فتح الرّحمن شرح ما يلتبس من القرآن

زكريّا بن محمّد بن أحمد الأنصاري

فتح الرّحمن شرح ما يلتبس من القرآن

المؤلف:

زكريّا بن محمّد بن أحمد الأنصاري


المحقق: الدكتور يحيى مراد
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 978-2-7451-4012-4
الصفحات: ٣٦٠

قاله هنا بالواو ، وفي الشورى (١) بالفاء ، لأنّ ما هنا لم يتعلّق بما قبله كبير تعلق ، فناسب الإتيان به بالواو ، المقتضية لمطلق الجمع ، وما هناك متعلّق بما قبله أشدّ تعلّق ، لأنه عقب ما لهم من المخافة ، بما لهم من الأمنة ، فناسب الإتيان به بالفاء ، المقتضية للتعقيب.

١٣ ـ قوله تعالى : (فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها ..) [القصص : ٦٠].

قال هنا بزيادة (وَزِينَتُها) وفي الشورى بحذفه ، لأنّ ما هنا لسبقه ، قصد فيه ذكر جميع ما بسط من رزق أعراض الدنيا ، فذكر" وزينتها" مع المتاع ، ليستوعب جميع ذلك ، إذ المتاع ما لا بدّ منه في الحياة ، من مأكول ، ومشروب ، وملبوس ، ومسكن ، ومنكوح ، والزينة ما يتجمل به الإنسان ، وحذفه في الشورى اختصارا.

١٤ ـ قوله تعالى : (فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ) [القصص : ٦٤].

جوابه محذوف تقديره : لما رأوا العذاب ، ولا يصح أن يكون جوابها ما قبلها ، لأنّ من يرى العذاب يكون ضالا لا مهتديا.

١٥ ـ قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ..) [القصص : ٧٢] الآيتين.

ختم آية الليل بقوله : (أَفَلا تَسْمَعُونَ؟) وآية النهار بقوله : (أَفَلا تُبْصِرُونَ؟) لمناسبة الليل المظلم الساكن للسّماع ، ومناسبة النهار النيّر للإبصار.

وإنّما قدّم الليل على النهار ، ليستريح الإنسان فيه ، فيقوم إلى تحصيل ما هو مضطر إليه ، من عبادة وغيرها بنشاط وخفّة ألا ترى أن الجنة نهارها دائم ، إذ لا تعب فيها يحتاج إلى ليل يستريح أهلها فيه؟

١٦ ـ قوله تعالى : (وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ) .. (وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) [القصص : ٨٢].

(وَيْكَأَنَ) : أعاده بعد لاتصال كلّ منهما ، بما لم يتّصل به الآخر ، " وي" قال سيبويه كغيره : إنها صلة ، وهي كلمة تدلّ على النّدم ، وقال الأخفش : أصلها" ويك"

__________________

(١) في الشورى (فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى) (٣٦).

٢٢١

و" أنّ" بعده منصوب بإضمار اعلم أي اعلم أنّ الله ، فعلى الأول يوقف على" وي" وبه قرأ الكسائي ، وعلى الثاني يوقف على" ويك" وبه قرأ أبو عمرو ، والجمهور يقفون على (وَيْكَأَنَ) تبعا للرّسم ، ويجوّزون الوقف عليه بهاء السكت.

" تمت سورة القصص"

٢٢٢

سورة العنكبوت

١ ـ قوله تعالى : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً ..) [العنكبوت : ٨]. أي برّا ذا حسن.

ذكره هنا ، وفي الأحقاف (إِحْساناً) (١) وحذفه في لقمان (٢) ، مع أنّ الثلاثة نزلت في" سعد بن مالك" وهو" سعد بن أبي وقاص" على خلاف فيه ، لأن الوصية هنا وفي الأحقاف جاءت في سياق الإجمال ، وفي لقمان جاءت مفصّلة لما تقدمها من تفصيل كلام لقمان لابنه ، ولأن قوله بعدها (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ) قائم مقامه ، فحسن حذفه.

٢ ـ قوله تعالى : (وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما ..) [العنكبوت : ٨].

قال ذلك هنا ، وقال في لقمان (عَلى أَنْ تُشْرِكَ) موافقة هنا لفظا ، للفظ اللام في قوله : (وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ) وحملا للمعنى بطريق التضمين في لقمان ، إذ التقدير : وإن حملاك على أن تشرك بي.

٣ ـ قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً ..) [العنكبوت : ١٤].

