محاضرات في أصول الفقه - ج ١

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
المطبعة: الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٠٠

وقول الصحيحي وهي جواز التمسك بالإطلاق على الأعمي ، وعدم جوازه على الصحيحي ، فانه بناء على كون ال «صلاة» ـ مثلا ـ موضوعة لخصوص المرتبة العليا لم يجز التمسك بالإطلاق ولو فرض وجود مطلق في العبادات ، لعدم العلم بالتنزيل والمسامحة في مقام الاستعمال ومعه يصبح اللفظ مجملا لا محالة. ثم قال ان الحال في سائر المركبات الاختراعية أيضاً كذلك يعنى ان اللفظ فيها موضوع ابتدأ للمرتبة العليا واستعماله في بقية مراتبها من باب الادعاء وتنزيل الفاقد منزلة الواجد أو من جهة الاشتراك في الأثر.

ونتيجة ما أفاده ـ قده ـ ترجع إلى أمور :

(الأول) : ان الموضوع له هو المرتبة العليا على كلا القولين غاية الأمر الصحيحي يدعى صحة الاستعمال في خصوص المراتب الصحيحة بين بقية المراتب والأعمي يدعى صحته على الإطلاق.

(الثاني) : أنه لا فرق في ذلك بين العبادات وغيرها من المركبات الاختراعية (الثالث) : ان الصحيحي والأعمي محتاج كل منهما إلى تصوير جامع بين «صلاتي» القصر والإتمام ، ليكون اللفظ موضوعاً بإزاء ذلك الجامع.

(الرابع) بطلان ثمرة النزاع بين القولين :

أما الأول فيرده ان إطلاق ألفاظ العبادات على جميع مراتبها الدانية ، والعالية بعرضهما العريض على نسق واحد من دون لحاظ عناية في شيء منها ـ مثلا ـ إطلاق لفظ ال «صلاة» على المرتبة العليا ، وهي «صلاة» المختار الواجدة لجميع الاجزاء والشرائط ، وعلى بقية المراتب ك «صلاة» المضطر ونحوه على نسق واحد بلا لحاظ عناية تنزيلها منزلة الواجد ، أو اشتراكها مع المرتبة العليا في الأثر فلو كانت لفظة ال «صلاة» موضوعة لخصوص المرتبة العليا لكان استعمالها في غيرها من المراتب النازلة ك «صلاة» بدون قيام ، أو إلى غير القبلة ـ مثلا ـ محتاجاً إلى لحاظ التنزيل ، أو الاشتراك في الأثر ، مع إن الأمر ليس كذلك ،

١٤١

ضرورة ان المتشرعة يطلقون لفظ ال «صلاة» على كل مرتبة من مراتبها غافلين عن لحاظ التنزيل ، أو اشتراك هذه المرتبة مع المرتبة العليا في الأثر ، ولا يرون التفاوت في مرحلة الاستعمال والإطلاق بينها وبين بقية المراتب أصلا ، فهذا يكشف كشفاً قطعياً عن ان الموضوع له هو الجهة الجامعة بين جميع المراتب ، لا خصوص المرتبة العليا ، من دون فرق في ذلك بين العبادات وغيرها من المركبات ، فما أفاده ـ قده ـ كما لا يتم في العبادات كذلك لا يتم في سائر المركبات.

واما الثاني فمع الإغماض عما أجبنا به عن الأمر الأول يرد عليه انه فرق بين المركبات الشرعية وغيرها ، وهو ان للمراتب العليا من المركبات غير الشرعية حدوداً خاصة وأجزأ معينة التي لا يطرأ عليها الاختلاف بالزيادة والنقيصة ، وتنعدم بفقدان واحد منها ، كما إذا فرض انها ذات أجزأ ثلاثة ، أو أربعة ، أو خمسة ، أو عشرة ، أو أقل ، أو أزيد على اختلافها باختلاف المركبات فحينئذ يمكن دعوى ان اللفظ موضوع لخصوص المراتب العليا منها ، وإطلاقه على بقية المراتب من باب الادعاء والتنزيل ، أو من جهة الاشتراك في الأثر. وهذا بخلاف العبادات ، فان المراتب العليا منها ليست لها اجزاء خاصة بحيث لا تختلف زيادة ونقيصة ، فانها بأنفسها مختلفة ومتشتتة من ناحية الكمية ، أو الكيفية ـ مثلا ـ المرتبة العليا من «صلاة» الصبح غير المرتبة العليا من «صلاة» الظهرين ، وكلتاهما غير المرتبة العليا من «صلاة» المغرب ، وكل ذلك غير المرتبة العليا من «صلاة» العشاء بحسب الكمية ، أو الكيفية ، وهي بأجمعها غير المرتبة العليا من «صلاة» الآيات ، و «صلاة» العيدين وغيرهما.

وعلى الجملة فلا شبهة في أن «للصلاة» عرضاً عريضاً باعتبار أصنافها العديدة ولكل واحد من أصنافها أيضاً عرض عريض باعتبار مراتبها الطولية ، ومن المعلوم أن المرتبة العليا من كل صنف من أصنافها مباينة للمرتبة العليا من صنف آخر ، وهكذا :

١٤٢

فالنتيجة ان المراتب العالية أيضاً متعددة فلا بد من تصوير جامع بينها ، ليكون اللفظ موضوعاً بإزاء ذلك الجامع ، للقطع بانتفاء الاشتراك اللفظي.

فقد ظهر ان الالتزام بالوضع لخصوص المرتبة العليا لا يغنى عن تصوير الجامع فهو مما لا بد منه سواء قلنا بان الموضوع له المرتبة العليا؟ أم قلنا بأنه الجهة الجامعة بين جميع المراتب؟

ومن هنا يظهر الجواب عن الأمر الثالث أيضا ، وهو ان الحاجة إلى تصوير الجامع فهو مما لا بد منه سواء قلنا بان الموضوع له المرتبة العليا؟ أم قلنا بأنه الجهة الجامعة بين جميع المراتب؟

ومن هنا يظهر الجواب عن الأمر الثالث أيضاً ، وهو ان الحاجة إلى تصوير الجامع لا تختص بالقصر والإتمام ، بل لا بد من تصويره بين جميع المراتب العالية وقد عرفت انها كثيرة ولا تنحصر بالقصر والإتمام.

