مستمسك العروة الوثقى - ج ١٣

آية الله السيد محسن الطباطبائي الحكيم

مستمسك العروة الوثقى - ج ١٣

المؤلف:

آية الله السيد محسن الطباطبائي الحكيم


الموضوع : الفقه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٣٣

الاتيان بالعمل ، وكذا مال السبق والرماية ، فقيل بعدم الجواز [١]. لعدم ثبوته في الذمة قبل العمل. والأقوى ـ وفاقاً لجماعة ـ الجواز [٢] ، لا لدعوى ثبوته في الذمة من الأول وسقوطه إذا لم يعمل [٣] ، ولا لثبوته من الأول بشرط مجي‌ء العمل في المستقبل [٤] ، إذ الظاهر أن الثبوت انما هو بالعمل ، بل‌

______________________________________________________

[١] قال في جامع المقاصد : « والفرق بينه ( يعني : مال الجعالة ) وبين الثمن في مدة الخيار ظاهر ، لان الثمن حينئذ ثابت ، غاية ما في الباب أنه متزلزل ، بخلاف الجعل فإنه لا ثبوت له أصلا ، والمتجه عدم الجواز قبل الفعل ». ونحوه في المسالك.

[٢] كما عن المبسوط والتحرير ومجمع البرهان وغيرها. وفي القواعد : « الخامس : الحق المضمون. وشرطه المالية ، والثبوت في الذمة وإن كان متزلزلا كالثمن في مدة الخيار ، والمهر قبل الدخول ، أو لم يكن لازماً لكن يؤول إليه كمال الجعالة قبل العمل ، وما السبق والرماية » ، ونحوه في الشرائع ، لكن قال بعد ذلك : « وفيه تردد ». وصريحهما الثبوت في الذمة ، كظاهر الاستدلال عليه بالعمومات ، مثل قوله (ص) : « الزعيم غارم » (١).

[٣] فيكون عدم العمل بمنزلة الفسخ.

[٤] فيكون العمل بمنزلة الشرط المتأخر ، فإن تحقق العمل تبين ثبوت الجعل من حين الجعالة. وهذان الاحتمالان جعلهما في الجواهر مبنى للقول بصحة الضمان ، ثمَّ قال : « ولعل ذلك لا يخلو من قوة ». ولكنه غير ظاهر ، فان مفاد الجعالة ثبوت مال على تقدير العمل ، لا الثبوت وملك العمل كالإجارة ولذا ذكروا من غير خلاف أن العامل‌

__________________

(١) مستدرك الوسائل باب : ١ من أبواب كتاب الضمان حديث : ٢.

٣٤١

لقوله تعالى ( وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ ) (١) [١]. ولكفاية المقتضي للثبوت في صحة الضمان [٢] ومنع اعتبار الثبوت الفعلي ، كما أشرنا إليه سابقاً.

( مسألة ٣٨ ) : اختلفوا في جواز ضمان الأعيان المضمونة ـ كالغصب والمقبوض بالعقد الفاسد ، ونحوهما ـ على قولين ،

______________________________________________________

يستحق الجعل بالعمل الذي جعل له الجعل ، فان جعل للتسليم لم يستحق الجعل الا بالتسليم ، وان جعل لغيره لم يستحق الجعل الا بفعل ذلك الغير. وبالجملة : ظاهر قول الجاعل : « إن فعلت كذا فلك كذا » أن الملك يكون على تقدير العمل وفي حينه ، فلا يكون قبله ، لا منوطاً به بنحو الشرط المتأخر ، ولا غير منوط به ، فان ذلك خلاف الظاهر ، وخلاف ظاهر كلماتهم في كتاب الجعالة ، فكيف يصح البناء على ثبوته قبله وإن كان غير لازم أو غير مستقر؟! فإنه لا مأخذ له. وعلى هذا فضمان المال المذكور من ضمان ما لم يجب. وعن المختلف الاستدلال على صحة الضمان بمسيس الحاجة إليه ، فجاز ضمانه ، كقوله : « الق متاعك في البحر وعلي ضمانه ». وهو كما ترى ، فان ذلك لا يصلح لتشريع ما لم يشرع.

[١] وفيه : أن الآية إنما دلت على مشروعية التعهد على النحو المذكور ولا دلالة فيها على أنه من الضمان الذي هو محل البحث ، أو هو من قبيل الوعد الذي لا يجب الوفاء به ، فلا دلالة لها على شي‌ء من ذلك.

[٢] هذا خلاف ما تقدم من اعتبار كون الحق المضمون ثابتاً في الذمة ، وكون الضمان نقل ما في ذمة المضمون عنه إلى ذمة الضامن ، فاذا لم يكن ثبوت في ذمة المضمون عنه لم يكن ثبوت في ذمة الضامن أيضاً. فلو صح مثل هذا الضمان لم يكن من الضمان المصطلح ، بل كان بمعنى آخر.

__________________

(١) يوسف : ٧٢.

٣٤٢

ذهب الى كل منهما جماعة. والأقوى الجواز [١] ، سواء كان المراد ضمانها بمعنى التزام ردها [٢] عينا ومثلها أو قيمتها على فرض التلف. أو كان المراد ضمانها بمعنى التزام مثلها أو قيمتها إذا تلفت. وذلك لعموم قوله (ص) : « الزعيم غارم » (١) والعمومات العامة ، مثل قوله تعالى ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (٢). ودعوى [٣] : أنه على التقدير الأول يكون من ضمان العين‌

______________________________________________________

[١] قال في الشرائع : « وفي ضمان الأعيان المضمونة والمقبوض بالبيع الفاسد تردد ، والأشبه الجواز ». وفي القواعد : « ويصح ضمان أرش الجناية .. ( إلى أن قال ) : والأعيان المضمونة ـ كالغصب والعارية والأمانة مع التعدي ـ على إشكال ». وحكي الجواز عن المبسوط والتحرير والإرشاد وغيرها.

