخارج.

ومما يدلنا على ذلك بوضوح ، وضع الاعلام الشخصية ، فان كل شخص إذا راجع وجدانه ظهر له أنه إذا أراد أن يضع اسماً لولده ـ مثلا ـ يتصور أولا ذات ولده وثانياً لفظاً يناسبه ثم يتعهد في نفسه بأنه متى قصد تفهيمه يتكلم بذلك اللفظ ، وليس هاهنا شيء آخر ما عدا ذلك.

وان أريد به تعهد غيره من المستعملين ، فالأمر وان كان كذلك ـ يعنى ان تعهدهم وان كان مسبوقاً بتعهده ـ إلا إنه لا يمنع عن كونهم واضعين حقيقة ،

٤٧

ضرورة ان تعهد كل أحد لما كان فعلا اختيارياً له ، يستحيل ان يصدر من غيره ، غاية الأمر التعهد من الواضع الأول تعهد ابتدائي غير مسبوق بشيء ، ومن غيره ثانوي ولأجله ينصرف لفظ الواضع إلى الجاعل الأول.

وعلى هذه الالتزامات والتعهدات قد استقرت السيرة العقلائية في مقام لاحتجاج واللجاج ، فيحتج العقلاء بعضهم على بعض بمخالفته التزامه ، ويؤاخذونه عليها وكذلك الموالي والعبيد ، فلو أن أحداً خالف التزامه ولم يعمل على طبق ظهور كلام مولاه ، يحتج المولى عليه بمخالفته التزامه ويعاقب عليها ولا عذر له في ذلك ؛ ولو عمل على طبق ظهوره فله حجة يحتج بها على مولاه ، وهكذا. وعلى الجملة ان أنظمة الكون كلها من المادية والمعنوية ، تدور مدار الجري على وفق هذه الالتزامات ، ولولاه لاختلت.

فبالنتيجة ان مذهبنا هذا ينحل إلى نقطتين :

(النقطة الأولى) ان كل متكلم واضع حقيقة ، وتلك نتيجة ضرورية لمسلكنا ان حقيقة الوضع : (التعهد والالتزام النفسانيّ).

(النقطة الثانية) ان العلقة الوضعيّة مختصة بصورة خاصة وهي ما إذا قصد المتكلم تفهيم المعنى باللفظ ، وهي أيضاً نتيجة حتمية للقول بالتعهد ، بل وفي الحقيقة هذه هي النقطة الرئيسية لمسلكنا هذا ، فان عليها تترتب نتائج ستأتي فيما بعد ـ إن شاء الله تعالى ـ.

واما ما ربما يتوهم هنا من ان العلقة الوضعيّة لو لم تكن بين الألفاظ والمعاني على وجه الإطلاق فلا يتبادر شيء من المعاني منها فيما إذا صدرت عن شخص بلا قصد التفهيم ، أو عن شخص بلا شعور واختيار فضلا عما إذا صدرت عن اصطكاك جسم بجسم آخر ، مع انه لا شبهة في تبادر المعنى منها وانتقال الذهن إليه في جميع هذه الصور ، فمدفوع بان تبادر المعنى فيها وانسباقه إلى الذهن ، غير مستند إلى العلقة الوضعيّة ، بل إنما هو من جهة الأنس الحاصل بينهما بكثرة الاستعمال أو بغيرها ؛

٤٨

وذلك لأن الوضع حيث كان فعلا اختيارياً فصدوره من الواضع الحكيم في أمثال هذه الموارد التي لا يترتب على الوضع فيها أي أثر وغرض داع إليه ، يصبح لغواً وعبثاً.

ثم ان الوضع بذلك المعنى الّذي ذكرناه ، موافق لمعناه اللغوي أيضا ، فانه في اللغة بمعنى الجعل والإقرار ، ومنه وضع اللفظ ، ومنه وضع القوانين في الحكومات الشرعية والعرفية فانه بمعنى التزام تلك الحكومة بتنفيذها في الأمة. كما انه بذلك المعنى أيضا يصح تقسيمه إلى التعييني والتعيني ، باعتبار ان التعهد والالتزام المزبور ان كان ابتدائيا فهو وضع تعييني ، وان كان ناشئاً عن كثرة الاستعمال فهو وضع تعيني ، وعليه فيصح تعريفه بتخصيص شيء بشيء وتعيينه بإزائه أيضا.

