محاضرات في أصول الفقه - ج ١

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
المطبعة: الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٠٠

من دون فرق بينهما ـ أصلا ـ وبيان ذلك يحتاج إلى تقديم مقدمة وهي انا قد ذكرنا فيما تقدم ان الحروف والأدوات موضوعة لتضييقات المفاهيم الاسمية وتقييدها بقيود خارجة عن حريم ذواتها ، فان الغرض قد يتعلق بتفهيم طبيعي المعنى الاسمي على إطلاقه وسعته ، وقد يتعلق بتفهيم حصة خاصة منه ، وقد ذكرنا ان الدال على الحصة ليس إلا الحروف أو ما يحذو حذوها.

وان شئت فقل ان الموجود الذهني ليس كالموجود الخارجي ، فانه مطلقاً من أي مقولة كان لا ينطبق على أمر آخر وراء نفسه وهذا بخلاف المفهوم الذهني فانه بالقياس إلى الخارج عن أفق الذهن قابل لأن ينطبق على عدة حصص ولكن الغرض يتعلق بتفهيم حصة خاصة والدال عليه كما مر هو الحرف أو ما يشبهه.

وعلى ضوء ذلك فنقول : ان المتكلم كما إذا قصد تفهيم حصة خاصة من المعنى بجعل مبرزه الحرف أو ما يقوم مقامه ، كذلك إذا قصد تفهيم حصة خاصة من اللفظ يجعل مبرزه ذلك فالحرف كما يدل على تضييق المعنى وتخصيصه بخصوصية ما ، كذلك يدل على تضييق اللفظ وتقييده بقيود ما ، فان الغرض كما قد يتعلق بإيجاد طبيعي اللفظ على ما هو عليه من الإطلاق والسعة يتعلق بتفهيم حصة خاصة من ذلك الطبيعي كالصنف أو المثل فالمبرز لذلك ليس إلا الحرف أو ما يشبهه ، بداهة انه لا فرق في إفادة الحروف التضييق بين الألفاظ والمعاني ، فكلمة (في) في قولنا زيد في (ضرب زيد فاعل) تدل على تخصص طبيعي لفظ زيد بخصوصية ما من الصنف أو المثل ، كما انها في قولنا «الصلاة في المسجد حكمها كذا» تدل على ان المراد من الصلاة ليس هو الطبيعة السارية إلى كل فرد ، بل خصوص حصة منها.

وعلى الجملة فلا فرق بين قولنا «الصلاة في المسجد أفضل من الصلاة في الدار» وقولنا زيد في (ضرب زيد فاعل) فكلمة (في) كما تدل في المثال الأول على ان المراد من الصلاة ما يقع منه في المسجد كذلك تدل في المثال الثاني على ان المراد من لفظ زيد ليس هو الطبيعة المطلقة ، بل حصة خاصة منه من المثل أو الصنف.

١٠١

ومن هنا يظهر لك ملاك القول بان هذين القسمين ليسا من قبيل الاستعمال ـ أيضا ـ لما مر من إمكان إيجاد اللفظ بنفسه وإحضاره في ذهن المخاطب بلا وساطة شيء فإذا تعلق الغرض بتقييده بخصوصية ما يجعل الدال عليه الحرف أو ما يحذو حذوه مثلا لو قال أحد زيد في (ضرب زيد فاعل) فقد أوجد طبيعي لفظ زيد وأحضره بنفسه في ذهن المخاطب وقد دل على تقييده بخصوصية ما من المثل أو الصنف بكلمة (في) فأين هنا استعمال لفظ في مثله أو صنفه.

فالنتيجة ان شيئاً من الإطلاقات المتقدمة ليس من قبيل الاستعمال ، بل هو من قبيل إيجاد ما يمكن إراءة شخصه مرة ، ونوعه أخرى ، وصنفه ثالثة ، ومثله رابعة.

ثم انه لا يخفى ان ما ذكره المحقق صاحب الكفاية ـ قده ـ في آخر كلامه في هذا المقام بقوله «وفيها ما لا يكاد يصح ان يراد منه ذلك مما كان الحكم في القضية لا يكاد يعم شخص اللفظ كما في مثل ضرب فعل ماض» غريب منه وذلك لأن الفعل الماضي أو غيره إنما لا يقع مبتدأ إذا استعمل في معناه الموضوع له وأريد منه ذلك لا مطلقاً حتى فيما إذا لم يستعمل فيه ولم يرد معناه ، وحيث أن فيما نحن فيه لم يرد معناه ، بل أريد به لفظه لا بماله من المعنى فلا مانع من وقوعه مبتدأ ولا يخرج بذلك عن كونه فعلا ماضياً ، غاية ما في الباب انه لم يستعمل في معناه وهذا لا يوجب خروجه عن ذلك ، وهذا نظير قولنا ضرب وضع في لغة العرب للدلالة على وقوع الضرب في الماضي أفهل يتوهم أحد انه لا يشمل نفسه ، لأنه مبتدأ.

أقسام الدلالة

الأمر السادس : لا شبهة في ان الله تعالى شأنه فضل الإنسان على سائر مخلوقاته بنعمة عظيمة وهي نعمة البيان بمقتضى قوله عز من قائل : «خلق الإنسان علمه

١٠٢

البيان» وذلك لحكمة تنظيم الحياة (المادية والمعنوية) فان مدنية الإنسان بالطبع تستدعى ضرورة الحاجة إلى البيان لإبراز المقاصد خارجاً لئلا تختل نظم الحياة ، فالقدرة على البيان مما أودعه الله تعالى في الإنسان.

إذا عرفت ذلك فنقول ان الدلالة على أقسام ثلاثة :

(القسم الأول) : الدلالة التصورية وهي (الانتقال إلى المعنى من سماع اللفظ) وهي لا تتوقف على شيء ولا تكون معلولة لأمر ما عدا العلم بالوضع فهي تابعة له وليس لعدم القرينة دخل فيها ـ أصلا ـ فالعالم بوضع لفظ خاص لمعنى مخصوص ينتقل إليه من سماعه ولو فرض ان المتكلم نصب قرينة على عدم إرادته ، بل ولو فرض صدوره عن لافظ بلا شعور واختيار أو عن اصطكاك حجر بحجر آخر ، وهكذا وعلى الجملة فالدلالة التصورية بعد العلم بالوضع أمر قهري خارج عن الاختيار.