[٢] قال في التذكرة : « الأعيان المضمونة ـ كالمغصوب ، والمستعار مع التضمين ، أو كونه أحد النقدين ، والمستام ، والأمانات إذا خان فيها أو تعدى ـ فله صورتان : الأولى : أن يضمن رد أعيانها. وهو جائز لأنه ضمان مال مضمون على المضمون عنه. وبه قال أبو حنيفة ... ( إلى أن قال ) : الثانية : أن يضمن قيمتها لو تلفت. والأقوى عندي الصحة ، لأن ذلك ثابت في ذمة الغاصب فيصح الضمان ... ».

[٣] هذه الدعوى ذكرها في جامع المقاصد. فإنه أشكل على ما ذكره في التذكرة ـ من أن لضمانها صورتين : الأولى : أن يضمن رد أعيانها ، وجوزه لأنه ضمان مال مضمون على المضمون عنه ـ بأن الثابت في الذمة هو وجوب ردها ، وليس بمال. وبأن القيمة إنما تثبت بعد التلف فضمانها‌

__________________

(١) مستدرك الوسائل باب : ١ من أبواب كتاب الضمان حديث : ٢.

(٢) المائدة : ١.

٣٤٣

بمعنى الالتزام بردها [١] مع أن الضمان نقل الحق من ذمة إلى أخرى. وأيضاً لا إشكال [٢] في أن الغاصب أيضاً مكلف بالرد [٣] ، فيكون من ضمن ذمة إلى أخرى ، وليس من مذهبنا. وعلى الثاني يكون من ضمان ما لم يجب ، كما أنه على الأول أيضاً كذلك بالنسبة إلى رد المثل أو القيمة عند التلف [٤].

______________________________________________________

قبله ضمان ما لم يجب. مع أن الضمان على تقدير التلف حكم شرعي تابع لوصف الغصب والاستعارة والتعدي في الأمانة ، وهذا لا يمكن نقله بالضمان ، لأن الذي ينقل بالضمان هو الحق لا الحكم الشرعي ، فعدم صحة الضمان قوي. انتهى. وتبعه عليه جمع ممن تأخر عنه ، ومنهم في الجواهر.

[١] يعني : أن الضامن إنما يلتزم برد العين ، وليس هو بمال كان في ذمة المضمون عنه.

[٢] هذا إشكال ثاني ذكره في المسالك مضافاً الى الإشكال الذي ذكره تبعاً لجامع المقاصد.

[٣] إجماعاً ، كما في المسالك.

[٤] يعني : إذا كان المراد من الضمان الالتزام بالرد فبالإضافة الى رد العين نفسها حكم فعلي : لكن بالنسبة إلى المثل أو القيمة حكم تعليقي على تقدير التلف ، فيكون من ضمان ما لم يجب ، فلا يصح وإن قلنا بصحة ضمان الحكم الشرعي. إلا أن يقال : إن الضمان بلحاظ الحكم الفعلي لا غير.

والذي يتحصل من عبارة جامع المقاصد الاشكال على الضمان في المقام من وجهين : الأول : أن الثابت في المقام حكم شرعي لا حق مالي ، وهو لا يقبل الانتقال. وهذا الاشكال ذكره في كل من المعنيين. الثاني : أنه ضمان ما لم يجب. وهذا يختص بالمعنى الثاني. والذي يظهر من عبارة المتن اختصاص الإشكال الأول بالمعنى الأول والاشكال الثاني بالمعنى الثاني ،

٣٤٤

______________________________________________________

وهو في محله ، إذ لا فرق على المعنى الثاني بين الضمان حال التلف والضمان على تقدير التلف ، فكما أنه على الأول يكون حقا مالياً كذلك على الثاني ، والاختلاف إنما هو في التعليق والتنجيز.

وكيف كان فالإشكال الأول ـ إن تمَّ ـ لا يمكن دفعه بالعمومات ، لأنها لا تصلح لذلك. أما‌ قوله (ص) : « الزعيم غارم » ‌فقد عرفت أنه غير ثابت من طرقنا ، وفي بعض الأخبار تكذيبه. مع أنه لا غرامة مع وجود العين ، والرد ليس غرامة ليدل عليه الحديث. وأما قوله تعالى : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) ونحوه فإنما يدل على صحة العقد وتحقق مضمونه ، فاذا كان مضمون قول الضامن : « ضمنت » : التزمت لك برد العين ، فقد ملك مالك العين عليه الرد ، ولا يرتبط برد الغاصب ، فكيف يقتضي عدم وجوب الرد على الغاصب؟! وقد تقدم أن فراغ ذمة المضمون عنه إنما قلنا بها للنص أو لامتناع اشتغال ذمتين بمال واحد ، وكلاهما لا مجال لهما في المقام ، إذ النص لا يشمل المقام ، وذمة الغاصب ليست مشغولة بمال ولا برد ، وإنما يجب الرد تكليفاً لا غير. بل الظاهر أن الضامن في المقام إنما يلتزم بالرد من دون أن يشغل ذمته بملك الرد للمالك ، ولأجل ذلك يكون من باب الوعد لا من باب الوضع والعقد ، فلا مجال للتمسك بعموم الوفاء بالعقد ، إذ لا عقد وإنما هو محض الوعد.