هذا كله في بيان الأقوال في حقيقة الوضع وقد عرفت المختار من بينها.

(واما الجهة الثالثة) فملخص الكلام فيها ان الوضع لما كان فعلا اختيارياً للواضع بأي معنى من المعاني فسر ، توقف تحققه على تصور اللفظ والمعنى ، وعليه فالكلام يقع في مقامين : الأول في ناحية المعنى والثاني في ناحية اللفظ :

أما المقام الأول فالكلام فيه يقع في جهات :

الجهة الأولى في (الوضع العام والموضوع له العام) وهو ان يتصور الواضع المعنى الكلي حين الوضع فيضع اللفظ بإزائه ، سواء كان تصوره بالكنه والحقيقة كما إذا تصور (الإنسان) ـ مثلا ـ بحده التام ، أم كان ذلك بالوجه والعنوان كما إذا تصوره بحده الناقص ؛ أو بالعنوان المعرف والمشير من دون دخل لذاك العنوان فيه ، نظير بعض العناوين المأخوذ في موضوع القضية لأجل الإشارة إلى ما هو الموضوع فيها حقيقة ، بدون دخل له فيه أصلا. فالوضع العام والموضوع له العام من قبيل القضية الطبيعية كقولنا : «الإنسان نوع» فكما ان المحمول فيها ثابت للطبيعي بما هو فكذلك الوضع هنا ـ أي لطبيعي المعنى الجامع ـ.

الجهة الثانية في (الوضع الخاصّ والموضوع له الخاصّ) وهو ان يتصور

٤٩

الواضع حين إرادته الوضع ، معنى خاصاً وجزئياً حقيقياً فيضع اللفظ بإزاء ذلك الخاصّ كوضع الأعلام الشخصية سواء كان تصوره بالكنه أم كان بالوجه والعنوان ، لكفاية تصور الشيء بوجه ما في وضع لفظ بإزائه ، ولا يلزم تصوره بكنهه وحقيقته ، فقضية الوضع الخاصّ والموضوع له الخاصّ كالقضية الشخصية التي ثبت الحكم فيها لأشخاص معينين.

الجهة الثالثة في (الوضع العام والموضوع له الخاصّ) وهو ان يلاحظ الواضع حين الوضع معنى عاماً يكون وجهاً وعنواناً لأفراده ومصاديقه ، بحيث يكون تصوره تصوراً لها بوجه فيضع اللفظ بإزاء الأفراد والمصاديق. فهذا هو الوضع العام والموضوع له الخاصّ ، وحاله كحال القضية الحقيقية.

وقد يتوهم ان ذلك غير معقول ؛ بتقريب ان أي مفهوم جزئياً كان أو كلياً لا يحكى إلا عن نفسه ، فيستحيل ان يحكى مفهوم عن مفهوم آخر ، فكما لا يعقل أن يحكى المفهوم الخاصّ بما هو خاص عن مفهوم عام أو خاص آخر ، فكذلك لا يعقل ان يحكى المفهوم العام بما هو ، عن مفهوم خاص أو عام آخر ؛ بداهة ان لحاظ كل مفهوم وتصوره عين إراءة شخصه لا إراءة شيء آخر به ، فكيف يكون معرفة لغيره بوجه؟ وعليه فلا يمكن الوضع العام والموضوع له الخاصّ.

والجواب عنه : ان المفهوم في الجملة بما هو سواء كان عاماً أو خاصاً وان كان لا يحكى في مقام اللحاظ إلا عن نفسه ، إلا ان تصور بعض المفاهيم الكلية يوجب تصور افراده ومصاديقه بوجه. وتفصيل ذلك : هو ان المفاهيم الكلية المتأصلة كمفاهيم الجواهر والاعراض كالحيوان والإنسان والبياض والسواد ونحو ذلك ، لا تحكى في مقام اللحاظ والتصور إلا عن أنفسها وهي الجهة الجامعة بين الافراد والمصاديق ، وكذلك بعض المفاهيم الانتزاعية كالوجوب والإمكان والامتناع والأبيض والأسود وما شاكلها ؛ فان عدم حكايتها عن غيرها من الواضحات.

