محاضرات في أصول الفقه - ج ١

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
المطبعة: الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٠٠

أسماء الأجناس ، فكما أنها لا تدل على زمان خاص ، فكذلك تلك. ومن هنا لا تجوّز في قولنا (زيد كان قائماً بالأمس) أو (زيد سيكون ضارباً) ونحو ذلك ، كما أنه لا تجوز في قولنا (زيد كان إنسانا) أو (سيكون تراباً) إلى غير ذلك ، فلو كان زمن النطق داخلا في مفهومها لزم التجوز في هذه الأمثلة لا محالة ، وكذا لا دلالة فيها على أحد الأزمنة الثلاثة أيضاً ، وذلك لأن تلك الأوصاف كما تستند إلى الزمانيات ، كذلك تستند إلى نفس الزمان وإلى ما فوقه من المجردات ، مع أنه لا يعقل أن يكون للزمان زمان ، وكذا للمجردات ، والإسناد في الجميع على نسق واحد ، ولو كان خصوص زمان ، أو أحد الأزمنة داخلا في مفهومها لكان إسنادها إلى نفس الزمان ، وما فوقه محتاجاً إلى لحاظ عناية وتجريد.

نعم إذا أسندت إلى الزمانيات تدل على ان تلبس الذات بالمبدإ واقع في أحد الأزمنة ، وهذا لا من جهة ان الزمان مأخوذ في مفهومها جزءاً أو قيداً ، بل من جهة ان قيام الفعل بالفاعل الزماني لا يكون إلا في الزمان ، فوقوعه في أحد الأزمنة مما لا بد منه.

ومن هنا يظهر ان المراد من الحال ليس زمن النطق والتكلم ولا أحد الأزمنة الثلاثة ، بل المراد منه فعلية تلبس الذات بالمبدإ ، إذاً مرجع النزاع إلى سعة المفاهيم الاشتقاقية وضيقها بمعنى ان المشتقات هل هي موضوعة للمفاهيم التي مطابقها في الخارج خصوص الذات حال تلبسها بالمبدإ ، أو الأعم من ذلك ومن حال الانقضاء ، فبناء على القول بالأعم كانت مفاهيمها قابلة للانطباق خارجاً على فردين : هما المتلبس فعلا والمنقضى عنه المبدأ. وعلى القول بالأخص كانت مفاهيمها غير قابلة للانطباق إلا على فرد واحد ، وهو خصوص المتلبس بالمبدإ فعلا.

وأما ما يقال ـ من أن الظاهر من إطلاق المشتقات وحملها على شيء هو فعلية تلبس الذات بالمبدإ حين النطق والتكلم ، فان الظاهر من قولنا (زيد قائم) كونه كذلك بالفعل ، وفي زمان النطق ، فلا معنى للنزاع في كون المشتق موضوعاً للأعم

٢٤١

أو للأخص بعد التسالم على ان المرجع في تعيين مداليل الألفاظ ومفاهيمها هو فهم العرف ، والمفروض أن المتفاهم عندهم من الإطلاق والحمل هو خصوص المتلبس بالمبدإ فعلا حين التكلم ـ فهو وان كان صحيحاً بالإضافة إلى الاستظهار من الإطلاق إلا انه لا يستلزم بطلان النزاع في المقام ، فان الظهور من جهة الإطلاق يختص بموارد الحمل وما بحكمه ، ولا يعم جميع الموارد ، كما إذا قيل (لا تكرم الفاسق) أو (لا تهن العالم) ونحو ذلك ، فيقع البحث في أن موضوع الحكم هو خصوص المتلبس بالمبدإ أو للأعم منه ومن المقتضى.

فتحصل مما ذكرناه ان المراد بالحال هو فعلية التلبس بالمبدإ لا حال النطق ولذا صح إطلاق المشتق بلحاظ حال التلبس وان لم يكن ذلك زمان النطق.

(الأمر الخامس) : ذكر المحقق صاحب الكفاية ـ قده ـ انه لا أصل في المقام ليعول عليه عند الشك في تعيين الموضوع له وانه المعنى الوسيع أو المعنى الضيق بعد عدم تمامية الأدلة على تعيين الوضع لأحدهما ، بتقريب ان أصالة عدم ملاحظة الواضع الخصوصية في الموضوع له عند وضعه معارضة بأصالة عدم ملاحظته العموم والإطلاق فيه ، لأن المفاهيم في حد مفهوميتها متباينات فإذا دار الأمر بين الوضع لمفهوم عام أو لمفهوم خاص ، فكما يحتمل لحاظ الأول عند الوضع ، فكذلك يحتمل لحاظ الثاني ، وحيث ان كل واحد من اللحاظين حادث مسبوق بالعدم فجريان الأصل في أحدهما معارض بجريانه في الآخر. هذا مضافا إلى عدم جريانه في نفسه لأن أصالة عدم لحاظ الخصوصية لا تثبت الوضع للأعم إلا على القول باعتبار الأصل المثبت ، وكذا العكس.

وعليه فتنتهي النوبة إلى الأصول الحكمية.

وذكر في الكفاية ان هذه الأصول تختلف باختلاف الموارد فالموارد التي يشك فيها في حدوث الحكم بعد زوال العنوان الّذي أخذ في الموضوع يرجع فيها إلى أصالة البراءة ، كما إذا فرضنا ان زيداً كان عالماً ثم زال عنه العلم وبعد ذلك ورد في الدليل (أكرم كل عالم) فشككنا في وجوب إكرام «زيد» لاحتمال كون المشتق

٢٤٢

موضوعا للأعم. وأما الموارد التي يشك فيها في بقاء الحكم بعد حدوثه وثبوته فالمرجع فيها هو الاستصحاب ، وذلك كما لو كان زيد عالماً وأمر المولى بوجوب (إكرام كل عالم) ثم بعد ذلك زال عنه العلم وأصبح جاهلا ، فلا محالة نشك في بقاء الحكم لاحتمال كون المشتق موضوعاً للأعم ، إذاً نستصحب بقائه.

لا يخفى ان ما أفاده ـ قده ـ أولا من انه لا أصل هنا ليعول عليه عند الشك في الوضع للمفهوم الوسيع أو الضيق فهو صحيح ، لما عرفت.