إن قلت : ما فائدة العدول إلى ما قاله ، عن تسعمائة وخمسين ، مع أنه عادة الحساب؟

قلت : فائدته تسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذ القصة مسوقة لتسليته بما ابتلي به نوح عليه الصلاة والسلام ، من مكابدة أمته في أطول المدد ، فكان ذلك أقصى العقود ، التي لا عقد أكثر منه في مراتب العدد ، أفخر وأفضى إلى المقصود ، وهو استطالة التّسامح مدة صبره ، وفيه فائدة أخرى ، وهي نفي توهّم إرادة المجاز ، بإطلاق لفظ تسع المائة والخمسين على أكثرها ، فإن هذا التوهم مع ذكر الألف والاستثناء منتف أو أبعد.

وجاء المميز الأول بلفظ" السنة" والثاني بلفظ" العام" لكراهة التكرار.

٤ ـ قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً

__________________

(١) في الأحقاف (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً) (١٥).

(٢) في لقمان (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ) (١٤).

٢٢٣

فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ ..) [العنكبوت : ١٧] الآية.

نكّر الرزق أوّلا ، ثمّ عرّفه ثانيا ، لأنه أراد بذلك أن الذين تعبدون من دون الله ، لا يستطيعون أن يرزقوكم شيئا من الرزق ، فاتبعوا عند الله الرزق كله ، فإنه هو الرزّاق لا غيره.

٥ ـ قوله تعالى : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ ..) [العنكبوت : ٢٠] الآية.

إن قلت : كيف أضمر لفظ" الله" أولا ، ثم أظهره ثانيا مع أن القياس العكس؟

قلت : تنبيها على عظم إنشائهم أي إعادتهم ، لأنها التي ينكرها الكافر ، فناسب ذكر الظاهر للإيضاح.

٦ ـ قوله تعالى : (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ ..) [العنكبوت : ٢٢] الآية.

قال ذلك هنا ، واقتصر في الشورى (١) على (فِي الْأَرْضِ) لأن ما هنا خطاب لقوم فيهم" النمرود" الذي حاول الصعود إلى السماء ، فأخبرهم بعجزهم وأنهم لا يفوتون الله ، لا في الأرض ، ولا في السماء ، وما في الشورى خطاب لمن لم يحاول الصعود إلى السماء ، وقيل : خطاب للمؤمنين بقرينة قوله : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) وقد حذفا معا للاختصار ، في قوله في الزمر : (وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ.)

٧ ـ قوله تعالى : (فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [العنكبوت : ٢٤].

قاله هنا بالجمع ، وقاله بعد في قوله (خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) بالتوحيد ، لأن ما هنا إشارة إلى إثبات النبوّة القائمة بالنبيّين ، وهم كثيرون فناسب الجمع ، وما بعد إشارة إلى التوحيد القائم بواحد ، وهو الله لا شريك له.

٨ ـ قوله تعالى : (وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) [العنكبوت : ٢٧].

__________________

(١) في الشورى (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) (٣١).

٢٢٤

إن قلت : قال ذلك في معرض المدح لإبراهيم عليه‌السلام ، أو الامتنان عليه ، وأجر الدنيا فان منقطع بخلاف أجر الآخرة ، فكيف ذكره دون أجر الآخرة؟!

قلت : بل ذكره أيضا في قوله (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) إذ المعنى : إن له في الآخرة أجر الصالحين وافيا كاملا ، لكن أخّره موافقة للفواصل ، وأجره في الدنيا قيل : هو الثناء الحسن ، والمحبّة من الناس ، وقيل : هو البركة التي باركها الله تعالى فيه وفي ذريته.

٩ ـ قوله تعالى : (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) [العنكبوت : ٤٦].

إن قلت : كيف قال : (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا) مع أن جميع أهل الكتاب ظالمون ، لأنهم كافرون قال تعالى : (وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [البقرة : ٢٥٤]؟!

قلت : المراد بالظلم هنا : الامتناع عن قبول عقد الذمّة ، أو نقض العهد بعد قبوله.

١٠ ـ قوله تعالى : (فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها) [العنكبوت : ٦٣] الآية.

قاله هنا بذكر (مَنْ) وفي البقرة (١) ، والجاثية (٢) بحذفها ، موافقة لما قبله هنا في قوله (مِنْ عِبادِهِ) و (مِنَ السَّماءِ) بخلاف ذلك في البقرة والجاثية.

١١ ـ قوله تعالى : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا ..) [العنكبوت : ٦٩] الآية. إن قلت : المجاهدة في دين الله إنما تكون بعد الهداية ، فكيف جعل الهداية من ثمرتها؟ قلت : معناه جاهدوا في طلب العلم ، لنهدينهم سبلنا بمعرفة الأحكام وحقائقها ، أو جاهدوا في نيل درجة ، لنهدينهم إلى أعلى منها ، قال تعالى : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) [محمد : ١٧] وقال تعالى : (وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً) [مريم : ٧٦].

