محاضرات في أصول الفقه - ج ١

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
المطبعة: الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٠٠

والحجر» وما شاكل ذلك فيرده انها غير متناهية باعتبار اجزائها من الجنس والفصل وعوارضها من اللازمة والمفارقة المتصورة لها ... وهكذا تذهب إلى غير النهاية بل يكفي لعدم تناهي هذه المعاني نفس مراتب الاعداد فانك عرفت ان مراتبها تبلغ إلى حد لا نهاية له ، وكل مرتبة منها معنى كلي لها افراد وحصص في الخارج والواقع ـ مثلا ـ العشرة مرتبة منها ، والحادي عشر مرتبة أخرى ، والثاني عشر مرتبة ثالثة .. وهكذا ، ولكل واحدة منها في الخارج افراد تنطبق عليها انطباق الطبيعي على افراده ، والكلي على مصاديقه.

فما أفاده ـ قده ـ من أن المعاني الكلية متناهية غير صحيح. على أن التفهيم بها في جميع الموارد لا يخلو عن إشكال كما لا يخفى.

وكيف كان فقد ظهر من جميع ما ذكرناه ان الاشتراك ليس بواجب ولو سلمنا إمكان وضع الألفاظ للمعاني غير المتناهية ، لعدم تناهي الألفاظ أيضا.

وقد قيل باستحالة الاشتراك في اللغات لمنافاته المصلحة الباعثة للواضع إلى الوضع وهي التفهيم والتفهم في مقام الحاجة ، حيث ان إبراز المقاصد لا يمكن في جميع الموارد إلا باللفظ ، وأما غيره كالإشارة أو نحوها فهو لا يفي بذلك في المحسوسات فضلا عن المعقولات ، وعليه فصار الوضع ضروريا لضرورة الحاجة إلى التفهيم والتفهم ، فالاشتراك بما انه يخل بذلك الغرض ويوجب الإجمال في المراد من اللفظ فهو محال صدوره من الواضع الحكيم ، لكونه لغواً محضاً.

وأجاب عنه المحقق صاحب الكفاية ـ قده ـ بوجهين :

(الأول) : ان إمكان التفهيم والتفهم من اللفظ المشترك بواسطة القرائن الواضحة الدالة على المقصود من الواضحات ، فان اللفظ قد يدل على المقصود بنفسه ، وقد يدل عليه بواسطة القرائن ، فاللفظ المشترك وان لم يدل عليه بنفسه ولكنه يدل عليه بواسطة ضم قرينة إليه ، فلا يكون مخلا بغرض الوضع.

نعم لو كان الاشتراك علة تامة للإخلال والإجمال بحيث لا يمكن الإفادة

٢٠١

والاستفادة معه مطلقاً لتم ما أفاده القائل إلا ان الأمر ليس كذلك.

(الثاني) : انا نمنع كون الاشتراك يوجب الإخلال بغرض الوضع ، فان الغرض كما يتعلق بالتفهيم والتفهم ، كذلك قد يتعلق بالإهمال والإجمال ، فيلتجئ الواضع إلى الاشتراك ، لتحصيل هذا الغرض.

التحقيق ان ما أفاده ـ قده ـ من إمكان الاشتراك وانه لا يمتنع ولا يجب وان كان صحيحا إلا انه انما يتم على مسلك القوم في تفسير الوضع فانه على مسلك من يرى أن حقيقة الوضع عبارة ـ ١ ـ عن اعتبار الواضع وجعله الملازمة بين طبيعي اللفظ والمعنى الموضوع له ـ ٢ ـ أو جعله وجود اللفظ وجوداً للمعنى تنزيلا ـ ٣ ـ أو جعله اللفظ على المعنى في عالم الاعتبار فلا مانع من الاشتراك وتعدد الجعل إذ الاعتبار خفيف المئونة ولا محذور في تعدده في اللفظ الواحد أصلا.

وأما على ما نراه من ان حقيقة الوضع التعهد والالتزام النفسانيّ فلا يمكن الاشتراك بالمعنى المشهور ، وهو تعدد الوضع على نحو الاستقلال في اللفظ الواحد والوجه في ذلك هو أن معنى التعهد كما عرفت عبارة عن تعهد الواضع في نفسه بأنه متى ما تكلم بلفظ مخصوص لا يريد منه إلا تفهيم معنى خاص ، ومن المعلوم انه لا يجتمع مع تعهده ثانياً بأنه متى ما تكلم بذلك اللفظ الخاصّ لا يقصد إلا تفهيم معنى آخر يباين الأول ، ضرورة ان معنى ذلك ليس إلا النقض لما تعهده أولا.

أو فقل ان الوضع على ما ذكرناه عبارة عن ذلك التعهد المجرد عن الإتيان بأية قرينة وعليه فلا يمكن للواضع ان يجمع بين تعهدين كذلك أو أزيد في لفظ واحد ، فان الثاني مناقض للأول ولا يجتمع معه إلا ان يرفع يده عن الأول ، ويلتزم ثانياً بأنه متى ما تكلم بذلك اللفظ الخاصّ يقصد منه تفهيم أحد المعنيين الخاصّين فالذي يمكن من الاشتراك هو هذا المعنى أعني به رفع اليد عن التزام الأول والالتزام من جديد بأنه متى ما تكلم بذلك اللفظ فهو يريد منه تفهيم أحد المعنيين على نحو الوضع العام والموضوع له الخاصّ.

٢٠٢

نعم في مقام الاستعمال لا بد من نصب قرينة على إرادة تفهيم أحدهما بالخصوص فان اللفظ غير دال إلا على إرادة أحدهما لا بعينه فهذا المعنى نتيجة كالاشتراك اللفظي من ناحية تعدد الموضوع له وكون استعمال اللفظ في كل واحد من المعنيين ، أو المعاني استعمالا حقيقياً ومحتاجاً إلى نصب قرينة معينة. نعم الفرق بينهما من ناحية الوضع فقط ، فانه متعدد في الاشتراك بالمعنى المشهور والمتنازع فيه وواحد في الاشتراك على مسلكنا.

