فتح الرّحمن شرح ما يلتبس من القرآن

زكريّا بن محمّد بن أحمد الأنصاري

فتح الرّحمن شرح ما يلتبس من القرآن

المؤلف:

زكريّا بن محمّد بن أحمد الأنصاري


المحقق: الدكتور يحيى مراد
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 978-2-7451-4012-4
الصفحات: ٣٦٠

(فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍ) وقوله : (هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) [المطففين : ٣٦] أي : هل جوزوا؟

غايته أن الثواب قد يكون خيرا ، وقد يكون شرّا ، يقصد به" التهكّم والاستهزاء" كلفظ البشارة ، لا اختصاص له لغة بالخير ، بل هو شامل للشرّ ، قال تعالى : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [التوبة : ٣٤].

٣٢ ـ قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ) [المائدة : ٦٦].

وقضيّته أنّ إقامة الكتاب ، توجب سعة الرّزق والرخاء.

فإن قلت : ليس الأمر كذلك ، لأنّا نجد كثيرا من المؤمنين ، ضيّقي المعيشة في الدنيا.

قلت : القضيّة خاصّة بأهل الكتاب ، لأنهم شكوا ضيق الرزق ، حتّى قالوا : (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) [المائدة : ٦٤] فأخبرهم الله أن ذلك التضييق عقوبة لهم ، بعصيانهم وكفرهم ، والله تعالى يجعل ضيق الرزق وسعته ، نعمة في بعض عباده ، ونقمة على الآخرين ، فلا يلزم من توسيع الرزق الإكرام ، ولا من تضييقه الإهانة.

٣٣ ـ قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) [المائدة : ٦٧].

إن قلت : ما فائدته مع أنه معلوم أنه إذا لم يبلّغ ما أنزل إليه ، لم يكن قد بلّغ الرسالة؟

قلت : فائدته الحثّ على تبليغ معايب اليهود ، حتّى لو فرض كتمان حرف واحد ، كان في الإثم ككتمان الجميع.

أو الأمر بتعجيل التبليغ ، لأنه كان عازما على تبليغ جميع ما أنزل إليه ، إلا أنه أخّر البعض خوفا على نفسه ، مع بقاء العزم ويؤيده قوله تعالى : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) أي : من القتل ، لا من جميع أنواع الأذى ، كشجّ الوجه ، وكسر الرباعية.

أو لعلّ الآية نزلت بعد أحد ، لأن المائدة من أواخر ما نزل من القرآن!!

٣٤ ـ قوله تعالى : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) [المائدة : ٧٢] الآية.

٨١

كرّر الآية ، وختم هذه بقوله : (إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) والثانية بقوله : (إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ.)

لأن" اليعقوبيّة" من النّصارى ، زعموا أنّ الله تجلّى في زمن على شخص" عيسى" فظهرت من المعجزات ، فصار إلها.

والملكانية منهم زعموا أن الله اسم يجمع" أمّا ، وابنا ، وروح القدس" فصار كل منهم إلها واحدا ، أخذا من قوله تعالى : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) فكرّر الآية لذلك ، وأخبر تعالى عنهم أنهم كلّهم كفّار.

٣٥ ـ قوله تعالى : (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) [المائدة : ٧٢].

المراد بالظّالمين هنا : المشركون ، بقرينة ما قبله ، إذ الظّالمون من المسلمين لهم ناصر ، وهو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لشفاعته لهم يوم القيامة.

٣٦ ـ قوله تعالى : (وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) [المائدة : ٧٧].

فائدة ذكره بعد قوله : (قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ) أن المراد بالضّلال الأول : ضلالهم عن الإنجيل ، وبالثاني : ضلالهم عن القرآن.

٣٧ ـ قوله تعالى : (كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ) [المائدة : ٧٩] الآية.

إن قلت : النّهى عن المنكر بعد فعله لا معنى له؟!

قلت : فيه حذف مضاف ، أي : كانوا لا يتناهون عن معاودة منكر فعلوه ، أو عن مثله ، أو عن منكر أرادوا فعله ، أي : لا يمتنعون ، أو المعنى كانوا لا ينتهون عن منكر فعلوه ، بل يصرّون عليه.

٣٨ ـ قوله تعالى : (وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ) [المائدة : ٨٧]. أي من المنافقين أو اليهود.

إن قلت : كلّهم فاسقون ، لا كثير منهم فقط!

قلت : المراد بالفسق ، فسقهم بموالاة المشركين ، ودسّ الأخبار إليهم ، لا مطلق الفسق ، وذلك مخصوص بكثير منهم ، وهم المذكورون في قوله تعالى قبل : (تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا.)

٣٩ ـ قوله تعالى : (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) [المائدة : ٩٠] الآية.

٨٢

إن قلت : هذه المذكورات من عمل الله ، لا من عمل الشّيطان؟!

قلت : في الكلام إضمار ، أي : تعاطي هذه الأشياء من عمل الشيطان.

فإن قلت : مع الإضمار كيف قال : (مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ ،) وتعاطي هذه الأشياء من عمل الإنسان ، لا من عمل الشيطان؟!

قلت : لّما كان تعاطي هذه الأشياء ، بوسوسة الشيطان وتزيينه ذلك للفسّاق ، صار كما لو أغرى رجل رجلا بضرب آخر فضربه ، فإنه يجوز أن يقال للمغري هذا من عملك.