" تمت سورة العنكبوت"

__________________

(١) في البقرة (وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) (١٦٤).

(٢) في الجاثية (وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) (٥).

٢٢٥

سورة الرّوم

١ ـ قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ..) [الروم : ٩].

قاله هنا ، وفي فاطر ، وأول المؤمن بالواو ، وفي آخرها ، بالفاء (١) ، لأن ما هنا موافق لما قبله وهو : (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا) ولما بعده وهو : (وَأَثارُوا الْأَرْضَ) وما في فاطر موافق أيضا لما قبله وهو (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً) ولما بعده وهو (وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ) وما في أول المؤمن موافق لما قبله وهو : (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) وما في آخرها موافق لما قبله وهو (فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ) وما بعده وهو : (فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) فناسب فيه الفاء ، وفي الثلاثة قبله الواو.

٢ ـ قوله تعالى : (فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً ..) [الروم : ٩].

قاله هنا بحذف (كانوا) قبل قوله : (مِنْ قَبْلِهِمْ) وحذف الواو بعده ، وقاله في فاطر (٢) بحذف (كانوا) أيضا وبذكر الواو.

وفي أوائل غافر (٣) بذكر (كانُوا) دون الواو ، وزيادة (قَبْلِهِمْ) وفي أواخرها بحذف الجميع ، لأن ما في أوائلها وقع فيه قصة نوح وهي مبسوطة فيه ، فناسب فيه البسط ، وحذف الجميع في أواخرها اختصارا ، لدلالة ذلك عليه ، وما هنا وفي فاطر موافقة لذكرها قبل وبعد.

٣ ـ قوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها ..) [الروم : ٢١] الآية.

ختمها بقوله : (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) لأن الفكر يؤدي إلى الوقوف على المعاني المطلوبة ، من التّوانس والتّجانس بين الأشياء كالزوجين.

__________________

(١) في آخر سورة المؤمن (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) (٨٢).

(٢) في فاطر (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) (٤٤).

(٣) في غافر (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) (٢١).

٢٢٦

ثم قال : (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الآية وختمها بقوله : (لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ) لأن الكل يظلّهم السماء ، ويقلّهم الأرض ، وكلّ منهم متميّز بلطيفة يمتاز بها عن غيره ، وهذا يشترك في معرفة جميع العالمين.

ثم قال : (وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ) وختمها بقوله : (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) لأن من يسمع سماع تدبّر ، أن النوم من صنع الله الحكيم ، لا يقدر على اجتلابه إذا امتنع ، ولا على رفعه إذا ورد ، يعلم أنّ له صانعا مدبرا.

ثم قال : (وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً) وختمها بقوله : (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) لأن العقل ملاك الأمر ، وهو المؤدي إلى العلم ـ فيما ذكر ـ وغيره.

٤ ـ قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم : ٢٧] الآية.

الضمير فيه مع أنه راجع إلى الإعادة ، المأخوذة من لفظ (يُعِيدُهُ) في قوله : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) نظرا إلى المعنى دون اللفظ ، وهو رجعه أو ردّه ، كما نظر إلى المعنى في قوله : (لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً ،) أي مكانا ميتا.

٥ ـ قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ ..) [الروم : ٣٧] الآية.

قاله هنا بلفظ : (أَوَلَمْ يَرَوْا) وفي الزمر بلفظ : (أَوَلَمْ يَعْلَمُوا) لأن بسط الرزق مما يرى ، فناسب ذكر الرؤية ، وما في الزمر تقدّمه : (أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ) فناسب ذكر العلم.

٦ ـ قوله تعالى : (وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ ..) [الروم : ٤٦].

قال ذلك هنا ، وقال في الجاثية بزيادة" فيه" ، لأنّ ما هنا لم يتقدّمه مرجع الضمير ، وثمّ تقدّم له مرجع وهو البحر ، حيث قال : (اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ.)

٧ ـ قوله تعالى : (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ) [الروم : ٤٩].

فائدة ذكر (مِنْ قَبْلِهِ) بعد قوله : (مِنْ قَبْلِ) التأكيد ، وقيل : الضمير لإرسال الرياح أو للسحاب فلا تكرار.

٨ ـ قوله تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ..) [الروم : ٥٤] الآية.

٢٢٧

إن قلت : كيف قال ذلك ، مع أن الضّعف صفة ، والمخاطبون لم يخلقوا من صفة بل من عين ، وهي الماء أو التراب؟

قلت : المراد بالضعف" الضعيف" ، من إطلاق المصدر على اسم الفاعل ، كقولهم : رجل عدل أي عادل ، فمعناه من ضعيف وهو النطفة.