وأما ما أفاده ـ قده ـ ثانياً من أنه لا مانع من الرجوع إلى الأصل الحكمي في المقام وهو أصالة البراءة في موارد الشك في الحدوث ، والاستصحاب في موارد الشك في البقاء فلا يمكن المساعدة عليه ، وذلك : لأنه لا فرق بين موارد الشك في الحدوث ، وموارد الشك في البقاء ، ففي كلا الموردين كان المرجع هو أصالة البراءة ، دون الاستصحاب.

أما في موارد الشك في حدوث التكليف فالأمر واضح.

وأما في موارد الشك في البقاء فبناء على ما سلكناه في باب الاستصحاب من عدم جريانه في الشبهات الحكمية خلافا للمشهور فالأمر أيضاً واضح ، فان الاستصحاب فيها دائماً معارض باستصحاب عدم سعة المجعول ، وبالتعارض يتساقط الاستصحابان لا محالة.

وأما على المسلك المشهور من جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية فالاستصحاب لا يجري في المقام أيضاً ، وذلك : لاختصاص جريانه بما إذا كان المفهوم فيه متعيناً ومعلوماً من حيث السعة والضيق ، وكان الشك متمحضاً في سعة الحكم المجعول وضيقه ، كما لو شككنا في بقاء حرمة وطء الحائض بعد انقطاع الدم وقبل الاغتسال فالمرجع فيه هو استصحاب بقاء الحرمة إلى أن تغتسل ، أو لو شككنا في بقاء نجاسة الماء المتغير بعد زوال تغيره ، أو في بقاء نجاسة الماء المتمم كراً بناء على نجاسة الماء القليل بالملاقاة فالمرجع في جميع ذلك هو استصحاب بقاء

٢٤٣

الحكم ، وبه يثبت سعته.

واما فيما لا يتعين مفهوم اللفظ ومعناه ، وهو المعبر عنه بالشبهة المفهومية فلا يجري الاستصحاب فيه ، لا حكما ، ولا موضوعاً.

أما الأول فلما ذكرناه في بحث الاستصحاب من اعتبار وحدة القضية المتيقنة مع المشكوك فيها موضوعاً ومحمولا في جريان الاستصحاب ، ضرورة انه لا يصدق نقض اليقين بالشك مع اختلاف القضيتين موضوعاً أو محمولا ، وحيث أن في موارد الشبهات المفهومية لم يحرز الاتحاد بين القضيتين لا يمكن التمسك بالاستصحاب الحكمي ، فإذا شك في بقاء وجوب صلاة العصر ، أو الصوم بعد استتار القرص وقبل ذهاب الحمرة المشرقية عن قمة الرّأس من جهة الشك في مفهوم المغرب وان المراد به هو الاستتار أو ذهاب الحمرة؟ فعلى الأول كان الموضوع وهو (جزء النهار) منتفياً ، وعلى الثاني هو كان باقياً ، وبما انا لم نحرز بقاء الموضوع فلم نحرز الاتحاد بين القضيتين ، وبدونه لا يمكن جريان الاستصحاب.

وأما الثاني وهو استصحاب بقاء الموضوع فلعدم الشك في انقلاب حادث زماني ليحكم ببقاء المتيقن إذ مع قطع النّظر عن وضع اللفظ وتردد مفهومه بين السعة والضيق ليس لنا شك في أمر خارجي ، فان استتار القرص عن الأفق حسي معلوم لنا بالعيان ، وذهاب الحمرة غير متحقق كذلك ، فما ذا يكون هو المستصحب.

وبعبارة واضحة ان المعتبر في الاستصحاب امران : اليقين السابق والشك اللاحق مع اتحاد المتعلق فيهما ، وهذا غير متحقق في الشبهات المفهومية ، فان كلا من الاستتار وعدم ذهاب الحمرة متيقن فلا شك ، وانما الشك في بقاء الحكم ، وفي وضع اللفظ لمعنى وسيع أو ضيق ، وقد عرفت ان الاستصحاب بالنسبة إلى الحكم غير جار ، لعدم إحراز بقاء الموضوع ، وأما بالإضافة إلى وضع اللفظ فقد تقدم انه لا أصل يكون مرجعاً في تعيين السعة أو الضيق. وما نحن فيه من هذا القبيل بعينه ، فان الشبهة فيه مفهومية ، والموضوع له مردد بين خصوص المتلبس

٢٤٤

أو الأعم منه ومن المنقضى فالاستصحاب لا يجري في الحكم لعدم إحراز اتحاد القضية المتيقنة مع المشكوكة ، وقد مر ان الاتحاد مما لا بد منه في جريان الاستصحاب ـ مثلا ـ العالم بما له من المعنى موضوع للحكم ، وحيث انه مردد بين أمرين : المتلبس بالمبدإ والأعم فالتمسك باستصحاب بقاء الحكم غير ممكن للشك في بقاء موضوعه ، وكذلك لا يجري الاستصحاب بالنسبة إلى الموضوع لعدم الشك في شيء خارجاً مع قطع النّظر عن وضع المشتق وتردد مفهومه بين الأعم والأخص وقد عرفت أن المعتبر في جريان الاستصحاب أمران : اليقين السابق والشك اللاحق مع وحدة متعلقهما في الخارج ، والشك في مقامنا غير موجود ، فان تلبس زيد ـ مثلا ـ بالمبدإ سابقاً وانقضاء المبدأ عنه فعلا كلاهما متيقن فلا شك في شيء ، وإنما الشك في وضع المشتق وبقاء الحكم ، أما بالنسبة إلى وضع المشتق فقد عرفت انه لا أصل يرجع إليه في تعيين مفهوم اللفظ ووضعه سعة أو ضيقاً.

وتوهم جريان الأصل في بقاء الموضوع بوصف موضوعيته فانه مشكوك فيه مدفوع بأنه عبارة أخرى عن جريان الأصل في بقاء الحكم ، وقد عرفت عدم جريانه فيه.

فالنتيجة ان الاستصحاب في الشبهات المفهومية ساقط ولو قلنا بجريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية فيما إذا كان الشك في سعة المجعول وضيقه.

وقد أشار شيخنا العلامة الأنصاري ـ قده ـ في آخر بحث الاستصحاب في مسألة اشتراط بقاء الموضوع فيه إلى هذا المعنى وهو عدم جريان الاستصحاب في موارد الشبهات المفهومية.