فإن قلت : لم خصّ من الأشياء المذكورة" الخمر" و" الميسر" بالذّكر ، في قوله : (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ؟)

قلت : خصّهما بالذكر تعظيما لأمرهما ، ولأنّ ما ذكر من العداوة والبغضاء بين النّاس ، يقع كثيرا بسببهما دون الباقي.

وقيل : إنما خصّهما بالذّكر بيانا للواقع ، لأن الخطاب للمؤمنين بدليل قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) وهم إنما كانوا يتعاطون الخمر والميسر فقط.

٤٠ ـ قوله تعالى : (لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ) [المائدة : ٩٤] الآية ، أي : علم ظهور.

٤١ ـ قوله تعالى : (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً) [المائدة : ٩٥] الآية.

قيل : العمد ليس بشرط ، لوجوب الجزاء كما بيّنته السّنّة ، وذكره في الآية بيان للواقع ، لأن الواقعة التي كانت سبب نزول الآية ، كانت عمدا فلا مفهوم له.

٤٢ ـ قوله تعالى : (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) [المائدة : ٩٥] الآية.

قيّد بها تعظيما لها ، وإلّا فالشّرط بلوغه الحرم.

٤٣ ـ قوله تعالى : (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ) [المائدة : ١٠٣] الآية ، أي ما حرّم أو ما شرع ، ولا يصحّ تفسيره ب" خلق" لأن الأشياء المذكورة خلقها الله.

٤٤ ـ قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) [المائدة : ١٠٥] الآية.

أي : احفظوا أنفسكم ، وقوموا بصلاحها.

٨٣

فإن قلت : ظاهر الآية يقتضي عدم وجوب الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر؟

قلت : لا نسلّم ذلك ، فإنها إنما تقتضي أن المطيع لا يؤاخذ بذنوب المضل. أو لأن الآية مخصوصة بما إذا خاف الإنسان ، عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، على نفسه ، أو عرضه ، أو ماله.

٤٥ ـ قوله تعالى : (قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) [المائدة : ١٠٩].

إن قلت : كيف قال ذلك ، مع أنهم عالمون بماذا أجيبوا؟

قلت : هذا جواب دهشة وحيرة ، حين تطيش عقولهم من زفرة جهنّم.

أو المعنى : لا علم لنا بحقيقة ما أجابوا به ، لأنّا لا نعلم إلا ظاهره ، وأنت تعلم ظاهره وباطنه ، بدليل آخر الآية.

وقيل : المراد منه المبالغة في تحقيق نصيحتهم ، كمن يقول لغيره : ما تقول في فلان؟! فيقول : أنت أعلم به منّي ، كأنّه قيل : لا يحتاج فيه إلى شهادة لظهوره.

٤٦ ـ قوله تعالى : (إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ) [المائدة : ١١٢] الآية.

فإن قلت : كيف قال الحواريّون ذلك وهم خلّص أتباع عيسى وهو كفر ، لأنه شكّ في قدرة الله تعالى وذلك كفر؟!

قلت : الاستفهام المذكور ، استفهام من الفعل ، لا من القدرة ، كما يقول الفقير للغني القادر : هل تقدر أن تعطيني شيئا ، وهذه تسمّى استطاعة المطاوعة ، لا استطاعة القدرة.

والمعنى : هل يسهل عليك أن تسأل ربك؟ كقولك لآخر : هل تستطيع أن تقوم معي؟ وأنت تعلم استطاعته لذلك.

فإن قلت : لو كان مرادا ، لما أنكر عليهم عيسى بآخر الآية؟

قلت : إنكاره عليهم إنّما كان لإتيانهم بلفظ ، لا يليق بالمؤمن المخلص ذكره.

٤٧ ـ قوله تعالى : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) [المائدة : ١١٦] الآية.

إن قلت : كيف قال عيسى ذلك ، مع أنّ كل ذي نفس فهو ذو جسم ، لأن النّفس جوهر قائم بذاته ، متعلّق بالجسم تعلّق التدبير ، والله منزه عن ذلك؟

٨٤

قلت : النّفس كما تطلق على ذلك ، تطلق على ذات الشيء وحقيقته ، كما يقال : نفس الذّهب والفضّة محبوبة أي : ذاتهما ، والمراد هنا الثاني.

٤٨ ـ قوله تعالى : (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) [المائدة : ١١٧].

فإن قلت : كيف قال ذلك ، مع أنه غبر لهم أيضا غير ما ذكر؟

قلت : معناه : " ما قلت لهم فيما يتعلّق بالإله".

فإن قلت : عيسى حيّ في السّماء ، فكيف قال : (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي؟)

قلت : المراد بالتوفي النّوم كما مرّ ، مع زيادة في قوله في آل عمران : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ.)

مع أنّ السؤال إنّما يتوجّه ، على قول من قال : إنّ السؤال والجواب ، وجدا يوم رفعه إلى السّماء ، وأمّا من قال : إنهما يكونان يوم القيامة ـ وعليه الجمهور ـ فلا إشكال.

٤٩ ـ قوله تعالى : (قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) [المائدة : ١١٩] الآية : أي : يوم القيامة.

فإن قلت : كيف قال ذلك ، مع أنّ الصّدق نافع في الدّنيا أيضا؟

قلت : نفعه بالنسبة إلى نفع يوم القيامة ، الذي هو الفوز بالجنّة ، والنّجاة من النّار كالعدم.