٩ ـ قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ ..) [الروم : ٥٦] ، أي لبثتم في قبوركم في علم كتاب الله ، أو في خبره ، أو في قضاء الله.

١٠ ـ قوله تعالى : (فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) [الروم : ٥٧] ، أي لا يطلب منهم الإعتاب أي الرجوع إلى الله تعالى.

إن قلت : كيف قال ذلك ، مع قوله في فصلت : (وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ) حيث جعلهم مطلوبا منهم الإعتاب ، وثمّ طالبين له؟!

قلت : معنى قوله : (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) أي ولا هم يقالون عثراتهم ، بالردّ إلى الدنيا ، ومعنى قوله : (وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ) أي إن يستقيلوا فما هم من المقالين ، فلا تنافي.

" تمت سورة الروم"

٢٢٨

سورة لقمان

١ ـ قوله تعالى : (وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً ..) [لقمان : ٧].

قال هنا بزيادة (كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً) وفي الجاثية (١) بحذفه ، مع أنهما نزلا في" النضر بن الحارث" حيث كان يعدل عن سماع القرآن ، إلى اللهو وسماع الغناء ، لأنه تعالى بالغ في ذمة هنا ، فناسب زيادة ذلك ، بخلاف ما في الجاثية.

٢ ـ قوله تعالى : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ) [لقمان : ١٤] الآيتين.

إن قلت : كيف وقعت الآيتان في أثناء وصية لقمان لابنه؟

قلت : هما من الجمل الاعتراضية ، التي لا محل لها من الإعراب ، اعترض بها بين كلامين متصلين معنى ، تأكيدا لما في وصية لقمان لابنه من النهي عن الشرك.

فإن قلت : لم فصل بين الوصية ومفعولها بقوله : (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ؟)

قلت : تخصيصا للأم بزيادة التأكيد في الوصية ، لما تكابده من المشاقّ.

٣ ـ قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ) [لقمان : ٢٧].

إن قلت : المطابق لأولها أن يقال : وما في الأبحر من ماء مداد ، فلم عدل عنه إلى قوله : (وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ؟)

قلت : استغنى عن المداد بقوله : (يَمُدُّهُ) من مدّ الدواة وأمدّها أي زادها مدادا ، فجعل البحر المحيط بمنزلة الدّواة ، والأبحر السبعة مملوءة مدادا أبدا لا تنقطع ، فصار نظير ما قلتم ، ونظير قوله تعالى : (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي) [الكهف : ١٠٩] الآية ، وأشار ب (" لَوْ") إلى أن البحار غير موجودة ، أي لو مدّت البحار الموجودة سبعة أبحر أخرى ، وذكر السبعة ليس للحصر بل للمبالغة ، وإنما خصّت بالذّكر لكثرة ما يعدّ بها ، كالكواكب السيارة ، والسموات والأرضين

__________________

(١) في الجاثية (يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٨).

٢٢٩

وغيرها ، ولأنها عدد تنحصر فيه المعدودات الكثيرة ، إذ كلّ أحد يحتاج في حاجته إلى زمان ومكان ، والزمان منحصر في سبعة أيام ، والمكان في سبعة أقاليم.

فإن قلت : المقصود هنا التفخيم والتعظيم ، فكيف أتى بجمع القلة في قوله : (لِكَلِماتِ رَبِّي؟)

قلت : جمع القلة هنا أبلغ في المقصود ، لأن جمع القلّة إذا لم ينفد بما ذكر من الأقلام والمداد ، فكيف ينفد به جمع الكثرة؟!

٤ ـ قوله تعالى : (كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ..) [لقمان : ٢٩] الآية.

قاله هنا بلفظ (إِلى) وفي فاطر (١) ، والزمر بلفظ اللام ، لأن ما هنا وقع بين اثنتين دالّتين على غاية ما ينتهي إليه الخلق ، وهما قوله تعالى : (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ) وقوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً) الآية ، فناسب ذكر (" إِلى ") الدالة على الانتهاء ، والمعنى لا يزال كلّ من الشمس والقمر جاريا ، حتى ينتهي إلى آخر وقت جريه المسمّى له ، وما في فاطر والزمر خال عن ذلك ، إذ ما في فاطر لم يذكر مع ابتداء خلق ولا انتهاء به ، وما في الزمر ذكر مع ابتداء به فناسب ذكر اللام المعدّية ، والمعنى : يجري كل مما ذكر لبلوغ أجل.

٥ ـ قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ ..) [لقمان : ٣٤] الآية.

أضاف فيها العلم إلى نفسه في الثلاثة من الخمسة المذكورة ، ونفى العلم عن العباد في الأخيرين منها ، مع أن الخمسة سواء في اختصاص الله تعالى بعلمها ، وانتفاء علم العباد بها ، لأن الثلاثة الأول أمرها أعظم وأفخم ، فخصّت بالإضافة إليه تعالى ، والأخيرين من صفات العباد ، فخصّا بالإضافة إليهم ، مع أنه إذا انتفى عنهم علمهما ، كان انتفاء علم ما عداها من الخمسة أولى.