فالنتيجة : ان الاشتراك بالمعنى المعروف على مسلكنا غير معقول ، وعلى مسلك القوم لا بأس به. نعم يمكن على مسلكنا ما تكون نتيجته نتيجة الاشتراك وهو الوضع العام والموضوع له الخاصّ ، ولا مانع منه ، فان الوضع فيه واحد ، ومحذور الامتناع إنما جاء في تعدد الوضع.

ثم لو قلنا بإمكان الاشتراك فلا مانع من وقوعه في كلامات الفصحاء والبلغاء ومن استعمال اللفظ المشترك عند أهل المحاورة.

وقد يتوهم عدم إمكان استعماله في القرآن الحكيم وذلك لأن الله تعالى اما أن يعتمد في بيان المراد منه على القرائن الدالة على ذلك فيلزم التطويل بلا طائل ، وأما أن لا يعتمد على شيء في ذلك فيلزم الإهمال والإجمال ، وكلاهما غير لائق بكلامه تعالى. ولكنه فاسد.

أما الأول فلمنع لزوم التطويل بلا طائل إذا كان الاتكال على القرائن الحالية فان القرائن لا تنحصر بالمقالية ، ومنع كونه بلا طائل إذا كان الإتيان بها لغرض آخر زائداً على بيان المراد.

واما الثاني فلمنع كون الإجمال غير لائق بكلامه تعالى فان الغرض قد يتعلق بالإجمال والإهمال كما أخبر هو تعالى وتقدس بوقوعه في كلامه بقوله عز من قائل (فيه آيات محكمات هن أم الكتاب واخر متشابهات) فالمتشابه هو المجمل وقد وقع في القرآن العزيز في غير مورد ، ولا مانع منه أصلا إذا تعلق الغرض به ودعت

٢٠٣

الحاجة إلى الإتيان بذلك.

واما الكلام في الجهة الثانية فالمشهور بينهم ان منشأ الاشتراك الوضع تعييناً كان أو تعيناً. ولكن نقل شيخنا الأستاذ ـ قده ـ عن بعض مؤرخي متأخري المتأخرين ان المنشأ لحصول الاشتراك في اللغات خلط اللغات بعضها ببعض ، فان العرب ـ مثلا ـ كانوا على طوائف : فطائفة منهم قد وضعت لفظا خاصا لمعنى مخصوص ، وطائفة ثانية قد وضعته لمعنى آخر ، وطائفة ثالثة قد وضعته لمعنى ثالث .. وهكذا. ولما جمعت اللغات من جميع هذه الطوائف وجعلت لغة وحدة حدث الاشتراك وكذلك الحال في الترادف فانه قد حصل من جمع اللغات وإلا فالمعنى كان يعبر عنه في كل لغة بلفظ واحد.

وعلى الجملة فالمنشأ لوجود الاشتراك وتحققه في اللغة العربية وغيرها هو جمع اللغات وخلط بعضها ببعض وإلا فلا اشتراك في البين أصالة وبالذات.

وفيه ان ما ذكره هذا القائل وان كان ممكنا في نفسه إلا ان الجزم به مشكل جداً ولا سيما بنحو الموجبة الكلية لعدم الشاهد عليه من الخارج ، حيث انه مما لم ينقل في كتب التاريخ ولا غيره ، ومجرد نقل مؤرخ حسب اجتهاده لا يكون دليلا عليه بعد عدم نقل غيره إياه بل ربما يبعد ذلك وقوع الاشتراك في الاعلام الشخصية فان شخصاً واحداً كالأب ـ مثلا ـ يضع لفظاً واحداً لأولاده المتعددين لمناسبة ما كما نجد ذلك في أولاد الحسين عليه‌السلام فانه عليه‌السلام قد وضع لفظ «علي» لثلاثة من أولاده فيكون كل واحد منهم مسمى بذلك اللفظ على نحو الاشتراك فيه والتمييز بينهم في مقام التفهيم كان بالأكبر والأوسط والأصغر.

وكيف كان فلا يهمنا تحقيق ذلك وإطالة الكلام فيه بعد أن كان الاشتراك ممكناً في نفسه بل واقعاً كما في أعلام الأشخاص بل في أعلام الأجناس.

ونتيجة البحث عن الاشتراك أمور :

(الأول) : ان الاشتراك على مسلك القوم في الوضع ممكن وعلى مسلكنا

٢٠٤

فيه غير ممكن إلا على الوجه الّذي قدمناه.

(الثاني) : ان استعمال اللفظ المشترك في القرآن جائز فضلا عن غيره.

(الثالث) : ان منشأ الاشتراك أحد أمرين : أما الوضع أو الجمع بين اللغات على سبيل منع الخلو.

استعمال اللفظ

في أكثر من معنى واحد

يقع الكلام فيه من جهتين :

(الأولى) : في إمكان استعمال اللفظ المشترك في أكثر من معنى واحد.

(الثانية) : على تقدير إمكانه وجوازه فهل هذا الاستعمال على خلاف الظهور العرفي أم لا؟

اما الكلام في الجهة الأولى فقد اشتهر بين المتأخرين عدم إمكان هذا الاستعمال وانه مستحيل عقلا. وقبل بيان ذلك وتحقيقه :

ليعلم ان محل النزاع هو في ما إذا استعمل لفظ واحد في معنيين مستقلين بحيث يكون الإطلاق الواحد في حكم الإطلاقين ، والاستعمال الواحد في حكم الاستعمالين ويكون كل واحد من المعنيين مراداً على حياله واستقلاله. ومن هنا يظهر ان استعمال اللفظ الواحد في مجموع المعنيين بما هو كذلك خارج عن محل البحث ، لأنه في حكم الاستعمال الواحد في المعنى الواحد بل هو هو بعينه وإن كان مجازاً ، فان اللفظ لم يوضع بإزائه كما ان استعماله في أحدهما لا بعينه خارج عن محل النزاع ، فمحل النزاع فيما إذا كان كل واحد من المعنيين مراداً من اللفظ على سبيل الاستقلال والانفراد ، كما عرفت.

