فتح الرّحمن شرح ما يلتبس من القرآن

زكريّا بن محمّد بن أحمد الأنصاري

فتح الرّحمن شرح ما يلتبس من القرآن

المؤلف:

زكريّا بن محمّد بن أحمد الأنصاري


المحقق: الدكتور يحيى مراد
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 978-2-7451-4012-4
الصفحات: ٣٦٠

المكان المهيّأ للسّلوك ، فذكر في الأول المكان دون السّالك ، فأعاده مع ذكره بقوله : (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) إلخ المصرّح فيه بما يخرج" اليهود" وهم المغضوب عليهم ، و" النصارى" وهم الضالون.

فإن قلت : المراد" بالصراط المستقيم" : الإسلام ، أو القرآن ، أو طريق الجنة كما قيل والمؤمنون مهتدون إلى ذلك ، فما معنى طلب الهداية له ، إذ فيه تحصيل الحاصل؟

قلت : معناه ثبّتنا وأدمنا عليه مع استقامة ؛ كما في قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ) [النساء : ١٣٦].

فإن قلت : ما فائدة دخول" لا" في قوله : (وَلَا الضَّالِّينَ) مع أن الكلام بدونها كاف في المقصود؟

قلت : فائدته توكيد النفي المفاد من" غير".

٢١

سورة البقرة

١ ـ قوله تعالى : (الم). كرّر في أوائل ستّ سور (١).

وزاد في" الأعراف" صادا (المص) ، لقوله بعده : (فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) الآية.

وفي" الرعد" راء (المر) لقوله بعده : (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ) الآية.

واعلم أن حرف الهجاء في أوائل السور من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه ، وهي سرّ القرآن. وفائدة ذكرها طلب الإيمان بها.

وقيل : هي معلومات المعاني ، وعليه :

فقيل : كل حرف منها أول اسم من أسماء الله. فالألف من" الله" ، واللام من" اللطيف" ، والميم من" المجيد" ، والصّاد من" صادق" ، والرّاء من" رؤوف".

وقيل : هي أقسام أقسم الله بها لشرفها.

وقيل غير ذلك ، وأنّ تسميتها حروفا مجاز ، وإنما هي أسماء مسمياتها الحروف المبسوطة وعليه فقيل : معربة ، وقيل : مبنيّة ، وقيل : لا ، ولا ، وقد بيّنت ذلك في غير هذا الكتاب.

٢ ـ قوله تعالى : (لا رَيْبَ فِيهِ) أي : لا شك فيه. فإن قلت : كيف نفى الريب ، وكم ضالّ ارتاب فيه؟

قلت : المراد أنه ليس محلا للرّيب ، أو لا ريب فيه عند الله ، ورسوله ، والمؤمنين. أو ذلك نفي بمعنى النّهي ، أي : ترتابوا فيه لأنه من عند الله ، ونظيره قوله تعالى : (أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها) [الحج : ٧].

فإن قلت : كيف قال : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) وفيه تحصيل الحاصل ، لأن المتقين مهتدون؟

قلت : إنما صاروا متّقين باستفادتهم الهدى من الكتاب ، أو المراد بالهدى : الثبات والدوام عليه. أو أراد الفريقين واقتصر على المتقين ، لأنهم الفائزون بمنافع الكتاب ، وللإيجاز كما في قوله تعالى : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل : ٨١].

٣ ـ قوله تعالى : (هُمْ يُوقِنُونَ) أي : يعلمون. واليقين : العلم بعد أن لم يكن ،

__________________

(١) هي البقرة ، وآل عمران ، والعنكبوت ، والروم ، ولقمان ، والسجدة.

٢٢

ولهذا لا يقال لعلم الله يقين.

٤ ـ قوله تعالى : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ.)

فإن قلت : لم ذكر ذلك مع قوله قبل : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ؟)

قلت : لأنه ذكر هنا مع (هُدىً) فاعله ، بخلاف ثمّ.

٥ ـ قوله تعالى : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ.)

فإن قلت : لم حذفت الواو هنا ، وأثبتت في (يس؟)

قلت : لأن ما هنا جملة هي خبر عن اسم" إنّ" ، وما هنالك جملة عطفت على أخرى.

فإن قلت : ما فائدة بعثة الرسل بعد قوله : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ) الآية.

قلت : لئلا يكون للناس حجة ، أو لأنّ الآية نزلت في قوم (لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ) [يونس : ٩٧] فبعثة الرسل انتفع بها آخرون فآمنوا.

٦ ـ قوله تعالى : (يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا.)

إن قلت : كيف قاله ، مع أن المخادعة إنما تتصوّر في حقّ من تخفى عليه الأمور ، ليتمّ الخداع من حيث لا يعلم ، ولا يخفى على الله شيء؟

قلت : المراد يخادعون رسول الله ، إذ معاملة الله معاملة رسوله ، كعكسه لقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) [الفتح : ١٠] ، وقوله : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) [النساء : ٨٠] أو سمّى نفاقهم خداعا لشبهه بفعل المخادع.

٧ ـ قوله تعالى : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ)

إن قلت : كيف خصّ الفساد بالمنافقين ، مع أن غيرهم مفسد؟

قلت : المراد بالفساد : الفساد بالنفاق ، وهم كانوا مختصّين به.

٨ ـ قوله تعالى : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ.)

إن قلت : الاستهزاء من باب العبث والسخرية ، وذلك قبيح على الله تعالى ومنزه عنه؟

قلت : سمّى جزاء الاستهزاء استهزاء مشاكلة (١) كقوله : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ

__________________

(١) المشاكلة هي : الاتفاق في اللفظ مع الاختلاف في المعنى.