فقد أصبحت النتيجة : أن المرجع في كلا الموردين هو أصل البراءة.

فما ذكره المحقق صاحب الكفاية ـ قده ـ من الفرق بين الموردين وان المرجع في المورد الثاني هو الاستصحاب دون البراءة غير صحيح.

نستنتج مما ذكرناه حول المشتق لحد الآن عدة أمور :

٢٤٥

(الأول) : ان محل البحث لا يعم جميع المشتقات بل يخص بعضها ويعم بعض أصناف الجوامد وهو (ما كان مفهومه منتزعاً عن أمر خارج مقام ذاته).

(الثاني) : ان ملاك دخول شيء في محل البحث أن يكون واجداً لركيزتين :

١ ـ أن يكون قابلا للحمل على الذات ولا يأبى عنه.

٢ ـ ان تبقى الذات بعد انقضاء المبدأ عنها ، فإذا اجتمعت هاتان الركيزتان في شيء دخل في محل البحث ، وإلا فلا.

(الثالث) : ان محل النزاع هنا يتمحض في وضع هيئات المشتقات وسعة معانيها وضيقها بلا نظر إلى موادها أصلا واختلافها لا يوجب الاختلاف في محل البحث كما تقدم.

(الرابع) : ان الأفعال جميعاً لا تدل على الزمان حسب وضعها. نعم إذا أسندت إلى الزماني دلت على وقوع الحدث في زمن ما ، إلا ان هذه الدلالة خارجة عن مداليلها ، ومستندة إلى خصوصية أخرى كما سبق.

(الخامس) : ان نقاط الميز بين الأفعال بعد خروج الزمان عن مداليلها هي : ان الفعل الماضي يدل على تحقق الحدث قبل زمن التكلم. والمضارع يدل على تحقق الحدث في زمن التكلم أو ما بعده. والأمر يدل على الطلب حال التلفظ ، فهذه النقاط هي النقاط الرئيسية للفرق بينها ، وهي توجب تعنون كل واحد منها بعنوان خاص واسم مخصوص ، وتمنع عن صحة استعمال أحدها في موضع الآخر ، وموجودة في جميع موارد استعمالاتها كما مر بيانه.

(السادس) : ان المراد من الحال المأخوذ في عنوان المسألة هو فعلية تلبس الذات بالمبدإ ، لا زمان النطق ، كما سبق من أن الزمان مطلقاً (سواء كان زمان النطق أم غيره) لم يؤخذ في مفاهيم المشتقات.

(السابع) : انه لا أصل موضوعي يرجع إليه عند الشك في وضع المشتق للأعم أو الأخص.

٢٤٦

(الثامن) : ان الأصل الحكمي في المقام هو البراءة مطلقاً ولو كان للحكم حالة سابقة. هذا تمام الكلام في المقدمات.

الأقوال في المسألة

قال : المحقق صاحب الكفاية ـ قده ـ ان الأقوال في المسألة وان كثرت إلا انها حدثت بين المتأخرين بعد ما كانت ذات قولين بين المتقدمين ، لأجل توهم اختلاف المشتق باختلاف مباديه في المعنى ، أو بتفاوت ما يعتريه من الأحوال ، وقد مرت الإشارة إلى انه لا يوجب التفاوت فيما نحن بصدده.

(أقول) : الصحيح كما أفاده ـ قده ـ وذلك : لما عرفت من أن مركز البحث والنزاع هنا في وضع هيئة المشتق وفي سعة معناه وضيقه واختلافه من كل من الناحيتين المزبورتين أجنبي عن المركز بالكلية.

ولشيخنا الأستاذ ـ قده ـ في المقام كلام وحاصله هو أن النزاع في وضع المشتق لخصوص المتلبس بالمبدإ فعلا أو للأعم منه مبتن على البساطة والتركب في في المفاهيم الاشتقاقية ، فعلى القول بالتركب حيث انه قد أخذ في مفهوم المشتق انتساب المبدأ إلى الذات ، ويكفي في صدق الانتساب التلبس في الجملة. فلا محالة يكون المشتق موضوعاً للأعم ، وعلى القول بالبساطة فمفهوم المشتق ليس إلا نفس المبدأ المأخوذ لا بشرط فهو ملازم لصدق نفس المبدأ ، ومع انتفائه ينتفي العنوان الاشتقاقي لا محالة ، ويكون حاله حينئذ حال الجوامد في أن المدار في صدق العنوان فعلية المبدأ ، وان كان بينهما فرق من جهة أخرى ، وهي أن شيئية الشيء حيث انها بصورته لا بمادته فالمادة لا تتصف بالعنوان أصلا ، ولذا لا يصح استعمالها في المنقضى عنه وما لم يتلبس به بعد ولو مجازاً. وهذا بخلاف المشتقات ، فان المتصف بالعناوين الاشتقاقية هي الذوات وهي باقية بعد الانقضاء وزوال التلبس فيصح الاستعمال مجازاً ، وحيث ان المختار عندنا القول ببساطة المفاهيم الاشتقاقية فيتعين ان الحق هو وضع المشتق لخصوص المتلبس بالمبدإ فعلا. هذا.

٢٤٧

ثم عدل ـ قده ـ عن هذه الملازمة أي استلزام القول بالتركب الوضع للأعم واستلزام القول بالبساطة الوضع للأخص وقال : الحق هو وضع المشتق لخصوص المتلبس مطلقاً سواء قلنا بالبساطة أم بالتركب؟

وأفاد في وجه ذلك ما ملخصه :

أما على البساطة فلان الركن الوطيد على هذا القول هو نفس المبدأ غاية الأمر أنه ملحوظ على نحو لا بشرط ، ومعه لا يأبى عن الحمل على الذات ولا يكون مبايناً لها في الوجود الخارجي ، فالصدق حينئذ متقوم بالمبدإ وجوداً وعدماً ، فإذا انعدم فلا محالة لا يصدق العنوان الاشتقاقي إلا بالعناية ، بل قال : ان العناوين الاشتقاقية من هذه الجهة أسوأ حالا من العناوين الذاتيّة ، فان العناوين الذاتيّة ، وان كانت فعليتها بفعلية صورها والمادة غير متصفة بالعنوان أصلا إلا انها موجودة قبل الاتصاف وبعده وحينه ، ومن هنا يكون الاستعمال فيها قبل الاتصاف وبعد انقضائه غلطاً ، لأن العلائق المذكورة في محلها من الأول أو المشارفة أو علاقة ما كان كلها مختصة بباب المشتقات. وهذا بخلاف العناوين الاشتقاقية ، فانها عين مباديها ، وهي بسيطة سواء كانت المبادئ من أحدا المقولات أم كانت من غيرها؟ وغير مركبة من صورة ومادة ، فإذا انعدمت المبادئ تنعدم العناوين بالكلية ، ولا يبقى منها شيء أبداً.