وأما الأمر الرابع فقد تبين من ضوء بياننا المتقدم ان ثمرة النزاع بين الأعمي والصحيحي تظهر على هذا أيضاً والوجه في ذلك هو أن الأعمي لا محالة يدعى وضع اللفظ للجامع بين جميع المراتب العليا صحيحة كانت أو فاسدة والصحيحي يدعى وضعه لخصوص الصحيحة منها فعلى ذلك إذا فرض وجود مطلق في البين وشك في اعتبار شيء ما جزءً ، أو شرطاً في المأمور به فبناء على الصحيحي لا يجوز التمسك بإطلاقه ، لأن الشك في اعتباره مساوق للشك في صدق المسمى ، ومعه لا يمكن التمسك بالإطلاق ، وبناء على الأعمي لا مانع منه ، لأن صدق المسمى محرز بالوجدان والشك إنما هو في اعتبار أمر زائد فيدفع بالإطلاق.

نعم لا يمكن التمسك بالإطلاق بالإضافة إلى بقية المراتب ، لعدم إحراز الإطلاق من جهة عدم العلم بالتنزيل والادعاء ، كما ذكره ـ قده ـ فلا يمكن التمسك بإطلاق ما دل على وجوب ال «صلاة» لإثبات وجوبها على المضطر ، أو نحوه ، وذلك من جهة عدم إحراز التنزيل والادعاء بعد فرض ان الموضوع له لا يعم المشكوك فيه ، لأنه خصوص المرتبة العليا.

وقد أصبحت النتيجة بوضوح أن تصوير الجامع على كلا القولين قد أصبح ضرورياً ، وعليه فان أمكن تصويره في مقام الثبوت على كلا القولين فللنزاع في

١٤٣

مقام الإثبات مجال وإن لم يمكن تصويره إلا على أحد القولين دون الآخر فلا مناص من الالتزام بذلك القول.

فعلى ذلك يقع الكلام في مقامين :

(الأول) : في تصوير الجامع بين الافراد الصحيحة فقط.

(الثاني) : في تصويره بين الأعم من الصحيحة ، والفاسدة.

اما الكلام في المقام الأول فقد ذهب المحقق صاحب الكفاية ـ قده ـ إلى ان وجود الجامع بين الأفراد الصحيحة مما لا بد منه ، وقد استدل على ذلك بقاعدة فلسفية وهي (ان الواحد لا يصدر إلا من الواحد) إذ لا بد من السنخية بين العلة ، ومعلولها والواحد بما هو واحد لا يعقل مسانخته للكثير بما هو كثير ، إذاً لا بد من الالتزام بان العلة هو الجامع بين الكثير وهو أمر واحد ، ثم طبق ـ قده ـ هذه القاعدة على المقام بتقريب ان الافراد الصحيحة من ال «صلاة» ـ مثلا ـ تشترك جميعها في أثر وحداني وهو النهي عن الفحشاء والمنكر بمقتضى قوله تعالى : (الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) كما هي تشترك في انها عماد الدين ، ومعراج المؤمن ، كما في عدة من الروايات ، ولا يعقل أن يكون المؤثر في ذلك الأثر الوحداني جميع الأفراد الصحيحة على كثرتها لما عرفت من أن الواحد لا يسانخ الكثير فلا محالة يستكشف كشفاً قطعياً عن وجود جامع وحداني بين تلك الأفراد الصحيحة ، يكون هو المؤثر في ذلك الأثر الوحداني ، ومن هنا قال ـ قده ـ ان تصوير الجامع بين الأفراد الصحيحة بمكان من الإمكان بل هو ضروري دون الأعم ، لعدم تحقق صغرى هذه القاعدة على قول الأعمي وبدونها لا طريق لنا إلى كشف الجامع من ناحية أخرى.

ولكن لا يخفى ما فيما أفاده ـ قده ـ بل لم يكن يترقب صدوره منه ، وذلك من وجوه.

(الأول) : ان هذه القاعدة وان كانت تامة في العلل الطبيعية لا محالة ، دون

١٤٤

الفواعل الإرادية ، ولكن ذلك فيما إذا كان المعلول واحداً بوحدة شخصية ، واما إذا كان واحداً بوحدة نوعية فلا تجري فيه هذه القاعدة ، وقد مر الكلام في ذلك في البحث عن حاجة العلوم إلى وجود الموضوع فليراجع ، وحيث ان وحدة الأثر في المقام وحدة نوعية لا شخصية ، فان النهي عن الفحشاء كلي له افراد وحصص بعدد افراد ال «صلاة» وحصصها في الخارج ، فلا شيء هناك يكشف عن وجود جامع بين افرادها ـ مثلا ـ «صلاة» الصبح يترتب عليها نهى عن منكر ، و «صلاة» المغرب يترتب عليها نهى آخر ، وهكذا ، فلا كاشف عن جهة جامعة بين الافراد والحصص بقانون ان الأمور المتباينة لا تؤثر أثراً واحداً.

(الثاني) : لو تنزلنا عن ذلك وسلمنا تمامية القاعدة حتى في الواحد النوعيّ ، فانها لا تتم في المقام ، لأنها لو تمت فيما إذا كانت الوحدة وحدة ذاتية مقولية فلا تتم فيما إذا كانت الوحدة وحدة بالعنوان ، دون الحقيقة والذات ، ولما كانت وحدة النهي عن الفحشاء وحدة عنوانية ، لا وحدة مقولية ، ضرورة ان النهي عن الفحشاء عنوان ينتزع عن ترك الأعمال القبيحة بالذات ، أو من جهة النهي الشرعي ، فكل واحد من هذه الأعمال حصة من الفحشاء والمنكر ، ويعبر عن النهي عنه بالنهي عن الفحشاء ، ولا مانع من أن ينتزع الواحد بالعنوان عن الحقائق المختلفة ، والأمور المتباينة خارجاً ، وعليه فلا كاشف عن جهة جامعة ذاتية مقولية ، وغاية ما هناك وجود جامع عنواني بين الافراد الصحيحة كعنوان الناهي عن الفحشاء والمنكر ، مع الاختلاف في الحقيقة والذات ، ومن الضروري عدم وضع لفظ ال «صلاة» لنفس العنوان.