واما العناوين الكلية التي تنتزع من الافراد والخصوصيات الخارجية كمفهوم

٥٠

الشخص والفرد والمصداق ، فهي تحكى في مقام اللحاظ عن الأفراد والمصاديق بوجه وعلى نحو الإجمال ، فانها وجه لها ، وتصورها في نفسها تصور لها بوجه وعنوان.

وبتعبير آخر : ان مرآتيتها للافراد والأشخاص ذاتية لها فتصورها لا محالة تصور لها إجمالاً بلا إعمال عناية في البين ، فإذا تصورنا مفهوم ما ينطبق عليه مفهوم الإنسان ـ مثلا ـ فقد تصورنا جميع أفراده بوجه ؛ ومن ثم جاز الحكم عليها في القضية الحقيقة ، فلو لم يحك المفهوم عن افراده لاستحال الحكم عليها مطلقاً مع ان الاستحالة واضحة البطلان.

الجهة الرابعة في (الوضع الخاصّ والموضوع له العام) وهو أن يتصور الواضع حين إرادة الوضع معنى خاصاً ـ أي ما يمتنع فرض صدقه على كثيرين ـ فيضع اللفظ بإزاء معنى كلي.

ولكن على ضوء ما ذكرناه في الجهة الثالثة ، قد تبين عدم إمكان ذلك ، فان مفهوم الخاصّ مهما كان ، لا يحكى بما هو خاص عن مفهوم عام أو عن خاص آخر ، ضرورة ان تصور مفهوم الخاصّ بما هو تصور نفسه وإراءة شخصه ، فيستحيل ان يكون تصوراً لغيره بوجه ، بل لحاظ كل مفهوم لحاظ نفسه ، وهو هو لا هو وغيره.

وعلى الجملة ان الخاصّ بما هو لا يكون وجهاً وعنواناً للعام ليكون تصوره تصوراً له بوجه ؛ وهذا بخلاف مفهوم العام كمفهوم الشخص والفرد والمصداق فانه وجه وعنوان للافراد والمصاديق ولحاظه لحاظاً لها بوجه ؛ ومن هنا قلنا بإمكان الوضع العام والموضوع له الخاصّ ؛ واما الخاصّ فلما لم يكن كذلك فلا يمكن الوضع الخاصّ والموضوع له العام. وقد يتوهم إمكان ذلك أي (الوضع الخاصّ والموضوع له العام) فيما إذا رأى شبحاً من بعيد وتيقن أنه حيوان ولكن لم يعلم أنه من أي نوع من أنواعه أو أي صنف من أصنافه ، فان له ـ حينئذ ـ

٥١

ان يتصور ذلك الشبح الّذي هو جزئيّ حقيقي ويضع اللفظ بإزاء معنى كلي منطبق عليه وعلى غيره من الافراد ؛ فهذا من الوضع الخاصّ والموضوع له العام.

إلا أنه توهم فاسد ، وذلك لأنه قد يتصور ذلك الشبح بعنوان انه جزئيّ ومعنى خاص فيضع اللفظ بإزاء واقعه ـ الشبح ـ ، وقد يتصور ذلك بعنوان الكلي المنطبق عليه وعلى غيره فيضع اللفظ بإزاء معنونه ولا ثالث له ، فهو على الأول من الوضع الخاصّ والموضوع له الخاصّ ، وعلى الثاني من الوضع العام والموضوع له العام أو الخاصّ كما لا يخفى.

فالنتيجة على ضوء ما ذكرناه لحد الآن هي ان الممكن من أقسام الوضع ثلاثة وهي : (الوضع العام والموضوع له العام) (الوضع الخاصّ والموضوع له الخاصّ) (الوضع العام والموضوع له الخاصّ). واما القسم الرابع منها وهو (الوضع الخاصّ والموضوع له العام) فقد عرفت انه غير ممكن.

ثم ان المعنى الموضوع له سواء كان عاماً أو خاصاً إنما يكون من المفاهيم القابلة في نفسها للحضور في ذهن السامع في مرحلة التخاطب ، فالألفاظ كما لم توضع للموجودات الخارجية لأنها غير قابلة للحضور في الأذهان ، كذلك لم توضع للموجودات الذهنية ، فان الموجود الذهني غير قابل لوجود ذهني آخر ، بل هي موضوعة لذوات المعاني غير الآبية عن قبول نحوين من الوجود في نفسها ، وتلك المعاني تتصف بالسعة وبالضيق لا بنفسها بل باعتبار الانطباق والصدق الخارجي. وبهذا اللحاظ كان تقسيم الموضوع له إلى العام تارة وإلى الخاصّ تارة أخرى ـ أي بلحاظ الانطباق على ما في الخارج لا في نفسه ـ. هذا تمام الكلام في المقام الأول.