فإن قلت : إن أراد بالصّدق صدقهم في الآخرة ، فالآخرة ليست بدار عمل ، أو في الدنيا ، فليس مطابقا لما ورد فيه ، وهو الشهادة لعيسى بالصّدق ، بما يجيب به يوم القيامة؟

قلت : أراد به الصّدق المستمرّ بالصادقين ، في دنياهم وآخرتهم.

" تمت سورة المائدة"

٨٥

الأنعام

١ ـ قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) [الأنعام : ١].

جمع السّماء دون الأرض ، لما مرّ في البقرة وجمع الظّلمة دون النّور ، لأنها اسم جنس ، والنّور مصدر والمصدر لا يجمع.

وقيل : لكثرة أسبابها ، بخلاف النّور.

و (جَعَلَ) تأتي لخمسة معان :

فتأتي : بمعنى : " خلق" كما هنا ، وكما في قوله تعالى : (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها) [فصلت : ١٠].

وبمعنى : " بعث" كما في قوله تعالى (وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً) [الفرقان : ٣٥].

وبمعنى : " قال" كما في قوله تعالى : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) [الزخرف : ١٩].

وبمعنى : " بيّن" كما في قوله تعالى : (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) [الزخرف : ٣] أي بيّناه بحلاله وحرامه.

وبمعنى" صيّر" كما في قوله تعالى : (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً) [الأنعام : ٣٥] وقوله تعالى : (وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً) [النمل : ٦١].

٢ ـ قوله تعالى : (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) [الأنعام : ٣].

فائدة : ذكر الجهر بعد السرّ ، مع أنه مفهوم منه بالأولى ، المقابلة و" التأكيد" كما في قوله تعالى : (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) [البقرة : ٢٠٣].

٣ ـ قوله تعالى : (فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) [الأنعام : ٥].

بسط هنا ، واختصر في الشعراء فقال : (فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) لأن ما هنا سابق على ما هنالك ، فناسب البسط هنا ، والاختصار ثم.

٨٦

٤ ـ قوله تعالى : (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) [الأنعام : ٦] الآية.

قاله هنا وفي النحل ، بلا عاطف من واو أو فاء عقب الهمزة ، وفي الشعراء بواو ، وفي سبأ بفاء لأنّ مثل هذا الكلام يأتي للإنكار ، فإن اعتبر فيه الاستدلال ، لم يؤت بواو ولا فاء ، ليكون كالمستأنف.

وإن اعتبرت فيه المشاهدة أتي بالواو والفاء ، لتدلّ الهمزة على الإنكار ، والواو أو الفاء على عطف ما بعدها على مقدّر قبلها يناسبه في المعنى المناسب لمعنى ما قبل الهمزة ، لكنّ الفاء أشدّ اتصالا بما قبلها من الواو ، والتقدير في الشعراء : (أَ) كذّبوا الرّسل (وَلَمْ يَرَوْا) وفي سبأ : (أَ) كفروا (فَلَمْ يَرَوْا؟)

٥ ـ قوله تعالى : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا) [الأنعام : ١١] الآية. قاله هنا ب (ثُمَ) الدّالة على التراخي ، وفي غير هذه بالفاء ، الدّالة على التعقيب ، مع اشتراكهما في الأمر بالسير ، لأن ما في هذه السورة ، وقع بعد ذكر القرون ، في قوله : (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) وقوله : (وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) فتعددت القرون في أزمنة متطاولة ، فخصّت الآية هنا ب (ثُمَّ ،) بخلاف ما في غير هذه السورة ، إذ لم يتقدّمه شيء من ذلك ، فخصّت بالفاء.

٦ ـ قوله تعالى : (وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [الأنعام : ١٣].

خصّ السّاكن بالذّكر دون المتحرك ، لأن السّاكن من المخلوقات ، أكثر عددا من المتحرّك.

أو لأن كل متحرك يصير إلى السّكون ، من غير عكس.

أو لأن السّكون هو الأصل ، والحركة حادثة عليه.

٧ ـ قوله تعالى : (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) [الأنعام : ١٤] الآية. خصّ الإطعام بالذكر ، لأن الحاجة إليه أتمّ.

٨ ـ قوله تعالى : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) [الأنعام : ١٩].

إن قلت : كيف اكتفي من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الجواب بقوله : (اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي

٨٧

وَبَيْنَكُمْ) مع أنّ ذلك لا يكفي من غيره؟

قلت : لأنه قادر على إقامة الحجة ، على أنه شهيد له ، وقد أقامها بقوله : (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ) بخلاف غيره لا يقدر على ذلك.

٩ ـ قوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) [الأنعام : ٢١].

بدأ الآية هنا بالواو ، وختمها بقوله : (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ.)

وبدأها في يونس بالفاء وختمها بقوله : (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ) لأن ما قبلها ثمّ سبب لها ، ومعطوف بالفاء ، ومذكور فيه المجرمون ، فناسب فيها ما ذكر ، بخلاف ما هنا ، فإن المتقدّم فيه معطوف بالواو ، ولم يذكر فيه المجرمون.

١٠ ـ قوله تعالى : (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٣]. كذبوا في قولهم ذلك ، مع معاينتهم حقائق الأمور ، ظنّا منهم أنهم يتخلّصون به.