(الثالث) : انا نعلم بالضرورة ان الأثر في المقام غير مترتب على الجامع بين الافراد ، وانما هو مترتب على افراد ال «صلاة» بخصوصياتها من الاجزاء والشرائط المعتبرة فيها ، فان ترتب النهي عن الفحشاء والمنكر على ال «صلاة»

١٤٥

ليس كترتب الإحراق على النار ، أو كترتب سائر الآثار الخارجية على أسبابها ، فان الأثر في جميع هذه الموارد مترتب على الجامع من دون دخل لأية خصوصية من الخصوصيات الفردية.

وهذا بخلاف المقام ، فان النهي عن الفحشاء والمنكر مما يترتب على افراد ال «صلاة» وحصصها بخصوصياتها الخاصة المعتبرة في صحتها خارجاً ، ولا ريب في ان صحة «صلاة» الصبح منوطة بخصوصية وقوع التسليمة في الركعة الثانية ، وصحة «صلاة المغرب منوطة بخصوصية وقوع التسليمة في الركعة الثالثة ، وعدم وقوعها في الركعة الثانية ، وصحة «صلاة» الظهرين ، أو «صلاة» العشاء متوقفة على خصوصية وقوع التسليمة في الركعة الرابعة ، ومشروطة بعدم وقوعها في الركعة الثالثة ، وهكذا بقية الخصوصيات ، فالمؤثر في جهة النهي عن الفحشاء حقيقة تلك الخصوصيات ، ومع هذا كيف يمكن القول بان المؤثر فيه الجامع بين الافراد ، فان الالتزام بذلك انما هو فيما إذا لم يكن دخل للخصوصيات في ترتب الأثر ، وهذا لا يعقل في المقام ، إذ كيف يمكن وجود جامع بين المشروط بشيء والمشروط بعدمه.

فتلخص ان الجامع الذاتي المقولي ولو سلمنا إمكان تعقله بين الافراد الصحيحة لم يكن لنا طريق إليه في مقام الإثبات.

(الرابع) : ان هذا الجامع الّذي فرضه ـ قده ـ لا يخلو من أن يكون مركباً ، أو يكون بسيطاً ، ولا ثالث لهما والأول لا يعقل ، لأن الصحة والفساد كما عرفت مفهومان إضافيان ، ومن المعلوم ان كل مركب فرض جامعاً فذلك المركب يتداخل فيه الصحة والفساد ، سواء كان المركب من المراتب العالية ك «صلاة» المختار أو من المراتب الدانية ، أو من المراتب الوسطى فعلى جميع التقادير كان ذلك المركب صحيحاً بالقياس إلى شخص ، أو زمان ، أو حالة وفاسداً بالقياس إلى غير ذلك ـ مثلا ـ «الصلاة» قصراً صحيحة من المسافر ، وفاسدة من غيره ،

١٤٦

و «الصلاة» قاعداً صحيحة للعاجز عن القيام ، وفاسدة للقادر عليه و «الصلاة» مع الطهارة المائية صحيحة من واجد الماء ، وفاسدة من فاقده ، ومع الطهارة الترابية يعكس ذلك ، وهكذا ، وعليه فكيف يعقل ان يكون المركب بما هو جامعاً

وعلى الجملة قد ذكرنا سابقاً ان «للصلاة» مراتب عريضة ، ومن المعلوم ان تلك المراتب بأجمعها متداخلة صحة وفساداً ، فما من مرتبة من مراتب الصحيحة إلا وهي فاسدة من طائفة حتى المرتبة العليا ، فانها فاسدة ممن لم يكلف بها فلا يعقل أن يؤخذ منها جامع تركيبي.

فقد أصبحت النتيجة ان استحالة تصوير الجامع التركيبي بين الافراد الصحيحة أمر بديهي.

والثاني وهو (فرض الجامع بسيطاً) أيضاً غير معقول والوجه في ذلك هو ان الجامع المقولي الذاتي لا يعقل ان ينطبق على مركب من حقيقتين متباينتين بالذات والهوية ، بداهة استحالة تحقق جامع ما هوى بين الحقيقتين المتباينتين ذاتاً ، وإلا فلا تكونان متباينتين ، بل كانتا مشتركتين في حقيقة واحدة ، وهذا خلف ومقامنا من هذا القبيل بعينه ، لأن ال «صلاة» مركبة وجداناً من مقولات متباينة بحد ذاتها كمقولة الوضع ، والكيف ، ونحوهما ، وقد برهن في محله ان المقولات متباينات بتمام ذاتها وذاتياتها فلا اشتراك لها في حقيقة واحدة ، ومن هنا كانت المقولات أجناساً عالية ، فلو كانت مندرجة تحت مقولة واحدة لم تكن أجناساً عالية ، ومع ذلك كيف يعقل جامع مقولي بين الأفراد الصحيحة ، بل لا يعقل فرض جامع لمرتبة واحدة منها فضلا عن جميع مراتبها المختلفة ، والمركب بما هو مركب لا يعقل ان يكون مقولة على حده ، ضرورة اعتبار الوحدة الحقيقية في المقولة وإلا لم تنحصر المقولات ، بل لا يعقل تركب حقيقي بين افراد مقولة واحدة فضلا عن مقولات متعددة.

وقد تحصل من ذلك انه لا يعقل تصور الجامع الحقيقي البسيط لمرتبة واحدة

١٤٧

من ال «صلاة» فضلا عن جميع مراتبها ، كما كان الأمر كذلك في الجامع التركيبي.

(الخامس) : قد ذكرنا سابقاً ان الصحة في المقام بمعنى تمامية الشيء في نفسه أعني بها تماميته من حيث الاجزاء ، والشرائط ، وقد تقدم ان الصحة من جهة قصد القربة ، أو من جهة عدم النهي ، أو المزاحم خارجة عن محل النزاع وغير داخلة في المسمى ، فانه في مرتبة سابقة قد يوجد له مزاحم وقد يقصد به التقرب وقد ينهى عنه ولكن مع ذلك لهذه الأمور دخل في الصحة ، وفي فعلية الأثر فلو كان للصلاة ـ مثلا ـ مزاحم واجب ، أو انها نهى عنها ، أو لم يقصد بها التقرب لم يترتب عليها الأثر ، وعليه فما يترتب عليه الأثر بالفعل لم يوضع له اللفظ يقيناً وما وضع له اللفظ ليس إلا ما يكون مقتضياً وقابلا لترتب الأثر عليه ، وهذا كما يمكن صدقه على الافراد الصحيحة يمكن صدقه على الافراد الفاسدة لأنها أيضاً قد تقع صحيحة بالإضافة إلى شخص أو زمان أو حالة لا محالة.