واما الكلام في المقام الثاني وهو (تصور اللفظ) فالواضع حين إرادة الوضع إما ان يلاحظ اللفظ بمادته وهيئته كما في أسماء الأجناس وأعلام الأشخاص ؛ وإما ان يلاحظ المادة فقط كما في مواد المشتقات ، وإما أن يلاحظ الهيئة كذلك كما في هيئات المشتقات وهيئات الجمل الناقصة والتامة ؛ فالوضع في الأول والثاني

٥٢

شخصي ، وفي الثالث نوعي.

ثم ان ملاك شخصية الوضع هو لحاظ الواضع شخص اللفظ بوحدته الطبيعية وشخصيته الذاتيّة التي امتاز بها في ذاته عما عداه ، وملاك نوعية الوضع هو لحاظ الواضع اللفظ بجامع عنواني كهيئة «الفاعل» ـ مثلا ـ لا بشخصه وبوحدته الذاتيّة. وبهذا ظهر ملاك الشخصية والنوعية في الطوائف الثلاث :

اما الطائفة الأولى فلان الواضع لم يلحظ فيها في مقام الوضع إلا شخص اللفظ بوحدته الطبيعية وشخصيته الممتازة ، فالموضوع هو ذلك اللفظ الملحوظ كذلك سواء كان الموضوع له معنى عاماً أو خاصاً ؛ وكذا الحال في الطائفة الثانية.

واما الطائفة الثالثة فلما كانت الهيئة مندمجة في المادة غاية الاندماج ، فلا يعقل لحاظها بنفسها مع قطع النّظر عن المادة ، إذ لا وجود لها بدونها في الوجود الذهني فضلا عن الوجود العيني ، فتجريدها عن المواد لا يمكن حتى في مقام اللحاظ ، فلا محالة يجب الوضع لأشخاصها بجامع عنواني كقولك : «كل ما كان على هيئة الفاعل» لا بشخصيتها الذاتيّة وهذا معنى نوعية الوضع.

واما الكلام في الجهة الرابعة وهي (مرحلة الإثبات والوقوع) فيقع في الأقسام الثلاثة من الوضع ـ وهي الأقسام الممكنة : من الوضع العام والموضوع له العام ، والوضع الخاصّ والموضوع له الخاصّ ، والوضع العام والموضوع له الخاصّ ـ. واما القسم الرابع وهو الوضع الخاصّ والموضوع له العام فحيث انه غير ممكن ، فلا تصل النوبة إلى البحث عنه في مرحلة الإثبات ، لأنه متفرع على إمكانه.

وعلى ذلك فنقول : لا شبهة في وقوع الوضع العام والموضوع له العام كوضع أسماء الأجناس ؛ كما انه لا شبهة في وقوع الوضع الخاصّ والموضوع له الخاصّ كوضع الأعلام الشخصية ؛ وإنما الكلام والإشكال في وقوع الوضع العام والموضوع له الخاصّ : فذهب جماعة إلى أن وضع الحروف وما يشبهها منه ـ أي من الوضع العام والموضوع له الخاصّ ـ ولكن أنكره جماعة آخرون منهم المحقق

٥٣

صاحب الكفاية ـ قده ـ.

وتحقيق الكلام في المقام يتوقف ـ أولا ـ على تحقيق المعاني الحرفية والمفاهيم الأدوية ، ثم التكلم في أن الموضوع له فيها كوضعها عام أو انه خاص ؛ فيقع الكلام في مقامين :

المقام الأول في تحقيق المعاني الحرفية والمفاهيم الأدوية وبيان المراد من عدم استقلالها.