فإن قلت : كيف الجمع بين هذا وبين قوله : (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) [النساء : ٤٢]؟

قلت : في القيامة مواقف مختلفة ففي بعضها لا يكتمون ، وفي بعضها يكتمون ، بل يكذبون ويحلفون ، كما في قوله تعالى : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) [الحجر : ٩٣] مع قوله تعالى : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) [الرحمن : ٣٩].

١١ ـ قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) [الأنعام : ٢٥] الآية.

قال هنا : (يَسْتَمِعُ) بالإفراد ، وفي يونس (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) بالجمع ، لأنّ ما هنا نزل في قوم قليلين ، وهم : " أبو" سفيان" و" النّضر بن الحارث" و" عتبة ، و" شيبة" ، و" أمية" ، وأبيّ بن خلف" فنزّلوا منزلة الواحد ، فأعيد الضمير على لفظ (مَنْ.) وما في" يونس" نزل في جميع الكفار ، فناسب الجمع ، فأعيد الضمير على معنى (مَنْ)

وإنما لم يجمع ثمّ في قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ) لأن الناظرين إلى المعجزات ، أقلّ من المستمعين للقرآن.

٨٨

١٢ ـ قوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) [الأنعام : ٣٠].

وفي أخرى بعدها : (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ) لأنهم أنكروا وجود النّار في القيامة ، وجزاء ربهم ونكاله فيها ، فقال في الأولى (عَلَى النَّارِ) وفي الثانية : (إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ) أي : على جزاء ربّهم ، ونكاله في النّار.

١٣ ـ قوله تعالى : (وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) [الأنعام : ٢٩].

قاله هنا بدون (نَمُوتُ وَنَحْيا) وفي" المؤمنون" و" الجاثية" به ، لأنهم في القيامة قالوه بموقف ولم يقولوه بآخر ، فأشار إلى الأمرين بما ذكر.

١٤ ـ قوله تعالى : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) [الأنعام : ٣٢] الآية. قدّم اللعب هنا وفي" القتال" و" الحديد" وعكس في" الأعراف" و" العنكبوت" لأن اللّعب زمن الصّبا ، واللهو زمن الشباب ، وزمن الصّبا مقدّم على زمن الشباب ، فناسب إعطاء المقدّم للأكثر ، والمؤخرّ للأقل.

١٥ ـ قوله تعالى : (وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) [الأنعام : ٣٢].

خصّ المتّقين بالذّكر ، مع أنّ غيرهم كذلك ؛ لأنهم الأصل وغيرهم تبع لهم ، وقرئ هنا : (وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ) بلامين ثانيهما مدغمة في الدّار ، ورفع الآخرة بجعلها صفة للدار ، وبإضافة الدّار إليها بلام واحدة ، تبعا لاختلاف المصاحف في ذلك ، وفي" يوسف" بالوجه الثاني فقط تبعا للمصاحف.

١٦ ـ قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) [الأنعام : ٣٥].

إن قلت : كيف قال لمحمد ذلك ، وهو أغلظ خطابا من قوله لنوح : (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) مع أنّ محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعظم رتبة؟

قلت : لأن نوحا كان معذورا بجهله بمطلوبه ، لأنه تمسّك بوعد الله تعالى ، في إنجاء أهله ، وظنّ أنّ ابنه من أهله.

بخلاف محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن معذورا ؛ لأنه كبر عليه كفرهم ، مع علمه أنّ كفرهم وإيمانهم بمشيئة الله تعالى ، وأنّهم لا يهتدون إلا أن يهديهم الله تعالى.

٨٩

١٧ ـ قوله تعالى : (وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) [الأنعام : ٣٦].

إن قلت : ما فائدة ذكره ، مع أنه مفهوم من قوله قبله : (وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ) لأنهم إذا بعثوا من قبورهم ، فقد رجعوا إليه بالحياة بعد الموت؟

قلت : ليس مفهوما منه ، لأن المراد به ، وقوفهم بين يديه للحساب والجزاء ، وهو غير البعث الذي هو إحياء بعد الموت.

١٨ ـ قوله تعالى : (قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً) [الأنعام : ٣٧]. وقع جوابا لقولهم : (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ.)

فإن قلت : لو صحّ جوابا له ، لصحّ من كل من ادّعى النبوّة ، وطولب بآية أن يجيب بذلك؟!

قلت : يلتزم ذلك إن تثبت نبوّته بمعجزة ، كما ثبت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بها ، وإلّا فلا يصحّ الجواب بذلك.

١٩ ـ قوله تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) [الأنعام : ٣٨] الآية.

فائدة ذكر (فِي الْأَرْضِ) بعد دابة ، مع أنها لا تكون إلا في الأرض ، وذكر (يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) التأكيد ، كما في قوله تعالى : (لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ ،) أو زيادة التعميم والإحاطة.

٢٠ ـ قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ) [الأنعام : ٤٠] الآية. أي : أرأيتم آلهتكم تنفعكم إن أتاكم عذاب الله؟! وقد جمع في هذه الآية ونظيرتها بعد ، بين علامتي خطاب" التاء" و" الكاف" لمزيد الاهتمام للمراد ، والذي هو الاستئصال بالهلاك ، والتاء اسم إجماعا ، والكاف حرف خطاب عند البصريين.