وعلى الجملة ان ما يترتب عليه الأثر بالفعل لم يوضع له اللفظ قطعاً ، وما يترتب عليه الأثر بالاقتضاء جامع بين الافراد الصحيحة والفاسدة جميعاً.

وقد تحصل من ذلك : ان ترتب النهي عن الفحشاء والمنكر على الصلوات الصحيحة بالفعل لا يفي بإثبات القول بوضع الألفاظ للجامع بين الافراد الصحيحة بخصوصها فانه سواء قلنا بذلك القول؟ أم لم نقل؟ فترتبه متوقف على اعتبار شيء زائد على المسمى لا محالة.

(السادس) : ان الجامع لا بد من أن يكون أمراً عرفياً ، وما ذكره من الجامع على تقدير تسليم وجوده ، والإغماض عن جميع ما ذكرناه لا يكون معنى عرفياً حتى يكون مسمى بلفظ ال «صلاة» ومورداً للخطاب ، ضرورة ان اللفظ لا يوضع لمعنى خارج عن المتفاهم العرفي ، ولا يكون مثله متعلقاً للخطاب الشرعي فان الخطابات الشرعية كلها منزلة على طبق المفاهيم العرفية ، فلو فرض معنى يكون خارجاً عن الفهم العرفي لم يقع مورداً للخطاب الشرعي ، أو العرفي. ولا يوضع

١٤٨

اللفظ بإزائه ، وحيث ان الجامع في المقام ليس أمراً عرفياً فلا يكون مسمى بلفظ ال «صلاة» ـ مثلا ـ ضرورة ان محل كلامنا ليس في تصوير جامع كيف ما كان ، بل في تصوير جامع عرفي يقع تحت الخطاب ، لا في جامع عقلي بسيط يكون خارجاً عن متفاهم العرف.

وبتعبير آخر ان المصلحة الداعية إلى وضع الألفاظ إنما هي الدلالة على قصد المتكلم تفهيم معنى ما ، فتلك المصلحة إنما دعت إلى وضعها للمعاني التي يفهمها أهل العرف والمحاورة ، وأما ما كان خارجاً عن دائرة فهمهم فلا مصلحة تدعو إلى وضع اللفظ بإزائه ، بل كان الوضع بإزائه لغواً محضاً لا يصدر من الواضع الحكيم

ولما لم يكن الجامع الّذي فرضه بين الأفراد الصحيحة جامعاً عرفيا ، فان كثيراً من الناس لا يعلم بتأثير ال «صلاة» في النهي عن الفحشاء والمنكر فضلا عن العلم بكشفه عن جامع ذاتي مقولي ـ لم يكن ذلك الجامع موضوعاً له لمثل كلمة ال «صلاة» ونحوها ، بل المتفاهم منها عرفا في مثل قولنا فلان «صلى» أو «يصلى» أو نحو ذلك غير ذلك الجامع. فالنتيجة من جميع ما ذكرناه ان تصوير جامع ذاتي مقولي بين الأفراد الصحيحة غير معقول.

واما تصوير جامع عنواني بينها فهو ان كان ممكناً كعنوان الناهي عن الفحشاء والمنكر ، أو نحوه إلا ان لفظ ال «صلاة» لم يوضع بإزاء هذا العنوان يقيناً ، ضرورة ان لفظ ال «صلاة» لو كان موضوعاً لذلك العنوان لكان مرادفاً لكلمة «الناهي» عن الفحشاء والمنكر ، ولازم ذلك أن يكون حمل ذلك العنوان على ال «صلاة» من الحمل الأولى الذاتي لا الشائع الصناعي وهو باطل قطعاً.

لا يقال : ان لزوم الترادف يبتنى على ان يكون لفظ ال «صلاة» موضوعا لنفس العنوان المذكور ، واما إذا فرضنا انه موضوع لواقع ذلك العنوان ، ومعنونه فلا يلزم ذلك.

فانه يقال : ان أريد بالمعنون ما يكون جامعاً بين الأفراد الخارجية ليكون

١٤٩

صدقه عليها صدق الطبيعة على افرادها فقد عرفت انه لا دليل عليه ، بل البرهان قائم على خلافه. وان أريد بالمعنون نفس الافراد الخارجية ليكون الوضع من قبيل الوضع العام والموضوع له الخاصّ فهو باطل جزماً ، وذلك لأن إطلاق كلمة ال «صلاة» على جميع أقسامها بشتى أنواعها واشكالها على نسق واحد ، وليس استعمالها في نوع ، أو صنف ، أو فرد مغايراً لاستعمالها في نوع ، أو صنف ، أو فرد آخر.

ومن هنا يكون حمل كلمة ال «صلاة» بما لها من المعنى المرتكز في أذهان المتشرعة على جميع أقسامها ، وافرادها من قبيل حمل الكلي على افراده ، والطبيعي على مصاديقه ، فوحدة النسق في إطلاق الكلمة ، وكون الحمل شائعاً صناعياً يكشفان كشفاً قطعياً عن ان المعنى الموضوع له عام ، لا خاص.

وعلى الجملة ان القول بكون الموضوع له خاصاً يشترك مع القول بالاشتراك اللفظي في البطلان ؛ بل لا فرق بحسب النتيجة ، حيث ان الموضوع له متعدد على كلا القولين ، وإنما الفرق بينهما في وحدة الوضع ، وتعدده.

فقد أصبحت النتيجة من جميع ما ذكرناه ان تصوير جامع ذاتي مقولي على القول بالصحيح غير معقول ، وتصوير جامع عنواني وان كان شيئاً معقولا إلا ان اللفظ لم يوضع بإزائه ، ولا بإزاء معنونه ، كما عرفت. هذا.