٢٣

مِثْلُها) [الشورى : ٤٠] والمعني أن الله يجازيهم جزاء استهزائهم.

٩ ـ قوله تعالى : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ.)

إن قلت : ما فائدة قوله : (مِنَ السَّماءِ) مع أن الصيّب لا يكون إلا منها؟

قلت : فائدته أنه عرّف السماء ، وأضاف الصيّب إليها ، ليدلّ على أنه من جميع آفاق السّماء ، لا من أفق واحد ، إذ كلّ أفق يسمّى سماء. ونظير ذلك قوله تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ) [الأنعام : ٣٨].

١٠ ـ قوله تعالى : (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ.)

عبّر بالأصابع عن أناملها ، والمراد بعضها لأنهم إنما جعلوا بعض أناملها.

١١ ـ قوله تعالى : (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي : أنه لا أنداد له.

فإن قلت : المشركون لم يكونوا عالمين بذلك ، بل كانوا يعتقدون أنّ له أندادا؟

قلت : المراد : وأنتم تعلمون أن الأنداد لا تقدر على شيء مّما مرّ قبل ذلك ، أو وأنتم تعلمون أنه ليس في التوراة والإنجيل جواز اتخاذ الأنداد.

١٢ ـ قوله تعالى : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ).

إن قلت : لم ذكرت (مِنْ) هنا ، وحذفت في سورتي يونس وهود؟.

قلت : لأن (مِنْ) هنا للتّبعيض ، أو للتّبيين ، أو زائدة على قول الأخفش ، بتقدير رجوع الضمير في" مثله" إلى" ما" في قوله : (مِمَّا أَنْزَلْنا) [يونس : ٩٤] وهو الأوجه.

والمعنى على الأخير : فأتوا بمماثلة للقرآن ، في البلاغة وحسن النّظم ، وعلى الأوّلين : فأتوا بمما هو على صفته في البلاغة ، وحسن النّظم ، وحينئذ فكأنه منه ، فحسن الإتيان ب (مِنْ) الدالة على ما ذكر.

بخلاف ذاك ، فإنه قد وصف السور بالافتراء ، صريحا في هود ، وإشارة في يونس ، فلم يحسن الإتيان ب (مِنْ) الدالّة على ما ذكر ، لأنها حينئذ تشعر بأنّ ما بعدها من جنس ما قبلها ، فيلزم أن يكون قرآنا وهو محال.

ويجوز جعل (مِنْ) للابتداء ، بتقدير رجوع الضمير في" مثله" إلى عبدنا أي : " محمد" ، والمعنى : فأتوا بمبتدأة من شخص مثل محمد.

٢٤

١٣ ـ قوله تعالى : (مِنْ دُونِ اللهِ.)

أي من غيره ، وهو بهذا المعنى في جميع ما جاء منه في القرآن. وقد يستعمل بمعنى" قبل" ، كقولهم : المدينة دون مكة ، ولا أقوم من مجلسي دون أن تجيء ، ولا أفارقك دون أن تعطيني حقّي.

١٤ ـ قوله تعالى : (فَاتَّقُوا النَّارَ.)

إن قلت : كيف عرّف النّار هنا ، ونكرها في التحريم (١)؟

قلت : لأن الخطاب في هذه مع المنافقين ، وهم في أسفل النّار المحيطة بهم ، فعرّفت بلام الاستغراق ، أو العهد الذهني ، وفي تلك مع المؤمنين ، والذي يعذّب من عصاتهم بالنّار ، يكون في جزء من أعلاها ، فناسب تنكيرها لتقليلها.

وقيل : لأن تلك الآية نزلت قبل هذه بمكة ، فلم تكن النار التي وقودها النّاس والحجارة معروفة ، فنكّرها ثمّ ، وهذه نزلت بالمدينة فعرّفت ، إشارة إلى ما عرفوه أولا ، وردّ هذا بأن" آية التحريم" نزلت بالمدينة بعد الآية هنا.

١٥ ـ قوله تعالى : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ.)

إن قلت : كيف شرط في دخول المؤمن الجنّة العمل الصالح ، مع أن مجرّد الإيمان كاف في دخولها؟!

قلت : المراد بالعمل الصالح : الإخلاص في الإيمان ، أو الثبات عليه إلى الموت ، أو المراد بدخول الجنّة : دخولها مع الفائزين.

١٦ ـ قوله تعالى : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً).

أي : قوما يخلف بعضهم بعضا ، أو" آدم" بمعنى : خليفة عني بأمري ، أو خليفة عن ملائكتي أو عن الجنّ.

١٧ ـ قوله تعالى : (اسْجُدُوا لِآدَمَ) أي : تكرمة لا عبادة.

١٨ ـ قوله تعالى : (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا.)

إن قلت : لم قال هنا (وَكُلا) بالواو ، وفي" الأعراف"(فَكُلا) بالفاء؟

قلت : لأنّ (اسْكُنْ) هنا معناه استقر ، لكون" آدم" و" حواء" كانا في الجنة. والأكل يجامع الاستقرار غالبا. فلهذا عطف بالواو الدّالة على الجمع.

__________________

(١) في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً)

٢٥

والمعنى : اجمعا بين الاستقرار والأكل.

وفي" الأعراف" : معناه أدخل لكونهما كانا خارجين عنها ، والأكل لا يكون مع الدخول عادة بل عقبه ، فلهذا عطف بالفاء الدالة على التعقيب وقد بسطت الكلام على ذلك في الفتاوى.

١٩ ـ قوله تعالى : (اهْبِطُوا مِنْها.)