٢١ ـ قوله تعالى : (فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ) [الأنعام : ٤٢].

قال ذلك هنا ، وقال في" الأعراف" : (يَضَّرَّعُونَ) بالإدغام. لأن ههنا وافق ما بعده ، وهو قوله : (جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا) ومستقبل تضرّعوا : يتضرّعون لا غير.

٢٢ ـ قوله تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ) [الأنعام :٤٦].

كرّره طلبا للرغبة في إيمان المذكورين ، إذ التّقدير : (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ

٩٠

الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ) أي يعرضون عنها ، فلا تعرض عنهم ، بل كررها لهم (لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) أي يفهمون.

وإنما ختم الأولى بقوله (ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ) والثانية بقوله (لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) لأن الإعراض عن الشيء ، أقبح من عدم فهمه ، فوصفوا بالأول في الآية الأولى ، تبعا لما وصفوا به قبلها من قسوة قلوبهم ، ونسيانهم ما ذكّروا به وغيرهما ، وذلك مفقود في الثانية.

٢٣ ـ قوله تعالى : (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ) [الأنعام : ٥٠] الآية ، كرّر فيها (لَكُمْ) لعدم ذكره قبلها وبعدها ، ولم يكرّره في آية هود ، اكتفاء بذكره قبلها مرتين : في قوله : (إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ) وقوله (وَما نَرى لَكُمْ) وبعدها مرّة في قوله : (أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ.)

٢٤ ـ قوله تعالى : (وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) [الأنعام : ٥٥].

ترك تعيين سبيل المؤمنين ، لعلمه من تبيين سبيل المجرمين.

٢٥ ـ قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ) [الأنعام : ٦٠] الآية.

أي : كسبتم فيه ، وخصّ النهار بالذّكر دون اللّيل ، لأن الكسب فيه أكثر ، لأنه زمن حركة الإنسان ، والليل زمن سكونه.

٢٦ ـ قوله تعالى : (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ) [الأنعام : ٦٢] الآية. أي : مولى جميع الخلق ، وهذا لا ينافي قوله : (وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) لأن المراد بالمولى هنا : المالك ، أو الخالق ، أو المعبود وثم الناصر.

٢٧ ـ قوله تعالى : (وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُ) [الأنعام : ٧٣] الآية. خصّ (قَوْلُهُ الْحَقُ) بيوم القيامة ، مع أنه لا يختصّ به ، لوجوده في الدنيا أيضا ، لأن ذلك اليوم ، ليس لغيره تعالى قول يرجع إليه ، بل قوله فيه هو الحقّ الذي لا يدفعه أحد من العباد ، لانكشاف الغطاء فيه ونظيره قوله تعالى : (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) [الانفطار : ١٩] مع أن الأمر في كل زمان.

٩١

ومثل ذلك يأتي في قوله : (وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) [الأنعام : ٧٣].

وأما ملك غيره في الدنيا ، فهو إنما يكون خلافة عنه ، وهبة منه وإنعاما ، بدليل قوله تعالى في حقّ" داود" عليه‌السلام : (وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ) [البقرة : ٢٥١].

٢٨ ـ قوله تعالى : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) [الأنعام : ٨٤] الآية.

إن قلت : كيف ذكر في معرض الامتنان من أولاد" إسحاق" ولم يذكر معه" إسماعيل" بل أخّره عنه بدرجات ، مع أنه أكبر منه؟

قلت : لأن إسحاق وهب له من حرّة ، وكانت عجوزا عقيما وإسماعيل من أمة فكانت المنّة في هبة إسحاق أظهر.

وقيل : لأن القصد هنا ذكر أنبياء بني إسرائيل ، وهم بأسرهم أولاد إسحاق ، وإسماعيل لم يخرج من صلبه نبيّ إلا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢٩ ـ قوله تعالى : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ) [الأنعام : ٩٠].

قاله هنا بدون تنوين ، وفي يوسف بالتنوين ، لأنه ذكر هنا قبل قوله (فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى) بلا تنوين ، فناسب ذكره هنا كذلك.

٣٠ ـ قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ) [الأنعام : ٩٣] الآية.

إن قلت : كيف قال في وصف القرآن ذلك ، مع أن كثيرا ممن يؤمن بالآخرة ، من اليهود والنّصارى وغيرهم لا يؤمن به؟!

قلت : معناه : والذين يؤمنون بالآخرة إيمانا نافعا مقبولا ، هم الذين يؤمنون به.

٣١ ـ قوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ) [الأنعام : ٩٣] الآية.

إن قلت : كيف أفرده بالذّكر ، مع دخوله في قوله قبل : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً؟)

قلت : إنما أفرده بالذّكر لأنه لمّا اختصّ بمزيد قبح من بين أنواع الافتراء ، خصّ بالذّكر ، تنبيها على مزيد العقاب فيه والإثم.

٩٢

٣٢ ـ قوله تعالى : (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِ) [الأنعام : ٩٥] الآية.

قال ذلك هنا ، وقال في" آل عمران" و" يونس" و" الروم" : (يُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) بالفعل.

لأنّ ما هنا وقع بعد اسم فاعل وهو : (فالِقُ) وقبل اسمي فاعل وهما : فالق ، وجاعل ، فناسب ذكر (مُخْرِجُ) لكونه اسم فاعل ، وخصّ بالاسم لتكرّر الاسمين بعده وخصّ (يُخْرِجُ الْحَيَ) قبله بالفعل ، إذ لم يتقدّمه إلا اسم واحد.