وفي تقريرات بعض الأعاظم ـ قده ـ بياناً آخر لتصوير الجامع بين الأفراد الصحيحة ، وملخصه : هو أن الجامع لا ينحصر بالجامع المقولي ولا بالجامع العنواني ، بل هنا جامع ثالث وهو المرتبة الخاصة من الوجود الساري ، فان الصلاة ـ مثلا ـ مركبة من مقولات متباينات ، وتلك المقولات وان لم تندرج تحت جامع مقولي حقيقي إلا انها مندرجة تحت مرتبة خاصة من الوجود الساري إليها ، وتلك المرتبة الخاصة البسيطة وجود سار إلى جملة من المقولات ، ومحدود من ناحية القلة بالأركان على سعتها ، وأما من ناحية الزيادة فهو لا بشرط ، وهذه

١٥٠

جهة جامعة بين جميع الأفراد الصحيحة ، فالصلاة عبارة عن تلك المرتبة الخاصة من الوجود ، وعلى هذا كانت الصلاة امراً بسيطاً خاصاً يصدق على القليل ، الكثير ، والقوى ، والضعيف .. وهكذا. ويرده

(أولا) انه لا ريب في أن لكل مقولة من المقولات وجود في نفسه في عالم العين ، فكما انه لا يعقل أن يكون بين مقولتين ، أو ما زاد جامع مقولي واحد بان تندرجا تحت ذلك الجامع ، فكذلك لا يعقل أن يكون لهما وجود واحد في الخارج ، ضرورة استحالة اتحاد مقولة مع مقولة أخرى في الوجود.

وعلى الجملة فكل مركب اعتباري عبارة عن نفس الاجزاء بالأسر ، فالوحدة بين اجزائه وحدة اعتبارية ، ومن الضروري انه ليس لمجموع تلك الاجزاء المتباينة بالذات والحقيقة حصة خاصة من الوجود حقيقة سارية إليها فالصلاة ـ مثلا ـ مركبة من مقولات متباينة كمقولة الوضع ، والكيف ، ونحوهما ، وليست تلك المقولات مشتركة في مرتبة خاصة بسيطة من الوجود ، لتكون وجوداً للجميع ، وعلى ذلك فانه ـ قده ـ ان أراد به اشتراك تلك المقولات في مفهوم الوجود فهو لا يختص بها ، بل يعم جميع الأشياء ، وان أراد به اشتراكها في حقيقة الوجود فالأمر أيضا كذلك ، وان أراد ان لتلك المقولات وحدها مرتبة خاصة من الوجود ففيه انه غير معقول كما عرفت ، وقد برهن في محله ان الاتحاد الحقيقي في الوجود بين امرين ، أو أمور متحصلة مستحيل. ولو اعتبر الوحدة بينهما أو بينها الف مرة ، وكيف ما كان فلا نعقل لذلك معنى متحصلا أصلا.

و (ثانياً) انه لو سلم ذلك فان ال «صلاة» ليست عبارة عن تلك المرتبة الخاصة الوجودية ، ضرورة ان المتفاهم منها عند المتشرعة ليس هذه ، بل نفس المقولات ، والاجزاء ، والشرائط. وهذا واضح.

و (ثالثاً) انا قد ذكرنا سابقاً ان الألفاظ لم توضع للموجودات الخارجية ، بل وضعت للماهيات القابلة لأن تحضر في الأذهان ، وعليه فلا يعقل ان يوضع لفظ

١٥١

ال «صلاة» لتلك المرتبة الخاصة من الوجود ، فانها غير قابلة لأن تحضر في الذهن

ولشيخنا المحقق ـ قده ـ بياناً ثالثاً في تصوير الجامع بين الأفراد الصحيحة.

وإليك نصه : والتحقيق ان سنخ المعاني والماهيات ، وسنخ الوجود العيني الّذي حيثية ذاته حيثية طرد العدم في مسألة السعة والإطلاق متعاكسان ، فان سعة سنخ الماهيات من جهة الضعف والإبهام ، وسعة سنخ الوجود الحقيقي من فرط الفعلية ، فلذا كلما كان الضعف والإبهام في المعنى أكثر كان الإطلاق والشمول أوفر ، وكلما كان الوجود أشد وأقوى كان الإطلاق والسعة أعظم وأتم ، فان كانت الماهية من الماهيات الحقيقية كان ضعفها وإبهامها بلحاظ الطواري وعوارض ذاتها ، مع حفظ نفسها ، كالإنسان ـ مثلا ـ فانه لا إبهام فيه من حيث الجنس والفصل المقومين لحقيقته ، وإنما الإبهام فيه من حيث الشكل ، وشدة القوى ، وضعفها ، وعوارض النّفس ، والبدن ، حتى عوارضها اللازمة لها ماهية ، ووجوداً ، وإن كانت الماهية من الأمور المؤتلفة من عدة أمور بحيث تزيد وتنقص كماً وكيفاً ، فمقتضى الوضع لها بحيث يعمها مع تفرقها وشتاتها ان تلاحظ على نحو مبهم في غاية الإبهام بمعرفية بعض العناوين الغير المنفكة عنها ، فكما أن الخمر ـ مثلا ـ مائع مبهم من حيث اتخاذه من العنب ، والتمر ، وغيرهما ، ومن حيث اللون ، والطعم ، والريح ، ومن حيث مرتبة الإسكار ، ولذا لا يمكن وصفه إلا لمائع خاص بمعرفية المسكرية من دون لحاظ الخصوصية تفصيلا ، بحيث إذا أراد المتصور تصوره لم يوجد في ذهنه إلا مصداق مائع مبهم من جميع الجهات إلا حيثية المائعية بمعرفية المسكرية ، كذلك لفظ ال «صلاة» مع هذا الاختلاف الشديد بين مراتبها كماً وكيفاً ، لا بد من أن يوضع لسنخ عمل معرفه النهي عن الفحشاء ، أو غيره من المعرفات ، بل العرف لا ينتقلون من سماع لفظ ال «صلاة» إلا إلى سنخ عمل خاص مبهم إلا من حيث كونه مطلوباً في الأوقات الخاصة ، ولا دخل لما ذكرناه بالنكرة ، فانه لم يؤخذ فيه الخصوصية البدلية ، كما أخذت فيها ، وبالجملة

١٥٢

الإبهام غير الترديد ، وهذا الّذي تصورناه في ما وضع له الصلاة بتمام مراتبها من دون الالتزام بجامع ذاتي مقولي ، وجامع عنواني ، ومن دون الالتزام بالاشتراك اللفظي مما لا مناص عنه بعد القطع بحصول الوضع ولو تعيناً.