(القسم الثاني) الدلالة التفهيمية المعبر عنها بالدلالة التصديقية ـ أيضاً ـ لأجل تصديق المخاطب المتكلم بأنه أراد تفهيم المعنى للغير وهي (عبارة عن ظهور اللفظ في كون المتكلم به قاصداً لتفهيم معناه) وهذه الدلالة تتوقف زائداً على العلم بالوضع على إحراز انه في مقام التفهيم ولم ينصب قرينة متصلة على الخلاف ، بل لم يأت في الكلام بما يصلح للقرينية ، فانه يهدم الظهور ويوجب الإجمال لا محالة ، فلو لم يكن في ذلك المقام فلا ظهور ولا دلالة على الإرادة التفهيمية ـ أصلا ـ كما ان وجود القرينة المتصلة مانع عن الظهور التصديقي. وعلى الجملة فهذه الدلالة تتقوم بكون المتكلم في مقام التفهيم وبعدم وجود قرينة متصلة في الكلام.

(القسم الثالث) : الدلالة التصديقية وهي (دلالة اللفظ على ان الإرادة الجدية على طبق الإرادة الاستعمالية) وهذه الدلالة ثابتة ببناء العقلاء إلا انها تتوقف زائداً على ما مر على إحراز عدم وجود قرينة منفصلة على الخلاف ، وإلا فلا يكون الظهور كاشفاً عن الإرادة الجدية في مقام الثبوت ، فان وجود القرينة المنفصلة مانع عن حجيته. والحاصل ان بناء العقلاء قد استقر على ان الإرادة التفهيمية

١٠٣

مطابقة للإرادة الجدية ما لم تقم قرينة على عدم التطابق. وبعد ذلك نقول قد وقع الكلام بين الأعلام في أن الدلالة الوضعيّة هل هي الدلالة التصورية أو انها الدلالة التصديقية؟ فالمعروف والمشهور بينهم هو الأول بتقريب ان الانتقال إلى المعنى عند تصور اللفظ لا بد أن يستند إلى سبب وذلك السبب اما الوضع أو القرينة ، وحيث ان الثاني منتف لفرض خطور المعنى في الذهن بمجرد سماع اللفظ فيتعين الأول وذهب جماعة من المحققين إلى الثاني أي (إلى انحصار الدلالة الوضعيّة بالدلالة التصديقية) التحقيق حسب ما يقتضيه نظر الدّقيق هو القول الثاني ، والوجه فيه اما بناء على ما سلكناه في باب الوضع من انه عبارة عن التعهد والالتزام فواضح ضرورة انه لا معنى للالتزام بكون اللفظ دالا على معناه ولو صدر عن لافظ بلا شعور واختيار ، بل ولو صدر عن اصطكاك حجر بآخر وهكذا ، فان هذا غير اختياري فلا يعقل أن يكون طرفاً للتعهد والالتزام ، وعليه فلا مناص من الالتزام بتخصيص العلقة الوضعيّة بصورة قصد تفهيم المعنى من اللفظ وإرادته ، سواء كانت الإرادة تفهيمية محضة أم جدية أيضا ، فانه أمر اختياري فيكون متعلقاً للالتزام والتعهد.

وعلى الجملة قد ذكرنا سابقاً ان اختصاص الدلالة الوضعيّة بالدلالة التصديقية لازم حتمي للقول بكون الوضع بمعنى التعهد والالتزام. واما الدلالة التصورية وهي الانتقال إلى المعنى من سماع اللفظ فهي غير مستندة إلى الوضع ، بل هي من جهة الأنس الحاصل من كثرة الاستعمال أو من أمر آخر ، ومن ثمة كانت هذه الدلالة موجودة حتى مع تصريح الواضع باختصاص العلقة الوضعيّة بما ذكرناه ؛ بل ان الأمر كذلك حتى على ما سلكه القوم في مسألة الوضع من انه أمر اعتباري ، فان الأمر الاعتباري يتبع الغرض الداعي إليه في السعة والضيق فالزائد على ذلك لغو محض ، ولما كان الغرض الباعث للواضع على الوضع قصد تفهيم المعنى من اللفظ وجعله آلة لإحضار معناه في الذهن عند إرادة تفهيمه فلا موجب لجعل العلقة

١٠٤

الوضعيّة واعتبارها على الإطلاق ، حتى في اللفظ الصادر عن لافظ من غير شاعر كالنائم والمجنون ونحوهما ، فان اعتباره في أمثال هذه الموارد من اللغو الظاهر.

وان شئت فقل حيث ان الغرض الباعث على الوضع هو إبراز المقاصد والأغراض خارجاً فلا محالة لا يزيد سعة الوضع عن سعة ذلك الغرض ، فانه امر جعلي واختياره بيد الجاعل فله تقييده بما شاء من القيود إذا دعت الحاجة إلى ذلك ، وبما ان الغرض في المقام قصد التفهيم فلا محالة تختص العلقة الوضعيّة بصورة إرادة التفهيم ودعوى مصادمة حصر الدلالة الوضعيّة بالدلالة التصديقية للبداهة من جهة أن الانتقال إلى المعنى من سماع اللفظ ضروري مدفوعة بما عرفت من أن ذلك الانتقال انما هو من ناحية الأنس الحاصل من كثرة الاستعمال أو نحو ذلك لا من ناحية الوضع فالانتقال عادي لا وضعي.

فالنتيجة هي انحصار الدلالة الوضعيّة بالدلالة التصديقية على جميع المسالك والآراء في تفسير حقيقة الوضع من دون فرق في المسألة بين رأينا وسائر الآراء.

نعم الفرق بينهما في نقطة واحدة وهي ان ذلك الانحصار حتمي على القول بالتعهد دون غيره من الأقوال.

ولا يخفى ان مراد العلمين المحقق الطوسي ـ قده ـ والشيخ الرئيس مما حكى عنهما من أن الدلالة تتبع الإرادة هو ما ذكرناه من أن العلقة الوضعيّة مختصة بصورة إرادة تفهيم المعنى وليس مرادهما من ذلك أخذ الإرادة التفهمية في المعنى الموضوع له لكي يرد عليه ما أورد ، فالألفاظ من جهة وضعها تدل على إرادة اللافظ بها تفهيم معانيها كما هو صريح كلامهما في بحث الدلالات [١] وعليه فلا وجه لما ذكره المحقق

__________________

[١] قال العلامة الطوسي ـ قده ـ «دلالة اللفظ لما كانت وضعية كانت متعلقة بإرادة المتلفظ الجارية على قانون الوضع ، فما يتلفظ به ويراد منه معنى ما ويفهم عنه ذلك المعنى يقال انه دال على ذلك المعنى ، وما سوى ذلك المعنى مما لا تتعلق به إرادة المتلفظ وان كان ذلك ـ

١٠٥

صاحب الكفاية ـ قده ـ من حمل الدلالة في كلامهما على الدلالة التصديقية غير الوضعيّة فان تبعيتها للإرادة في الواقع ونفس الأمر واضحة فلا مجال للكلام فيها أصلا.