٢٠٥

وبعد ذلك نقول : قد استدل شيخنا الأستاذ ـ قده ـ على استحالة استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد بما ملخصه : ان حقيقة الاستعمال ليست إلا عبارة عن إيجاد المعنى باللفظ وإلقائه إلى المخاطب خارجاً ، ومن هنا لا يرى المخاطب الا المعنى ، فانه الملحوظ أولا وبالذات ، واللفظ ملحوظ بتبعه وفان فيه ، وعليه فلازم استعمال اللفظ في المعنيين على نحو الاستقلال تعلق اللحاظ الاستقلالي بكل واحد منهما في آن واحد كما لو لم يستعمل اللفظ إلا فيه ، ومن الواضح ان النّفس لا تستطيع على ان تجمع بين اللحاظين المستقلين في آن واحد ، ولا ريب في أن الاستعمال في أكثر من معنى واحد يستلزم ذلك والمستلزم للمحال محال لا محالة ، ويرده :

ان الأمر ليس كما ذكره ـ قده ـ وذلك لأن النّفس بما انها جوهر بسيط ، ولها صفحة واسعة تقتدر على ان تجمع بين اللحاظين المستقلين في صفحتها في آن واحد. ويدلنا على ذلك أمور :

(الأول) : ان حمل شيء على شيء والحكم بثبوته له كقولنا زيد قائم ـ مثلا ـ يستدعى لحاظ كل من الموضوع والمحمول والنسبة في آن واحد ، وهو آن الحكم وإلا لكان الحكم من النّفس ممتنعاً ، ضرورة ان مع الغفلة لا يمكن الحكم بثبوت شيء لشيء إذاً لا مانع من الجمع بين اللحاظين المستقلين في آن واحد ، فان الحمل والحكم دائماً يستلزمان ذلك ، كيف فان المتكلم حين الحكم لا يخلو أما أن يكون غافلا ، وأما أن يكون ملتفتاً إلى كل واحد من الموضوع والمحمول والنسبة ، ولا ثالث ، وحيث أن الأول غير معقول فتعين الثاني. وهذا معنى استلزام الحمل والحكم. الجمع بين اللحاظين الاستقلاليين.

(الثاني) : قد يصدر من شخص واحد فعلان أو أزيد في آن واحد وبان يكون أحدهما بآلة ، والآخر بآلة أخرى ـ مثلا ـ الإنسان يشتغل لسانه بالكلام ويحرك يده في آن واحد ، ومن البين ان كلا منهما فعل اختياري مسبوق بالإرادة واللحاظ ، وعليه فالإتيان بفعلين في آن واحد لا محالة يستلزم لحاظ كل واحد منهما بلحاظ استقلالي في آن كذلك

٢٠٦

(الثالث) : أنا إذا راجعنا إلى أنفسنا وجدناها انها تقتدر على تصور أمور متضادة أو متماثلة بتصورات مستقلة في آن واحد. وهذا غير قابل للإنكار.

فقد أصبحت النتيجة من ذلك ان اجتماع اللحاظين المستقلين مع تعدد المعنى أمر واضح لا شبهة فيه.

وقد استدل المحقق صاحب الكفاية ـ قده ـ على امتناع ذلك بوجه آخر وإليك نصّ بيانه : أن حقيقة الاستعمال ليس مجرد جعل اللفظ علامة لإرادة المعنى بل جعله وجهاً وعنواناً له بل بوجه نفسه كأنه الملقى ، ولذا يسرى إليه قبحه وحسنه كما لا يخفى ، ولا يكاد يمكن جعل اللفظ كذلك إلا لمعنى واحد ، ضرورة أن لحاظه هكذا في إرادة معنى ينافي لحاظه كذلك في إرادة الآخر حيث ان لحاظه كذلك لا يكاد يكون إلا بتبع لحاظ المعنى فانياً فيه فناء الوجه في ذي الوجه والعنوان في المعنون ، ومعه كيف يمكن إرادة معنى آخر معه كذلك في استعمال واحد مع استلزامه للحاظ آخر غير لحاظه كذلك في هذا الحال. وبالجملة لا يكاد يمكن في حال استعمال واحد لحاظه وجهاً لمعنيين وفانياً في الاثنين إلا ان يكون اللاحظ أحول العينين. فانقدح بذلك امتناع استعمال اللفظ مطلقاً مفرداً كان أو غيره في أكثر من معنى بنحو الحقيقة ، أو المجاز. انتهى».

ولا يخفى ان ما أفاده ـ قده ـ انما يتم على ما هو المشهور بين المتأخرين من أن حقيقة الاستعمال ليست مجرد جعل اللفظ علامة لإرادة تفهيم المعنى ، بل إيجاد للمعنى باللفظ وجعل اللفظ فانياً في المعنى ووجهاً وعنواناً له. وعلى ذلك فلا يمكن استعمال اللفظ في المعنيين على نحو الاستقلال ، لأن لازمه فناء اللفظ في كل واحد منهما في آن واحد وهو محال ، كيف فان إفناءه في أحدهما وجعله وجهاً وعنواناً له يستحيل أن يجتمع مع إفنائه في الآخر وجعله وجهاً وعنواناً له فاللفظ الواحد لا يعقل أن يكون وجوداً لمعنيين مستقلين في زمن واحد. وهذا مبتن على أن يكون حقيقة الوضع عبارة عن جعل وجود اللفظ وجوداً تنزيلياً للمعنى. ولكن

٢٠٧

قد سبق بطلانه مفصلا.