وبالجملة : تارة يقول الضامن : « سأرد مالك » ، وأخرى يقول : « لك علي أن أرد مالك ». فالأول من قبيل الوعد ، والثاني من قبيل العقد. والواقع في الخارج هو الأول. وعلى تقدير الثاني فلا موجب لسقوط وجوب الرد على الغاصب. نعم لو كان مضمون قول الضامن تعهدت برد الغاصب ، كان مقتضاه السقوط. لكنه يحتاج الى قبول من الشارع وبدونه لا يصح ، وعمومات العقود لا تقتضي مشروعية هذا الفعل ، نظير ما إذا ضمن الفرائض اليومية عن شخص ،

٣٤٥

مدفوعة : بأنه لا مانع منه بعد شمول العمومات ، غاية الأمر أنه ليس من الضمان المصطلح. وكونه من ضمان ما لم يجب لا يضر بعد ثبوت المقتضي [١].

______________________________________________________

فإن عموم الوفاء بالعقود لا يقتضي سقوط الفريضة عن المضمون عنه ، لأنه لا يدل على قابلية المحل لذلك ، وعموم دليل الوجوب على المضمون عنه محكم.

[١] قد تقدم في الشرط الثامن من شروط الضمان الكلام في ذلك ، وأن ضمان ما سيجب إن كان المراد اشتغال الذمة به فعلا فهو غير مقصود ولا مدعى. وإن كان المراد اشتغال الذمة به معلقاً فهو من الإنشاء المعلق ، الذي لا يصح إجماعاً ، فإن التعليق مانع من صحة العقود والإيقاعات إلا في موارد خاصة ، فراجع. وإن كان المراد الضمان بنحو الواجب المعلق ، فيكون الضمان حالياً والمضمون استقبالياً ، فقد عرفت أن الضامن تابع للمضمون عنه فلما لم يثبت في ذمة المضمون عنه ولو بنحو الواجب المعلق لم يثبت كذلك في ذمة الضامن ، فلو أريد إثباته كذلك لم يكن من باب الضمان المصطلح ، بل كان من باب الضمان العرفي ، وليس هو محل كلامهم ، فان المراد من ضمان ما لم يجب ضمان ما لم يثبت في الذمة ولو بنحو الواجب المعلق. إذ ما يثبت بنحو الوجوب المعلق ثابت وواجب ، لا ما لم يجب ، وذلك يختص بالضمان المصطلح الذي يمكن فرض شي‌ء ثابت في الذمة غير ذمة الضامن ، أما الضمان العرفي فليس موضوعه ما ثبت إذ ثبوته بالضمان فلا يكون موضوعاً للضمان ، فلو ثبت بالضمان كان بلا مضمون له ، لان المفروض أن المضمون له لم يتحقق السبب المملك له.

هذا ولا يخفى أن حمل الضمان للأعيان المضمونة على أحد المعنيين قد عرفت أنه ذكره العلامة في التذكرة ، وتبعه عليه الجماعة ، وجعلوا ذلك‌

٣٤٦

ولا دليل على عدم صحة ضمان ما لم يجب من نص أو إجماع‌

______________________________________________________

مورد النقض والإبرام في المقام. مع أن الظاهر من الضمان في الأعيان المضمونة كونها بنفسها في الذمة ، كما يقتضيه ظاهر دليل الضمان ، مثل : « على اليد ما أخذت حتى تؤدي » (١) ‌فإن ظاهر العبارة المذكورة أن نفس المأخوذ ثابت في الذمة ، ولما لم يكن مانع من ذلك عقلي ولا غيره ، وجب الأخذ به. ودعوى : أن الأعيان الخارجية موجودة في الخارج ، فكيف تكون موجودة في الذمة ، لأن الواحد لا يكون في مكانين. مندفعة : بأن الخارج ظرف للوجود الحقيقي ، والذمة ظرف للوجود الاعتباري ، ولا مانع من أن يكون للشي‌ء الواحد وجودان اعتباري وخارجي ، فالوجود الذمي نظير الوجود الذهني ، فكما أن الموجود الخارجي يجوز أن يكون له وجود ذهني يجوز أن يكون له وجود ذمي. وعلى هذا يكون الغاصب ونحوه مشغول الذمة بالعين ، فيصح الضمان عنه ، وبه تبرأ ذمته من العين ، وتشتغل بها ذمة الضامن فقط. وأما وجوب الرد فهو من أحكام عدم الاذن في الاستيلاء على العين ، فاذا حصل الاذن لم يجب الرد ولو مع الضمان. كالمقبوض بالسوم ، فإنه مضمون ولا يجب رده ما دام مشغولا بالسوم ، وإذا لم يحصل الاذن يجب الرد حتى مع عدم الضمان ، كالأمانة عند انتهاء مدة الايتمان ، فإنه يجب الرد ولا ضمان. وعلى هذا فوجوب الرد ليس معنى للضمان ، ولا من أحكامه. وأما المعنى الثاني للضمان فأشكل لأن اشتغال الذمة بالبدل على تقدير التلف حكم تعليقي ، وضمان الغاصب حكم تنجيزي ، فكيف يكون أحدهما معنى للآخر؟! ولا يبعد أن تكون العين نفسها في الذمة على تقدير التلف ، ووجوب أداء البدل من أحكام ذلك ، لا من معانيه.

__________________

(١) مستدرك الوسائل باب : ١ من كتاب الغصب حديث : ٤.

٣٤٧

وإن اشتهر في الألسن ، بل في جملة من الموارد حكموا بصحته ، وفي جملة منها اختلفوا فيه ، فلا إجماع.

وأما ضمان الأعيان غير المضمونة ـ كما المضاربة والرهن والوديعة قبل تحقق سبب ضمانها من تعد أو تفريط ـ فلا خلاف بينهم في عدم صحته [١]. والأقوى بمقتضى العمومات صحته أيضاً [٢].