ومن هنا يظهر فساد ما أورده المحقق صاحب الكفاية ـ قده ـ على حصر الدلالة الوضعيّة بالدلالة التصديقية بوجوه ثلاثة.

وإليك نصه : «لا ريب في كون الألفاظ موضوعة بإزاء معانيها من حيث هي مرادة للافظها ـ ١ ـ لما عرفت من ان قصد المعنى على أنحائها من مقومات الاستعمال فلا يكاد يكون من قيود المستعمل فيه ـ ٢ ـ هذا مضافاً إلى ضرورة صحة الحمل والإسناد في الجمل بلا تصرف في ألفاظ الأطراف ، مع انه لو كانت موضوعة لها بما هي مرادة لما صح بدونه ، بداهة ان المحمول على زيد في (زيد قائم) والمسند إليه في (ضرب زيد) ـ مثلا ـ هو نفس القيام والضرب ، لا بما هما مرادان. ـ ٣ ـ مع انه يلزم كون وضع عامة الألفاظ عاماً والموضوع له خاصاً ، لمكان اعتبار خصوص إرادة اللافظين فيما وضع له اللفظ ، فانه لا مجال لتوهم أخذ مفهوم الإرادة فيه كما لا يخفى ؛ وهكذا الحال في طرف الموضوع. انتهى».

والجواب عن جميع هذه الوجوه بكلمة واحدة ، وهي ان تلك الوجوه بأجمعها مبتنية على أخذ الإرادة التفهيمية في المعاني الموضوع لها ، وقد تقدم ان الإرادة لم تؤخذ فيها وان الانحصار المذكور غير مبتن على ذلك ، بل هي مأخوذة

__________________

ـ اللفظ أو جزء منه بحسب تلك اللغة أو لغة أخرى أو بإرادة أخرى يصلح لأن يدل عليه فلا يقال انه دال عليه انتهى» شرح منطق الإشارات ، مبحث تعريف المفرد والمركب قال ابن سينا : الدلالة الوضعيّة تتعلق بإرادة اللافظ الجارية على قانون الوضع حتى انه لو أطلق وأريد منه معنى وفهم منه لقيل انه دال عليه ، وان فهم منه غيره فلا يقال انه دال عليه ... ، وان كان ذلك الغير بحسب تلك اللغة أو غيرها أو بإرادة أخرى يصلح لأن يدل عليه ... إلى أن قال والمقصود هي الوضعيّة وهي كون اللفظ بحيث يفهم منه عند سماعه أو تخيله بتوسط الوضع معنى وهو مراد اللافظ. انتهى». شرح حكمة الإشراق ، باب الدلالات الثلاث

١٠٦

في العلقة الوضعيّة فالعلقة مختصة بصورة خاصة وهي ما إذا أراد المتكلم تفهيم المعنى باللفظ [١].

__________________

[١] وأورد بعض الأعاظم ـ قده ـ على ما قرره بعض مقرري بحثه على انحصار الدلالة الوضعيّة بالدلالة التصديقية إيراداً رابعاً وملخصه هو «ان الانحصار يستلزم ان يكون اللفظ موضوعاً لمعنى مركب من معنى اسمي ومعنى حرفي كما إذا قيد المعنى الاسمي بإرادة المتكلم على كيفية دخول التقيد وخروج القيد ، وهذا مخالف لطريقة الوضع المستفادة من الاستقراء ، فانه بحسبه لم يوجد في اية لغة لفظ واحد موضوع لمعنى مركب من معنى اسمي وحرفي هذا» ويرده :

(أولا) : ان الاختلاف بين المعنى الحرفي والاسمي كما عرفت اختلاف بالذات والحقيقة لا باللحاظ الآلي والاستقلالي. فالمعنى الحرفي حرفي وان لوحظ استقلالا ، والمعنى الاسمي اسمي وان لوحظ آلياً ، وقد اعترف هو ـ قده ـ أيضاً بذلك. وعليه فالإرادة معنى اسمي وان لوحظت آلة ، ولا تنقلب بذلك عن المعنى الاسمي إلى المعنى الحرفي حتى يلزم وضع اللفظ لمعنى مركب من معنى اسمي وحرفي. على انك قد عرفت ان المعنى الحرفي كالمعنى الاسمي ملحوظ استقلالا لا آلياً فلا وجه حينئذ لتخصيص الإيراد بصورة أخذ الإرادة قيداً لا جزء ، الا ان يكون مراده من المعنى الحرفي نفس التقيد بالإرادة لا نفس الإرادة ، فانه معنى حرفي ولكنه مدفوع أولا بالنقض بوضع الألفاظ للمعاني المركبة أو المقيدة ، فان معانيها متضمنة للمعنى الحرفي لا محالة ، إذ كل جزء مقيد بجزء آخر فالتقيد معنى حرفي. وثانياً انه لا مانع من وضع لفظ لمعنى مركب من معنى اسمي وحرفي إذا دعت الحاجة إليه ، فإذا فرض ان الغرض تعلق بوضع الألفاظ للمعاني المقيدة بإرادة المتكلم فلا مانع من وضع الألفاظ لها كذلك ، إذا الوضع فعل اختياري للواضع فله ان يقيد المعنى الموضوع له بقيود شاء ولا محذور فيه ، والاستقراء المدعى في كلامه ـ قده ـ لو تم فلا يدل على استحالة ذلك الوضع على ان ذلك لو تم فانما يتم إذا كان الواضع من أهل كل لغة واحداً أو جماعة معينين ليثبت له الطريقة الخاصة في الوضع التي فرض عدم جواز التخلف عنها ، إلا انه فرض في فرض.

(وثانياً) : انه لا أساس لذلك الإيراد ـ أصلا ـ فانه مبتن على أخذ الإرادة في المعنى الموضوع له ، واما إذا لم تؤخذ فيه أبداً ، بل كانت مأخوذة في العلقة الوضعيّة فلا مجال لذلك الإيراد

١٠٧

فالنتيجة هي ان جعل الإرادة من قيود العلقة الوضعيّة لا يدع مجالا للإيرادات لابتنائها جميعاً على أخذ الإرادة التفهيمية في المعاني الموضوع لها ، وقد ظهر ان الأمر خلاف ذلك وان الإرادة لم تؤخذ في المعاني لا قيداً ولا جزء ، بل هي مأخوذة في العلقة الوضعيّة فهي تختص بصورة إرادة تفهيم تلك المعاني [١] بنحو

__________________

[١] وأورد بعض الأعاظم ـ قده ـ على ما في تقريرات بعض تلامذة على ذلك بما ملخصه هو : «ان اللفظ لا يدل بالدلالة الوضعيّة على ان المتكلم أراد المعنى في الواقع ، لأن تحصيله بالوضع لا يمكن فالذي يمكن تحصيله بالوضع هو الدلالة التصورية ، ضرورة ان السامع شاك في ان المتكلم يريد هذا المعنى واقعاً فيفتقر السامع في إحراز ان المتكلم أراد هذا المعنى في الواقع إلى دلالة أخرى كأصالة الظهور والحقيقة فلا يكون الوضع وحده كافياً لإثبات ذلك ، ومعه فالوضع لذلك يصبح لغواً وعبثاً فلا يكون هذا غرضاً للواضع من الوضع ، بل الغرض منه تهية مقدمة من مقدمات الإفادة.