وتوهم ـ انه لا بد على هذا ان لا يصح استعمال العنوان الاشتقاقي في المنقضى عنه وما لم يتلبس بعد ولو مجازاً بطريق أولى ، لأنه أسوأ حالا من العنوان الذاتي ، والمفروض كما عرفت عدم جواز استعماله فيهما مطلقاً ـ مدفوع بأنه وان كان أسوأ حالا منه إلا ان المتصف بالعناوين الاشتقاقية حين الاتصاف هي الذوات ، وحيث انها موجودة قبل الاتصاف وبعده فيصح الاستعمال بعلاقة الأول أو المشارفة أو علاقة ما كان ، فبقاء الموصوف فيها هو المصحح لجواز الاستعمال وان لم يؤخذ في المعنى. وهذا بخلاف العناوين الذاتيّة ، فانها كما عرفت عناوين لنفس الصور

٢٤٨

دون المادة ، فالمادة لا تتصف بها في حال من الأحوال ـ مثلا ـ إنسانية الإنسان بصورتها النوعية ، والمادة المشتركة لا تتصف بالإنسانية أبداً ، ولا يصدق عليها عنوانها ، وتلك المادة وان كانت موجودة قبل الاتصاف وبعده وحينه إلا انها لا تتصف بالإنسانية في حال ، ولذا لا يصح الاستعمال في المنقضى وما لم يتلبس بعد حتى مجازاً ، لعدم تحقق شيء من العلائق المزبورة.

فقد أصبحت النتيجة ان البراهين القائمة على البساطة تدل بالملازمة على وضع المشتق لخصوص المتلبس فعلا ، دون الأعم.

وأما على التركب ، فلان الذات المأخوذة في المفاهيم الاشتقاقية لا تكون مطلق الذات ، بل خصوص ذات متلبسة بالمبدإ ومتصفة بصفة ما على أنحائها المختلفة من الجواهر والأعراض وغيرهما ، ومن الواضح انه لا جامع بين الذات الواجدة لصفة ما والذات الفاقدة لها ، فان مفهوم المشتق على القول بالتركب مركب من الذات والمبدأ ، وليس مركباً من المبدأ والنسبة الناقصة ، ليكون المفهوم مركباً من مفهوم اسمي وحرفي ، وإلا لم يصح حمله على الذات أبداً ، ولم يصح استعماله إلا في ضمن تركيب كلامي ، مع ان الأمر ليس كذلك ، لصحة الحمل على الذات ، وصحة الاستعمال منفرداً ، بل هو كما عرفت مركب من الذات والمبدأ ، غاية الأمر ان المفهوم على هذا متضمن لمعنى حرفي كأسماء الإشارة والضمائر ونحوهما. ومن هنا قلنا انه بناء على التركب فالذات هي الركن الوطيد ، ولكنها لم تؤخذ مطلقة ، بل المأخوذ هو حصة خاصة منها وهي الذات المتلبسة بالمبدإ والمتلونة بهذا اللون فعلا ، ولا يكون جامع بينها وبين الذات المنقضية عنها المبدأ ، ليصدق عليهما صدق الطبيعي على أفراده والكلي على مصاديقه.

أو فقل ان وضع المشتق للأعم يتوقف على تصوير جامع بين المنقضى والمتلبس في الواقع ومقام الثبوت ، ولما لم يعقل وجود جامع بينهما ثبوتاً ، فلا مجال لدعوى كون المشتق موضوعاً للأعم إثباتاً.

٢٤٩

نعم لو كان الزمان مأخوذاً في مدلول المشتق بان يقال انه وضع للدلالة على المتلبس في زمن ما وهو صادق على المتلبس في الحال وفي الماضي وجامع بينهما لأمكن أن يدعى بأنه موضوع للجامع بين الفردين. ولكن قد تقدم ان الزمان خارج عن مفهومه وغير مأخوذ فيه لا جزء ولا قيداً ولا خاصاً ولا عاماً ، بل لو قلنا بأخذ النسبة الناقصة في مداليلها فهي لم توضع إلا للمتلبس ، وذلك لأن النسبة الناقصة هنا حالها حال سائر النسب التقييدية والإضافات ، وهي لا تصدق إلا في موارد التلبس الفعلي ، ومن الظاهر انه لا جامع بين النسبة في حال التلبس والنسبة في حال الانقضاء ، ليكون المشتق موضوعاً بإزاء ذلك الجامع.

تلخص على ضوء ما بيناه ان المشتق وضع للمتلبس بالمبدإ فعلا على كلا القولين ، ولا مجال حينئذ للنزاع في مقام الإثبات أبدا ، فانه متفرع على إمكان تصوير الجامع في مقام الثبوت ، وقد عرفت عدم إمكانه.

وغير خفي انه يمكن تصوير الجامع على القول بالتركب بأحد الوجهين :

(الأول) : أن يقال ان الجامع بين المتلبس والمنقضى اتصاف الذات بالمبدإ في الجملة في مقابل الذات التي لم تتصف به بعد ، فان الذات في الخارج على قسمين :

قسم منها لم يتلبس بالمبدإ بعد وهو خارج عن المقسم.

وقسم منها متصف به ، ولكنه أعم من أن يكون الاتصاف باقياً حين الجري والنسبة أم لم يكن باقياً؟ وهو جامع بين المتلبس والمنقضى ، وصادق عليهما صدق الطبيعي على افراده ، فالموضوع له على القول بالأعم هو صرف وجود الاتصاف العاري عن أية خصوصية كما هو شأن الجامع والمقسم في كل مورد ، وهو كما ينطبق على الفرد المتلبس حقيقة ، كذلك ينطبق على الفرد المنقضى ، فان هذا المعنى موجود في كلا الفردين.