المقام الثاني في تحقيق ان معناها الموضوع له عام أو خاص؟

اما الكلام في المقام الأول فقد اختلفوا فيها على أقوال :

(القول الأول) : ما نسب إلى المحقق الرضي ـ قده ـ وتبعه فيه المحقق صاحب الكفاية ـ قده ـ من ان المعنى الحرفي والاسمي متحدان بالذات والحقيقة ومختلفان باللحاظ والاعتبار ، فكلمة (ابتداء) وكلمة (من) مشتركتان في طبيعة معنى واحد ، ولا امتياز لإحداهما على الأخرى إلا في ان اللحاظ في مرحلة الاستعمال في الأسماء استقلالي ، وفي الحروف آلي. وقد ذكر صاحب الكفاية ـ قده ـ ان الاستقلالية وعدمها خارجتان عن حريم المعنى ، فالمعنى في نفسه لا يتصف بأنه مستقل ولا بأنه غير مستقل ، بل هما من توابع الاستعمال وشئونه.

واستدل على عدم إمكان أخذ اللحاظ الآلي كاللحاظ الاستقلالي لا في المعنى الموضوع له ولا في المستعمل فيه بوجوه :

الوجه الأول ما توضيحه : ان لحاظ المعنى في مقام الاستعمال مما لا بد منه ، وعليه فلا يخلو الحال من ان يكون هذا اللحاظ عين اللحاظ المأخوذ في المعنى الموضوع له ، أو يكون غيره ، فعلى الأول يلزم تقدم الشيء على نفسه ؛ والثاني خلاف الوجدان والضرورة ، إذ ليس في مقام الاستعمال إلا لحاظ واحد ؛ على ان الملحوظ بما هو ملحوظ غير قابل لتعلق لحاظ آخر به ، فان القابل لطروء الوجود الذهني إنما هو نفس المعنى وذاته ، والموجود لا يقبل وجوداً آخر.

٥٤

الوجه الثاني : ان أخذ اللحاظ الآلي فيما وضعت له الحروف يلزمه أخذ اللحاظ الاستقلالي فيما وضعت له الأسماء ، فكيف يمكن التفرقة بينهما بان الموضوع له في الحروف جزئيّ وفي الأسماء كلي؟

الوجه الثالث : انه يلزمه عدم صحة الحمل وعدم إمكان الامتثال بدون تجريد الموضوع والمحمول عن التقييد بالوجود الذهني ، لعدم انطباق ما في الذهن على ما في العين. فتحصل ان المعنى الحرفي وان كان لا بد من لحاظه آلياً كما ان المعنى الاسمي لا بد من لحاظه استقلالا ، إلا ان ذلك لم ينشأ من أخذهما في الموضوع له ، بل منشأ ذلك هو اشتراط الواضع ذلك في مرحلة الاستعمال ، لا بمعنى انه اشترط ذلك على حذو الشرائط في العقود والإيقاعات فانه لا يرجع في المقام إلى معنى محصل :

أما أولا فلعدم الدليل عليه وعلى فرض تسليمه فلا دليل على وجوب اتباعه ما لم يرجع إلى قيد الموضوع أو الموضوع له.

وأما ثانياً فلأنه لو ثبت هذا الاشتراط ولزوم اتباعه لم يستلزم ذلك استهجان استعمال الحرف موضع الاسم وبالعكس ، بل غاية الأمر ان مخالفة الشرط توجب استحقاق المؤاخذة ، وإلا فالعلقة الوضعيّة على هذا غير مختصة بحاله دون أخرى ؛ بل المراد بالاشتراط ان العلقة الوضعيّة في الحروف والأدوات مختصة بحالة مخصوصة وهي ما إذا لاحظ المتكلم المعنى الموضوع له في مرحلة الاستعمال آلياً ، وفي الأسماء بحالة أخرى وهي ما إذا لاحظ المعنى في تلك المرحلة استقلالا.

وتوضيح ذلك هو ان الوضع لما كان فعلا اختيارياً للواضع فله تخصيصه بأي خصوصية شاء فيخصص العلقة الوضعيّة في الحروف بحالة وفي الأسماء بحالة أخرى ، بل له ذلك في شيء واحد بجعله علامة لإرادة أمرين أو أمور من جهة اختلاف حالاته وطوارئه ، كما إذا فرض ان السيد قد تبانى مع عبده انه إذا وضع العمامة عن رأسه في وقت كذا فهو علامة لإرادته أمر كذا ، وإذا وضعها عنه في الوقت الفلاني فهو علامة لإرادته الأمر الفلاني. ومن ثمة كانت الآلية والاستقلالية

٥٥

خارجتين عن حريم المعنى وليستا من مقوماته وقيوده ؛ بل من قيود العلقة الوضعيّة ومقوماتها ، فلذا كان استعمال كل واحد من الحرف والاسم في موضوع الآخر بلا علقة وضعية ، وان كان طبيعي المعنى واحداً فيهما ـ كما عرفت ـ ولأجله لا يصح ذلك الاستعمال.