وأما بناء على مسلكنا من أن حقيقة الوضع هي التعهد والالتزام النفسانيّ فلا مانع من ذلك لأن الاستعمال ليس إلا فعلية ذلك التعهد وجعل اللفظ علامة لإبراز ما قصده المتكلم تفهيمه ، ولا مانع حينئذ من جعله علامة لإرادة المعنيين المستقلين فاللفظ على هذا المسلك لا يكون إلا علامة لإبراز ما في أفق النّفس وهو أي (ما في الأفق) قد يكون معنى واحداً فاللفظ علامة لإبرازه ، وقد يكون مجموع المعنيين وقد يكون أحدهما لا بعينه ، وقد يكون كل من المعنيين مستقلا ، ولا مانع من جعل اللفظ علامة على الجميع فكما انه يجوز أن يجعل علامة لإرادة المجموع أو أحدهما فكذلك يجوز أن يجعل علامة لإرادة تفهيم كل واحد منها على نحو الاستقلال والعموم الاستغراقي إذ ليس شأن اللفظ على هذا إلا علامة في مقام الإثبات ، ولا محذور في جعل شيء واحد علامة لإرادة تفهيم معنيين أو أزيد.

ومن هنا قد قلنا سابقاً انه لا مانع من أن يراد بلفظ واحد تفهيم معناه ، وتفهيم انه عارف باللغة التي يتكلم بها.

فقد تحصل ان الوضع على هذا المسلك لا تقتضي إلا التكلم بلفظ خاص عند قصد المتكلم تفهيم معنى مخصوص في أفق النّفس وجعله علامة لإبرازه خارجاً ، وأما الفناء والوجه والعنوان كل ذلك لا يكون.

ومن هنا يظهر ان تفسير الوضع باعتبار الملازمة بين طبيعي اللفظ والمعنى الموضوع له. أو بجعل اللفظ على المعنى في عالم الاعتبار أيضاً لا يستدعى فناء اللفظ في مقام الاستعمال.

نعم تفسيره بجعل اللفظ وجوداً للمعنى تنزيلا يقتضى ذلك ، ولكن قد عرفت فساده.

وأما الأصل المشهور بينهم : وهو أن النّظر إلى اللفظ آلي في مقام الاستعمال وإلى المعنى استقلالي فقد سبق انه لا أصل له. فالمتحصل من المجموع انه لا مانع من استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد.

٢٠٨

وأما الكلام في الجهة الثانية فيقع البحث عن موافقة هذا الاستعمال للظهور العرفي وعدمها فلو وجدنا لفظاً مشتركا خالياً عن القرينة التي تدل على إرادة تفهيم بعض معانيه ، فهل نحمله على إرادة جميع المعاني أو على إرادة البعض أو يحتاج إرادة كل واحدة منهما إلى نصب قرينة تدل على ذلك؟ لا ريب في أن إرادة الجميع خلاف الظهور العرفي فلا يحمل اللفظ عليها إلا مع نصب قرينة تدل على ذلك هذا على مسلكنا في باب الوضع واضح ، فان الاشتراك لا يعقل إلا برفع اليد عن التعهد الأول والالتزام بتعهد آخر وهو قصد تفهيم أحد المعنيين أو المعاني ، فيكون المعنى الموضوع له للفظ أحداً لمعنيين أو المعاني لا الجميع ، وعليه فاستعماله في الجميع استعمال في غير الموضوع له ، وعلى خلاف التعهد والالتزام ، بل ولو قلنا بإمكان الاشتراك على هذا المسلك فائضاً الاستعمال المزبور خلاف الظهور فلا يصار إليه بلا دليل ، فان المتفاهم العرفي من اللفظ عند إطلاقه إرادة معنى واحد فإرادة المعنيين أو المعاني منه على خلافه ولا فرق في ذلك بين مسلك التعهد وغيره ، فان هذا الاستعمال مخالف للظهور على جميع المسالك سواء قلنا بان الاستعمال في أكثر من معنى واحد استعمال حقيقي أو انه مجازي؟ ولعل هذا هو مراد المحقق القمي ـ قده ـ من اعتبار حال الوحدة في المعنى الموضوع له يعنى أن المتفاهم عرفاً من اللفظ عند الإطلاق إرادة معنى واحد لا أزيد ، وليس مراده من ذلك أخذ حال الوحدة في الموضوع له ، ضرورة ان فساده من الواضحات الأولية.

وعلى ذلك فان استعمل اللفظ في معنيين أو أزيد ولم يؤت معه بقرينة تدل على إرادة جميع المعاني. أو خصوص معنى فاللفظ يصبح مجملا ولا يدل على شيء إذاً فالمرجع هو الأصول العملية على اختلافها باختلاف الموارد هذا فيما إذا دار لأمر بين إرادة معنى واحد وإرادة الأكثر منه.

وأما إذا علم إرادة الأكثر ودار الأمر بين إرادة مجموع المعنيين على نحو العموم المجموعي ، أو إرادة كل واحد منهما على سبيل العموم الاستغراقي ، ولم تكن قرينة

٢٠٩

على تعيين أحد الأمرين فقد قيل بلزوم حمل اللفظ على الثاني تقديماً للحقيقة على المجاز ، ولكنه لا يتم فانه لا وجه له حتى على القول بان الاستعمال في أكثر من معنى واحد على سبيل الاستغراق استعمال حقيقي لما عرفت من أن الاستعمال في أكثر من معنى واحد على خلاف الظهور العرفي وان كان الاستعمال استعمالا حقيقياً. وأصالة الحقيقة هنا غير جارية كما لا يخفى.

وتظهر الثمرة بين الأمرين فيما لو كان لشخص عبدان كل منهما مسمى باسم واحد «الغانم» ـ مثلا ـ فباعهما المالك فقال للمشتري بعتك غانماً بدرهمين ، ووقع النزاع بين البائع والمشتري في استعمال هذا اللفظ وانه هل استعمل فيهما على سبيل المجموع ليكون ثمن العبدين درهمين أو على سبيل الاستغراق ليكون ثمن كل منهما درهمين والمجموع أربعة دراهم؟ ففي مثل ذلك نرجع إلى أصالة عدم اشتغال ذمة المشتري للبائع بأزيد من درهمين.

فتحصل من جميع ما ذكرناه ان استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد جائز ولا مانع منه أصلا. نعم هو مخالف للظهور العرفي فلا يمكن حمل اللفظ عليه بلا نصب قرينة ترشد إليه.