ثم قال ـ قده ـ بقوله وقد التزم بنظيره بعض أكابر فن المعقول في تصحيح التشكيك في الماهية جواباً عن تصور شمول طبيعة واحدة لتمام مراتب الزائدة ، والمتوسطة ، والناقصة ، حيث قال : نعم الجميع مشترك في سنخ واحد مبهم غاية الإبهام بالقياس إلى تمام نفس الحقيقة ، ونقصها وراء الإبهام الناشئ فيه عن اختلاف في الافراد بحسب هوياتها (انتهى) مع أن ما ذكرناه أولى به مما ذكره في الحقائق المتأصلة ، والماهيات الواقعية ، كما لا يخفى.

ثم قال ـ قده ـ واما على ما تصورنا الجامع فالصحيحي ، والأعمي في إمكان تصوير الجامع على حد سواء ، فان المعرف ان كان فعلية النهي عن الفحشاء فهي كاشفة عن الجامع بين الأفراد الصحيحة ، وان كان اقتضاء النهي عن الفحشاء فيه كاشف عن الجامع بين الأعم ، هذا.

يتلخص نتيجة ما أفاده ـ قده ـ في ضمن أمور :

(الأول) : ان الماهية والوجود متعاكسان من جهة السعة والإطلاق ، فالوجود كلما كان أشد وأقوى كان الإطلاق والشمول فيه أوفر ، والماهية كلما كان الضعف والإبهام فيها أكثر كان الإطلاق والشمول فيها أعظم وأوفر.

(الثاني) : ان الجامع بين الماهيات الاعتبارية كالصلاة ونحوها سنخ أمر مبهم في غاية الإبهام ، فانه جامع لجميع شتاتها ومتفرقاتها ، وصادق على القليل ، والكثير ، والزائد ، والناقص ـ مثلا ـ الجامع بين افراد الصلاة سنخ عمل مبهم من جميع الجهات إلا من حيث النهي عن الفحشاء والمنكر ، أو من حيث فريضة الوقت.

(الثالث) ان الماهيات الاعتبارية نظير الماهيات المتأصلة التشكيكية من جهة

١٥٣

إبهامها ذاتاً ، بل ان ثبوت الإبهام في الاعتباريات أولى من ثبوته في المتأصلات.

(الرابع) : ان القول بالصحيح ، والأعم في تصوير الجامع المزبور على حد سواء.

أما الأمر الأول فهو وان كان متيناً إلا انه خارج عن محل كلامنا في المقام.

وأما الأمر الثاني فيرده ان الأمر في الماهيات الاعتبارية لا تكون مبهمة أصلا ، ضرورة أن للصلاة ـ مثلا ـ حقيقة متعينة من قبل مخترعها وهي أجزائها الرئيسية التي هي عبارة عن مقولة الكيف ، والوضع ، ونحوهما ، ومن المعلوم انه ليس فيها أي إبهام وغموض ، كيف فان الإبهام لا يعقل أن يدخل في تجوهر ذات الشيء فالشيء بتجوهر ذاته متعين ومتحصل لا محالة ، وإنما يتصور الإبهام بلحاظ الطواري وعوارضه الخارجية كما صرح هو ـ قده ـ بذلك في الماهيات المتأصلة ، فحقيقة ال «صلاة» حقيقة متعينة بتجوهر ذاتها ، وانما الإبهام فيها بلحاظ الطواري وعوارضها الخارجية وعليه فالعمل المبهم إلا من حيث النهي عن الفحشاء ، أو فريضة الوقت لا يعقل أن يكون جامعاً ذاتياً ومنطبقاً على جميع مراتبها المختلفة زيادة ، ونقيصة انطباق الكلي على افراده ، ومتحداً معها اتحاد الطبيعي مع مصاديقه ضرورة ، إذ قد عرفت ان ال «صلاة» مركبة من عدة مقولات متباينة فلا تندرج تحت جامع ذاتي ، فلا محالة يكون ما فرض جامعاً عنواناً عرضياً لها ، ومنتزعاً عنها إذ لا ثالث بين الذاتي والعرضي ، ومن الواضح جداً ان لفظ ال «صلاة» لم يوضع بإزاء هذا العنوان والا لترادف اللفظان وهو باطل يقيناً. ومن هنا يظهر بطلان قياس المقام بمثل كلمة «الخمر» ونحوها مما هو موضوع للعنوان العرضي ، دون الذاتي.

على أن الكلام في هذه المسألة كما مرّ انما هو في تعيين مسمى لفظ ال «صلاة» الّذي هو متعلق للأمر الشرعي ، لا في تعيين المسمى كيف ما كان ، ومن الظاهر ان الجامع المزبور لا يكون متعلق الأمر ، بل المتعلق له هو نفس الاجزاء المتقيدة

١٥٤

بقيود خاصة ، فانها هي التي واجدة للملاك الداعي إلى الأمر بها ، كما لا يخفى.

ومن هنا كان المتبادر عرفاً من لفظ ال «صلاة» هذه الاجزاء المتقيدة بتلك الشرائط لا ذلك الجامع. ومن الغريب انه ـ قده ـ قال : ان العرف لا ينتقلون من سماع لفظ ال «صلاة» إلا إلى سنخ عمل مبهم إلا من حيث كونه مطلوباً في الأوقات المخصوصة» كيف فان العرف لا يفهم من إطلاق لفظ ال «صلاة» إلا كمية خاصة من الأجزاء ، والشرائط التي تعلق الأمر بها وجوباً ، أو ندباً ، وفي الأوقات الخاصة ، أو في غيرها ، ومن هنا كان إطلاق لفظ ال «صلاة» على صلاة العيدين وصلاة الآيات إطلاقاً حقيقياً من دون إعمال عناية أو رعاية علاقة.

وبما ذكرناه يظهر حال ما أفاده (قدس‌سره) في الأمر الثالث فلا حاجة إلى الإعادة.

و (اما الرابع) فيرد عليه ما تقدم من أن النهي عن الفحشاء إنما يترتب فعلا على ما يتصف بالصحّة بالفعل ، وهو غير المسمى قطعاً ، فلا يمكن ان يكون ذلك جامعاً بين الافراد الصحيحة.

وقد تلخص من جميع ما ذكرناه ان الجامع بين الأفراد الصحيحة أما انه غير معقول أو هو معقول ولكن اللفظ لم يوضع بإزائه.