______________________________________________________

[١] قال في الشرائع : « ولو ضمن ما هو أمانة كالمضاربة والوديعة لم يصح لأنها ليست مضمونة في الأصل » ، ونحوه في المنع ما في القواعد وجامع المقاصد والمسالك وعن غيرها ، وفي التذكرة : نسبته إلى علمائنا أجمع ، لأنها غير مضمونة العين ولا مضمونة الرد ، وانما الذي يجب على الأمين مجرد التخلية ، وإذا لم تكن مضمونة على ذي اليد فكذا على ضامنه ، وفي الجواهر : أنه لا اشكال ولا خلاف فيه.

[٢] قد عرفت إشكاله في المسألة السابقة. نعم إذا كان المراد من ضمانها اشتغال الذمة بها ، لا بالمعنى المصطلح من الضمان الذي نحن في مباحثه ومسائله بل بمعنى محض اشتغال الذمة ، فمعنى : « ضمنت الأمانة التي عند زيد » : اشغلت ذمتي بها ، أمكن التمسك بعموم وجوب الوفاء بالشرط والعهد ونحوهما في صحة الضمان المذكور ، فاذا تلفت العين لم يكن الأمين ضامناً ، وكان الضامن له ضامناً بمقتضى إنشائه.

ولعل من ذلك ضمان شركة التأمين المتعارف في هذا العصر وإن كان ضمانها في مقابل المال لا تبرعاً ، فصاحب المال يعطي الشركة مالا في قبال أن تضمن أو في قبال أن تنشئ الضمان ، فتنشئ الضمان ويلزمها ذلك ، لعموم الوفاء بالعهد ، وإن كان الجاري بينهم الأول. وكيف كان فهذا ليس من الضمان الذي نحن فيه بل هو معنى آخر ، إذ ليس فيه‌

٣٤٨

( مسألة ٣٩ ) : يجوز عندهم بلا خلاف بينهم [١] ضمان درك الثمن للمشتري [٢] إذا ظهر كون المبيع مستحقاً‌

______________________________________________________

مضمون عنه أصلا.

والذي يتحصل : أن الضمان المصطلح لا يصح إذا لم يكن المال المضمون مضموناً لمضمون عنه حال الضمان. وأما الضمان العرفي فمنه شرعي بحت ، مثل من أتلف مال غيره فهو له ضامن. ومنه إنشائي إما تبرعاً. ويحتمل أنه إيقاعي لا عقدي ، لأنه ليس فيه تصرف في المال ، ليتوقف على قبول المالك. اللهم الا أن يكون عقداً لاقتضائه التمليك. وإما بعوض ، فيكون عقداً ، كضمان شركة التأمين المجعول في مقابل مال معين. وقد يكون العوض في مقابل إنشاء الضمان ، فيكون نظير عقد الإجارة ، ولا بد فيه من إنشاء الضمان بعد العقد. ويمكن أن يكون المال مبذولا مجاناً بشرط إنشاء الضمان ، أو بشرط تدارك الخسارة لو اتفقت ، فلا يكون ضمان في البين ، وإنما يكون تدارك خسارة لا غير. وأما بذل المال في مقابل تدارك الخسارة فلا يصح ، لعدم وجود الخسارة في بعض الأوقات ، فيكون المال بلا عوض.

[١] وفي الجواهر : « بلا خلاف أجده فيه ، بل في محكي التذكرة ـ وكذا مجمع البرهان ـ نسبته إلى إطباق الناس عليه في جميع الأعصار ، وفي المسالك : أن ظاهرهم الإطباق عليه » ، وفي جامع المقاصد : « إطباق الناس على ضمان العهدة ».

[٢] قال في الصحاح : « الدرك التبعة. وقيل : سمي ضمان الدرك لالتزامه الغرامة عند ادراك المستحق عين ماله ». ويسمى ضمان العهدة. وفي التذكرة : « سمي ضمان العهدة ، لالتزام الضامن ما في عهدة البائع رده ... ».

٣٤٩

للغير ، أو يظهر بطلان البيع لفقد شرط من شروط صحته إذا كان ذلك بعد قبض الثمن [١]. كما قيد به الأكثر ـ أو مطلقا ـ كما أطلق آخر ـ وهو الأقوى [٢]. قيل : وهذا مستثنى من‌

______________________________________________________

[١] يعني : إذا وقع البيع وقبض البائع الثمن يخاف المشتري من ضياع ثمنه إذا تبين بعد ذلك أن المبيع لغير البائع ، فيأخذه المالك من المشتري ويتمرد البائع عن دفع الثمن إليه ، فحينئذ يضمن ضامن للمشتري ثمنه الذي دفعه إلى البائع ، ليكون المشتري واثقاً بعدم ضياع ماله ، فالضمان يكون احتمالياً لا يقينياً ، لأنه إذا كان البيع صحيحاً كان الثمن ملكاً للبائع ، فلا معنى لضمانه للمشتري ، وانما يصح هذا الضمان إذا كان البيع باطلا والثمن الذي قبضه البائع غير مملوك له ولا يستحقه ، لأنه مقبوض بالعقد الفاسد ، فيكون مضموناً عليه ، فيضمنه آخر للمشتري. قال في المسالك : « وفي الحقيقة هذا فرد من أفراد ضمان الأعيان المضمونة على تقدير كونه موجوداً حالة الضمان » ، وفي مفتاح الكرامة : « وقد قيد بكونه بعد القبض في أكثر الكتب المتقدمة ، ما عدا المبسوط والشرائع والإرشاد واللمعة ، بل في الوسيلة والتذكرة والتحرير : التصريح بأنه إن كان قبض الثمن صح الضمان وإن لم يكن قد قبض لم يصح. وهو أيضاً مراد في كلام من لم يقيد به ، لأنهم لا يختلفون في أن الضمان لا بد فيه من ثبوت حق في ذمة المضمون عنه في نفس الأمر وقت الضمان ، بحيث يمكن تكليف غيره به ، والبائع ما لم يقبض لم يتعلق بذمته حق ». وقال في الجواهر : « ومن ذلك يعلم إرادة المصنف وغيره ممن ترك التقييد بالقبض ما صرح به الأكثر من التقييد به ، ضرورة عدم دخوله في عهدة البائع الذي هو المضمون عنه الا بقبضه ». ومن ذلك تعرف الإشكال في قول المصنف.