كرّر الأمر بالهبوط للتوكيد. أو لأن الهبوط الأول من الجنة ، والثاني من السماء. أو لأن الأول إلى دار الدنيا ، يتعادون فيها ولا يخلّدون ، والثاني إليها للتكليف ، فمن اهتدى نجا ، ومن ضلّ هلك.

٢٠ ـ قوله تعالى : (فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ.)

وفي" طه" : (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ) [طه : ١٢٣].

إن قلت : لم عبّر هنا ب" تبع" وثمّ ب" اتّبع" مع أنهما بمعنى؟

قلت : جريا على الأصل هنا ، وموافقة لقوله (يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ) ثمّ (١).

ولأن القضيّة لما بنيت من أول الأمر على التأكيد بقوله تعالى : (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ) [طه : ١١٥] ناسب اختصاصها بالزيادة المفيدة للتأكيد.

٢١ ـ قوله تعالى : (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَ)

إن قلت : لا تغاير بينهما ، فكيف عطف أحدهما على الآخر؟

قلت : بل هما متغايران لفظا ، كما في قوله تعالى : (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ) [البقرة : ١٥٧] ، أو لفظا ومعنى ، لأن المراد بلبسهم الحقّ بالباطل ، كتابتهم في التوراة ما ليس فيها ، وبكتمانهم الحقّ قولهم : لا نجد في التوراة صفة محمد.

٢٢ ـ قوله تعالى : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ.)

إن قلت : ما فائدة ذكر الثاني ، مع أنّ ما قبله يغني عنه؟

قلت : لا يغني عنه ، لأنّ المراد بالأول : أنّهم ملاقو ثواب ربهم ، على الصبر والصلاة.

وبالثاني : أنّهم موقنون بالبعث ، وبحصول الثواب على ما ذكر.

٢٣ ـ قوله تعالى : (وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ.)

__________________

(١) ثمّ : أي هناك ، والمراد في" طه : ١٢٣" (فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ).

٢٦

فإن قلت : ما الحكمة في تقديم الشّفاعة هنا ، وعكسه فيما يأتي (١)؟

قلت : للإشارة هنا إلى من ميله إلى حبّ نفسه أشدّ منه إلى حبّ المال ، وثمّ إلى من هو بعكس ذلك.

٢٤ ـ قوله تعالى : (يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ.)

فإن قلت : ما الحكمة في ترك العاطف هنا ، وذكره في" إبراهيم" (٢)؟

قلت : لأن ما هنا من كلام الله تعالى ، فوقع تفسيرا لما قبله ، وما هناك من كلام موسى وكان مأمورا بتعداد المحن في قوله : (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) [إبراهيم : ٥] فعدّد المحن عليهم ، فناسب ذكر العاطف.

٢٥ ـ قوله تعالى : (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ.)

إن قلت : ما الحكمة في ذكر (كانُوا) هنا وفي الأعراف ، وفي حذفها في آل عمران؟

قلت : لأن ما في السورتين ، إخبار عن قوم ماتوا وانقرضوا ، فناسب ذكرها ، وما في" آل عمران" مثّل ضربه تعالى لأعمالهم بقوله : (مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ) [آل عمران : ١١٧] إلى آخره.

٢٦ ـ وقوله تعالى : (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا.)

فإن قلت : ما الحكمة في العطف بالفاء هنا ، وفي الأعراف بالواو؟

قلت : لأنه عبّر هنا بالدخول ، وهو سريع الانقضاء ، فلا يناسبه مجامعة الأكل له ، وإنما يناسبه تعقيبه له ، فعطف بالفاء. وعبّر في الأعراف بالسكون (٣) ، أي : الاستقرار ، وهو ممتدّ يجامعه الأكل ، فعطف بالواو.

٢٧ ـ قوله تعالى : (وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً.)

إن قلت : لم قدّمه على قوله : (وَقُولُوا حِطَّةٌ) وعكس في الأعراف؟

قلت : لأنه هنا وقع بيانا لكيفية الدخول المذكور قبله ، بقوله : (وَإِذْ قُلْنَا

__________________

(١) في قوله تعالى : (وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ) البقرة آية ١٢٣.

(٢) في قوله تعالى : (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ) آية ١٦١.

(٣) في قوله تعالى : (وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ) الأعراف : ١٦١.

٢٧

ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ) بخلافه ثمّ.

٢٨ ـ قوله تعالى : (وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ.)

إن قلت : لم ذكر هنا بالواو ، وفي الأعراف بدونها؟

قلت : لأنّ اتصاله هنا أشدّ ، لإسناد القول فيه إلى الله تعالى في قوله : (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا) بخلافه ثمّ ، فالأليق به حذف الواو ليكون استئنافا.

٢٩ ـ قوله تعالى : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) [البقرة :٩٥].

إن قلت : هم لم يبدّلوا غير الذي قيل لهم ، وإنما بدّلوه نفسه ، لأنهم قيل لهم قولوا : " حطّة" ، فقالوا : حنطة.

قلت : بل بدّلوا غير الذي قيل لهم ، لأن معناه : فبدّل الذين ظلموا قولا قيل لهم ، فقالوا قولا غير الذي قيل لهم. وزاد في" الأعراف"(مِنْهُمْ) موافقة لقوله قبله : (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى) [الأعراف : ١٥٩] ، ولقوله بعده : (مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ) [الأعراف : ١٦٨].

٣٠ ـ قوله تعالى : (فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) عبّر بدله في الأعراف بقوله : (فَأَرْسَلْنا) ، لأن لفظ" الرسول" و" الرّسالة" كثر ثمّ ، فناسب التعبير بأرسلنا.

٣١ ـ قوله تعالى : (فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) عبّر بدله في الأعراف بقوله : (فَانْبَجَسَتْ) والأول أبلغ ؛ لأنه انصباب الماء بكثرة ، والانبجاس : ظهور الماء ، فناسب ذكر" انفجار" هنا الجمع قبله بين الأكل والشرب ، الذي هو أبلغ من الاقتصار على الأكل.