أو فقل ان الجامع بينهما خروج المبدأ من العدم إلى الوجود ، فان المبدأ كما حرج من العدم إلى الوجود في موارد التلبس ، كذلك خرج في موارد الانقضاء ،

٢٥٠

فصرف وجود المبدأ للذات من دون اعتبار امتداده وبقائه جامع بين الفردين ، وخصوصية البقاء والانقضاء من خصوصيات الأفراد ، وهما خارجتان عن المعنى الموضوع له.

(الثاني) : انا لو سلمنا ان الجامع الحقيقي بين الفردين غير ممكن إلا انه يمكننا تصوير جامع انتزاعي بينهما وهو عنوان أحدهما. نظير ما ذكرناه في بحث الصحيح والأعم من تصوير الجامع الانتزاعي بين الأركان. ولا ملزم هنا لأن يكون الجامع ذاتياً ، لعدم مقتض له ، إذ في مقام الوضع يكفي الجامع الانتزاعي لأن الحاجة التي دعت إلى تصوير جامع هنا هي الوضع بإزائه ، وهو لا يستدعى أزيد من تصوير معنى ما ، سواء كان المعنى من الماهيات الحقيقية أم من الماهيات الاعتبارية؟ أم من العناوين الانتزاعية؟ إذاً للواضع في المقام أن يتصور المتلبس بالمبدإ فعلا ويتصور المنقضى عنه المبدأ ، ثم يتعهد على نفسه بأنه متى ما قصد تفهيم أحدهما يجعل مبرزه هيئة ما من الهيئات الاشتقاقية على سبيل الوضع العام والموضوع له العام أو الخاصّ.

فالنتيجة ان تصوير الجامع على القول بالأعم بأحد هذين الوجهين بمكان من الإمكان.

وعلى هذا الضوء يظهر أن للنزاع في مقام الإثبات مجالا واسعاً.

وأما ما أفاده ـ قده ـ من أنه على البساطة لا يتصور الجامع بين المتلبس والمنقضى والواجد والفاقد فالأمر كما أفاده لو كان مفهوم المشتق بعينه هو مفهوم المبدأ ، وكان الفرق بينهما بالاعتبار واللحاظ أي (اعتباره لا بشرط وبشرط لا) إذ حينئذ كان الركن الوطيد هو المبدأ ، فإذا زال زال العنوان الاشتقاقي لا محالة ، إلا ان هذا القول باطل ، فان مفهوم المشتق كما سيأتي بيانه ليس بسيطاً ، وعلى تقدير انه كان بسيطاً فلا يكون عين مفهوم المبدأ ، بل هو مباين له هذا تمام الكلام في مقام الثبوت.

٢٥١

وأما الكلام في مقام الإثبات فلا ينبغي الشك في أن المشتق وضع للمتلبس بالمبدإ فعلا. ويدل على ذلك أمور :

(الأول) : ان المتبادر من المشتقات والمرتكز منها عند أذهان العرف العقلاء خصوص المتلبس لا الأعم ، وهذا المعنى وجداني لكل أهل لغة بالقياس لي لغاته فهم يفهمون من المشتقات عند إطلاقاتها واستعمالاتها المتلبس بالمبدإ فعلا ، ولا تصدق عندهم إلا مع فعلية التلبس والاتصاف ، وصدقها على المنقضى عنه المبدأ وان أمكن إلا انه خلاف المتفاهم عرفا ، فلا يصار إليه بلا قرينة. وهذا التبادر والارتكاز غير مختص بلغة دون أخرى ، لما ذكرناه غير مرة ان الهيئات في جميع اللغات وضعت لمعنى واحد على اختلافها باختلاف اللغات ـ مثلا ـ هيئة «ضارب» في لغة العرب وضعت لعين المعنى الّذي وضعت هيئة «زننده» في لغة الفرس له وهكذا. ومن هنا يفهم من تبادر عنده من كلمة «زننده» خصوص المتلبس ان كلمة ضارب» أيضاً كذلك.

نعم تختلف المواد باختلاف اللغات ، فيختص التبادر فيها بأهل كل لغة فلا يتبادر من لفظ العجمي للعربي شيئاً وبالعكس نظراً إلى اختصاص الوضع بأهله وهذا هو السر في رجوع أهل كل لغة في فهم معنى لغة أخرى إلى أهلها وتبادره عنها فالعجمي يرجع في فهم اللغة العربية إلى العرب ، وهكذا بالعكس. وهذا بخلاف الهيئات ، فانها على اختلاف اللغات مشتركة في معنى واحد ، فالهيئات الاشتقاقية بشتى أنواعها وأشكالها وضعت لمعنى واحد وهو خصوص المتلبس بالمبدإ فعلا.

ثم ان هذا التبادر لا يختص بالجمل التامة ، ليقال ان منشأه ظهور الحمل في التلبس الفعلي ، بل ان حال هيئة المشتق حال هيئة المركبات التقييدية كالإضافة والتوصيف ، فكما ان المتبادر عند أهل العرف من تلك المركبات فعلية النسبة والقيد ، ولا تصدق خارجاً إلا مع فعلية الاتصاف ، فكذلك المتبادر عندهم من المشتقات ذلك. فهذا التبادر يكشف كشفاً قطعياً عن الوضع لخصوص المتلبس ، لأنه غير مستند إلى

٢٥٢

القرينة على الفرض ، ولا إلى كثرة الاستعمال ، ضرورة ان العرف حسب ارتكازهم يفهمون من المشتقات المتلبس من دون ملاحظة الكثرة ، وحصول الأنس منها فالنتيجة دعوى ان هذا التبادر مستند إلى كثرة الاستعمال دون الوضع دعوى جزافية.

(الثاني) : صحة سلب المشتق عمن انقضى عنه المبدأ فيقال زيد ليس بعالم بل هو جاهل ، وهي إمارة ان المشتق مجاز فيه وإلا لم تصح السلب عنه.

وقد يورد عليه بان المراد من صحة السلب ان كان صحة السلب مطلقاً فغير صحيح ، ضرورة صحة حمل المشتق على المنقضى عنه المبدأ بمعناه الجامع. وان كان مقيداً فغير مفيد ، لأن علامة المجاز صحة سلب المطلق دون المقيد.