وبتعبير واضح : ان القيد تارة من الجهات الراجعة إلى اللفظ ؛ وأخرى من الجهات الراجعة إلى المعنى ؛ وثالثاً من الجهات الراجعة إلى الوضع نفسه.

اما على الأول فيختلف اللفظ باختلافه ، كالحركات والسكنات والتقدم التأخر بحسب الحروف الأصلية الممتازة بالذات عما عداها أو بالترتيب مثلا ـ كلمة (بر) تختلف باختلاف الحركات والسكنات : (بر) بالكسر و (بُر) بالضم و (بَر) بالفتح فللكلمة الأولى معنى وللثانية معنى آخر وللثالثة معنى ثالث ؛ مع انه لا تفاوت فيها بحسب حروفها الأصلية أصلا. وكلمة (علم) يختلف معناها بتقدم بعض حروفها الأصلية على بعضها الآخر وتأخره عنه (كعمل أو لمع) وهكذا في بقية الموارد.

واما على الثاني فيختلف المعنى باختلافه فان هيئة (القاعد) ـ مثلا ـ هيئة واحدة ولكنها مع ذلك تختلف باختلاف الخصوصيات والحالات الطارئة عليها ، فإذا كانت مسبوقة بالقيام يطلق عليها لفظ قاعد ، وإذا كانت مسبوقة بالاضطجاع يطلق عليها لفظ جالس ، وهكذا في غير ذلك من الموارد.

واما على الثالث فتختلف العلقة الوضعيّة باختلافه كلحاظ الآلية والاستقلالية فانها إذا قيدت بالآلية تختلف عما إذا قيدت بالاستقلالية ؛ وحينئذ فلما كانت العلقة مختصة في الحروف بما إذا قصد المعنى آلة وفي الأسماء بما إذا قصد المعنى استقلالا ، فمن الواضح انها تكون في الحروف والأدوات غير ما هي في الأسماء ، فتختص في كل واحدة منها بحالة تضاد الحالة الأخرى. ومن هنا قال ـ قده ـ في مبحث المشتق : «ان استعمال لفظ (الابتداء) في موضع كلمة (من) ليس استعمالا في غير

٥٦

الموضوع له بل هو استعمال فيه ولكنه من دون علقة وضعية.» فبالنتيجة أن ذلك القول ينحل إلى نقطتين :

(النقطة الأولى) ـ هي نقطة الاشتراك وهي ان الحروف والأسماء مشتركتان في طبيعي معنى واحد ، فالاستقلالية وعدمها خارجتان عن حريم المعنى فالمعنى في نفسه لا مستقل ولا غير مستقل.

(النقطة الثانية) ـ هي نقطة الامتياز وهي ان ملاك الحرفية ملاحظة المعنى آلة ، وملاك الاسمية ملاحظة المعنى استقلالا فبذلك يمتاز أحدهما عن الآخر.

هذا ولكن يرد على النقطة الأولى ان لازمها صحة استعمال كل من الاسم والحرف في موضع الآخر مع انه من أفحش الأغلاط. والوجه في ذلك هو ان استعمال اللفظ في معنى غير المعنى الموضوع له إذا جاز من جهة العلقة الخارجية والمناسبة الأجنبية مع فرض انتفاء العلقة الوضعيّة بينه وبين ذلك المعنى ، كان مقتضاه الحكم بالصحّة بطريق أولى إذا كانت العلقة ذاتية وداخلية ، ضرورة انه كيف يمكن الحكم بصحة الاستعمال إذا كانت المناسبة خارجية والعناية أجنبية ، وبعدم صحته إذا كانت داخلية وذاتية؟