فإن قلت : لم قال تعالى : (بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) ولم يقل : بأيّ وقت تموت ، مع أن كلا منهما غير معلوم لغيره ، بل نفي العلم بالزمان أولى ، لأن من الناس من يدّعي علمه ، بخلاف المكان؟

قلت : إنما خص المكان بنفي علمه ، لأن الكون في مكان دون مكان في وسع

__________________

(١) في فاطر (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ..) (١٣).

٢٣٠

الإنسان واختياره ، فاعتقاده علم مكان موته أقرب ، بخلاف الزمان ، ولأن للمكان دون الزمان تأثيرا في جلب الصحة والسّقم ، أو تأثيره فيهما أكثر.

" تمت سورة لقمان"

٢٣١

سورة السّجدة

١ ـ قوله تعالى : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ ..) [السجدة : ٥] الآية.

إن قلت : لم قال هنا : (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ) وفي المعارج : (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ؟!)

قلت : المراد باليوم هنا ، مدّة عروج الله تعالى : ـ أي عروج تدبيره وأمره ـ من الأرض إلى السماء الدنيا ، وبه تمّ عروج الملائكة من الأرض إلى العرش.

أو المراد به في الموضعين : " يوم القيامة" ومقداره ألف سنة من حساب أهل الدنيا ، إذا تولّى الحساب فيه الله تعالى ، وخمسين ألف سنة لو تولّى فيه الحساب غير الله تعالى.

أو المراد : أنه كألف سنة في حقّ خواصّ المؤمنين ، وخمسين ألف سنة في حقّ عوامّهم.

أو المراد : أنه كألف سنة في حقّ المؤمن ، وخمسين ألف سنة في حقّ الكافر.

٢ ـ قوله تعالى : (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ) [السجدة : ٧] بسكون اللام وفتحها.

إن قلت : كيف قال ذلك ، مع أن في مخلوقاته تعالى قبيحا ، كالشرور والمعاصي؟

قلت : (أَحْسَنَ) بمعنى أتقن وأحكم ، أو (أَحْسَنَ) بمعنى : علم ، كما يقال : فلان لا يحسن شيئا أي لا يعلمه ، فمعناه بسكون اللام : علم خلق كل شيء ، وبفتحها : علم كلّ شيء خلقه.

٣ ـ قوله تعالى : (ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) [السجدة : ٨].

قاله هنا بلفظ : (مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) وفي المؤمنون : (مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ،) لأنّ المذكور هنا صفة ذرّية آدم عليه‌السلام.

٤ ـ قوله تعالى : (ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ..) [السجدة : ٩] الآية.

المراد ب (رُوحِهِ :) جبريل ، وإلا فالله منزّه عن الروح ، الذي يقوم به الجسد ، وتكون به الحياة ، وأضافه إلى نفسه تشريفا ، وإشعارا بأنه خلق عجيب ، مناسب للمقام.

٢٣٢

٥ ـ قوله تعالى : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ..) [السجدة : ١١] الآية.

هو" عزرائيل" عليه‌السلام ، قال ذلك هنا ، وقال في الأنعام : (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) وفي الزمر (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) ولا منافاة ، لأن الله هو المتوفّي حقيقة ، بخلقه الموت ، وبأمر الوسائط بنزع الروح وهم غير ملك الموت أعوان له ـ ينزعونها من الأظافير إلى الحلقوم ، وملك الموت ينزعها من الحلقوم ، فصحّت الإضافات كلّها.

٦ ـ قوله تعالى : (إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً ..) [السجدة : ١٥] الآية.

إن قلت : كيف قال ذلك ، مع أن المؤمنين ليسوا منحصرين فيمن اتّصف بهذه الصّفة ، ولا هذه الصّفة شرط في تحقيق الإيمان؟!

قلت : المراد ب (ذُكِّرُوا :) وعظوا ، وبالسجود : الخشوع ، والخضوع ، والتواضع في قبول الموعظة ، وذلك شرط في تحقيق الإيمان.

أو المراد بالمؤمن : الكامل إيمانا.

٧ ـ قوله تعالى : (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ) [السجدة : ١٨].

المراد بالفاسق هنا : الكافر ، بقرينة التفصيل بعده ، وإلا فالفاسق مؤمن ، ونظيره قوله تعالى : (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ) [القلم : ٣٥] وقوله : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [الجاثية : ٢١] الآية ، إذ ليس كلّ مجرم ومسيء كافر.

٨ ـ قوله تعالى : (وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) [السجدة : ٢٠].