٣٢ ـ قوله تعالى : (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ.)

إن قلت : العثوّ : الفساد ، فيصير المعنى : وتفسدوا في الأرض مفسدين.

قلت : لا محذور فيه ، غايته أن (مُفْسِدِينَ) حال من فاعل (تَعْثَوْا) ، فهي حال مؤكدة ، كما في قوله : (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ،) أو حال مؤسّسة ؛ إذ" العثو" لكونه التّمادي في الفساد ، أخصّ من الفساد ، فالمعنى ـ كما قال الزمخشري ـ لا تتمادوا في الفساد في حال فسادكم.

٣٣ ـ قوله تعالى : (لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ.)

إن قلت : كيف قالوا : (عَلى طَعامٍ واحِدٍ) وطعامهم كان طعامين : " المنّ"

٢٨

و" السّلوى"؟

قلت : المراد بالواحد : ما لا يختلف ولا يتبدّل ، أو بالطّعامين أنهما ضرب واحد ، لأنهما من طعام أهل التلذّذ والتّرف ، أو أنهما كانا يؤكلان مختلطين.

٣٤ ـ قوله تعالى : (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِ) عرّف الحقّ هنا ، ونكّره في آل عمران (١) والنساء (٢)!! لأنّ ما هنا لكونه وقع أولا إشارة إلى (بِالْحَقِ) الذي أذن الله أن يقتل النّفس به ، وهو قوله : (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ) [الأنعام : ١٥١] ، فكان التعريف أولى ، وهناك أريد به : (بِغَيْرِ حَقٍ) في معتقدهم دينهم ، فكان بالتنكير أولى.

فإن قلت : قتل النّبيين لا يكون إلا بغير الحقّ ، فما فائدة ذلك؟

قلت : فائدته التصريح بصفة فعلهم القبيح ، لأنه أبلغ في الشناعة.

فإن قلت : لم مكّن الكافرين من قتل الأنبياء؟

قلت : كرامة لهم ، وزيادة في منازلهم ، كمن يقتل في الجهاد من المؤمنين.

٣٥ ـ قوله تعالى : (وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ.)

فإن قلت : لم قدّم النّصارى على الصّابئين هنا ، وعكس في المائدة والحجّ؟

قلت : لأن النّصارى مقدّمون على الصّابئين في الرتبة ، لأنهم أهل كتاب ، فقدّموا في البقرة لكونها أوّلا. والصّابئون مقدّمون على النّصارى في الزمن ، فقدّموا في" الحجّ" ، وروعي في المائدة المعنيان ، فقدموا في اللفظ وأخّروا في المعنى ، إذ التقدير : والصابئون كذلك ، كما في قول الشاعر :

فمن يك أمسى في المدينة رحله

فإني وقيّار بها لغريب

إذ التّقدير : فإني لغريب بها ، وقيّار كذلك.

٣٦ ـ قوله تعالى : (فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ.)

فإن قلت : كيف أمروا بذلك مع أنه ليس في وسعهم؟

قلت : هذا أمر إيجاد لا أمر إيجاب ، كقوله : (كُنْ فَيَكُونُ) [البقرة : ١١٧].

٣٧ ـ قوله تعالى : (عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) [البقرة : ٦٨].

__________________

(١) في قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ) آل عمران : ٢١.

(٢) في قوله تعالى (وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ) النساء : ١٥٥.

٢٩

إن قلت : (يُبَيِّنْ) تقتضي شيئين فأكثر ، فكيف دخلت على (ذلِكَ) وهو مفرد؟

قلت : (ذلِكَ) يشار به إلى المفرد ، والمثنّى ، والمجموع ، ومنه قوله تعالى : (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) [يونس : ٥٨].

وقوله : (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [آل عمران : ١٨٦].

وقوله : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ) [آل عمران : ١٤] ثم قال : (ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا.)

فالمعنى : عوان بين الفرض والبكر (١).

٣٨ ـ قوله تعالى : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ.)

فإن قلت : ما فائدة ذكر اليد ، مع أنّ الكتابة لا تكون إلا بها؟

قلت : فائدته تحقيق مباشرتهم ما حرّفوه بأنفسهم ، زيادة في تقبيح فعلهم.

٣٩ ـ قوله تعالى : (وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً.)

إن قلت : لم قال هنا (مَعْدُودَةً ،) وفي آل عمران (مَعْدُوداتٍ) (٢)؟

قلت : إشارة إلى الجمع بين الأصل والفرع ، إذ الأصل في الجمع بالألف والتّاء إذا كان واحده مذكّرا ، أن يقتصر في الوصف على تأنيثه مفردا ، كقوله تعالى : (فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ) [الغاشية : ١٣] وقد يأتي" سرر مرفوعات" على الجمع ، فهو فرع عن الأول ، فذكر في البقرة على الأصل ، لكونها أول ، وفي آل عمران على الفرع.

٤٠ ـ قوله تعالى : (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ.)

فإن قلت : التولّي والإعراض واحد ، فلم جمع بينهما؟

قلت : لا محذور فيه لأن قوله : (وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) حال من فاعل توليتم ، فهي حال مؤكّدة ، كما في قوله تعالى : (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ،) أو مؤسسة إذ المعنى : ثم وليتم عن الوفاء بالعهد ، وأنتم معرضون عن النظر والفكر في عاقبة ذلك.

٤١ ـ وقوله تعالى : (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ.)

__________________

(١) معنى" العوان : الوسط ، و" الفارض" و" البكر" الفتيّة.