تبصرة

إذا لم يعقل جامع بين الأفراد الصحيحة فما هو المؤثر في النهي عن الفحشاء والمنكر؟

والجواب عنه : هو أن حديث كيفية تأثير ال «صلاة» في الانتهاء عن الفحشاء والمنكر يمكن أن يكون بأحد وجهين :

(الأول) : ان الصلاة باعتبار اجزائها المختلفة كماً ، وكيفاً مشتملة على

١٥٥

أرقى معاني العبودية والرقية ، ولأجل ذلك تصرف النّفس عن جملة من المنكرات وتؤثر في استعدادها للانتهاء عنها من جهة مضادة كل جزء من اجزائها لمنكر خاص ، فان المصلى الملتفت إلى وجود مبدأ ومعاد إذا قرأ قوله تعالى (الحمد لله رب العالمين) التفت إلى أن لهذه العوالم خالقا ، هو ربهم ، وهو رحمان ورحيم ، وإذا قرأ قوله تعالى (مالك يوم الدين) التفت إلى ان الله يسأل عما ارتكبه من القبائح ويجازى عليه في ذلك اليوم ، وإذا قرأ قوله تعالى (إياك نعبد وإياك نستعين) التفت إلى ان العبادة ، والاستعانة منحصرتان به تعالى وتقدس ، ولا يصلح غيره للعبادة والاستعانة ، وإذا قرأ (اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين) التفت إلى ان طائفة قد خالفوا الله وعصوه عناداً ، ولأجله وقع عليهم غضبه تعالى وسخطه ، أو انهم خالفوه بغير عناد فصاروا من الضالين ، وهناك طائفة أخرى قد أطاعوا الله ورسوله فوقعوا في مورد نعمائه تعالى ورضاه ، ففاتحة الكتاب بمجموع آياتها تكون عبرة وعظة للمصلين الملتفتين إلى معاني هذه الآيات ، ثم إذا وصل المصلى إلى حد الركوع والسجود فركع ثم سجد التفت إلى عظمة مقام ربه الجليل ، وان العبد لا بد أن يكون في غاية تذلل ، وخضوع ، وخشوع إلى مقامه الأقدس ، فانهما حقيقة العبودية ، وأرقى معناها ، ومن هنا كانت عبادتيهما ذاتية.

ومن هنا كان في الركوع والسجود مشقة على العرب في صدر الإسلام فالتمسوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ان يرفع عنهم هذا التكليف ويأمرهم بما شاء ، وذلك لتضادهما الكبر والنخوة ، وبما ان ال «صلاة» تتكرر في كل يوم ، وليلة عدة مرات فالالتفات إلى معانيها في كل وقت أتى بها لا محالة تؤثر في النّفس ، وتصرفها عن الفحشاء والمنكر.

(الثاني) ان الصلاة باعتبار انها مشروطة بعدة شرائط فهي لا محالة تنهى عن الفحشاء والمنكر فان الالتزام بإباحة المكان ، واللباس ، وبالطهارة من الحدث

١٥٦

والخبث ـ مثلا ـ يصرف المكلف عن كثير من المحرمات الإلهية.

وقد نقل عن بعض السلاطين انه كان يمتنع عن شرب الخمر لأجل الصلاة ، وكيف ما كان فالصلاة باعتبار هاتين الجهتين ناهية عن عدة من المنكرات لا محالة.

فتلخص ان تأثير الصلاة في النهي عن الفحشاء باعتبار هاتين الجهتين واضح هذا تمام الكلام في المقام الأول.

واما الكلام في المقام الثاني فيقع في تصوير الجامع على القول بالأعم وقد ذكر فيه عدة وجوه :

(الأول) : ما عن المحقق القمي ـ قده ـ من أن ألفاظ العبادات موضوعة بإزاء خصوص الأركان ، وأما بقية الاجزاء والشرائط فهي دخيلة في المأمور به دون المسمى فلفظ ال «صلاة» ـ مثلا ـ موضوع لذات التكبيرة ، والركوع ، والسجود ، والطهارة من الحدث فانها أركان ال «صلاة» وأصولها الرئيسية واما البقية فجميعاً معتبرة في مطلوبيتها شرعاً ، لا في تسميتها عرفاً ، فيرجع حاصل ما أفاده ـ قده ـ إلى أمرين :

(الأول) : ان البقية بأجمعها خارجة عن المسمى ، ودخيلة في المأمور به.

(الثاني) : ان الأركان هو الموضوع له.

وقد أورد شيخنا الأستاذ ـ قده ـ على كل واحد من الأمرين إيراداً.

اما الأول فقد أورد عليه بأنه ان أراد بعدم دخول بقية الاجزاء ، والشرائط في المسمى عدم دخولها فيه دائماً فيرده انه ينافي الوضع للأعم فان لازمه عدم صدق لفظ ال «صلاة» على الفرد الصحيح إلا بنحو من العناية والمجاز ، ومن باب إطلاق اللفظ الموضوع للجزء على الكل ، وان أراد به دخولها فيه عند وجودها ، وخروجها عنه عند عدمها فهو غير معقول ضرورة ان دخول شيء واحد في ماهية عند وجوده ، وخروجه عنها عند عدمه امر مستحيل لاستحالة كون شيء جزء لماهية مرة ، وخارجاً عنها مرة أخرى ، فان كل ماهية متقومة بجنس وفصل أو

١٥٧

ما يشبههما فلا يعقل أن يكون شيء واحد مقوماً لماهية عند وجوده ، ولا يكون كذلك عند عدمه. فإذا لا يعقل أن تكون البقية داخلة في المسمى عند تحققها ، وخارجة عنه عند عدمها ، فأمرها لا محالة يدور بين الخروج مطلقاً ، أو الدخول كذلك وكلا الأمرين ينافي الوضع للأعم. أما الأول فلما عرفت ، واما الثاني فلأنه يناسب الوضع للصحيح لا للأعم كما لا يخفى.