(أقول) لا شبهة : في ان الغرض الداعي إلى الوضع الباعث للواضع الحكيم عليه انما هو إبراز المقاصد والمرادات النفسانيّة ، فلو لا الجعل والمواضعة والتعهد بذكر الألفاظ عند إرادة تفهيم المعاني لم يمكن إبرازها ، بل اختلت أنظمة الحياة كلها ، فلذلك يصبح الوضع ضرورياً ، ولو لا ذلك لما احتجنا إلى الوضع أبدا فالتشكيك فيه تشكيك في البداهة. وعلى ذلك فلا يشك أيضاً أحد في ان اللفظ الصادر من المتكلم يدل على انه أراد تفهيم معناه بمقتضى قانون الوضع ، فهذه الدلالة لا تتوقف على ما عدا إحراز كون المتكلم في مقام التفهيم ، وهي موجودة حتى فيما إذا علم المخاطب كذب المتكلم في كلامه إذا لم ينصب قرينة متصلة على انه ليس في مقام التفهيم.

ومن هنا يظهر ان ما ذكره ـ قده ـ من الإيراد مبنى على الخلط بين الإرادة التفهيمية والإرادة الجدية ، فان الثانية يحتاج إثباتها في الواقع ومقام الثبوت إلى مقدمة أخرى وهي التمسك بأصالة الظهور أو الحقيقة دون الأولى.

وعلى الجملة فاللفظ بمقتضى قانون الوضع والتعهد يدل على إرادة المتكلم تفهيم معناه سواء كانت هذه الإرادة متصادقة مع الإرادة الجدية في مقام الثبوت والواقع أم كانت على خلافها.

١٠٨

القضية الحقيقة وبنحو القوة والتقدير ، وفي مرحلة الاستعمال تخرج من القوة والتقدير إلى الفعلية والتحقق ، ولعل لأجل ذلك الاختصاص قد عبر عن الموضوع له بالمعنى باعتبار كونه مقصوداً بالتفهيم.

قد أصبحت النتيجة بوضوح : أن الدلالة الوضعيّة تنحصر بالدلالة التصديقية ولا مناص من الالتزام بتلك النتيجة ، ولا يرد عليها شيء من الإيرادات التي تقدمت ، هذا تمام الكلام في الدلالات الثلاث.

وضع المركبات

وقبل البدء فيه ينبغي التنبيه على مقدمة وهي ان محل الكلام هنا في وضع المركب بما هو مركب أعني وضعه بمجموع اجزائه من الهيئة والمادة ـ مثلا ـ في قولنا (زيد شاعر) قد وضعت كلمة «زيد» لمعنى خاص ، وكلمة «شاعر» لمعنى آخر ، والهيئة القائمة بهما لمعنى ثالث ، فكل ذلك لا إشكال ولا كلام فيه ، وانما الكلام والإشكال في وضع مجموع المركب من هذه المواد على حده ، واما وضع هيئة الجملة فلا كلام في وضعها لقصد الحكاية والأخبار عن الواقع أو مع إفادة خصوصية أخرى ـ أيضاً ـ أو لإبراز امر نفساني غير قصد الحكاية.

فعلى ضوء هذه المقدمة قد ظهر ان الصحيح هو انه لا وضع للمركب بما هو مركب بيان ذلك هو أن كل جملة ناقصة كانت أو تامة لها أوضاع متعددة باعتبار وضع كل جزء جزء منه أقلها ثلاثة حسب ما يدعو إليه الحاجة ـ مثلا ـ جملة (زيد إنسان) لها أوضاع ثلاثة ـ ١ ـ وضع «زيد» ـ ٢ ـ وضع «إنسان» ـ ٣ ـ وضع «الهيئة القائمة بهما». ولجملة (الإنسان متعجب) أوضاع أربعة ـ ١ ـ وضع «الإنسان» ـ ٢ ـ وضع متعجب «مادة» ـ ٣ ـ وضعه «هيئة» ـ ٤ ـ وضع «الهيئة القائمة بالجملة». ولجملة (زيد ضارب عمرو) أوضاع ستة ـ ١ ـ وضع «زيد»

١٠٩

ـ ٢ ـ وضع ضارب «مادة» ـ ٣ ـ وضعه «هيئة» ـ ٤ ـ وضع «الهيئة القائمة بجملة زيد ضارب» ـ ٥ ـ وضع «عمرو» ـ ٦ ـ وضع «الهيئة القائمة بالمجموع». وهكذا إلى ان ربما يبلغ الوضع إلى عشرة أو أزيد على اختلاف الأغراض الموجبة لاختلاف المركبات زيادة ونقيصة فان الغرض قد يتعلق بالمركب من شيئين ، وقد يتعلق بالمركب من أشياء ثلاثة ، وقد يتعلق بالمركب من أشياء أربعة ، وهكذا ومن الواضح ان هذه الأوضاع وافية لإفادة الأغراض والمقاصد المتعلقة بالمركبات سواء كان الغرض قصد الحكاية عن الواقع ، أو إبراز أمر نفساني غير قصد الحكاية ولا يبقى أي غرض لا تكون تلك الأوضاع وافية لإفادته ، لنحتاج إلى وضع المركب بما هو على حده لإفادة ذلك الغرض ـ مثلا ـ هيئة (ضرب زيد) تدل على قصد الحكاية عن حدوث تلبس زيد بالمبدإ في الخارج ، كما ان جملة (ما أكرم القوم إلا زيداً) تدل على حصر الإكرام بزيد زائداً على دلالتها على قصد الأخبار عن تلبس القوم بذلك. وهيئة (ان زيداً عادل) تدل على التأكيد وهيئة (ضرب موسى عيسى) تدل على ان موسى فاعل ، لعدم دال آخر هنا غير تلك الهيئة ، وهكذا.