(٢) في قوله تعالى (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) آل عمران : ٢٤.

٣٠

فإن قلت : لم قال هنا : (وَلَنْ ،) وفي الجمعة : (لا) (١)؟

قلت : لأنّ (وَلَنْ) أبلغ في النفي من (لا ،) حتى قيل : إنّها لتأبيد النفي ، ودعواهم في البقرة بالغة قاطعة ، وهي كون الجنّة لهم بصفة الخلوص ، فناسب ذكر (وَلَنْ) فيها.

ودعواهم فی الجمعة قاصرة مردودة ، وهي زعمهم ألهم أولياء الله ، فناسبَ ذِكرُ (لا) فيها.

٤٢ ـ قوله تعالى : (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا.)

فإن قلت : لم خصّوا بالذّكر ، مع دخولهم في الناس في قوله تعالى : (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ)؟.

قلت : لشدّة حرصهم على الحياة لإنكارهم البعث.

٤٣ ـ قوله تعالى : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ.)

إن قلت : لم قال هنا : (لا يُؤْمِنُونَ ،) وفي غيره : (لا يَعْقِلُونَ ، لا يَعْلَمُونَ؟)

قلت : لأنّ الآية هنا نزلت في كفار نقض بعضهم العهد ، وجحد بعضهم الحقّ ، ولم يجتمع هذان الأمران في غير هذه السورة.

٤٤ ـ قوله تعالى : (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) أي : من السّحر ، فهو معطوف على السّحر قبله ، وسوّغ عليه تغايرهما لفظا ، والملكان أنزلهما الله تعالى لتعليم السّحر ، ابتلاء منه للناس.

فإن قلت : هذا يدلّ على جواز تعليم السحر ، فلا يكون حراما!؟

قلت : الحرام تعليمه ليعمل به ، لا ليجتنب فإنه جائز ، كما لو سئل إنسان عن الزّنا ، لزمه بيانه للسائل ليعرفه فيجتنبه.

٤٥ ـ قوله تعالى : (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) إلى (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ.)

إن قلت : كيف أثبت لهم العلم أولا مؤكدا بلام القسم ، ونفاه عنهم آخرا؟

قلت : المثبت لهم علمهم بأنّ من اختار السّحر ، ما له في الآخرة من نصيب ، والمنفيّ عنهم علمهم بحقيقة ما يصيرون إليه فيها.

__________________

(١) في قوله تعالى (وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) الجمعة : ٧.

٣١

أو المثبت لهم العلم مطلقا ، والمنفيّ عنهم العقل ، لأنه أصل العلم فإذا انتفى انتفى.

٤٦ ـ قوله تعالى : (لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ.)

أي : من السّحر ، وهو خبر لمثوبة.

فإن قلت : (خَيْرٌ) أفعل تفضيل ، ولا خير في السّحر؟

قلت : ليس (خَيْرٌ) ، هنا أفعل تفضيل ، بل هو لبيان أنّ المثوبة فاضلة كما في قوله تعالى : (أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ) [فصلت : ٤٠] كما يقال : الرجوع إلى الحقّ خير من التّمادي في الباطل ، أو هو أفعل تفضيل ، وخاطبهم الله على اعتقادهم أن تعلّم السّحر خير ، نظرا منهم إلى حصول مقصودهم الدنيوي به.

٤٧ ـ قوله تعالى : (حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ ،) ذكر (مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) تأكيد ، إذ الحسد لا يكون إلا من قبل النّفس.

٤٨ ـ قوله تعالى : (قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى) قال ذلك هنا ، وقال في" آل عمران" : (قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ) [آل عمران : ٧٣] ؛ لأن معنى الهدى هنا : " القبلة" ، لأنّ الآية نزلت في تحويلها ، وتقديره : قل إن قبلة الله هي الكعبة. ومعناه ثمّ : الدين لقوله تعالى قبل : (وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) وقوله تعالى (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) [آل عمران : ١٩].

٤٩ ـ قوله تعالى : (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ.)

إن قلت : ما الحكمة في ذكر (الَّذِي) هنا ، وذكر (ما) في قوله بعد : (مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) وفي" الرعد" : (بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ؟)

قلت : المراد بالعلم في الآية الأولى : " العلم الكامل" وهو العلم بالله وصفاته ، وبأنّ الهدى هدى الله ، فكان الأنسب ذكر (الَّذِي) لكونه في التعريف أبلغ من (ما.)

والمراد بالعلم في الثانية (١) والثالثة (٢) : " العلم بنوع" ، وهو في الثانية : العلم بأن

__________________

(١) في قوله تعالى : (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) البقرة : ١٤٥.

(٢) في قوله تعالى : (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ) الرعد : ٣٧.

٣٢

قبلة الله هي الكعبة ، وفي الثانية : الحكم العربي ، فكان الأنسب ذكر (ما.) ولقلّة النوع في الثانية ، بالنسبة إليه في الثالثة ، زيد قبل (حُكْماً) في الثانية (" مِنَ") الدالة على التّبعيض.

٥٠ ـ قوله تعالى : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ) إلى : (شَيْئاً.) تكرّر مع نظيره قبل ، مبالغة في النّصح.

٥١ ـ قوله تعالى : (أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ.) قاله هنا بلفظ : (وَالْعاكِفِينَ) وفي" الحج" بلفظ : (الْقائِمِينَ ،) والمراد منها : المقيمون ، وغاير بينهما لفظا ، جريا على عادة العرب من تفنّنهم في الكلام.

٥٢ ـ قوله تعالى : (رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً.)

فإن قلت : لم نكّر البلد هنا وعرّفه في إبراهيم؟.