ثم انه لا فرق في ذلك بين التثنية والجمع وبين المفرد ، كما انه لا فرق بين أن يكون المعنيين حقيقيين أو مجازيين أو أحدهما حقيقياً والاخر مجازياً ، فان الملاك في الجميع واحد جوازاً ومنعاً.

وما قيل ـ في بيان استحالة إرادة المعنى المجازي ، والمعنى الحقيقي معاً من ان إرادة المعنى المجازي تحتاج إلى القرينة الصارفة عن إرادة المعنى الحقيقي وهي مانعة عن إرادته ولا تجتمع معها ـ يندفع بان هذا انما هو فيما إذا أراد المتكلم خصوص المعنى المجازي ، وأما إذا أراد المعنى المجازي والحقيقي معاً على نحو المجموع أو الجميع فيحتاج ذلك إلى القرينة الصارفة عن إرادة خصوص المعنى الحقيقي لا عن إرادته مع المعنى المجازي إذا كانت هناك قرينة تدل على ذلك.

٢١٠

وكيف كان فقد ظهر مما ذكرناه انه لا وجه لما ذكره صاحب المعالم ـ قده ـ من التفصيل بين التثنية والجمع وبين المفرد حيث جوز إرادة الأكثر من معنى واحد في التثنية والجمع دون المفرد ، بل اختار ـ قده ـ ان الاستعمال حقيقي في التثنية والجمع ، واستدل على ذلك بان التثنية في قوة تكرار المفرد مرتين ، والجمع في قوة تكراره مرات فقولنا (رأيت عينين) في قوة قولنا (رأيت عيناً وعيناً) وكما يجوز ان يراد من العين الأول معنى ومن الثاني معنى آخر على نحو الحقيقة كذلك يجوز ان يراد المعنيين من التثنية.

ومما يؤكد ذلك صحة التثنية في الأعلام الشخصية كقولك «زيدان» فان المراد منه فردان متغايران لا محالة.

وما ذكره من أن الاستعمال حقيقي في التثنية والجمع لا يمكن المساعدة عليه أصلا والوجه في ذلك هو أن للتثنية والجمع وضعين : أحدهما للمادة. والآخر للهيئة وهي الألف والنون أو الواو والنون.

أما المادة فهي موضوعة للطبيعة المهملة العارية عن جميع الخصوصيات حتى الخصوصية اللابشرطية.

واما الهيئة فهي موضوعة للدلالة على إرادة المتعدد من مدخولها. فحينئذ.

ان أريد من المدخول ككلمة العين ـ مثلا ـ في قولك رأيت عينين معنيان كالجارية والباكية ، أو الذهب والفضة بناء على ما حققناه من جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد فالهيئة الطارئة عليها تدل على إرادة المتعدد منهما ، ويكون المراد من قولنا «عينان» حينئذ فردان من الجارية وفردان من الباكية. أو فردان من الذهب وفردان من الفضة ، فالتثنية تدل على أربعة افراد. وهذا وان كان صحيحاً على ما ذكرناه إلا انه أجنبي عن استعمال التثنية في أكثر من المعنى الواحد ، فانه من استعمال المفرد في ذلك والتثنية مستعملة في معناه الموضوع له وهو الدلالة على إرادة المتعدد من مدخولها. وهذا بعينه نظير ما إذا ثني

٢١١

ما يكون متعدداً من نفسه كالعشرة ـ مثلا ـ أو الطائفة أو الجماعة أو القوم إلى غير ذلك كقولنا (رأيت طائفتين) فكما انه لم يذهب إلى وهم أحد ان التثنية في أمثال هذه الموارد مستعملة في أكثر من معنى واحد فكذلك في المقام فلا فرق في ذلك بين المقامين أصلا غاية الأمر ان المفرد هنا استعمل في المتعدد بالعناية دون هناك.

وكيف كان فهذه الصورة غير مرادة لصاحب المعالم ـ قده ـ يقيناً ، لأن التثنية فيها لم تستعمل في أكثر من معنى واحد فلا معنى حينئذ لكونها حقيقة.

وان أريد من كلمة العين معنى واحد كالذهب ـ مثلا ـ لتدل الهيئة على إرادة أكثر من طبيعة واحدة ، ففيه انه غير معقول وذلك لما عرفت من أن للتثنية وضعين :

أحدهما للهيئة وهي تدل على إرادة المتعدد من المدخول.

والثاني للمادة وهي تدل على الطبيعة المهملة. إذاً ان أريد بالمادة طبيعة واحدة كالذهب ـ مثلا ـ فالهيئة تدل على إرادة المتعدد منه ويكون المراد من العينين فردان من الذهب ، وحيث أن المفروض في المقام إرادة طبيعة واحدة من المدخول فالتثنية تفيد تكرارها بإرادة فردين منها ، ومع هذا كيف تدل على تعدد المدخول من حيث الطبيعة ، وليس هنا شيء آخر يكون دالا على إرادة طبيعة أخرى كالفضة ـ مثلا ـ.

نعم يمكن أن يؤل العين بالمسمى ويراد من تثنيتها الفردان منه كالذهب والفضة أو نحوهما كما هو الحال في تثنية الاعلام الشخصية إلا انه أيضاً ليس من استعمال التثنية في أكثر من المعنى الواحد كما لا يخفى ، مع أن هذا التأويل مجاز بلا كلام ولا شبهة.

وقد تحصل من ذلك ان تفصيل صاحب المعالم ـ قده ـ باطل من أصله. فالصحيح هو ما ذكرناه من انه يجوز الاستعمال في أكثر من معنى واحد بلا فرق في ذلك بين التثنية والجمع وبين المفرد. نعم هو خلاف الظهور العرفي.

ثم ان المحقق صاحب الكفاية ـ قده ـ بعد ما منع عن جواز الاستعمال في

٢١٢

المعنيين قال : وهم ودفع لعلك تتوهم ان الأخبار الدالة على أن للقرآن بطوناً سبعة أو سبعين تدل على وقوع استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد فضلا عن جوازه.