[٢] وكأنه مبني على ما ذكره في آخر المسألة السابقة من جواز‌

٣٥٠

عدم ضمان الأعيان [١]. هذا وأما لو كان البيع صحيحا وحصل الفسخ بالخيار أو التقايل أو تلف المبيع قبل القبض ، فعلى المشهور لم يلزم الضامن ويرجع على البائع ، لعدم ثبوت الحق وقت الضمان ، فيكون من ضمان ما لم يجب. بل لو صرح بالضمان إذا حصل الفسخ لم يصح بمقتضى التعليل المذكور [٢]. نعم في الفسخ بالعيب السابق أو اللاحق اختلفوا في أنه هل يدخل‌

______________________________________________________

ضمان الأعيان غير المضمونة ، فكأن المشتري يخاف أن يدفع الثمن إلى البائع ويتبين عدم استحقاق البائع له ، ولا يتمكن المشتري من استرجاعه ، فيضمنه للمشتري ضامن قبل أن يدفعه إلى البائع ، فيأمن من ضياعه ، فيدفعه اليه.

[١] قال في جامع المقاصد : « ولا شبهة في صحة ضمان الثمن عن المشتري للبائع إذا كان ديناً. أما إذا كان عيناً فهو من جملة الأعيان المضمونة. ولعل تجويز ضمانه لعموم البلوى ودعاء الحاجة اليه ، واطباق الناس على ضمان العهدة ». ونحوه في المسالك والجواهر. بل الظاهر أنه لا ينبغي الإشكال فيه ، فالضمان فيما نحن فيه من قبيل ضمان العين على تقدير كونها مضمونة على المضمون عنه. لكن في المسالك جعل الفرق بين ضمان المال وضمان العهدة الاختلاف في نفس المضمون ، قال (ره) : « والفرق يظهر في اللفظ والمعنى. أما اللفظ فالعبارة عن ضمان الثمن : ضمنت لك الثمن الذي في ذمة زيد مثلا ، ونحوه ، وضمان العهدة : ضمنت لك عهدته أو دركه ، ونحو ذلك. وأما المعنى فظاهر ، إذ ضمانه نفسه يفيد انتقاله إلى ذمة الضامن وبراءة المضمون عنه ، وضمان العهدة ليس كذلك ، إنما يفيد ضمان دركه على بعض التقديرات ». وهو كما ترى.

[٢] كما صرح به في الجواهر ، معللا له بما ذكر.

٣٥١

في العهدة ويصح الضمان أو لا؟ فالمشهور على العدم [١] ، وعن بعضهم : دخوله [٢] ، ولازمه الصحة مع التصريح بالأولى. والأقوى في الجميع الدخول مع الإطلاق ، والصحة مع التصريح ودعوى : أنه من ضمان ما لم يجب. مدفوعة : بكفاية وجود السبب [٣]. هذا بالنسبة إلى ضمان عهدة الثمن إذا حصل‌

______________________________________________________

[١] قال في الشرائع : « أما لو تجدد الفسخ بالتقايل أو تلف المبيع قبل القبض لم يلزم الضامن ، ويرجع المشتري على البائع. وكذا لو فسخ المشتري بعيب سابق ». وفي الجواهر : نسبته إلى المشهور ، لأن الفسخ إنما أبطل العقد من حينه لا من أصله ، فلم يكن حالة الضمان مضموناً ، بل لو صرح بضمانه كان فاسداً ، لأنه ضمان ما لم يجب. فما في القواعد ومحكي التذكرة من الاشكال فيه مما عرفت ، ومن وجود سبب الفسخ حال البيع ـ بل عن فخر المحققين الجزم بالدخول فيه للحاجة ـ واضح الضعف ، ولذا استقرب ( يعني : العلامة في القواعد ) عدم اندراجه بعد أسطر من الاشكال ، بل جزم به بعد ذلك. انتهى. ويشير بقوله : « ولذا استقرب .. » الى قوله في القواعد بعد أسطر من الاشكال : « والأقرب أنه لا يصح ضمان عهدة الثمن لو خرج المبيع معيبا ورده » ، وقوله بعد ذلك : « ويرجع على ضامن عهدة الثمن في كل موضع يبطل فيه البيع من رأس ، لا ما يتجدد له الفسخ بالتقايل أو العيب السابق ... ».

[٢] حكي ذلك عن فخر المحققين ، كما تقدم في الجواهر. وذكر في مفتاح الكرامة : أنه قوي متين. انتهى.

[٣] قد عرفت أن ضمان ما لم يجب لا يدخل في الضمان المصطلح ، ولا تشمله أدلته الخاصة. نعم تشمله أدلة الصحة العامة. لكن شمولها لا يتوقف على وجود السبب.

٣٥٢

الفسخ ، وأما بالنسبة إلى مطالبة الأرش ، فقال بعض من منع من ذلك بجوازها [١] ، لان الاستحقاق له ثابت عند العقد ، فلا يكون من ضمان ما لم يجب. وقد عرفت أن الأقوى صحة الأول أيضاً ، وأن تحقق السبب حال العقد كاف. مع إمكان دعوى : أن الأرش أيضاً لا يثبت إلا بعد اختياره ومطالبته [٢]

______________________________________________________

[١] قال في القواعد : « ويرجع على ضامن عهدة الثمن في كل موضع يبطل فيه البيع من رأس ، لا ما يتجدد له الفسخ بالتقابل أو العيب السابق أو تلفه قبل قبضه ، بل يرجع على البائع. ولو طالب بالأرش فالأقرب مطالبة الضامن ». ونحوه في الشرائع بزيادة تعليل الحكم الأخير بأن استحقاقه ثابت حين العقد ، ثمَّ قال : « وفيه تردد ».