وعلى الجملة فالمتكلم متى ما أراد تفهيم خصوصية من الخصوصيات وإبرازها في الخارج يتمكن من ذلك بهيئة من الهيئات ، وعليه فلسنا بحاجة إلى وضع المركب بما هو ، بل هو لغو وعبث.

ومما يدلنا على ذلك ـ أي على عدم وجود وضع مستقل للمركبات بما هي ـ مضافاً إلى لغويته انه يستلزم إفادة المعنى الواحد مرتين والانتقال إليه بانتقالين ، وذلك لفرض تعدد الوضع الّذي يقتضى تعدد الإفادة والانتقال ، وهذا كما إذا تكلم الإنسان بلفظ الدار مرة ، وبكلمات الحائط والغرفة والساحة أخرى ، فانه لا ريب حينئذ في ان الانتقال إلى المعنى يكون مرتين غايته انهما طوليان. واما في مقامنا فلو التزمنا بتعدد الوضع للزمنا الالتزام بعرضية الانتقالين ، وذلك لأن

١١٠

المركبات بما هي لو كان لها وضع فلا محالة كان وضعها لإفادة ما يستفاد من مجموع الهيئة والمادة في الجملة ، لعدم معنى آخر على الفرض ، وعليه فلزمنا الالتزام بعرضية الانتقالين لتحقق كل من الدالين في عرض تحقق الآخر ، وهذا مخالف للوجدان كما هو واضح. ومن هنا لم نجد قائلا به وان كان ابن مالك قد نسب القول به إلى بعض ، ولكن من المحتمل قوياً ان يكون النزاع لفظياً بان يكون مراد القائل بالوضع وضع هيئة المركب لا هو بنفسه.

ومن هنا يظهر أن ما ذكره أهل الأدب من تقسيم المجاز إلى المجاز في المفرد وإلى المجاز في المركب غير صحيح ، وذلك لأن الاستعمال المجازي فرع وجود الموضوع له فإذا فرض عدم الموضوع له للشيء فلا يعقل المجاز فيه وقد عرفت ان المركب بما هو لم يوضع لشيء ومعه كيف يتصور المجاز فيه.

نعم يجوز تشبيه المركب بالمركب كما في قوله تبارك وتعالى (مثلهم كمثل الّذي استوقد ناراً) وكذا يجوز الكناية في المركب كما في قولهم (أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى) فهو كناية عن التردد الحاصل في النّفس الموجب لذلك.

الوضع الشخصي والنوعيّ

قسموا : الوضع إلى نوعي كوضع الهيئات وإلى شخصي كوضع المواد.

ولا يخفى ان المراد بالوضع الشخصي ليس وضع شخص اللفظ الصادر من المتكلم ، فان شخصه قد انقضى وانعدم فلا يمكن إعادته ، وما يصدر منه ثانياً هو مثله لا عينه ، بل المراد منه وضع اللفظ بوحدته الطبيعية وشخصيته الذاتيّة في قبال وضع اللفظ بجامعه العنواني ووحدته الاعتبارية ، هذا.

وقد يشكل على ذلك بان ملاك شخصية الوضع في المواد ان كان وحدة كل

١١١

واحدة منها طبيعة وذاتاً وامتيازها عن مادة أخرى بذاتها فهو بعينه موجود في الهيئات ، فان كل هيئة بنفسها وبشخصها ممتازة عن هيئة أخرى ـ مثلا ـ هيئة (فاعل) ممتازة بذاتها عن سائر الهيئات فلها وحدة طبيعية وشخصية ذاتية ، وان كان ملاك نوعية الوضع في الهيئات عدم اختصاص الهيئة بمادة دون مادة فهو موجود بعينه في المواد ، بداهة عدم اختصاص المادة بهيئة دون هيئة أخرى ـ مثلا ـ مادة (ض ر ب) كما هي موجودة في (ضرب) كذلك موجودة في زنة (ضارب) ، و (مضروب) ونحو ذلك من الأوزان ، فلا فرق بين الهيئة والمادة ليكون وضع الأولى نوعياً والثانية شخصياً.

وقد أجاب عنه شيخنا المحقق ـ قده ـ بوجهين :

وإليك قوله ـ ١ ـ «والتحقيق ان جوهر الكلمة ومادتها أعني الحروف الأصلية المترتبة الممتازة عن غيرها ذاتاً أو ترتيباً أمر قابل للحاظ الواضع بنفسه فيلاحظ بوحدته الطبيعية وتوضع لمعنى ، بخلاف هيئة الكلمة ، فان الزنة لمكان اندماجها في المادة لا يعقل ان تلاحظ بنفسها لاندماجها غاية الاندماج في المادة ، فلا استقلال لها في الوجود اللحاظي كما في الوجود الخارجي كالمعنى الحرفي ، فلا يمكن تجريدها ولو في الذهن عن المواد ، فلذا لا جامع ذاتي لها كحقائق النسب ، فلا محالة يجب الوضع لأشخاصها بجامع عنواني كقولهم (كل ما كان على زنة فاعل) وهو معنى نوعية الوضع أي ـ الوضع لها بجامع عنواني لا بشخصيتها الذاتيّة

ـ ٢ ـ أو المراد ان المادة حيث يمكن لحاظها فقط فالوضع شخصي ، والهيئة حيث لا يمكن لحاظها فقط إلا في ضمن مادة فالوضع لها يوجب اقتصاره عليها فيجب ان يقال (هيئة فاعل وما يشبهها) وهذا معنى نوعية الوضع أي ـ لا لهيئة شخصية واحدة بوحدة طبيعية بل لها ولما يشبهها فتدبر ـ انتهى».

وما أفاده ـ قده ـ من الجواب في غاية المتانة وحاصله ان كل مادة يمكن للواضع أن يلاحظها بشخصها وبوحدتها الطبيعية ـ مثلا ـ لفظ (الإنسان) أو مادة

١١٢

(ض ر ب) يمكن ان يلاحظه بشخصه وبوحدته ويوضع لمعنى ، فالوضع لا محالة يوجب الاقتصار على تلك المادة أو ذلك اللفظ فلا ينحل إلى أوضاع عديدة ، فيكون نظير الوضع الخاصّ والموضوع له الخاصّ ؛ وهذا بخلاف الهيئة ، فانها حيث لا يمكن ان تلاحظ بشخصها ووحدتها الذاتيّة بدون مادة ما يجب أن توضع بجامع عنواني ، ومن هنا ينحل إلى أوضاع متعددة فيثبت لكل هيئة وضع خاص مستقل نظير وضع العالم والموضوع له الخاصّ ، وهذا معنى كون الوضع فيها نوعياً أي ـ ان الملحوظ حال الوضع جامع عنواني ـ ولكن الموضوع معنون هذا العنوان لا نفسه

والنتيجة ان الوضع ينحل إلى أوضاع عديدة بتعدد افراد تلك الهيئة الانتزاعية ، وهذا معنى ان الوضع نوعي. وهذا بخلاف المواد ، فان شخص كل مادة موضوع بإزاء معنى ما ، فلأجل ذلك كان الوضع فيها شخصياً.