قلت : لأن الدعوة هنا ، كانت قبل جعل المكان بلدا دائم الأمن في الأول ، وبلدا آمنا في الثاني.

٥٣ ـ قوله تعالى : (وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ.)

ذكره هنا وفي" الجمعة" بترك الأنفس إيجازا ، وذكره في" آل عمران" في قوله : (إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ ؛) لأن الله تعالى منّ على المؤمنين فيها ، فجعله من أنفسهم ليكون موجب الجنة أظهر.

ونظيره : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) لمّا وصفه بقوله : (عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) الآية ، جعله من أنفسهم ، ليكون موجب الإجابة والإيمان به أظهر.

٥٤ ـ قوله تعالى : (فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ.)

إن قلت : إنّ الموت ليس في قدرة الإنسان حتّى ينهى عنه؟

قلت : النهي في الحقيقة ، إنما هو عن عدم إسلامهم حال موتهم ، كقولك : لا تصلّ إلا وأنت خاشع ، إذ النهي فيه إنما هو عن ترك الخشوع حال صلاته ، لا عن الصلاة.

والنكتة في التعبير بذلك ، إظهار أن موتهم لا على الإسلام ، موت لا خير فيه ، وأن الصلاة التي لا خشوع فيها ك" لا صلاة".

٥٥ ـ قوله تعالى : (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا.)

٣٣

إن قلت : لم قال هنا : (قُولُوا) و : (إِلَيْنا) وفي آل عمران : (قُلْ) و : (وعَلَيْنا؟)

قلت : لأن" إلى" للانتهاء ، وهو لا يختصّ بجهة ، والكتب منتهية إلى المؤمنين بعد نزولها على الأنبياء ، والخطاب هنا للمؤمنين لقوله : (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ ،) و" على" للاستعلاء وهو مختص بالأنبياء ، وأفضلهم نبيّنا ، وهو المخاطب ثمّ بقوله : (قُلْ آمَنَّا بِاللهِ) فكان الأنسب هنا وثمّ ما ذكر ، وكرّر : (وَما أُنْزِلَ) لاختلاف المنزل إلينا ، والمنزل على إبراهيم وما عطف عليه.

٥٦ ـ قوله تعالى : (وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ.)

ذكر (وَما أُوتِيَ) هنا ، وحذفه في" آل عمران" (١) اختصار ، كما هو الأنسب بالآخر. أو لأن الخطاب هنا عامّ ، وثمّ خاصّ ـ كما مرّ ـ فكان الأنسب ذكره في الأول ، وحذفه في الثاني.

فإن قلت : لم قال هنا : (وَما أُوتِيَ مُوسى) ، ولم يقل : " وما أنزل إلى موسى" ، كما قال قبل : (وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ)؟

قلت : للاحتراز عن كثرة التكرار.

فإن قلت : لم كرّر : (وَما أُوتِيَ) هنا ، وحذفه في آل عمران؟

قلت : إنّما حذفه ثمّ للاغتناء عنه بقوله قبله : (لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ) [آل عمران : ٨١].

٥٧ ـ قوله تعالى : (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ.)

فإن قلت : إن أريد ب (ما آمَنْتُمْ بِهِ) الله تعالى ، فالله لا مثل له ، أو دين الإسلام فكذلك؟

قلت : القصد بالآية إنما هو التعجيز كما في قوله تعالى : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) أو كلمة" مثل" زائدة للتوكيد كما في قوله : (جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها) [يونس : ٢٧] أو الباء زائدة كما في قوله : (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) [مريم : ٢٥] و" ما" مصدريّة والمعنى بمثل إيمان من آمنتم به وهو الله ، أو دين الإسلام.

٥٨ ـ قوله تعالى : (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ.)

__________________

(١) في قوله تعالى : (وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ) آية (٤٨).

٣٤

ذكرها مع أنّ مضمونها معلوم لكل مميّز ، للتنبيه على عظم العصيان واجتنابه ، كما أنّ قوله : (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) ذكر مع أنه معلوم ، للتنبيه على أن الكفر ممّا يعود بسوء العاقبة عليهم ، وكرّرها مبالغة في النصح ، أو لأن" الأمّة" في الأولى للأنبياء ، وفي الثانية لأسلاف اليهود والنصارى. أو لأن الخطاب في الأولى لهم ، وفي الثانية لنا تحذيرا عن الاقتداء بهم.

٥٩ ـ قوله تعالى : (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها.)

إن قلت : كيف قال : (إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ) وهو لم يزل عالما بذلك؟

قلت : هذا ونحوه باعتبار التعلّق ، والمعنى : ليتعلّق علمنا به موجودا ، أو المعنى : ليعلم رسولنا والمؤمنون ، لأنهم أخصّاؤه. أو لتميّز الثابت عن المتزلزل ، كقوله : (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) [الأنفال : ٣٧].

٦٠ ـ قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ.)

(كانَ) للماضي وهو هنا للحال ، وتأتي في القرآن لخمسة معان :

أ ـ للحال ، ومنه : (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) [النساء : ١٠٣] ، و (وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً) [الأحزاب : ٩].

ب ـ وللماضي المنقطع ، ومنه : (وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ) [النمل : ٤٨]. وهو الأصل في معانيها.

ج ـ وللاستقبال ومنه : (يَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً) [الإنسان : ٧].

د ـ وللدوام ومنه : (وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) [الأحزاب : ٥١].

ه ـ وبمعنى صار ، ومنه : (كانَ مِنَ الْكافِرِينَ) [ص : ٧٤].

٦١ ـ قوله تعالى : (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها.)

فإن قلت : هذا يقتضي عدم رضا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتوجه إلى بيت المقدس ، مع أن التوجه إليه كان بأمر الله؟

قلت : المراد بالرضا هنا رضا المحبة بالطبع ، لا رضا التسليم والانقياد لأمر الله.