[٢] هذا ذكره في المسالك وجهاً لتردد الشرائع ، قال (ره) : « والموجود حالة العقد من العيب ما كان يلزمه تعيين الأرش ، بل التخيير بينه وبين الرد ، فلم يتعين الأرش إلا باختياره. ولو قيل (١) : إنه أحد الفردين الثابتين على وجه التخيير ، فيكون كأفراد الواجب المخير حيث يوصف بالوجوب قبل اختياره ، فيوصف هذا بالثبوت قبل اختياره ، لزمه مثله في الثمن ، لأنه قسيمه في ذلك. والحق ثبوت الفرق بينهما ، فان الثمن ما وجب الا بالفسخ ، وأما الأرش فإنه كان واجباً بالأصل ، لأنه عوض جزء فائت من مال المعاوضة .. » ، وتبعه على ذلك في الجواهر. ولكنه كما ترى ، فإن صفة الصحة لا تقابل بجزء من الثمن ، وإنما هي دخيلة في زيادة الثمن في مقابل الذات الموصوفة. وكذا الكلام في الصفات المشروطة في المبيع. ولذا كان خيار تخلف الوصف وخيار العيب‌

__________________

(١) هذا القول اختاره في الروضة. وحينئذ يشكل بما ذكره في المسالك. مضافا الى ما ذكرناه.

منه قدس السره

٣٥٣

فالصحة فيه أيضاً من جهة كفاية تحقق السبب. ومما ذكرنا ظهر حال ضمان درك المبيع للبائع [١].

( مسألة ٤٠ ) : إذا ضمن عهدة الثمن فظهر بعض المبيع مستحقاً ، فالأقوى اختصاص ضمان الضامن بذلك البعض‌

______________________________________________________

غير خيار تبعض الصفقة. والمقايسة على الواجب التخييري غير ظاهرة. فان وجوب الاختيار في الواجب التخييري دليل على ثبوت الوجوب ، وفي المقام لا يجب الاختيار ، وإنما هو جائز. فإن اختار أحد الأمرين ثبت له وإلا لم يثبت ، فلا تشتغل ذمة البائع بالأرش إلا بعد اختياره. نعم المطالبة فرع الاستحقاق ، فلا يتوقف عليها الاستحقاق. نعم لو اختص الكلام بصورة تعذر الرد وتعين الأخذ بالأرش أمكن دعوى ثبوت الأرش من أول الأمر حين العقد ، كما قد يقتضيه ظاهر النصوص. لكن مورد كلامهم أعم. ومن ذلك يظهر عدم صحة الضمان الاصطلاحي في المقام ، الذي يتوقف على وجود مضمون عنه ، ويكون قصد الضامن الضمان عنه ، لا مجرد الضمان العرفي ، ولذا جزم في التحرير بعدمه.

والذي يتحصل : أنه إذا كان غرض الضامن الضمان عن مضمون عنه هو ضامن ، فلا يصح في جميع الموارد المذكورة حتى الأرش ، لعدم وجود مضمون عنه ضامن. وإذا كان غرضه الضمان بنفسه مع التغافل عن مضمون عنه ، فان كان المقصود الضمان مطلقاً صح في جميع ذلك ، وإذا كان غرضه مقيداً بصورة دون أخرى اقتصر في الرجوع اليه على خصوص تلك الصورة ، ولا يتعداها إلى غيرها.

[١] إذا ضمن ضامن درك المبيع للبائع عن المشتري جرى فيه جميع ما ذكر من الصور والأحكام. ولا يصح الضمان الاصطلاحي إلا إذا تبين عدم استحقاق المشتري للمبيع حال القبض ، لما سبق.

٣٥٤

وفي البعض الآخر يتخير المشتري بين الإمضاء والفسخ لتبعض الصفقة ، فيرجع على البائع بما قابله. وعن الشيخ : جواز الرجوع على الضامن بالجميع [١]. ولا وجه له [٢].

( مسألة ٤١ ) : الأقوى ـ وفاقاً للشهيدين [٣] ـ صحة ضمان ما يحدثه المشتري من بناء أو غرس في الأرض المشتراة إذا ظهر كونها مستحقة للغير وقلع البناء والغرس ، فيضمن الأرش ، وهو تفاوت ما بين المقلوع والثابت عن البائع. خلافا للمشهور ، لأنه من ضمان ما لم يجب.

______________________________________________________

[١] حكي ذلك عن الشيخ (ره) في المبسوط.

[٢] هذا يتوجه على المشهور الذين لا يقولون بجواز الرجوع على الضامن لو حدث ما يقتضي انفساخ العقد بخيار أو إقالة أو نحو ذلك. أما بناء على ما ذكره المصنف في المسألة السابقة من أن الأقوى جواز الضمان فيرجع المشتري على الضامن ، فوجهه ظاهر ، وهو عموم الصحة الذي تمسك به فيما سبق لرد دعوى المشهور من عدم صحة الضمان وعدم جواز الرجوع على الضامن. وبالجملة : الجمع بين كلامي المصنف في المسألتين غامض.