ولكنك غفلت عن انه لا دلالة لها أصلا على أن إرادتها كانت من باب إرادة المعنى من اللفظ ، فلعلها كانت بإرادتها في أنفسها حال الاستعمال في المعنى لا من اللفظ كما إذا استعمل فيها. أو كان المراد من البطون لوازم معناه المستعمل فيه اللفظ وان كان أفهامنا قاصرة عن إدراكها. انتهى».

ويرده : انه لو كان المراد من البطون ما ذكره ـ قده ـ أولا لم يكن ذلك موجباً لعظمة القرآن على غيره ولفضيلته على سائر المحاورات ، لإمكان ان يراد المعاني بأنفسها حال التكلم بالألفاظ في غير المحاورات القرآنية ، بل يمكن إرادتها كذلك حال التكلم بالألفاظ المهملة فضلا عن الألفاظ الموضوعة ، فمن هذه الجهة لا فرق بين الكتاب وغيره بل لا فرق بين اللفظ المهمل والموضوع فالكل سواء ولا فضل لأحدهما على الآخر. على ان لازم ذلك ان لا تكون البطون بطوناً للقرآن ومعاني له ، بل كانت شيئاً أجنبياً عنه ، غاية الأمر انها أريدت حال التكلم بألفاظه ، وكلا الأمرين مخالف لصريح الروايات المشتملة على البطون فهي كما نطقت بإثبات الفضيلة والعظمة للقرآن على غيره من جهة اشتماله على ذلك ، كذلك نطقت بإضافة تلك البطون إليه وانها معان للقرآن لا انها شيء أجنبي عنه.

منها : (ما في القرآن آية إلا ولها ظاهر : ظهر : وبطن ... إلخ).

ومنها : (وإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن فانه شافع مشفع إلى أن قال وله ظهر وبطن فظاهره حكم وباطنه علم ، ظاهره أنيق وباطنه عميق ، وله تخوم وعلى تخومه تخوم لا تحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه) وما شاكلهما من الروايات الكثيرة.

واما ما ذكره ـ قده ـ ثانياً من أن المراد من البطون لوازم معناه وملزوماته

٢١٣

ـ من دون أن يستعمل اللفظ فيها ـ التي لن تصل إلى إدراكها أفهامنا القاصرة إلا بعناية من أهل بيت العصمة والطهارة عليهم‌السلام الذين هم أهل القرآن فهو الصحيح.

وتدلنا على ذلك روايات كثيرة تبلغ حد التواتر إجمالا بلا ريب.

منها : (ان القرآن حي لم يمت وانه يجري كما يجري الليل والنهار وكما تجري الشمس والقمر ويجري على آخرنا كما يجري على أولنا).

ومنها : (ان القرآن حي لا يموت والآية حية لا تموت فلو كانت الآية إذا نزلت في الأقوام وماتوا ماتت الآية لمات القرآن ولكن هي جارية في الباقين كما جرت في الماضين).

ومنها : (لو ان الآية إذا نزلت في قوم ثم مات أولئك ماتت الآية لما بقي من القرآن شيء ولكن القرآن يجري أوله على آخره ما دامت السماوات والأرض ولكل قوم آية يتلوها هم منها من خير أو شر).

ومن هنا قد ورد في عدة من الروايات ان الآية من القرآن إذا فسرت في شيء فلا تنحصر الآية به وهو كلام متصل ينصرف على وجوه. وان القرآن ذلول ذو وجوه فاحملوه على أحسن الوجوه. وهذا معنى ان للقرآن بطوناً لن تصل إليها أفهامنا القاصرة إلا بتوجيه من أهل البيت عليهم‌السلام كما وجهنا إليها في بعض الموارد وقد دلت على ذلك المعنى روايات كثيرة واردة من طرق العامة والخاصة. ومن أراد الاطلاع على مجموع هذه الروايات في جميع هذه الأبواب فليطلبها من مصادرها (١) وفي بعض الروايات إشارة إلى صغرى هذه الكبرى وهو ما ورد : ان القرآن ظاهره قصة وباطنه عظة ، فانه في الظاهر بين قصص السابقين وقضاياهم كقصة بنى إسرائيل وما شاكلها ، ولكنها في الباطن عظة للناس وعبر ودروس لهم ، فان التأمل في القضايا الصادرة عن الأمم السابقة دروس وعبر لنا. وينبهنا على ان السير على منهاجه ينجينا عن الضلال ، وان الكفر بنعم الله تعالى يوجب السخط على

__________________

(١) وقد ذكرت عدة منها في مرآة الأنوار ص ٣ ـ ٤

٢١٤

الكافرين والعاصين.

وعلى الجملة ان قصص الكتاب في الظاهر وان كانت حكايات وقصص إلا انها في الباطن دروس وعبر للناس.

فقد أصبحت نتيجة هذا البحث لحد الآن أموراً :

(الأول) : ان استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد جائز على مسلك من يرى حقيقة الوضع التعهد والالتزام ، نعم هو خلاف الظهور عرفا.

(الثاني) : ان المراد من بطون القرآن لوازم معناه المستعمل فيه اللفظ وملزوماته وملازماته من دون استعمال اللفظ فيها على ما نطقت به الروايات من طرق الخاصة والعامة.

(الثالث) : ان هذه البواطن التي تضمنها القرآن لا يعرفها إلا من خوطب به وأهل بيته الطاهرين عليهم‌السلام.

ومن هنا قد وقفنا على بعضها في بعض الموارد بواسطة الآثار المنقولة منهم عليهم‌السلام.