وما في بقية السّور لم يقع قبله وبعده إلا أفعال ، فناسب ذكره بالفعل.

٣٣ ـ قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) [الأنعام : ٩٨] الآية.

قاله هنا بلفظ (أَنْشَأَكُمْ) وفي غير هذه السورة بلفظ (خَلَقَكُمْ) لأن ما هنا موافق لقوله قبله (أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ) ولقوله بعده : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ) بخلاف البقية.

٣٤ ـ قوله تعالى : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [الأنعام : ١٠١].

فائدة ذكر قوله : (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ) فيها بعد قوله : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) جعله توطئة لقوله تعالى : (فَاعْبُدُوهُ) وأمّا قوله : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) فإنما ذكر استدلالا إلى نفي الولد.

٣٥ ـ قوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الأنعام : ١٠٣].

إن قلت : كيف خصّ الأبصار في الثاني بالذكر ، مع أنه تعالى يدرك كل شيء؟!

قلت : خصّه بالذكر لرعاية المقابلة اللفظية ، لأنها نوع من البلاغة.

٣٦ ـ قوله تعالى : (أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً) [الأنعام : ١١٤].

إن قلت : كيف قال : (إِلَيْكُمُ) ولم يقل : " إلى" مع أنه تعالى إنما قال :

٩٣

(وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ؟)

قلت : لما كان إنزاله لأجل تبليغهم ، كان كأنه أنزل إليهم.

٣٧ ـ قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ) [الأنعام : ١١٢].

قاله هنا بلفظ الرّب ، وبعده بلفظ الله ، لأنه هنا وقع بين آيات فيها ذكر الربّ مرّات ، وما بعد وقع بعد آيات فيها ذكر الله مرات ، ولهذا ذكر لفظ" الله" قبل ، في قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا) وبعد ، في قوله تعالى : (لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا.)

٣٨ ـ قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) [الأنعام : ١١٧].

قال ذلك هنا بلا" باء" وبالمضارع ، موافقة لقوله بعد : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ.)

وقال في" النّحل" و" النّجم" و" ن" : (بِمَنْ ضَلَ) بزيادة الباء وبالماضي ، عملا بزيادة الباء في مفعول (أَعْلَمُ) تقوية له لضعفه ، كما في قوله تعالى : (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) وقوله : (وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى) وعملا في الماضي بكثرة الاستعمال في قولهم : أعلم بمن دبّ ودرج ، وأحسن من قام وقعد ، وأفضل من حجّ واعتمر.

وحيث حذفت الباء ، أضمر فعل من مادة علم يعمل في المفعول ، لضعف أعلم عن العمل بلا تقوية ، وتقديره في الآية : يعلم من يضلّ.

٣٩ ـ قوله تعالى : (كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام : ١٢٢] المزّين لهم هو الله لقوله تعالى : (زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ) [النمل : ٤]. أو الشيطان لقوله تعالى : (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) [الأنفال : ٤٨].

وكلّ صحيح ، فالتزيين من الله بالإيجاد والخلق ، ومن الشيطان بالإغواء والوسوسة.

٤٠ ـ قوله تعالى : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) [الأنعام : ١٣٠] الآية.

فإن قلت : كيف قال ذلك ، والرسل إنما كانت من الإنس خاصة؟!

٩٤

قلت : بل ومن الجن أيضا على قول الضحاك والمقاتل ، أنه أرسل إليهم رسل ، وأمّا على قول غيرهما بمنع ذلك ، فالمراد برسل الجنّ ، الذين سمعوا القرآن من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم ولّوا إلى قومهم منذرين ، كما قال تعالى : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) [الأحقاف : ٢٩] الآية.

٤١ ـ قوله تعالى : (قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ) [الأنعام : ١٣٠].

كرّر شهادتهم على أنفسهم ، لاختلافها باختلاف المشهود به ، لأن الأولى شهادتهم بتبليغ الرسل إليهم ، والثانية شهادتهم بكفرهم.

فإن قلت : شهادتهم بكفرهم تضمنت إقرارهم به ، وهو مناف لجحدهم في قوله حكاية عنهم (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ)

قلت : مواقف القيامة مختلفة ، ففي موقف أقرّوا ، وفي آخر جحدوا.

أو المراد بشهادتهم : شهادة أعضائهم عليهم ، حين يختم على أفواههم ، كما قال تعالى : (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) [يس : ٦٥]. وبجحدهم : جحدهم بأفواههم قبل أن يختم عليها.

٤٢ ـ قوله تعالى : (قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ) [الأنعام : ١٣٥].

قاله هنا وفي مواضع بالفاء ، لأنه وقع جوابا بالأمر قبله.

وقال في أواخر" هود" بدون فاء ، لأنه لم يتقدّمه أمر ، فصار استئنافا ، أو صفة ل (عامِلٌ) أي إني عامل سوف تعلمون.

٤٣ ـ قوله تعالى : (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ) [الأنعام : ١٤٠] الآية.

إن قلت : ما فائدته بعد قوله : (سَفَهاً) مع أن السّفه لا يكون إلا بغير علم؟!

قلت : معنى قوله تعالى : (بِغَيْرِ عِلْمٍ) بغير حجّة.