وان شئت فقل : ان القدر الجامع بين هذا الاستعمال ـ أي استعمال الحرف في موضع الاسم وبالعكس ـ وبين استعمال اللفظ في المعنى المجازي هو انتفاء العلقة الوضعيّة في كليهما معاً ولكن لذاك الاستعمال مزية بها يمتاز ويتفوق على ذلك الاستعمال وهي ان الاستعمال هنا استعمال في المعنى الموضوع له ، لفرض اشتراكهم في طبيعي معنى واحد ذاتاً ؛ وهذا بخلاف ذلك الاستعمال فانه استعمال في غير المعنى الموضوع له بعناية من العنايات الخارجية ، فإذا صح ذلك فكيف لا يصح هذا؟ مع انه من الغلط الواضح ، بل لو تكلم به شخص لرمي بالسفه والجنون.

وعلى ضوء بياننا هذا يتضح لك جلياً ان المعنى الحرفي والاسمي ليسا بمتحدين ذاتاً ولا اشتراك لهما في طبيعي معنى واحد ، بل هما متباينان بالذات والحقيقة ؛

٥٧

فان هذا هو الموافق للوجدان الصحيح ولأجله لا يصح استعمال أحدهما في موضع الآخر.

ويرد على النقطة الثانية : ان لازمها صيرورة جملة من الأسماء حروفاً لمكان ملاك الحرفية فيها وهو لحاظها آلة ومرآة كالتبين المأخوذ غاية لجواز الأكل والشرب في قوله تعالى : «كلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض ... الآية» فانه قد أخذ مرآة وطريقاً إلى طلوع الفجر ، من دون ان يكون له دخل في حرمة الأكل والشرب وعدمها ، فبذلك يعلم ان كون الكلمة من الحروف لا يدور على لحاظه آلياً.

وبتعبير آخر : إذا كان الملاك في كون المعنى حرفياً تارة واسمياً أخرى هو اللحاظ الآلي والاستقلالي وكان المعنى بحد ذاته لا مستقلا ولا غير مستقل ، فكل ما كان النّظر إليه آلياً فهو معنى حرفي فيلزم محذور صيرورة جملة من الأسماء حروفاً. هذا أولا.

وثانياً ان ما هو المشهور من ان المعنى الحرفي ملحوظ آلة لا أصل له ، وذلك لأنه لا فرق بين المعنى الاسمي والمعنى الحرفي في ذلك ، إذ كما ان اللحاظ الاستقلالي والقصد الأولى يتعلقان بالمعنى الاسمي في مرحلة الاستعمال كذلك قد يتعلقان بالمعنى الحرفي فانه هو المقصود بالإفادة في كثير من الموارد ، وذلك كما إذا كان ذات الموضوع والمحمول معلومين عند شخص ولكنه كان جاهلا بخصوصيتهما فسأل عنها فأجيب على طبق سؤاله ، فهو والمجيب انما ينظر ان إلى هذه الخصوصية نظرة استقلالية. ـ مثلا ـ إذا كان مجيء (زيد) معلوماً ولكن كانت كيفية مجيئه مجهولة عند أحد فلم يعلم انه جاء مع غيره أو جاء وحده فسأل عنها ، فقيل انه جاء مع عمرو ، فالمنظور بالاستقلال والملحوظ كذلك في الإفادة والاستفادة في مثل ذلك إنما هو هذه الخصوصية التي هي من المعاني الحرفية دون المفهوم الاسمي فانه معلوم ، بل ان الغالب في موارد الإفادة والاستفادة عند العرف النّظر الاستقلالي والقصد الأولى

٥٨

بإفادة الخصوصيات والكيفيات المتعلقات بالمفاهيم الاسمية.

(القول الثاني) : ان الحروف لم توضع لمعنى وانما وضعت لتكون علامة على كيفية إرادة مدخولاتها نظير حركات الإعراب التي لم توضع لمعنى وإنما وضعت لتكون قرينة على إرادة خصوصية من خصوصيات مدخولها من الفاعلية والمفعولية ونحوهما. فكما ان كل واحد من حركات الإعراب يفيد خصوصية متعلقة بمدخوله ، فان (الفتحة) تفيد خصوصية في مدخولها (والكسرة) تفيد خصوصية أخرى فيه (والضمة) تفيد خصوصية ثالثة فيه ، فكذلك كل واحد من الحروف فان كلمة (في) تفيد إرادة خصوصية في مدخولها غير ما تفيده كلمة (على) من الخصوصية وهكذا ؛ من دون ان تكون لها معان مخصوصة قد وضعت بإزائها.