ولا يخفى ان هذا صحيح فيما إذا تردد المفهوم العرفي للفظ بين (السعة والضيق) ولم يعلم انه موضوع للمعنى الموسع أو المضيق كلفظ العمى ـ مثلا ـ لو تردد مفهومه عرفا ودار بين أن يكون مطلق عدم الأبصار ولو من جهة انه لا عين له كبعض أقسام «الحيوانات» وبين خصوص عدم الأبصار مع وجود عين له ومع شأنية الإبصار ، ولم يثبت انه موضوع للثاني ، لم يمكن إثبات انه وضع للمعنى الثاني بصحة السلب ، وذلك لأنه ان أريد بصحة السلب صحة سلب العمى عما لا عين له بالمعنى المطلق فهو غير صحيح ، بداهة صحة حمله عليه بهذا المعنى. وان أريد بها صحة سلبه عنه بالمعنى الثاني عدم «الإبصار مع شأنيته» فهو وان كان صحيحاً إلا انه لا يثبت ان العمى لم يوضع للأعم ، لأن سلب الأخص لا يلازم سلب الأعم ، وقد ثبت في «المنطق» ان نقيض الأخص أعم من نقيض الأعم ، فسلب الأول حيث انه أعم لا يستلزم سلب الثاني : إلا ان ذلك.

لا يتم في محل كلامنا : وذلك لما تقدم من أن المتبادر عرفاً من المشتق خصوص المتلبس بالمبدإ فعلا ، وهو آية الحقيقة. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى إذا صح سلب المشتق بما له من المفهوم العرفي عن المنقضى عنه المبدأ فهو

٢٥٣

كاشف عن عدم وضعه للجامع وإلا لم يصح سلبه عن مصداقه وفرده في حين من الأحيان ، فإذا صح سلب المشتق بمفهومه العرفي عمن انقضى عنه المبدأ ثبت انه موضوع للمتلبس.

نعم مع قطع النّظر عن التبادر لا يمكن إثبات أن المشتق موضوع للمتلبس بصحة سلبه عن المنقضى كما عرفت.

(الثالث) : لا ريب في تضاد مبادئ المشتقات عرفا بما لها من المعاني الثابتة في الأذهان المرتكزة في النفوس كالقيام. والقعود. والحركة. والسكون. والسواد والبياض. والعلم. والجهل. وما شاكلها ، ضرورة ان اثنين منها لا يجتمعان في الصدق في آن واحد. وعليه فطبعاً تكون العناوين الاشتقاقية المنتزعة عن اتصاف الذات بها متضادة ، ومن هنا يرى العرف التضاد بين عنوان العالم. والجاهل. والأسود. والأبيض. والمتحرك. والساكن .. وهكذا. وهو بنفسه يدل على ان المشتق موضوع للمتلبس دون الأعم ، وإلا لم يكن بينها مضادة عرفاً بما لها من المعاني ، بل كان مخالفة ، وأمكن صدق عنوانين منها معاً على الذات في زمن واحد فيما إذا كان التلبس بأحدهما فعلياً وبالأخير منقضياً ، فيجتمعان في الصدق في آن واحد. فلا مضادة.

وبتعبير آخر : ان المشتق لو كان موضوعاً للأعم لم يلزم اجتماع الضدين عند صدق عنوانين على الذات حقيقة ، بل يصح ان يقال عرفاً (هذا أسود. وأبيض) (أو عالم وجاهل) في آن واحد ، مع أن الأمر ليس كذلك ، ضرورة ان هذا من اجتماع الضدين حقيقة كما ان قولنا (هذا سواد وبياض) (أو علم وجهل) كذلك.

نعم لو كان الصدق مختلفاً في الزمان بان كان صدق أحدهما في زمان وصدق الآخر في زمان آخر ، أو لم يكن الإطلاق في كلا الحملين حقيقياً ، بل كان في أحدهما بالحقيقة ، وفي الآخر بالعناية فلا تضاد ، إذ المعتبر في تحقق التضاد.

٢٥٤

أو التناقض في أي مورد كان وحدة الزمان مع اعتبار بقية الوحدات ، ومع الاختلاف فيه ، أو في غيره من الوحدات ، أو لم يكن الإطلاق في كليهما على نحو الحقيقة ينتفي التضاد.

فالنتيجة : ان ارتكاز التضاد بين العناوين بما لها من المعاني قرينة عرفية على الوضع للمتلبس.

ثم ان هذا الّذي ذكرناه من الأدلة على الوضع لخصوص المتلبس لا يختص بهيئة دون أخرى ، وبلغة دون ثانية ، بل يجري في الجميع ، ولا أثر لاختلاف المبادئ في ذلك ، كما انه لا أثر لاختلاف الطواري والحالات. وهذا واضح.

وعليه فما ذكره القوم من التفصيلات باعتبار اختلاف الطواري والحالات تارة وباعتبار اختلاف المبادئ تارة أخرى لا يرجع إلى معنى محصل.

فقد تحصل مما ذكرناه انه لا مناص من الالتزام بوضع المشتق لخصوص المتلبس ومما يؤيد ما ذكرناه من الاختصاص ان الفقهاء (رض) لم يلتزموا بترتيب الآثار في موارد الانقضاء ، ومن هنا لم يحكموا بوجوب الإنفاق على الزوجة بعد انقضاء الزوجية عنها بطلاق ، أو نحوه وكذا بجواز النّظر إليها.

أدلة القول بالأعم

وقد استدل على القول بالأعم بان استعمال المشتق في موارد الانقضاء أكثر من استعماله في موارد التلبس فيقال هذا (قاتل زيد) وذاك (مضروب عمرو) .. وهكذا. فلو كان المشتق موضوعاً للمتلبس لزمه أن تكون هذه الاستعمالات ، وما شاكلها استعمالات مجازية ، وهذه بعيدة في نفسها ، مع انها تنافي حكمة الوضع التي دعت إلى وضع الألفاظ لغرض التفهيم ، فان الاستعمال في موارد الانقضاء إذا كان أكثر فالحاجة تدعو إلى الوضع بإزاء الجامع دون خصوص المتلبس. ويرده :

٢٥٥

أولا ان ذلك مجرد استبعاد ، ولا مانع من أن يكون استعمال اللفظ المعنى المجازي أكثر من استعماله في المعنى الحقيقي مع القرينة ، ولا محذور ذلك أبداً ، كيف فان باب المجاز أوسع وأبلغ من الاستعمال في المعنى الحقيقي ، ومن هنا تستعمل التشبيه. والكناية. والاستعارة. والمبالغة التي هي من أقسام لمجاز في كلمات الفصحاء والبلغاء أكثر من استعمالها في كلمات غيرهم ، والسر في كثرة الاستعمال في المعاني المجازية ان استعمال اللفظ في المعنى المناسب للمعنى الموضوع له حيث انه يجوز بأدنى مناسبة فلا محالة يتكثر بتكثر المناسبات على حسب اختلاف الموارد ومقتضياتها. ومن ثم لا يكون لذلك ضابط كلي ، فقد يكون الاستعمال في المعنى المجازي أكثر من الاستعمال في المعنى الحقيقي ، وقد يكون بالعكس ، وقد يكون لمعنى واحد حقيقي معان متعددة مجازية ، بل ربما تزداد المعاني المجازية بمرور الزمن.