[٣] قال في الشرائع : « إذا ضمن ضامن للمشتري درك ما يحدث من بناء أو غرس لم يصح ، لأنه من ضمان ما لم يجب ». ونحوه في القواعد وغيرها. وفي اللمعة قال : « والأقوى جوازه ». وظاهر الروضة : الميل اليه ، وعن التذكرة : الإشكال فيه ، وعن التحرير : احتماله على ضعف. والوجه في الجواز وجود السبب حال العقد. وقد عرفت الاشكال فيه ،

٣٥٥

وقد عرفت كفاية السبب. هذا ولو ضمنه البائع قيل : لا يصح أيضاً كالأجنبي [١] ، وثبوته بحكم الشرع لا يقتضي صحة عقد الضمان المشروط بتحقق الحق حال الضمان [٢]. وقيل بالصحة ، لأنه لازم بنفس العقد [٣] ، فلا مانع من ضمانه ، لما مرّ من كفاية تحقق السبب [٤] ، فيكون حينئذ للضمان سببان : نفس العقد [٥] ، والضمان‌

______________________________________________________

وأنه إن أريد الضمان المصطلح فلا بد فيه من وجود ضامن قبل هذا الضمان ليكون مضموناً عنه ، وهو مفقود. وإن أريد الضمان العرفي لم يتوقف على وجود السبب حال الضمان.

[١] حكاه في الشرائع قولا ، وهو المحكي عن المبسوط ، واختاره جماعة ممن تأخر.

[٢] يعني : وهو مفقود ، إذ ليس هناك حق مضمون حال الضمان.

[٣] كذا ذكر في الشرائع ، ونحوه في القواعد والتذكرة. وفيه : أن العقد بنفسه لا يقتضي الضمان. وإنما يقتضي الغرور وضمان الغار إنما يكون بعد ورود الخسارة على المغرور ، وذلك إنما يكون بعد قلع البناء والشجر ، كما حرر ذلك في مباحث الفضولي.

[٤] لكن إذا كان وجود السبب كافياً لزم البناء على صحة ضمان الأجنبي أيضاً لوجود المصحح. ولو حمل كلام المحقق على حصول الضمان نفسه بالعقد أيضاً جاء الاشكال المذكور من عدم الوجه في المنع من ضمان الأجنبي معللا بأنه من ضمان ما لم يجب ، فالإشكال على المحقق ومن وافقه في التفصيل بين الأجنبي والبائع متوجه على كل حال. مضافاً إلى أن وجود السبب لا يكفي في تحقق الضمان المصطلح ، كما هو ظاهر كلامهم.

[٥] قد عرفت أن نفس العقد لا يقتضي الضمان.

٣٥٦

بعقده. وتظهر الثمرة [١] فيما لو أسقط المشتري عنه حق الضمان الثابت بالعقد ، فإنه يبقى الضمان العقدي [٢]. كما‌

______________________________________________________

[١] هذه الثمرة ذكرها في المسالك والروضة.

[٢] المراد أن الضمان يقتضي اشتغال الذمة بالمال المضمون ، فان تكرر الضمان فقد تكرر اشتغال الذمة ، فيكون للمال المضمون وجودان في الذمة كل واحد بعنوان البدلية عن المضمون ، فيجوز إسقاط أحدهما دون الآخر ، ولا تلازم بينهما في السقوط كما لا تلازم في الثبوت. وعبارة المسالك هكذا. « وتظهر الفائدة فيما لو أسقط المشتري عنه حق الرجوع بسبب البيع ، فإنه يبقى له الرجوع عليه بسبب الضمان ». لكن من المعلوم أن الرجوع ليس من الحقوق التي تسقط بالإسقاط ، بل من الأحكام ، ولو أسقطه لم يسقط. ولعل مراده ما ذكر في المتن. وإن كان هو أيضاً لا يخلو من خفاء. وجواز التعدد مع تعدد الذمم لتعدد الضامن لا يقتضي جواز التعدد في ذمة واحدة. ولذا عبر بعضهم بالتأكيد ، وإن كان التأكد يختص بالماهية التشكيكية ، وكون العين المضمونة من ذلك غير ظاهر. نعم وجوب الأداء مما يقبل التأكد. لكنه لا يمكن إسقاطه. ولأجل ذلك يشكل البناء على الفائدة المذكورة.

ثمَّ إن الذي يظهر من الشرائع وغيرها أن الضمان الذي يكون من البائع من الضمان المصطلح ، فان ذكره في سياق ضمان الأجنبي الممنوع من صحته لأجل أنه من ضمان ما لم يجب ، والضمان المصطلح إذا صح فرغت ذمة المضمون عنه ، فضمان البائع إذا صح فرغت ذمة البائع من جهة كونه غاراً. وعلى هذا لا يجتمع ضمانان في وقت واحد حتى تجري الفائدة المذكورة من سقوط أحدهما وبقاء الآخر. فالجمع بين كلامهم في تصحيح الضمان من البائع وفي بيان فائدة الضمان المذكور لا يخلو من غموض ، فإن الأول يقتضي‌

٣٥٧

إذا كان لشخص خياران بسببين فأسقط أحدهما. وقد يورد عليه بأنه لا معنى لضمان شخص عن نفسه ، والمقام من هذا القبيل [١]. ويمكن أن يقال : لا مانع منه مع تعدد الجهة [٢] هذا كله إذا كان بعنوان عقد الضمان. وأما إذا اشترط ضمانه فلا بأس به [٣] ، ويكون مؤكداً لما هو لازم العقد [٤].

______________________________________________________

الضمان المصطلح ، والثاني يقتضي غيره. ومن هنا يتعين أن يكون المراد من الضمان غير المصطلح ، وهو العرفي ، كما هو الظاهر من أمثال المقام. فلاحظ.

[١] المورد صاحب الجواهر (ره) ، وبعد تقرير الإيراد المذكور قال : « ومن الغريب اشتباه هؤلاء الأفاضل في ذلك. وحمل كلام الشرائع على صورة اشتراط الضمان على البائع كما في بعض نسخ الشرائع. لكن على هذا لا حاجة إلى تعليل الجواز بأنه لازم بنفس العقد ، فإنه يجوز اشتراط الضمان ولو لم يكن لازماً بنفس العقد ».