ثم أورد ـ قده ـ على نفسه بان الالتزام بالتشكيك في الوجود ، وفي بعض الماهيات كالسواد والبياض ونحوهما يلزمه الالتزام بدخول شيء في الوجود أو الماهية عند وجوده ، وبعدم دخوله فيه عند عدمه ، فان المعنى الواحد على القول بالتشكيك يصدق على الواجد والفاقد والناقص والتام ، فالوجود يصدق على وجود الواجب ، ووجود الممكن على عرضه العريض ، وكذا السواد يصدق على الضعيف والشديد فليكن ال «صلاة» أيضاً صادقة على التام والناقص والواجد ، والفاقد على نحو التشكيك.

وأجاب عنه بان التشكيك في حقيقة الوجود لا ندرك حقيقته بل هو أمر فوق إدراك البشر ولا يعلم إلا بالكشف والمجاهدة كما صرح به أهله ، وأما التشكيك في الماهيات فهو وان كان امراً معقولا إلا انه لا يجري في كل ماهية ، بل يختص بالماهيات البسيطة التي يكون ما به الاشتراك فيها عين ما به الامتياز كالسواد والبياض ونحوهما ، واما الماهيات التي تكون مركبة من جنس وفصل ومادة وصورة كالإنسان ، ونحوه فلا يعقل فيها التشكيك ، وعليه فلا يعقل التشكيك في حقيقة ال «صلاة» لأنها على الفرض مركبة من أركان ومقولات عديدة فلا يعقل أن تكون بقية الاجزاء ، والشرائط داخلة فيها مرة وخارجة عنها مرة أخرى لتصدق الصلاة على الزائد والناقص.

و (اما الثاني) فأورد عليه بان الأركان أيضاً تختلف باختلاف الأشخاص من القادر والعاجز والغريق ، ونحو ذلك فلا بد حينئذ من تصوير جامع بين مراتب

١٥٨

الأركان فيعود الإشكال.

وبيان ذلك : هو ان الشارع جعل الركوع والسجود بعرضهما العريض ركناً فهما يختلفان باختلاف الحالات من الاختيار والاضطرار ، وأدنى مراتبهما الإشارة والإيماء فحينئذ لا بد من تصوير جامع بين تلك المراتب ليوضع اللفظ بإزاء ذلك الجامع فإذاً يعود الإشكال.

ومن جميع ما ذكرناه يستبين ان ما ذكره ـ قده ـ لا يرجع عند التأمل إلى معنى محصل. هذا.

وأورد المحقق صاحب الكفاية ـ قده ـ على هذا الوجه من تصوير الجامع إيراداً ثالثاً ، وملخصه هو انا نقطع بان لفظ ال «صلاة» لم يوضع بإزاء الأركان الخاصة ، ضرورة انه يصدق على الفرد الفاقد لبعض الأركان إذا كان ذلك الفرد واجداً لبقية من الاجزاء والشرائط ولا يصدق على الفرد الواجد لجميع الأركان إذا كان ذلك الفرد فاقداً لتمام البقية فلا يصح إذاً دعوى وضعها لخصوص الأركان فانه لا يدور صدق ال «صلاة» مدارها وجوداً وعدماً ، كما لا يخفى.

والصحيح هو ما أفاده المحقق القمي ـ قده ـ ولا يرد عليه شيء من هذه الإيرادات.

أما الإيراد الأول فلان فيه خلطاً بين المركبات الحقيقية ، والمركبات الاعتبارية ، فان المركبات الحقيقية التي تتركب من جنس وفصل ومادة وصورة ، ولكل واحد من الجزءين جهة افتقار بالإضافة إلى الآخر لا يعقل فيها تبديل الاجزاء بغيرها ، ولا الاختلاف فيها كماً وكيفاً ، فإذا كان شيء واحد جنساً أو فصلا لماهية فلا يعقل أن يكون جنساً أو فصلا لها مرة ، ولا يكون كذلك مرة أخرى ضرورة ان بانتفائه تنعدم تلك الماهية لا محالة ـ مثلا ـ الحيوان جنس للإنسان فلا يعقل ان يكون جنساً له في حال أو زمان ، ولا يكون جنساً له في حال أو زمان آخر .. وهكذا فما ذكره ـ قده ـ تام في المركبات الحقيقية ولا مناص

١٥٩

عنه واما المركبات الاعتبارية التي تتركب من أمرين مختلفين أو أزيد وليس بين الجزءين جهة اتحاد حقيقة ، ولا افتقار ولا ارتباط بل ان كل واحد منهما موجود مستقل على حياله ، ومباين للآخر في التحصل والفعلية ، والوحدة العارضة عليهما اعتبارية لاستحالة التركب الحقيقي بين أمرين أو أمور متحصلة بالفعل فلا يتم فيها ما أفاده ـ قده ـ ولا مانع من كون شيء واحد داخلا فيها عند وجوده ، وخارجاً عنها عند عدمه.

وقد مثلنا لذلك في الدورة السابقة بلفظ ال «دار» فانه موضوع لمعنى مركب وهو ما اشتمل على حيطان وساحة وغرفة وهي اجزائها الرئيسية ، ومقومة لصدق عنوانها فحينئذ ان كان لها سرداب أو بئر أو حوض أو نحو ذلك فهو من اجزائها وداخلة في مسمى لفظها وإلا فلا.

وعلى الجملة فقد لاحظ الواضع في مقام تسمية لفظ ال «دار» معنى مركباً من اجزاء معينة خاصة وهي : الحيطان والساحة والغرفة فهي أركانها ، ولم يلحظ فيها مواداً معينة وشكلا خاصاً من الإشكال الهندسية ، وأما بالإضافة إلى الزائد عنها فهي مأخوذة لا بشرط بمعنى ان الزائد على تقدير وجوده داخل في المسمى ، وعلى تقدير عدمه خارج عنه فالموضوع له معنى وسيع يصدق على القليل والكثير والزائد والناقص على نسق واحد.

ومن هذا القبيل لفظ القباء والعباء بالإضافة إلى البطانة ، ونحوها فانها عند وجودها داخلة في المسمى ، وعند عدمها خارجة عنه وغير ضائر بصدقة.

ومن هذا القبيل أيضاً الكلمة والكلام فان الكلمة موضوعة للمركب من حرفين فصاعداً ، فان زيد عليهما حرف أو أزيد فهو داخل في معناها وإلا فلا ، والكلام موضوع للمركب من كلمتين فما زاد ، فيصدق على المركب منهما ومن الزائد على نحو واحد ... وهكذا.

وبتعبير آخر ان المركبات الاعتبارية على نحوين :

١٦٠