المشتق

الأمر الحادي عشر : في المشتق :

لا ريب في صحة إطلاق المشتق على المتلبس بالمبدإ فعلا ، وعلى المنقضى عنه المبدأ ، وعلى من لم يتلبس به بعد ولكنه سيتلبس به في المستقبل ، ولا إشكال أيضا في أن إطلاق المشتق على المتلبس بالمبدإ فعلا إطلاق حقيقي ، كما أنه لا إشكال في أن إطلاقه على من يتلبس بالمبدإ في المستقبل إطلاق مجازي ، وإنما الكلام والإشكال في إطلاق المشتق على من انقضى وانصرم عنه المبدأ هل هو مجاز أو حقيقية؟ وقبل تحقيق الحال في المقام ينبغي التنبيه على أمور :

(الأول) : ان اللفظ الموضوع لمعنى على قسمين :

٢١٥

أحدهما ما يسمى بالمشتق وهو ما كان لكل واحدة من مادته وهيئته وضع خاص مستقل.

والثاني ما يسمى بالجامد وهو ما كان لمجموع من مادته وهيئته وضع واحد لا وضعان.

أما المشتق فهو على قسمين :

أحدهما ـ ما يكون موضوعاً لمعنى يجري على الذات المتصفة بالمبدإ بنحو من أنحاء الاتصاف ويصدق عليها خارجاً ، كاسم (الفاعل والمفعول والزمان والمكان) وما شاكل ذلك.

وثانيهما ـ ما يكون موضوعاً لمعنى لا يجري على الذات ولا يصدق عليها خارجاً. وذلك كالأفعال جميعاً والمصادر المزيدة ، بل المصادر المجردة ، بناء على ما هو الصحيح من أن المصادر المجردة أيضا مشتقات.

وأما الجامد فهو أيضاً على قسمين :

أحدهما ـ ما يكون موضوعا لمعنى منتزع عن مقام الذات كا (لإنسان والحيوان والشجر والتراب) ونحو ذلك.

وثانيهما ـ ما يكون موضوعاً لمعنى منتزع عن أمر خارج عن مقام الذات وذلك كعنوان (الزوج والرق والحر) وما شابه ذلك ، فهذه أربعة أقسام ، ومحل النزاع في هذه المسألة لا يختص بالمشتقات المصطلحة فقط كما ربما يوهم عنوان النزاع فيها. بل يعم القسم الثاني من الجوامد أيضاً ، كما انه لا يعم جميع المشتقات بل يختص بخصوص القسم الأول منها.

فالنتيجة أن محل البحث هنا في القسم الأول من المشتق والقسم الثاني من الجامد ، والقسمان الآخران خارجان عنه.

ومن هنا يظهر أن النسبة بين المشتق في حريم البحث وكل من المشتق المصطلح والجامد عموم من وجه ، فان الأفعال والمصادر المزيدة والمجردة جميعاً من المشتقات

٢١٦

المصطلحة ومع ذلك هي خارجة عن محل النزاع. والعناوين الانتزاعية كعنوان (الزوج والحر والرق) وما شاكل ذلك من الجوامد ومع ذلك هي داخلة في محل البحث ، فالنزاع يجري في كل عنوان جار على الذات باعتبار تلبسها بالمبدإ بنحو من أنحائه سواء أكان ذلك المبدأ من إحدى المقولات التسع الواقعية كالكم والكيف والأين وأشباه ذلك ، أم كان من توابعها كالشدة والضعف والسرعة والبطء ، أم كان من الاعتبارات كالملكية والزوجية والحرية وما شابهها ، أم كان من الانتزاعيات كالفوقية والتحتية والسابقية والمسبوقية والإمكان والوجوب والامتناع وما شاكلها؟

وقد تحصل من ذلك ان دخول شيء في محل النزاع هنا يبتنى على ركنين :

(الركن الأول) : أن يكون الشيء جارياً على الذات المتلبسة بالمبدإ ومتحداً معها خارجاً بنحو من الاتحاد ، وبذلك الركن خرجت المصادر المزيدة ، لأنها لا تجري على الذات المتصفة بها ، فانها مغايرة معها خارجاً وعيناً. فلا يقال (زيد إكرام) إذا كان زيد متصفاً بهذا المبدأ ، بل يقال (زيد كريم) وكذا المصادر المجردة لا يشملها النزاع لعدم صحة حملها على الذات فلا يقال (زيد علم) إلا مبالغة وان قلنا بأنها من جملة المشتقات كما هو الصحيح. وهكذا الأفعال بجميع أنواعها لا يجري فيها النزاع لعدم جريانها على الذوات وان كانت من المشتقات.

فتحصل أن المصادر المزيدة والمجردة والأفعال بأجمعها خارجة عن محل النزاع لكونها فاقدة لهذا الركن.

(الركن الثاني) : أن تكون الذات باقية بعد انقضاء المبدأ بان تكون لها حالتان حالة تلبسها بالمبدإ ، وحالة انقضاء المبدأ عنها ، وبذلك الركن خرج القسم الأول من الجوامد كا (لإنسان والحيوان والشجر) وما يضاهيها من العناوين الذاتيّة. والوجه فيه ان المبادئ في أمثال ذلك مقومة لنفس الحقيقة والذات ، وبانتفائها تنتفي الذات فلا تكون الذات باقية بعد انقضاء المبدأ.

٢١٧

وبتعبير آخر ان شيئية الشيء بصورته لا بمادته ، فإذا فرضنا تبدل الإنسان بالتراب أو الكلب بالملح فما هو ملاك الإنسانية أو الكلبية وهو (الصورة النوعية) قد انعدم وزال ووجدت حقيقة أخرى وصورة نوعية ثانية وهي : (صورة النوعية الترابية أو الملحية) ومن الواضح ان الإنسان أو الكلب لا يصدق على التراب أو الملح بوجه من الوجوه ، لأن الذات غير باقية وتنعدم بانعدام الصورة النوعية وهي (صورة الإنسانية أو الكلبية) ومع عدم بقاء الذات لا يشملها النزاع ، ولا معنى لأن يقال ان الإطلاق عليها حقيقة أو مجاز.

وأما المادة المشتركة بين الجميع المعبر عنها بالهيولى وان كانت باقية إلا انها قوة صرفة لإفاضة الصور عليها ، وليست ملاكا لشيء من هذه العناوين ، ولا تتصف بالإنسانية أو الكلبية أو نحوها بحال من الأحوال.