علامات الحقيقة والمجاز

(الأمر السابع) انهم ذكروا للحقيقة علائم :

(منها) التبادر وهو ـ خطور المعنى في الذهن بمجرد سماع اللفظ وإطلاقه ـ من دون لحاظ اية قرينة وعناية في البين من حالية أو مقالية ، ومن الواضح ان مثل هذا التبادر معلول للوضع لا محالة وكاشف عنه كشفاً إنياً ، والوجه في ذلك هو ان دلالة اللفظ لا تخلو اما ان تكون ذاتية ، أو تكون جعلية؟ وعلى الثاني اما ان تكون الدلالة مع القرينة ، أو بدونها؟.

اما الأولى فقد عرفت بطلانها على ما حققناه في مسألة الوضع.

واما الثانية فهي خارجة عن مفروض كلامنا في المقام فيتعين الثالثة فيدل التبادر على الوضع.

١١٣

وبتعبير آخر ان مطلق تبادر المعنى من إطلاق اللفظ وفهمه منه ليس علامة لإثبات الحقيقة ، بل العلامة حصة خاصة منه وهي فهم المعنى من اللفظ نفسه بلا معونة خارجية ، وهي كاشفة عن الوضع لا محالة ، كما يكشف المعلول عن علته

وقد يورد على ذلك باستلزامه الدور بيانه ان من المعلوم بالضرورة ان الوضع وحده لا يكفي للتبادر ولا يكون علة تامة له ، فان الموجب للتبادر هو العلم بالوضع لا نفسه ، فلو انتفى العلم به انتفى التبادر ، فينتج ان التبادر في الحقيقة معلول للعلم بالوضع ، فلو كان العلم بالوضع متوقفاً عليه لدار.

وأجاب عنه المحقق صاحب الكفاية ـ قده ـ بوجهين :

(الأول) : ان التبادر عند العالم بالوضع علامة الحقيقة للجاهل به ، فالمستعلم يرجع في ذلك إلى العالم بالوضع ، كما هو طريقة دارجة بين أهل المحاورة في مقام استعلام اللغات الأجنبية وتعاليمها ؛ وبذلك يندفع الدور من أصله.

(الثاني) : ان التبادر وان كان متوقفاً على العلم بالوضع لا محالة إلا ان ذلك العلم ارتكازي مكنون في خزانة النّفس ، وثابت في حافظة أهل كل لغة بالقياس إلى لغاتهم ، وهم يستعملون تلك اللغات في معانيها حسب ذلك الارتكاز من دون التفات تفصيلي منهم إلى خصوصيات تلك المعاني من حيث السعة والضيق ، فإذا حصل الالتفات منهم إلى خصوصيات تلك المعاني حصل لهم العلم تفصيلا بها ، بذلك تحصل المغايرة بين العلمين فارتفع الدور من البين.

ثم لا يخفى ان تبادر المعنى من نفس اللفظ من دون قرينة لا يثبت به إلا وضع اللفظ لذلك المعنى ، وكون استعماله فيه حقيقياً في زمان تبادره منه ؛ واما وضعه لذلك المعنى في زمان سابق عليه فلا يثبت بالتبادر المتأخر ، فلا بد في إثبات ذلك من التشبث بالاستصحاب القهقرى الثابت حجيته في خصوص باب الظهورات بقيام السيرة العقلائية وبناء أهل المحاورة عليه ، فانهم يتمسكون بذلك الاستصحاب في موارد الحاجة ما لم تقم حجة أقوى على خلافه ، بل على ذلك الأصل تدور استنباط

١١٤

الأحكام الشرعية من الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة ، ضرورة انه لو لا اعتباره لا يثبت لنا ان هذه الألفاظ كانت ظاهرة في تلك الأزمنة في المعاني التي هي ظاهرة فيها في زماننا ، ولكن ببركة ذلك الاستصحاب نثبت ظهورها فيها في تلك الأزمنة أيضاً ما لم تثبت قرينة على خلافها ، وسمى ذلك الاستصحاب بالاستصحاب القهقرى ، فانه على عكس الاستصحاب المصطلح السائر في الألسنة ، فان المتيقن فيه أمر سابق ، والمشكوك فيه لا حق ، على عكس الاستصحاب القهقرى فان المشكوك فيه ، فيه أمر سابق ، والمتيقن لاحق.

هذا كله فيما إذا أحرز التبادر وعلم ان المعنى ينسبق إليه الذهن من نفس اللفظ وأما إذا لم يحرز ذلك ، واحتمل ان ظهور اللفظ مستند إلى وجود قرينة داخلية ، أو خارجية فلا يمكن إثبات الحقيقة بأصالة عدم القرينة ، إذ لا دليل على حجيته ، فانه ان تمسك في إثبات حجيته باخبار الاستصحاب ، فيرده ان الاستصحاب لا يثبت اللوازم غير الشرعية ، ومن الظاهر ان استناد الظهور إلى نفس اللفظ من لوازم عدم القرينة عقلا ، فلا يثبت باستصحاب عدمه ، وان تمسك فيه ببناء العرف على عدم الاعتناء باحتمال القرينة ، فيرده ان بناء العرف وأهل المحاورة إنما يختص بما إذا شك في مراد المتكلم ، ولم يعلم انه المعنى الحقيقي أو معنى آخر غيره ، وقد نصب على إرادته قرينة قد خفيت علينا ، واما إذا علم المراد وشك في ان ظهور اللفظ فيه من جهة الوضع أو من جهة القرينة فلا بناء من أبناء المحاورة على عدم الاعتناء باحتمال القرينة. فتلخص ان إثبات الحقيقة يتوقف على إحراز ان الظهور مستند إلى نفس اللفظ لا إلى القرينة.

(ومنها) أي (علائم الحقيقة) عدم صحة السلب ، وذكروا ان صحة السلب علامة المجاز ، وقد يعبر عن الأولى بصحة الحمل ، وعن الثانية بعدم صحة الحمل فيقال ان حمل اللفظ بما له من المعنى الارتكازي على معنى علامة انه حقيقة فيه وكاشف عن كونه موضوعاً بإزائه ، كما ان عدم صحة حمل اللفظ كذلك على معنى علامة

١١٥

للمجاز ، وكاشف عن عدم وضعه بإزائه.