٤٤ ـ قوله تعالى : (قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ.)

فائدته بعد قوله : (قَدْ ضَلُّوا) أنهم بعد ما ضلّوا ، لم يهتدوا مرّة أخرى.

٤٥ ـ قوله تعالى : (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ) [الأنعام : ١٤١].

٩٥

إن قلت : ما فائدة ذكره بعد قوله : (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ) مع أنّه معلوم أنه إنما يوكل من ثمره إذا أثمر؟

قلت : فائدته نفي توهم توقف إباحة أكله ، على بدوّ صلاحه.

٤٦ ـ قوله تعالى : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً) [الأنعام : ١٤٥] الآية.

أي : لا أجد فيه محرّما ، ممّا كانوا يحرّمونه في الجاهلية (إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً) إلى آخره ، وإلا ففي القرآن تحريم أشياء أخر غير ذلك ، كالرّبا ، وأكل مال اليتامى ومال الغير بالباطل.

٤٧ ـ قوله تعالى : (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) [الأنعام : ١٤٧].

فإن قلت : كيف قال في الجواب ذلك ، مع أنّ المحلّ محلّ عقوبة ، فكان الأنسب أن يقال : فقل ربّكم ذو عقوبة شديدة؟!

قلت : إنما قال ذلك نفيا للاغترار بسعة رحمته ، في الاجتراء على معصيته ، وذلك أبلغ في التهديد ، معناه : لا تغتروا بسعة رحمته ، فإنه مع ذلك لا يردّ عذابه عنكم.

٤٨ ـ قوله تعالى : (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : ١٤٨] الآية.

قال ذلك هنا ، وقال في النحل : (لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) [النحل : ٣٥].

بزيادة (مِنْ دُونِهِ) مرتين ، وزيادة (نَحْنُ ،) لأن الإشراك يدلّ على إثبات شريك لا يجوز إثباته ، وعلى تحريم أشياء من دون الله ، فلم يحتج إلى (مِنْ دُونِهِ) فحذف ، وتبعه في الحذف (نَحْنُ) طردا للتخفيف.

بخلاف العبادة فإنها غير مستنكرة ، وإنما المستنكر عبادة شيء مع الله ، ولا يدلّ لفظها على تحريم شيء ، كما دلّ عليه" أشرك" فلم يكن بدّ من تقييده بقوله : (مِنْ دُونِهِ) وناسب استيفاء الكلام فيه زيادة (نَحْنُ) وظاهر أنّ زيادة ذكر التحريم في آية : (لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا) تصريح بما أفاده لفظ (أَشْرَكْنا.)

٩٦

٤٩ ـ قوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) [الأنعام : ١٥١] الآية.

قال ذلك هنا ، وقال في الإسراء : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ) [الإسراء : ٣١].

قدّم هنا المخاطبين على الغائبين ، وعكس ثمّ ، لأن ظاهر قوله هنا : (مِنْ إِمْلاقٍ) أي : فقر ، أن الإملاق حاصل للوالدين المخاطبين ، لا توقّعه فبدئ بهم ، وظاهر قوله ثمّ : (خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) أن الإملاق متوقّع بهم وهم موسرون ، فبدئ بالأولاد ، فما هنا يفيد النهي للآباء عن قتل الأولاد وإن تلبّسوا بالفقر ، وما هناك يفيده وإن تلبّسوا باليسر.

٥٠ ـ قوله تعالى : (وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) [الأنعام : ١٥٢] الآية.

إن قلت : لم خصّ العدل بالقول ، مع أن الفعل إلى العدل أحوج ، فإن الضّرر الناشئ من الجور الفعلي ، أقوى من الضّرر الناشئ من الجور القوليّ؟

قلت : إنما خصّه بالقول ، ليعلم وجوب العدل في الفعل بالأولى ، كما في قوله تعالى : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) [الإسراء : ٢٣].

٥١ ـ قوله تعالى : (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [الأنعام : ١٥١].

ختم الآية الأولى بقوله : (تَعْقِلُونَ ،) والثانية بقوله : (تَذَكَّرُونَ ،) والثالثة بقوله : (تَتَّقُونَ.)

لأن الأولى اشتملت على خمسة أشياء عظام ، والوصيّة فيها أبلغ منها في غيرها ، فختمها بما في الإنسان من أعظم السجايا وهو" العقل" الذي امتاز به على سائر الحيوان.

والثانية : اشتملت على خمسة أشياء يقبح ارتكابها ، والوصيّة فيها تجري مجرى الزجر والوعظ ، فختمها بقوله : (تَذَكَّرُونَ) أي : تتعظون.

والثالثة : اشتملت على ذكر الصّراط المستقيم ، والتحريض على اتباعه واجتناب منافيه ، فختمها بالتقوى التي هي ملاك العمل ، وخير الزّاد.

٥٢ ـ قوله تعالى : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [الأنعام : ١٦٤].

٩٧

إن قلت : هو مناف لنحو قوله تعالى : (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) ولخبر" من عمل سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة" (١).

قلت : لا منافاة إذ الوزر في الآية الأولى ، محمول على من لم يتسبّب في الفعل بوجه ، وفيما عداها على من تسبّب فيه بوجه كالأمر به ، والدلالة عليه ، فعليه وزر مباشرته له ، ووزر تسبّبه فيه.

٥٣ ـ قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ) [الأنعام : ١٦٥] الآية.