قال ذلك هنا ، وقال في سبأ : (عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) [سبأ : ٤٢].

ذكّر الوصف والضمير هنا ، نظرا للمضاف وهو العذاب ، وأنّثهما ثمّ نظرا للمضاف إليه وهو النّار ، وخصّ ما هنا بالتذكير ، لأن النّار وقعت موقع ضميرها

٢٣٣

لتقدّم ذكره ، والضمير لا يوصف فناسب التذكير ، وفي سبأ لم يتقدّم ذكر النّار ولا ضميرها ، فناسب التأنيث.

٩ ـ قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [السجدة : ٢٨].

إن قلت : هذا سؤال عن وقت الفتح ـ وهو يوم القيامة ـ فكيف طابقه الجواب بقوله : (قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ؟!)

قلت : لمّا كان سؤالهم سؤال تكذيب واستهزاء بيوم القيامة ، لا سؤال استفهام ، أجيبوا بالتهديد المطابق للتكذيب والاستهزاء ، لا ببيان حقيقة الموقّت ، وإن فسّر الفتح ب" فتح مكة" أو بيوم بدر ، كان المراد أن المتولّين لم ينفعهم إيمانهم حال القتل كإيمان فرعون ، بخلاف الطلقاء الذين آمنوا بعد الأسر ، فالجواب بذلك مطابق للسؤال من غير تأويل.

" تمت سورة السجدة"

٢٣٤

سورة الأحزاب

١ ـ قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) [الأحزاب : ١].

لم يقل في ندائه" يا محمّد" كما قال في نداء غيره" يا موسى ، يا عيسى ، يا داود" بل عدل إلى (يا أَيُّهَا النَّبِيُ) إجلالا له وتعظيما ، كما قال : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ) [الأحزاب : ٦] وإنما عدل عن وصفه إلى اسمه في الإخبار عنه في قوله : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ) وقوله (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ) ليعلم الناس أنه رسول الله ، ليلقّبوه بذلك ويدعوه به.

٢ ـ قوله تعالى : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) [الأحزاب : ٦].

أي : لي الحرمة والاحترام ، وإنما جعلهنّ الله كالأمهات ، ولم يجعل نبيّه كالأب ، حتى قال : (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ ؛) لأنه تعالى أراد أن أمته ، يدعون أزواجه بأشرف ما تنادى به النساء وهو الأمّ ، وأشرف ما ينادى به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لفظ" الرسول" لا الأب ، ولأنه تعالى جعلهن كالأمهات ، إجلالا لنبيّه ، لئلا يطمع أحد في نكاحهن بعده ، ولو جعله أبا للمؤمنين ، لكان أبا للمؤمنات أيضا فيحرمن عليه ، وذلك ينافي إجلاله وتعظيمه ، لأنه تعالى جعله أولى بنا من أنفسنا ، وذلك أعظم من الأب في القرب والحرمة ، إذ لا أقرب للإنسان من نفسه ولأن من الآباء من يتبرأ من ابنه ، ولا يمكنه أن يتبرأ من نفسه.

٣ ـ قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ ..) [الأحزاب : ٧] الآية.

فيها عطف الخاصّ على العامّ ، وقدّم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الذكر ، على مشاهير الأنبياء ، لبيان شرفه وفضله عليهم ، صلّى الله وسلم عليهم أجمعين ، وإنما قدّم نوح في آية : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) [الشورى : ١٣] ؛ لأنها سيقت لوصف ما بعث به نوح من العهد القديم ، وما بعث به نبيّنا من العهد الحديث ، وما بعث به من توسّطهما من الأنبياء المشاهير ، فكان تقديم نوح فيها أشدّ مناسبة للمقصود.

٤ ـ قوله تعالى : (وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) [الأحزاب : ٧].

٢٣٥

فائدة إعادته التأكيد ، أو المراد بالميثاق الغليظ : هو اليمين بالله تعالى ، على الوفاء بما حمّلوا ، وعليه فلا إعادة لاختلاف الميثاقين.

٥ ـ قوله تعالى : (وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) [الأحزاب : ٢٤] الآية.

إن قلت : كيف علّق عذابهم بمشيئته ، مع أن عذابهم متيقّن الوقوع ؛ لقوله تعالى (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) [النساء : ١٤٥]؟!

قلت : معناه إن شاء عذابهم ـ وقد شاء ـ أو إن شاء موتهم على النفاق.

٦ ـ قوله تعالى : (يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ..) [الأحزاب : ٣٠] الآيتين.

المراد بالفاحشة : النشوز وسوء الخلق.