والصحيح ان يقال ان شيئاً منهما لا يصلح لأن يكون علامة للحقيقة أو المجاز بيان ذلك ان ملاك صحة الحمل مطلقاً ، سواء كان حملا أولياً ذاتياً ، أم كان حملا شائعاً صناعياً هو الاتحاد من جهة لئلا يلزم حمل المباين على مباين آخر ، والمغايرة من جهة أخرى حتى لا يلزم حمل الشيء على نفسه ، والمغايرة قد تكون بالاعتبار والمراد منه الاعتبار الموافق للواقع لا مجرد الفرض كما في حمل الحد على المحدود ، فانهما متحدان بالذات والحقيقة ، ومختلفان باللحاظ والاعتبار أعني به الاختلاف من جهة الإجمال والتفصيل والجمع والتفريق ـ مثلا ـ المفهوم من لفظ الإنسان ، ومن جملة الحيوان الناطق حقيقة واحدة ، وهذه الحقيقة الواحدة المركبة مما به الاشتراك ، وما به الامتياز ملحوظة في الإنسان بنحو الوحدة والجمع ، وفي الحيوان الناطق بنحو الكثرة والتفريق ، فجهة الواحدة في الإنسان كجهة الكثرة في الحيوان الناطق اعتبار موافق للواقع ، ضرورة ان هذه الحقيقة الواحدة بتلك الجهة غير تلك الحقيقة بالجهة الأخرى.

وقد ذكرنا سابقاً انه يمكن تصوير شيء واحد مرة بنحو الوحدة ، ومرة أخرى بنحو الكثرة ، وقد مثلنا لذلك بمفهوم الدار فانه مركب من حيطان وساحة وغرفة أو غرف ، وهذا المفهوم ملحوظ بنحو الجمع في لفظ الدار ، وبنحو التفريق في كلمات الحيطان والساحة والغرف. وقد تكون المغايرة ذاتية والاتحاد في امر خارج عن مقام الذات كما في الحمل الشائع الصناعي مثل قولنا (زيد إنسان أو كاتب) فان مفهوم زيد غير مفهوم الإنسان أو الكاتب ، فهما مفهومان متغايران ، ولكنهما موجودان في الخارج بوجود واحد ، ويسمى هذا الحمل بالشائع لأجل شيوعه بين عامة الناس على عكس الأولى ، وبالصناعي لأجل استعماله في صناعات العلوم وأقيستها ؛ وإذا اتضح ذلك فنقول : ان صحة شيء من ذينك الحملين لا تكون علامة للحقيقة ، ولا يثبت بهما المعنى الحقيقي.

١١٦

وتفصيل ذلك ان الحمل الذاتي لا يكشف إلا عن اتحاد الموضوع والمحمول ذاتاً ، ومغايرتهما اعتباراً ، ولا نظر في ذلك إلى حال الاستعمال وانه حقيقي أو مجازي ـ مثلا ـ حمل (الحيوان الناطق) على الإنسان لا يدل إلا على اتحاد معنييهما حقيقة ، ولا نظر فيه إلى ان استعمال لفظ الإنسان فيما أريد به حقيقي أو مجازي ، ومن الظاهر ان مجرد الاستعمال لا يكون دليلا على الحقيقة.

وعلى الجملة فصحة الحمل الذاتي بما هو لا يكشف إلا عن اتحاد المعنيين ذاتاً ، واما ان استعمال اللفظ في القضية استعمال حقيقي فهو أمر آخر أجنبي عن صحة الحمل وعدمها. نعم بناء على ان الأصل في كل استعمال ان يكون حقيقياً كما نسب إلى السيد المرتضى ـ قده ـ يمكن إثبات الحقيقة إلا انه لم يثبت في نفسه ، كما ذكرناه غير مرة. على انه لو ثبت فهو أجنبي عن صحة الحمل وعدمها.

وبكلمة أخرى ان صحة الحمل وعدم صحته يرجعان إلى عالم المعنى والمدلول ، فمع اتحاد المفهومين ذاتاً يصح الحمل وإلا فلا ، واما الحقيقة والمجاز فهما يرجعان إلى عالم اللفظ والدال ، وبين الأمرين مسافة بعيدة.

نعم لو فرض في القضية الحملية ان المعنى قد استفيد من نفس اللفظ من دون قرينة كان ذلك علامة الحقيقة ، إلا انه مستند إلى التبادر لا إلى صحة الحمل.

وقد أصبحت النتيجة بوضوح أن صحة ذلك الحمل بما هو حمل لا تكون علامة لإثبات الحقيقة ، وكذا عدمها لا يكون علامة لإثبات المجاز ، بل هما علامة الاتحاد والمغايرة لا غير فنحتاج في إثبات الحقيقة إلى التمسك بالتبادر من الإطلاق ، أو نحوه. هذا.

واما الحمل الشائع فتفصيل الكلام فيه ان ملاك صحته بجميع أنواعه اتحاد المعنيين أي ـ الموضوع والمحمول وجوداً ـ ومغايرتهما مفهوماً ، فذلك الوجود الواحد اما ان يكون وجوداً لهما بالذات ، أو يكون لأحدهما بالذات وللآخر بالعرض ، أو لكليهما بالعرض ، فهذه أقسام ثلاثة :

١١٧

أما القسم الأول فهو في حمل الطبيعي على افراده ومصاديقه ، وحمل الجنس على النوع ، وحمل الفصل عليه ، وبالعكس ، فان الموضوع والمحمول في تمام هذه الموارد متحدان في الوجود الخارجي ، بمعنى ان وجوداً واحداً وجود لهما بالذات والحقيقة ـ مثلا ـ وجود «زيد» هو وجود «الإنسان» بعينه ، لأن وجود الطبيعي بعين وجود فرده ، وليس له وجود آخر غيره فالوجود الواحد وجود لهما بالذات ، وإنما الاختلاف في جهتي النسبة ، وكذلك الحال في قولنا (الإنسان حيوان) أو قولنا (الإنسان ناطق) إلى غير ذلك ، فان المحمول والموضوع في جميع ذلك متحدان في ما يكون وجوداً لهما بالذات.