قال ذلك هنا ، وقال في" يونس" و" فاطر" : (خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ) لأن ما ههنا تكرّر قبله ذكر المخاطبين مرات ، فعرّفهم بالإضافة ، وما في السورتين جاء على الأصل ، كما في قوله تعالى : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة : ٣٠] وقوله : (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) [الحديد : ٧].

٥٤ ـ قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) [الأنعام : ١٦٥].

وقال في الأعراف : (إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) باللّام في الجملتين ، لأنّ ما هنا وقع بعد قوله : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) وقوله : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ) فأتى باللّام المؤكدة في الجملة الثانية فقط ، ترجيحا للغفران على سرعة العقاب.

وما هناك وقع بعد قوله : (وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ) وقوله : (فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) فأتى باللّام في الجملة الأولى ، لمناسبة ما قبلها ، وفي الثانية تبعا للّام في الأولى.

فإن قلت : كيف قال : (سَرِيعُ الْعِقابِ) مع أنه حليم ، والحليم لا يعجّل بالعقوبة على من عصاه؟!

قلت : معنى" سريع" شديد ، أو المعنى : سريع العقاب إذا جاء وقته.

" انتهت سورة الأنعام"

__________________

(١) رواه مسلم فى قصه طويلة.

٩٨

الأعراف

١ ـ قوله تعالى : (كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) [الأعراف : ٢].

أي : ضيق في الكتاب أن تبلّغه مخافة أن تكذّب ، والنّهي في اللفظ للحرج ، والمراد المخاطب ، مبالغة في النهي عن ذلك ، كأنه قيل : لا تتسبّب في شيء ينشأ منه حرج ، وهو من باب" لا أرينّك ههنا" النهي في اللفظ للمتكلّم ، والمراد المخاطب ، أي لا تكن بحضرتي فأراك ، ومثله : (فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها) [طه : ١٦].

٢ ـ قوله تعالى : (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ) [الأعراف : ٤].

أي : أردنا إهلاكها.

٣ ـ قوله تعالى : (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الأعراف : ٨].

جمع ميزان القيامة مع أنه واحد ، باعتبار تعدّد ما يوزن به من الأعمال ، أو باعتبار أنه يقوم مقام موازين كثيرة ، لأنه يميز الذّرة وما هو كالجبال.

فإن قلت : الأعمال أعراض فكيف توزن؟!

قلت : يصيّرها الله أجساما ، أو الموزون صحائفها.

٤ ـ قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) [الأعراف : ١١].

أتى ب (ثُمَ) الثانية وهي للترتيب ، مع أنّ الأمر بالسجود لآدم ، كان قبل خلقنا وتصويرنا. لأن (ثُمَ) هنا للترتيب الإخباري ، أو لتفاوت ما بين نعمتي السجود له وما قبله ، لأن السجود له أكمل إحسانا ، وأتمّ إنعاما مما قبله.

أو المراد : ولقد خلقنا أباكم ثم صوّرناه ، بحذف مضاف.

٥ ـ قوله تعالى : (قالَ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) [الأعراف : ١٢] الآية.

قال ذلك هنا ، وقال في الحجر : (قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ

٩٩

السَّاجِدِينَ.) وفي (ص) : (قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) بزيادة (يا إِبْلِيسُ) فيهما.

لأن خطابه هنا قرب من ذكره ، فحسن حذف ذلك ، وفي تينك لم يقرب منه قربه هنا ، فحسن ذكره.

وأما قوله هنا وفي ص : (مَنَعَكَ) وفي الحجر (ما لَكَ ،) فتفنّن ، جريا على عادة العرب في تفنّنهم في الكلام.

وقوله (أَلَّا تَسْجُدَ) قال ذلك بزيادة (أَلَّا) كما في قوله تعالى : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) وقال في ص بحذفها ، وهو الأصل ، فزيادتها هنا لتأكيد معنى النّفي في (مَنَعَكَ.)

أو لتضمين (مَنَعَكَ) حملك ، وهي على الثاني ليست زائدة في المعنى.

٦ ـ قوله تعالى : (قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها) [الأعراف : ١٣ ـ ١٤].

أي : في السماء خصّها بالذّكر لأنها مقرّ الملائكة المطيعين ، الذين لا يعصون الله ، وإلّا فليس لإبليس أن يتكبّر في الأرض أيضا.

٧ ـ قوله تعالى : (قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [الأعراف : ١٤].

قاله هنا بحذف الفاء ، موافقة لحذف" يا إبليس" هنا. وقال في الحجر وص بذكرها ، موافقة لذكره ثمّ ، لما تضمّنه النداء من" أدعوك" وأناديك ، كما في قوله تعالى : (رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) [آل عمران : ١٦].

٨ ـ قوله تعالى : (قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) [الأعراف : ١٥].

قاله هنا بحذف الفاء موافقة لحذفها في السؤال هنا.

وقال في الحجر وص بذكرها موافقة لذكرها فيه ثمّ.

فإن قلت : كيف أجيب إبليس إلى الإنظار ، مع أنه إنما طلبه ليفسد أحوال عباد الله تعالى؟!

قلت : لما في ذلك من ابتلاء العباد ، ولما في مخالفته من أعظم الثواب.

٩ ـ قوله تعالى : (قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) [الأعراف : ١٦].

١٠٠