٦٢ ـ قوله تعالى : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) كرّر ثلاث مرات ، لأن الأول في المسجد الحرام ، والثاني خارجه ، والثالث خارج البلد ، وعليها ينزل قوله قبل كلّ منها : (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ.)

٣٥

٦٣ ـ قوله تعالى : (وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ) أي اليهود والنصارى ، ولكل منهما قبلة ، لكن لمّا كانت القبلتان باطلتين ، كانتا في حكم البطلان واحدة ، فلهذا قال : (قِبْلَتَهُمْ.)

٦٤ ـ قوله تعالى : (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) قال في" الأنعام" مثله : (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) وفي" آل عمران" : (فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) بغير نون التوكيد. لأنّ ما في آل عمران جاء على الأصل ، ولم يكن فيها ما اقتضى إدخال نون التوكيد ، بخلاف ما هنا ، فإنّ قبله التوكيد بأنّ في قوله : (أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ.)

وفي الأنعام : (يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ) فناسب التوكيد فيهما بالنون.

٦٥ ـ قوله تعالى : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ.)

إن قلت : كيف يكون للظالمين من اليهود حجّة على المؤمنين؟

قلت : حجّتهم قولهم : ما تحوّل محمد عن الكعبة ، إلا أنه بدا له الرجوع إلى قبلة آبائه ، ويوشك أن يرجع إلى دينهم!!

وهذا باطل ، وإنما سمّي حجّة كقوله : (حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ) [الشورى : ١٦] لشبهه لها صورة ، فالمعنى إلا أن يقولوا ظلما وباطلا ، كقولك لرجل : ما لك عندي حق إلا أن تظلم أي : إلا أن تقول الباطل.

٦٦ ـ قوله تعالى : (وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ) عطف على قوله : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ.)

٦٧ ـ قوله تعالى : (وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ.)

إن قلت : ما فائدة ذكر الثاني مع أن الأول يقتضيه؟

قلت : لا نسلّم أنه يقتضيه ، لأن المراد بالكفر ستر النّعمة ، والشّكر لا يقتضي عدمه.

٦٨ ـ قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا) ترك (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) هنا ، وذكره في" آل عمران" (١) لأنه لو ذكره هنا مع قوله قبله (مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ)

__________________

(١) في آل عمران (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٨٩).

٣٦

لالتبس أو لتكرّر.

٦٩ ـ قوله تعالى : (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ.)

إن قلت : كيف قال : (وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) وأهل دين من مات كافرا لا يلعنونه؟

قلت : المراد بالناس : المؤمنون ، أو هم وغيرهم. وأهل دينه يلعنونه في الآخرة ، قال تعالى : (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) [العنكبوت : ٢٥] ، وقال : (كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها) [الأعراف : ٣٨].

٧٠ ـ قوله تعالى : (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ.)

إن قلت : ما فائدة ذكر (إِلهٌ) مع أن (واحِدٌ) يغني عنه؟

قلت : فائدته التصريح بالإلهية المقصودة وأن تضمّنه قوله : (واحِدٌ) كما تضمن انفراده بالقدم ، وبصفات ذاته ، وبعدم التركيب.

٧١ ـ قوله تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) خصّهما بالذّكر لأنهما أعظم المخلوقات ، وجمع السّماء دون الأرض ، للانتفاع بجميع آحادها ، باعتبار ما فيها من نور كواكبها وغيره ، بخلاف الأرض إنما ينتفع بواحدة من آحادها ، وهي ما نشاهدها منها.

٧٢ ـ قوله تعالى : (بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا) عبّر هنا ب (ما أَلْفَيْنا) وفي المائدة (١) وفي لقمان (٢) ب (ما وَجَدْنا) لأن ألفى يتعدّى إلى مفعولين دائما ، و" وجد" يتعدّى إليهما تارة ، وإلى واحد أخرى ، كقولك : وجدت الضالة فهو مشترك ، و" ألفى" خاصّ ، فكان الموضع الأول أنسب به.

٧٣ ـ قوله تعالى : (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ.)

إن قلت : لم قال هنا : (لا يَعْقِلُونَ) وفي المائدة : (لا يَعْلَمُونَ)؟

قلت : لأن العلم أبلغ درجة من العقل ، بدليل وصف الله به دون العقل ، ودعواهم ثمّ أبلغ من ههنا ، لقولهم ثمّ : (حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) وههنا

__________________

(١) في المائدة (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) (١٠٤).

(٢) في لقمان (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) آية (٢١).

٣٧

(بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا) فكان الأنسب نفي كل بما يناسبه.

٧٤ ـ قوله تعالى : (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ) ظاهره تشبيه الكفّار بالراعي وليس مرادا.

فإن قلت : فما وجهه؟

قلت : فيه إضمار تقديره : ومثل واعظ الذين كفروا كمثل الراعي.

أو للأنعام : أو مثل الذين كفروا كمثل بهائم الراعي. أو مثل الذين كفروا في دعائهم الأصنام كمثل الراعي.

٧٥ ـ قوله تعالى : (وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) قدّم (بِهِ) هنا وأخره في المائدة ، والأنعام ، والنحل. لأن الباء للتعدية ، كالهمزة والتشديد ، فهي كالجزء من الفعل ، فكان الموضع الأول أولى بها وبدخولها. وأخّر في بقية المواضع ، نظرا للمقصود فيها من ذكر المستنكر ، وهو الذبح لغير الله ، والحصر ب (إِنَّما) في المحرّمات هنا متروك الظاهر ، لما زاد في المائدة من" المنخنقة ، والموقوذة ، والمتردية ، والنطيحة ، وما أكل السّبع".