وثانياً ان استعمال المشتق في موارد الانقضاء وان كان كثيراً ولا شبهة فيه ، لا انه لم يعلم ان هذه الاستعمالات بلحاظ حال الانقضاء ، بل الظاهر انها كانت لحاظ حال التلبس ، ولا إشكال في ان هذه الاستعمالات على هذا حقيقة ، فانها استعمالات في المتلبس واقعاً ، فإطلاق (ضارب عمرو) على «زيد» باعتبار زمان تلبسه به لا باعتبار اتصافه به فعلا .. وهكذا. إذاً فلا صغرى للكبرى المذكورة وهي ان كثرة استعمال اللفظ في المعنى المجازي لا تلائم حكمة الوضع ، فانه لا مجاز على هذا ليكون الاستعمال فيه أكثر.

والنتيجة ان الاستعمالات التي جاءت في كلمات الفصحاء في موارد الانقضاء ليس شيء منها بلحاظ حال الانقضاء ، بل ان جميعها بلحاظ حال التلبس فتكون حقيقة لا مجازاً.

ثم ان استعمال المشتق في المنقضى بلحاظ حال الانقضاء وان كان محتملا في القضايا الخارجية في الجملة ، إلا انه في القضايا الحقيقية غير محتمل ، فان

٢٥٦

الاستعمال فيها دائماً في المتلبس دون المنقضى ، بل لا يعقل فيها حال الانقضاء ، وهذا كما في قوله تعالى : (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) وقوله تعالى (السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) فان المقصود منهما ان كل شخص فرض متلبساً بالزنى ، أو السرقة فهو محكوم عليه بجلده ، أو بقطع يده ، فالمشتق في كلتا الآيتين استعمل في المتلبس ، وهو تمام الموضوع للحكم المذكور فيهما ، وقد ذكرناه غير مرة ان الموضوع في القضايا الحقيقية لا بد من أخذه مفروض الوجود في الخارج ، ومن هنا ترجع كل قضية حقيقية إلى قضية شرطية مقدمها وجود الموضوع وتاليها ثبوت الحكم له ، فالموضوع في الآيتين كل إنسان فرض متلبساً بالزنى ، أو السرقة في الخارج ، فعنوان الزاني ، أو السارق مستعمل فيمن تلبس بالمبدإ ، غاية ما في الباب ان زمان القطع ، والجلد متأخر في الخارج عن زمن التلبس بأحد المبدأين المزبورين ، فانهما يتوقفان على ثبوت التلبس بأحدهما عند الحاكم بأحد الطرق المعتبرة كالبينة ، أو نحوها.

فقد تحصل ان الاستعمال في المنقضى في القضايا الحقيقية غير معقول ، بل يكون الاستعمال دائماً في المتلبس.

وعلى هذا الضوء يظهر فساد ما ذكره بعضهم من أن المشتق في الآيتين ، وما شاكلهما استعمل فيمن انقضى عنه المبدأ ، وفي ذلك دلالة على ان المشتق وضع للأعم ، كما انه يظهر بذلك انه لا وجه لما أفاده المحقق صاحب الكفاية ـ قده ـ في مقام الجواب عن هذا الاستدلال من أن الاستعمال فيها بلحاظ حال التلبس دون الانقضاء ، وذلك لما عرفت من أن حالة الانقضاء في أمثال المقام لا تتصور ، ليكون الاستعمال بلحاظ حال التلبس دونها. وهذا.

نظير قولك : (الجنب أو الحائض يجب عليهما الغسل) فان المراد بالجنب ، أو الحائض هو كل إنسان فرض متلبساً بالجنابة أو الحيض خارجاً فهو محكوم عليه بالغسل ، فعنوان الجنب ، أو الحائض قد استعمل فيمن تلبس بالمبدإ

٢٥٧

ولا يتصور فيه الانقضاء ، غاية الأمر ان الامتثال يقع متأخراً عن زمان الوجوب كما كان هو الحال في الآيتين.

فالنتيجة قد أصبحت انه لا وجه للاستدلال على الوضع للأعم بالآيتين المزبورتين.

وقد استدل ثانياً على القول بالأعم بما استدل الإمام عليه‌السلام بقوله تعالى : (لا ينال عهدي الظالمين) على عدم لياقة من عبد الأصنام للخلافة ، ولو بعد دخوله في الإسلام ، وتقريب الاستدلال به ان المشتق لو كان موضوعاً لخصوص المتلبس يتم استدلال الإمام عليه‌السلام بالآية المباركة على عدم لياقة الخلفاء الثلاث للخلافة الإلهية ، لأنهم في زمن دعواهم لمنصب الخلافة كانوا متشرفين بقبول الإسلام ، وغير متلبسين بالظلم وعبادة الوثن ظاهراً ، وأنما كان تلبسهم به قبل التشرف بالإسلام وفي زمن الجاهلية. فالاستدلال بالآية لا يتم إلا على القول بالوضع للأعم ، ليصدق عليهم عنوان الظالم فعلا فيندرجوا تحت الآية.

ولا يخفى ان النزاع كما عرفت لا يتأتى في الآية المباركة ، فانها من القضايا الحقيقية التي أخذ الموضوع فيها مفروض الوجود ، فان فعلية الحكم فيها تابعة لفعلية موضوعه ، ولا يعقل تخلف الحكم عنه ، فانه كتخلف المعلول عن علته التامة.