واما القسم الثاني فهو في حمل العناوين العرضية على معروضاتها كحمل «الضاحك» أو «الكاتب» أو «العالم» أو «الأبيض» أو «الأسود» على زيد ـ مثلا ـ فان هذه العناوين جميعها عرضية انتزاعية منتزعة من قيام الاعراض بموضوعاتها ، وليس لها وجود في الخارج ، والموجود فيه نفس الاعراض والمقولات التي هي من مبادئ تلك العناوين ، ومنشأ انتزاعها ، وعليه فنسبة ما به الاتحاد وهو وجود زيد المتصف بتلك المبادئ إلى تلك العناوين بالعرض والمجاز ، وبمقتضى القاعدة السائرة في الكائنات بأجمعها وهي ان كل ما بالعرض لا بد وان ينتهى إلى ما بالذات ينتهى هذا الحمل أي (العناوين على معروضاتها) إلى حمل ثان ، ويدل الكلام عليه بالدلالة الالتزامية لا محالة ، فذلك الحمل يكون من قبيل حمل الطبيعي على افراده ، فان في قولنا (زيد ضاحك) ـ مثلا ـ بما ان الضاحك عنوان عرضي انتزاعي فلا محالة ينتهى الأمر إلى حمل الضحك على الصفة القائمة بزيد ، وهو من حمل الكلي على فرده ، فبالنتيجة يرجع هذا القسم إلى القسم الأول ، وان كان مغايراً له بحسب الصورة واما القسم الثالث فهو في حمل بعض العناوين العرضية على بعضها الآخر كقولهم (الكاتب متحرك الأصابع) أو (المتعجب ضاحك) ونحو ذلك. وقد اتضح لك أنه ليس للعناوين العرضية وجود في عالم الخارج بالذات ، بل يضاف إليها

١١٨

وجود ما يتصف بها إضافة بالعرض ، وبقانون ان ما بالعرض ينتهى إلى ما بالذات فلا محالة ينتهى الأمر إلى حملين آخرين : أحدهما : حمل صفة الكتابة أو التعجب على شيء. وثانيهما : حمل الحركة أو الضحك على شيء آخر ، فيدخل هذا القسم أيضاً في القسم الأول ، والاختلاف بينهما في الصورة ، لا في الحقيقة.

فتلخص من ذلك ان مرجع جميع هذه الأقسام إلى قسم واحد وهو القسم الأول

وعلى ضوء ان الملاك في صحة الحمل الشائع هو الاتحاد في الوجود الخارجي ظهر ان صحته لا تكشف عن الحقيقة ، ضرورة انها لا تكون إمارة إلا على اتحاد المحمول مع الموضوع خارجاً ، واما ان استعمال اللفظ في المحمول على نحو الحقيقة فهي لا تدل عليه ، إذ ليس هنا إلا مجرد التعبير عنه بذلك اللفظ ، وهو لا يزيد على الاستعمال ، وهو أعم من الحقيقة.

نعم إذا فرض تجرد اللفظ عن القرينة ، وتبادر منه المعنى كان ذلك آية الحقيقة إلا أنه خارج عن محل الكلام بالكلية.

وعلى الجملة فملاك صحة الحمل نحو من أنحاء الاتحاد خارجاً وملاك الحقيقة استعمال اللفظ في الموضوع له فأحد الملاكين أجنبي عن الملاك الآخر لإمكان ان يتحد الموضوع والمحمول في الخارج مع كون استعمال اللفظ في المحمول مجازاً وقد عرفت ان الحقيقة والمجاز امر ان يرجعان إلى عالم الألفاظ وصحة الحمل ترجع إلى عالم المدلول فإثبات أحدهما لا يكون دليلا على إثبات الآخر.

فقد أصبحت النتيجة لحد الآن ، كما ان صحة الحمل الأولى الذاتي لا تكشف عن الحقيقة ، كذلك صحة الحمل الشائع الصناعي ، ومن ذلك يظهر حال عدم صحة الحمل أيضا حرفاً بحرف.

ولكن في تقريرات بعض الأعاظم ـ قده ـ أن صحة الحمل مطلقاً ، سواء كان ذاتياً ، أم كان شائعاً صناعياً كاشفة عن الحقيقة ؛ وأفاد في وجه ذلك ما ملخصه ان صحة الحمل الذاتي تكشف عن ان المعنى المعلوم لدى المستعلم تفصيلا ، والمعنى المعلوم لديه ارتكازاً متحدان بالذات والحقيقة ، وبذلك الاتحاد يستكشف

١١٩

له تفصيلا ان اللفظ موضوع لذاك المعنى المعلوم لديه تفصيلا ، ولكنه ـ قده ـ استثنى من ذلك حمل الحد على المحدود ، كما في مثل (الإنسان حيوان ناطق) فقال ان صحة الحمل في مثل ذلك لا تكشف عن الحقيقة اللغوي ، بدعوى ان مفهوم (الحيوان الناطق) مفهوم مركب مفصل ومفهوم الإنسان مفهوم مفرد بسيط. هذا في الحمل الأولى.

واما صحة الحمل الشائع الصناعي فهي تكشف عن اتحاد الموضوع والمحمول اتحاد الطبيعي مع فرده ، وبذلك الاتحاد يستكشف ان اللفظ موضوع للطبيعي.

والجواب عن ذلك قد ظهر مما تقدم فانك قد عرفت أن صحة الحمل مطلقاً ذاتياً كان أم صناعياً لا تتوقف على كون الاستعمال حقيقياً لتكون كاشفة عنه فان ملاك أحدهما غير ملاك الآخر ، فملاك صحة الحمل اتحاد المفهومين ، اما بحسب الحقيقة والذات أو بحسب الوجود ، فإذا كانا كذلك صح الحمل سواء كان التعبير عن المعنى المعلوم تفصيلا حقيقياً أم كان مجازياً ، وهذا أجنبي عن صحة الحمل وعدمها رأساً ، ضرورة ان حمل الإنسان على زيد صحيح سواء كان إطلاق لفظ الإنسان على الطبيعي المنطبق على زيد في الخارج حقيقياً أم مجازياً؟

وعلى الجملة بمجرد صحة حمل شيء على شيء عند العرف وأبناء المحاورة لا يستكشف منها الوضع والحقيقة إلا بمعونة التبادر ، أو نحوه ، وإلا فالحمل لو خلى وطبعه لا يدل على أزيد من الاتحاد بين الموضوع والمحمول بنحو من أنحاء الاتحاد.

ومن الغريب أنه ـ قده ـ فرق في الحمل الذاتي بين حمل الحد على المحدود كقولك (الإنسان حيوان ناطق) وبين غيره كقولك (الغيث مطر) فقال ان الأول لا يدل على الوضع ، دون الثاني. وذلك لأن الاتحاد لو كان طريقاً إلى الحقيقة فمن اتحاد «الحيوان الناطق» مع «الإنسان» بالذات والحقيقة يستكشف بالضرورة ان لفظ الإنسان موضوع لمعنى يحلله العقل إلى جزءين جزء مشترك فيه وهو «الحيوان»

١٢٠