إن قلت : لم خصّ الله تعالى نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتضعيف العقوبة على المذنب ، والمثوبة على الطاعة؟

قلت : أما الأول فلأنهن يشاهدن من الزواجر الرادعة عن الذنوب ، ما لا يشاهده غيرهنّ ، ولأنّ في معصيتهنّ أذى لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذنب من أذى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعظم من ذنب غيره.

وأما الثاني : فلأنهنّ أشرف من سائر النساء ، لقربهنّ من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكانت الطاعة منهنّ أشرف ، كما أن المعصية منهنّ أقبح.

٧ ـ قوله تعالى : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) [الأحزاب : ٣٥] الآية.

إن قلت : لم عطف أحدهما على الآخر ، مع أنّهما متّحدان شرعا؟!

قلت : ليسا بمتّحدين مطلقا ، بل هما متّحدان صدقا لا مفهوما ، أخذا من الفرق بين الإسلام والإيمان الشرعيّين ، إذ الإسلام الشرعيّ : هو التلفّظ بالشهادتين ، بشرط تصديق القلب بما جاء به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والإيمان الشرعيّ : عكس ذلك ، ويكفي في العطف المقتضي للاختلاف ، اختلافهما مفهوما وإن اتحدا صدقا.

٨ ـ قوله تعالى : (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ ..) [الأحزاب : ٤٠] الآية.

٢٣٦

هو جواب عن سؤال مقدّر ، تقديره : أمحمد أبو زيد بن حارثة؟ فأجيب بنفي الأعمّ المستلزم لنفي الأخصّ ؛ إذ لو اقتصر على قوله : ما كان محمد أبا زيد لقيل : وماذا يلزم منه؟ فقد كان للأنبياء أبناء ، فجيء بنفي الأعمّ ، تمهيدا للاستدراك بأنه رسول الله وخاتم النبيّين.

إن قلت : كيف صحّ نفي الأبوّة عنه ، وكان أبا للطيّب ، والطّاهر ، والقاسم ، وإبراهيم؟

قلت : قد قيّد النفي بقوله : (مِنْ رِجالِكُمْ ،) لأن إضافة الرجال إلى المخاطبين ، تخرج أبناءه لأنهم رجاله لا رجالهم ، ولأن المفهوم منهم بقرينة المقام الرجال البالغون ، وأبناؤه ليسوا كذلك ، إذ لو كان له ابن بالغ لكان نبيا ، فلا يكون هو خاتم النّبيّين.

فإن قلت : كيف قال تعالى : (وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) وعيسى عليه‌السلام ينزل بعده وهو نبيّ؟

قلت : معنى كونه (خاتَمَ النَّبِيِّينَ :) أنه لا يتنبّأ أحد بعده ، وعيسى نبيّ قبله ، وحين ينزل عاملا بشريعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٩ ـ قوله تعالى : (وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً) [الأحزاب : ٤٦].

إن قلت : كيف شبّه الله تعالى نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالسراج دون الشمس مع أنها أتمّ؟

قلت : المراد بالسّراج هنا : الشمس ، كما قال تعالى : (وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) [نوح : ١٦]. أو شبّهه بالسراج لأنه تفرّع منه بهدايته جميع العلماء ، كما يتفرع من السراج سرج لا تحصى ، بخلاف الشمس.

١٠ ـ قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ ..) [الأحزاب : ٤٩] الآية.

التقييد بالمؤمنات خرج مخرج الغالب ، وإلا فالكتابيات مثلهنّ فيما ذكر في الآية.

١١ ـ قوله تعالى : (وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ ..) [الأحزاب : ٥٠] الآية.

أفرد العمّ والخال ، وجمع العمّات والخالات ، لأن العمّ والخال بوزن مصدرين

٢٣٧

وهما" الضمّ" و" المال" والمصدر يستوي فيه المفرد والجمع ، بخلاف العمة والخالة ، ولا يرد على ذلك جمع العمّ والخال : (أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ) في قوله في" النور" : لأنهما ليسا مصدرين حقيقة ، فاعتبر هنا حقيقتهما ، وثمّ شبههما.

١٢ ـ قوله تعالى : (لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ ..) [الأحزاب : ٥٥] الآية.

إن قلت : كيف ذكر فيها الأقارب ولم يذكر العمّ والخال ، مع أن حكمها حكمهم في رفع الجناح؟!

قلت : قد مرّ مثل هذا السؤال وجوابه في قوله : (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَ) [النور : ٣١] الآية ، فراجعه.

١٣ ـ قوله تعالى : (وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا ..) [الأحزاب : ٦٧].

عطف الأول على الثاني ، مع أنهما بمعنى ، لتغايرهما لفظا ، كقولهم : فلان عاقل لبيب ، وقول الشاعر :

" معاذ الله من كذب ومين" وتقدّم نظيره.