نعم يجري النزاع في القضايا الخارجية التي يكون الموضوع فيها امراً موجوداً خارجياً ، فانه يمكن أن تؤخذ الحكم فيها باعتبار خصوص المتلبس ، أو الأعم منه ومن المنقضى عنه المبدأ ، فالترديد في استعمال المشتق في المتلبس ، أو الأعم انما يتأتى في القضايا الخارجية دون القضايا الحقيقية ـ مثلا ـ عنوان «العالم» في قولنا (يجب إكرام العالم) يستعمل فيمن تلبس بالمبدإ أبداً ، سواء تحقق التلبس في الخارج أم لم يتحقق ، فانه قد فرض فيه وجود شخص متلبس بالعلم وحكم بوجوب إكرامه لا نعقل الانقضاء فيه ليتنازع في عموم الوضع له.

وعلى هذا الضوء يظهر ان استدلال الإمام عليه‌السلام بالآية المباركة على عدم لياقة

٢٥٨

عبدة الأوثان للخلافة غير مبتن على كون المشتق موضوعاً للأعم ، ليصدق على من انقضى عنه المبدأ حقيقة ، بل هو مبتن على نزاع آخر أجنبي عن نزاع المشتق. وهو ان العناوين التي تؤخذ في موضوعات الأحكام ، ومتعلقاتها في القضايا الحقيقية هل تدور الأحكام مدارها حدوثاً وبقاء؟ أم تدور مدار حدوثها فقط؟ والصحيح ان الأحكام المترتبة على تلك العناوين تختلف حسب اختلاف الموارد ومقتضياتها ، ففي غالب الموارد تدور مدارها حدوثاً وبقاء ، وهذا هو المتفاهم منها عرفاً ، فإذا ورد النهي عن الصلاة خلف «الفاسق» يفهم منه عرفاً ان عدم جواز الاقتداء به يدور مدار فسقه حدوثاً وبقاء ، فلو انتفى عنه الفسق فلا محالة ينتفي الحكم المترتب عليه أيضاً.

وفي بعض الموارد لا يدور بقاء الحكم مدار بقاء عنوان موضوعه بل يبقى بعد زوال العنوان أيضاً ، فالعنوان وان كان دخيلا في حدوث الحكم إلا انه لا دخل له في بقائه (ويعبر عنه بان حدوثه علة محدثة ومبقية) وهذا كما في آيتي الزنا ، والسرقة ، فان وجوب القطع ، والجلدة يحدثان عند حدوث التلبس بهذين المبدأين ، ولكنهما لا يدور ان مدار بقاء العنوان ـ أصلا ـ ولا دخل لهذا بوضع المشتق للأعم ، أو للأخص.

وبتعبير واضح : ان العناوين التي تؤخذ في القضايا على أنحاء ثلاثة :

(الأول) : ان تلاحظ معرفة إلى الأفراد ، ومشيرة إليها من دون كونها دخيلة في الحكم أصلا. وهذا يتفق في القضايا الخارجية ، فان العناوين التي تؤخذ فيها قد تلاحظ معرفة إلى الافراد ، فيقال (صل خلف ابن زيد) فعنوان ابن زيد مد أخذ معرفاً إلى ما هو الموضوع في الواقع بلا دخل له في الحكم.

(الثاني) : تلاحظ دخيلة في الحكم بمعنى أن الحكم يدور مدارها حدوثاً وبقاء ، وهذا هو الظاهر عرفاً من العناوين المأخوذة في القضايا الحقيقية ، فقوله عز من قائل (فاسئلوا أهل الذّكر ان كنتم لا تعلمون) ظاهر في أن وجوب السؤال

٢٥٩

يدور مدار صدق هذا العنوان وجوداً وعدماً.

(الثالث) : تلاحظ دخيلة في الحكم حدوثاً لا بقاء بمعنى ان بقاء الحكم لا يدور مدار بقاء العنوان ، فيكون حدوث العنوان علة محدثة ومبقية معاً ، فعناوين القضايا الحقيقية لا تخلو عن القسمين الأخيرين وان كان القسم الأول منهما هو الغالب والكثير فيها ، ومن ثم لم نجد لحد الآن مورداً يكون العنوان في القضية الحقيقية لوحظ معرفاً إلى ما هو الموضوع في الواقع بلا دخل له في الحكم.

وعلى ضوء معرفة هذا يقع الكلام في ان عنوان الظالم المأخوذ في موضوع الآية المباركة هل لوحظ دخيلا في الحكم على النحو الأول؟ أو على النحو الثاني؟ فالاستدلال بالآية الكريمة على عدم لياقة عبدة الأصنام للخلافة إلى الأبد مبتن على أن يكون دخله على النحو الثاني دون الأول.

ولا يخفى ان الارتكاز الناشئ من مناسبة الحكم والموضوع يستدعى ان التلبس بهذا العنوان آنا ما كاف لعدم نيل العهد والخلافة أبداً.

والوجه فيه ان جبلة الناس على ان المتقمص لمنصب الخلافة والإمامة التي هي أعظم منصب إلهي بعد الرسالة لا بد أن يكون مثالا سامياً للمجتمع (في سيرته وأخلاقه) ومعرى عن أية منقصة (خَلقية وخُلقية) وقدوة للناس ، وقائداً مثالياً لهم ، فلو ان أحداً (اعتاد شرب الخمر) (والزناء ، أو اللواط) في زمان ثم ترك وتاب وبعد ذلك ادعى منصب الخلافة من الله تعالى لم تقبل دعواه ، لأجل ان الناس لا يرونه قابلا لأن يتصدى هذا المنصب الإلهي ، بل يعتقدون ان الله تعالى لا يجعله خليفة لهم ، فان الخليفة هو ممثل من قبله تعالى ، والممثل من قبله لا بد أن يكون مثالا روحياً للبشر ، ومربياً لهم (في سيرته) وداعياً إلى الله تعالى (بأخلاقه وأعماله) ليكون اثره أثراً طيباً وسامياً في النفوس. وهذا كنبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وأوصيائه الأطيبين عليه‌السلام وليس معنى هذا اعتبار العصمة قبل الخلافة ، ليقال انها لا تعتبر قبلها بل من جهة ان الخلافة ، لعلو شأنها ، وجلالة قدرها ، ومكانتها لا بد أن يكون

٢٦٠