٧٦ ـ قوله تعالى : (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) ذكره هنا ، وتركه في المواضع الثلاث المذكورة آنفا اقتصارا ، كما هو الأنسب بالآخر.

٧٧ ـ قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) قاله هنا ، وقال في الأنعام : (فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) لأن لفظ الربّ تكرّر ثمّ مرات ، مع ذكر ما يحتاج إلى التربية ، من الثمار ، والحبوب ، والحيوان ، من" الضأن والمعز والإبل والبقر" في قوله : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ) [الأنعام : ١٤١] إلخ فكان ذكر الربّ ثمّ أنسب.

٧٨ ـ قوله تعالى : (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [البقرة : ١٧٤].

إن قلت : كيف نفى عنهم الكلام هنا وأثبته لهم في قوله : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ؟)

قلت : المنفيّ هنا الكلام بلطف وإكرام ، والمثبت ثمّ سؤال توبيخ وإهانة ، أو في القيامة مواقف ، ففي موقف لا يكلمهم ، وفي موقف يكلمهم. ومن ذلك آية النفي المذكورة مع قوله تعالى : (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) [الأنعام : ٢٢].

٧٩ ـ قوله تعالى : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) فيه عطف

٣٨

الخاصّ على العام ، ونسخ ما كانوا يفعلونه من الوصية للأبعد دون الأقرب ، طلبا للفخر والشّرف.

٨٠ ـ قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.)

إن قلت : لم خصّ السّميع بالذّكر هنا ، والغفران فيما بعده؟

قلت : لقوله هنا : (بَعْدَ ما سَمِعَهُ) وثمّ : (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ.)

٨١ ـ قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) التشبيه في أصل الصّوم لا في كيفيّته ، إذ الإفطار منه كان مباحا من الغروب إلى وقت النّوم فقط ، ثم نسخ بقوله تعالى : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) الآية.

٨٢ ـ قوله تعالى : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ) قيّد ب (مِنْكُمْ) هنا ، وفي قوله : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ) وتركه في قوله : (وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ) اكتفاء بقوله قبله : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ.)

فإن قلت : ما فائدة ذكر إعادة المريض والمسافر بعد؟

قلت : رفع توهّم نسخ التخيير بين الصوم والفدية عموم قوله : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ.) أو أن آيتها الأولى نزلت في تخييرهما بين الصوم والفدية ، والثانية في تخييرهما بين الصوم والإفطار والقضاء.

٨٣ ـ قوله تعالى : (مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ) صفة لهدى وبيّنات قبله ، ومتعلّق بمحذوف أي كون القرآن هدى وبيّنات ، من جملة هدى الله وبيّناته ، لكن عبّر عن البيّنات بالفرقان ، لأن فيه زيادة معنى لازم للبينات ، وهو كونه يفرق بين الحق والباطل ، ولأن في لفظ الفرقان تواخي الفواصل.

٨٤ ـ قوله تعالى : (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ.)

إن قلت : نجد كثيرا من الدّاعين لا يستجاب لهم؟

قلت : إنما لم يستجب لهم لانتفاء شرط الإجابة ، إذ شرطها طاعة الله ، وأكل الحلال ، وحضور القلب. أو لأن الدّاعي قد يعتقد مصلحته في إجابة دعوته ، والله يعلم أن المصلحة في تأخيرها. أو يعطيه بدلها وقد روى الحاكم خبر : " ما من مسلم

٣٩

يدعو الله تعالى بدعوة ، إلّا آتاه الله إيّاها ، أو صرف عنه من السّوء مثلها ، أو ادّخر له من الأجر مثلها ، ما لم يدع بإثم".

٨٥ ـ قوله تعالى : (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها.)

إن قلت : لم قال هنا : (فَلا تَقْرَبُوها) وقال في التي بعدها (فَلا تَعْتَدُوها؟.)

قلت : لأن الحدّ هنا نهي وهو قوله : (وَلا تُبَاشِرُوهُنَ) وما كان من الحدود نهيا ، نهي فيه عن المقاربة. والحدّ فيما بعد أمر ، وهو بيان عدد الطلاق بقوله : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) الآية ، وما كان أمرا نهي عنه عن الاعتداء وهو مجاوزة الحدّ.

٨٦ ـ قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ.)

كلّ ما جاء من السؤال في القرآن ، أجيب عنه ب (قُلْ) بلا فاء ، إلا في قوله في طه : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ) الآية ، فبالفاء ، لأن الجواب في الجميع ، كان بعد وقوع السؤال. وفي طه قبله إذ تقديره : إن سئلت عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا.

٨٧ ـ قوله تعالى : (وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ.)

ترك (كُلُّهُ) هنا ، وذكره في الأنفال (١) ، لأن القتال هنا مع أهل ملّة فقط ، وثمّ مع جميع الكفار ، فناسب ذكره ثمّ.

٨٨ ـ قوله تعالى : (تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ.)

إن قلت : ما فائدة ذكره بعد الثلاثة والسبعة ، وذكر (كامِلَةٌ) بعد قوله : (تِلْكَ عَشَرَةٌ؟)

قلت : فائدة الأول دفع تصحيف سبعة ب تسعة ، وتأكيد العلم بالعدد تفصيلا وإجمالا.

وفائدة الثاني التأكيد كما في : (حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ.)

أو معناه كاملة في الثواب مع كونها متفرقة.

أو واقعة بدلا عن الهدي.

٨٩ ـ قوله تعالى : (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ.)

إن قلت : ما فائدة تكرار الذكر؟

__________________

(١) في قوله تعالى : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) الأنفال : ٣٩.

٤٠