[٢] فإن أحد الضمانين قائم بالغرور والضمان الثاني قائم بالعقد. إلا أن يقال : إن هذه الجهات تعليلية ، فلا توجب تعدد الموضوع.

[٣] يعني : اشترط في عقد البيع أو غيره ضمان البائع. وقد حكى في الجواهر عن نسختين من نسخ الشرائع أن العبارة هكذا : « إذا ضمن ضامن للمشتري درك ما يحدث من بناء أو غرس لم يصح ، لأنه من ضمان ما لم يجب. وقيل : وكذا لو ضمنه البائع ولو شرط في نفس العقد. والوجه الجواز ، لأنه لازم بنفس العقد » ، فتكون متعرضة لشرط الضمان لكن عرفت أن شرط الضمان يصح ولو لم يكن لازماً بنفس العقد ، فالتعليل به غير ظاهر.

[٤] الضمان ليس من الماهيات التشكيكية ليقبل التأكد والتأكيد ، فالمراد التأكيد في الأثر ، وهو وجوب الأداء.

٣٥٨

( مسألة ٤٢ ) : لو قال عند خوف غرق السفينة : « الق متاعك في البحر وعلى ضمانه » صح بلا خلاف بينهم بل الظاهر الإجماع عليه [١]. وهو الدليل عندهم. وأما إذا لم يكن لخوف الغرق ، بل لمصلحة أرى من خفة السفينة‌

______________________________________________________

[١] هذه المسألة حررت في الشرائع والقواعد وغيرهما في كتاب الديات لبعض المناسبات ، كما حررت أيضاً في بعض الكتب في كتاب الضمان لبعض المناسبات ، فان الضمان فيها ليس من الضمان المصطلح. قال في الشرائع في أوائل مباحث الديات : « ولو قال : الق متاعك في البحر لتسلم السفينة ، فألقاه فلا ضمان. ولو قال : وعليّ ضمانه ، ضمن دفعاً لضرورة الخوف. ولو لم يكن خوف فقال : القه وعلي ضمانه ، ففي الضمان تردد ، أقربه أنه لا يضمن ». وفي القواعد : « ولو أشرفت سفينة على الغرق فقال الخائف على نفسه أو غيره : الق متاعك في البحر وعليّ ضمانه ، ضمن ». وفي كشف اللثام : « بلا خلاف إلا من أبي ثور ، كما في المبسوط والخلاف ». وفي الجواهر : « بلا خلاف أجده فيه بيننا ، بل وبين غيرنا ، إلا من أبي ثور ، وهو شاذ لا يعتد به ، كما في محكي الخلاف ، بل فيه ان عليه إجماع الأمة عداه ، كما عن المبسوط نفي الخلاف فيه من غيره ». ويقتضيه ـ مضافاً الى ذلك ـ عموم الصحة ، فإنه نوع من العهد. ويحتمل ان يكون عقداً ويكون قبوله فعلياً وهو الإلقاء ، وأن يكون قولياً كما إذا قال : قبلت ، فيلزمه الإلقاء ، عملا بالعقد ، ولا يلزم في الصورة الأولى لعدم تحقق القبول. ويحتمل أن يكون إيقاعاً ، نظير : « خط ثوبي ولك درهم » أو « رد عبدي ولك نصفه ». وهذا هو الأقرب وقد عرفت أن الضمان هنا ليس من الضمان المصطلح ، بل هو من الضمان العرفي.

٣٥٩

أو نحوها ، فلا يصح عندهم [١]. ومقتضى العمومات صحته ايضاً.

______________________________________________________

[١] قال في الشرائع : « ولو لم يكن خوف فقال : القه وعليّ ضمانه ففي الضمان تردد ، أقربه أنه لا يضمن ». ونحوه في القواعد ، إلا أنه لم يذكر التردد ، وفي المسالك : أنه ادعى عليه الشيخ في المبسوط الإجماع. انتهى. وفي كشف اللثام عن المبسوط : أنه قال : قيل : إنه لا خلاف في عدم الضمان. انتهى. وفي المسالك بعد أن جعل الأظهر عدم الضمان قال : « لكن المصنف تردد في الحكم عند عدم الخوف. ووجه التردد من عدم الفائدة ، والإجماع المدعى ، وكون الضمان على خلاف الأصل وإنما ترك العمل به مع الخوف للمصلحة فيبقى الباقي. ومن عموم الأمر بالوفاء بالعقود ، وهو عام إلا ما خصصه الدليل ولا مخصص هنا. وهو ضعيف لوجود المخصص » ولا يخفى أن فرض عدم الفائدة لا يتناسب مع إطلاق عنوان المسألة وهو عدم الخوف ، فإنه أعم من أن يكون فائدة وأن لا تكون. كما أنه لا وجه لتنظيره بقوله : أهدم دارك ومزق ثوبك واجرح نفسك.

ومن ذلك يظهر أن إلقاء المتاع إذا كان يترتب عليه فائدة عقلائية من خفة السفينة وحسن سيرها فتقطع المسافة البعيدة في مدة قليلة ، وكان المتاع بحيث يحسن بذله في سبيل الفائدة عند العقلاء جاز لصاحبه إلقاؤه بلا عوض ، وجاز التعويض عليه من ركبان السفينة أو من بعضهم. وإذا كان لا يترتب عليه فائدة عقلائية لم يجز الإلقاء مع الضمان وبدونه. وكذلك في مثل : اهدم دارك ومزق ثوبك واجرح نفسك ، فإنه إذا كان يترتب فائدة عقلائية على كل واحد من الأمور المذكورة جاز فعله بلا عوض ومع العوض ، ويكون ذلك من قبيل أعابه السفينة لصاحب موسى (ع) ، وإذا لم يترتب عليه فائدة لم يجز مع الضمان وبدونه. وإذا أمره آمر على

٣٦٠