وأما القسم الثاني من الجوامد وهو ما كان منتزعاً عن أمر خارج عن مقام الذات فهو داخل في محل النزاع كعنوان (الزوج والرق والحر) وما شاكل ذلك ، لأن الذات فيه باقية بعد انقضاء المبدأ عنها ، وحينئذ يشمله النزاع في أن الإطلاق عليها حال الانقضاء حقيقة أو مجاز.

ومما يشهد لما ذكرناه من عموم النزاع لهذا القسم من الجامد أيضاً ما ذكره فخر المحققين والشهيد الثاني ـ قدهما ـ في الإيضاح والمسالك من ابتناء الحرمة في المرضعة الثانية على النزاع في مسألة المشتق في من كانت له زوجتان كبيرتان وزوجة صغيرة وقد أرضعت الكبيرتان الصغيرة فتحرم عليه المرضعة الأولى لصدق أم الزوجة عليها والصغيرة لصدق بنت الزوجة عليها وانما الكلام والإشكال في المرضعة الثانية فقد ابتنى الحرمة في هذه المسألة على النزاع في مسألة المشتق ، فبناء على انه موضوع للأعم يصدق عليه عنوان أم الزوجة باعتبار ان المرتضعة كانت زوجة فتحرم ، وبناء على انه موضوع لخصوص المتلبس فعلا لا يصدق عليها هذا

٢١٨

العنوان بالفعل فلا تحرم [١].

__________________

[١] لمناسبة في المقام لا بأس بالتعرض لما استفدته من تحقيقات سيدنا الأستاذ دام ظله العالي في بحث الرضاع حول هذه المسألة :

فرعان

((الفرع الأول)) : من كانت له زوجتان إحداهما كبيرة والأخرى صغيرة فأرضعت الكبيرة الصغيرة مع فرض دخوله بها يقع الكلام في بطلان نكاحهما معاً وحرمتهما عليه مؤبداً ، المعروف بين الفقهاء بل لم نر من صرح بالخلاف في المسألة هو بطلان نكاحهما معاً وصيرورتهما محرمة عليه مؤبداً. أما الكبيرة فلأجل انها صارت بإرضاعها الصغيرة أم زوجة له وهي محرمة في الكتاب والسنة. واما الصغيرة فلأجل انها صارت بارتضاعها من الكبيرة بنتاً له لو كان اللبن لبناً له وربيبته لو كان اللبن من فحل آخر ، وكلا العنوانين قد ثبتت حرمتهما في الكتاب والسنة ، فانه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب.

وتحقيق الكلام ان الصغيرة تحرم عليه بلا إشكال فان اللبن إذا كان منه فهي تكون بنتاً له وإذا كان من غيره فهي بنت الزوجة المدخول بها وقد دلت عدة من الروايات المعتبرة على حرمة بنت الزوجة ولو كانت من الزوجة المنفصلة عنه بطلان أو نحوه «١».

__________________

(١) منها صحيحة محمد بن مسلم قال : سألت أحدهما عليهما‌السلام عن رجل كانت له جارية فأعتقت فزوجت فولدت أيصلح لمولاها الأول ان يتزوج ابنتها قال عليه‌السلام لا ، هي حرام وهي ابنته والحرة والمملوكة في هذا سواء.

ومنها صحيحة أبى نصر قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن الرّجل يتزوج المرأة متعة أيحل له أن يتزوج ابنتها قال عليه‌السلام : لا.

ومنها موثقة غياث بن إبراهيم عن جعفر عن أبيه ان علياً عليه‌السلام قال : إذا تزوج الرّجل المرأة حرمت عليه ابنتها إذا دخل بالأم ... الحديث.

٢١٩

.......................................

__________________

وأما الكبيرة فقد استدل على حرمتها بوجوه :

(الأول) : صدق عنوان أم الزوجة عليها وهي محرمة في الشريعة المقدسة بالكتاب والسنة. وفيه ان صدق هذا العنوان عليها مبتن على كون المشتق موضوعاً للأعم ، واما بناء على كونه موضوعاً لخصوص المتلبس بالفعل كما هو الصحيح واختاره جماعة من الخاصة والعامة فلا يصدق عليها العنوان المزبور ، وذلك لأن زوجية الصغيرة قد انقضت وزالت بتحقق الرضاع المحرم ، فزمان تحقق الرضاع هو زمان ارتفاع الزوجية عنها ، وذلك الزمان بعينه هو زمان تحقق عنوان الأمومة للكبيرة. ومن الواضح ان في هذا الزمان لا يصدق على الصغيرة حقيقة عنوان الزوجية ليصدق على الكبيرة عنوان أم الزوجة.

أو فقل ان في زمان كانت الصغيرة زوجة له لم تكن الكبيرة أمّا لها ، وفي زمان صارت الكبيرة أمّا لها ارتفعت الزوجية عنها وانقضت ، فصدق عنوان الأمية للكبيرة والزوجية للصغيرة في زمان واحد غير معقول. وعليه كان إطلاق عنوان الزوجة عليها في زمان تحقق الأمومة إطلاقاً على المنقضى عنه المبدأ فيكون داخلا في محل الكلام.

(الثاني) : ان المشتق ولو سلمنا أنه مجاز في المنقضى عنه المبدأ إلا ان الموضوع للحرمة في الآية المباركة ليس من المشتقات ، ضرورة انها ثابتة لعنوان أمهات نسائكم وهذا العنوان صادق في محل الكلام فان الإضافة يكفي فيها أدنى الملابسة ، وحيث كان المفروض ان الصغيرة قد تلبست بالزوجة فيصدق على الكبيرة انها من أمهات النساء فتحرم.

فالصحيحة الأولى صريحة في حكم المقام وهو (حرمة بنت الزوجة التي ولدت متأخرة عن زمان الزوجية) بل موردها خصوص ذلك. واما الصحيحة الثانية والموثقة فهما تدلان على حكم المقام بالإطلاق.

الوسائل ج ٤ باب ١٨ من أبواب المصاهرة.

٢٢٠