ولكن هذا القول لا يمكن المساعدة عليه ، وذلك لأن الخصوصيات التي دلت عليها الحروف والأدوات هي بعينها المعاني التي وضعت الحروف بإزائها إذ المفروض ان تلك المعاني ليست مما تدل عليه الأسماء ، لعدم كونها مأخوذة في مفاهيمها ، فانحصر ان يكون الدال عليها هو الحروف ؛ ومن الواضح ان دلالتها عليها ليست إلا من جهة وضعها بإزائها ، وعليه فلا معنى للقول بأنها لم توضع لمعنى وانما وضعت لكذا ؛ بل هذا يشبه الجمع بين المتناقضين. وعلى كل حال فبطلان هذا القول من الواضحات الأولية. ومنه ظهر حال المقيس عليه وهو حركات الإعراب بلا زيادة ونقيصة.

(القول الثالث) : ما اختاره جماعة من المحققين (قدس‌سرهم) وهو ان المعاني الحرفية والمفاهيم الاسمية متباينتان بالذات والحقيقة ؛ ولكنهم اختلفوا في كيفية هذا التباين وما به الامتياز : فقد ذهب شيخنا الأستاذ ـ قده ـ إلى التباين بينهما بالإيجادية والإخطارية بمعنى ان المفاهيم الاسمية بأجمعها مفاهيم إخطارية ومتقررة في عالم المفهومية ومستقلة بحد ذاتها وهويتها في ذلك العالم ؛ والمعاني الحرفية

٥٩

المفاهيم الأدوية بأجمعها معان إيجادية في الكلام ولا تقرر لها في عالم المفهومية ولا استقلال بذاتها وحقيقتها. وبيان ذلك : ان الموجودات في عالم الذهن ، كالموجودات في عالم العين ، فكما ان الموجودات في عالم العين على نوعين :

أحدهما : ما يكون له وجود مستقل بحد ذاته في ذلك العالم ، كالجواهر بأنواعها من النّفس والعقل والصورة والمادة والجسم ؛ ولذا قالوا : ان وجودها في نفسه لنفسه يعنى لا يحتاج إلى موضوع محقق في الخارج.

وثانيهما : ما يكون له وجود غير مستقل كذلك في هذا العالم ، بل هو متقوم بالموضوع ، كالمقولات التسع العرضية فان وجوداتها متقومة بموضوعاتها ، فلا يعقل تحقق عرض ما بدون موضوع يتقوم به ؛ ولذا قالوا : ان وجود العرض في نفسه عين وجوده لموضوعه ، فكذلك الموجودات في عالم الذهن على نوعين :

أحدهما : ما يكون له استقلال بالوجود في عالم المفهومية والذهن ، كمفاهيم الأسماء بجواهرها وأعراضها واعتبارياتها وانتزاعياتها ، فان مثل مفهوم الإنسان والسواد والبياض وغيرها من المفاهيم المستقلة ذاتاً ، فانها تحضر في الذهن بلا حاجة إلى أية معونة خارجية ، سواء كانت في ضمن تركيب كلامي أم لم تكن ؛ بل لو فرضنا فرضاً انه لم يكن في العالم مفهوم ما عدا مفهوم واحد ـ مثلا ـ لما كان هناك ما يمنع من خطوره في الذهن ، فظهر أن حال المفاهيم الاسمية في عالم المفهوم والذهن حال الجواهر في عالم العين والخارج.

وثانيهما : ما لا استقلال له في ذلك العالم ، بل هو متقوم بالغير كمعاني الحروف والأدوات ؛ فانها بحد ذاتها وأنفسها متقومة بالغير ومتدلية بها ، بحيث لا استقلال لها في أي وعاء من الأوعية التي فرض وجودها فيه لنقصان في ذاتها ؛ فعدم الاستقلالية من ناحية ذلك النقصان لا من ناحية اللحاظ فقط ، فلذا لا تخطر في الذهن عند التكلم بها وحدها أي (من دون التكلم بمتعلقاتها) فلو أطلق كلمة (في) وحدها أي (من دون ذكر متعلقها) فلا يخطر منها شيء في الذهن.

٦٠