١٤ ـ قوله تعالى : (فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) [الأحزاب : ٧٢].

إن قلت : الإنسان هنا آدم عليه‌السلام ، فكيف وصفه بظلوم وجهول ، وهما صفتا مبالغة؟

قلت : لأنه لجلالة قدره ، ورفعة محلّه ، كان ظلمه لنفسه ـ بما حمله وجهله به وإن قلّ ـ أفحش من غيره ، أو لتعدّي ضررهما لجميع الناس ، لإخراجهم من الجنة بواسطته.

" تمت سورة الأحزاب"

٢٣٨

سورة سبأ

١ ـ قوله تعالى : (أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ..) [سبأ : ٩] الآية.

" ما بين يدي الإنسان" : كلّ ما يقع نظره عليه من غير أن يحوّل وجهه إليه. " وما خلفه" : هو كلّ ما يقع نظره عليه ، حتى يحوّله إليه فيعم الجهات كلها.

فإن قلت : هلّا ذكر الأيمان والشمائل كما ذكرها في قوله : (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) [الأعراف : ١٧]

قلت : لأنه وجد هنا ما يغني عن ذكرهما ، من لفظ العموم والسماء والأرض بخلافه ثمّ.

٢ ـ قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) [سبأ : ٩].

قاله هنا بتوحيد" الآية" وقال بعده : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) بجمعها ، لأنّ ما هنا إشارة إلى إحياء الموتى ، فناسب التوحيد. وما بعد إشارة إلى" سبأ" قبيلة تفرّقت في البلاد ، فصارت فرقا فناسب الجمع.

٣ ـ قوله تعالى : (يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ) [سبأ : ١٣].

أي : نقوشا من أبنية ، أو صورا من نحاس ، أو زجاج ، أو رخام.

إن قلت : كيف أجاز سليمان عليه‌السلام عمل الصّور؟!

قلت : يجوز أن يكون عملها جائزا في شريعته ، وأن تكون غير صور الحيوان وهو جائز في شريعتنا أيضا.

٤ ـ قوله تعالى : (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ ..) [سبأ : ١٥] الآية.

وحّد الآية مع أن الجنتين آيتان ، لتماثلهما في الدلالة ، واتحاد جهتهما ، كقوله تعالى : (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) [المؤمنون : ٥٠].

٥ ـ قوله تعالى : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ..) [سبأ : ٢٤].

إن قلت : ما معنى التشكيك في ذلك؟!

قلت : هذا من إجراء المعلوم مجرى المجهول ، بطريق اللّفّ والنشر المرتّب ، و" أو" في الموضعين بمعنى الواو ، والتقدير : وإنّا لعلى هدى ، وأنتم في ضلال مبين ، وإنما جاء

٢٣٩

بذلك لإرادة الإنصاف في الجدال ، وهو أوصل إلى الغرض ، أو باقيتين على معناها والمعنى : وإنّا لمهتدون أو ضالون وأنتم كذلك ، وإنما قاله للتعريض بضلالهم ، كقول الرجل لخصمه إذا أراد تكذيبه : إنّ أحدنا لكاذب.

٦ ـ قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ ..) [سبأ : ٣٤].

لم يقل فيه : " مّن قبلك" أو" قبلك" كما في غيرها ، لأن ما هنا إخبار مجرّد ، وفي غيره إخبار للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتسلية له ..

٧ ـ قوله تعالى : (قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ ..) [سبأ : ٢٥].

لم يذكر" كنتم" كما قاله في غيره ، لأن قوله هنا : (تَعْمَلُونَ) وقع في مقابلة (أَجْرَمْنا) في قوله : (قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا) أي أذنبنا ، وضمير أجرمنا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد غيره ، وغيره صدر منه ذنب فعبّر عنه بالماضي. والمخاطب في (تَعْمَلُونَ :) الكفّار ، وكفرهم واقع في الحال ، وفي المستقبل ظاهرا ، فعبّر عنه بالمضارع فلا يناسبه" كنتم" مع أن الخطاب في ذلك واقع في الدنيا ، والخطاب في غيره نحو : (ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الأنعام : ٦٠] واقع في الآخرة ، فناسبه التعبير ب (كُنْتُمْ.)

٨ ـ قوله تعالى : (بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ) [سبأ : ٤١].

إن قلت : كيف قالت الملائكة في حقّ المشركين ذلك ، مع أنه لم ينقل عن أحد منهم أنه عبد الجنّ؟

قلت : معناه أنهم كانوا يطيعون الشياطين ، فيما يأمرونهم به من عبادة غير الله تعالى ، فالمراد بالجنّ الشياطين ، على أن الكرماني جزم بأنهم عبدوا الجن أيضا.

" تمت سورة سبأ"

٢٤٠