فتح الرّحمن شرح ما يلتبس من القرآن

زكريّا بن محمّد بن أحمد الأنصاري

فتح الرّحمن شرح ما يلتبس من القرآن

المؤلف:

زكريّا بن محمّد بن أحمد الأنصاري


المحقق: الدكتور يحيى مراد
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 978-2-7451-4012-4
الصفحات: ٣٦٠

١٥ ـ قوله تعالى : (إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ) [التوبة : ٥٤] قاله هنا بالباء في المتعاطفين ، وقاله ثانيا ، وثالثا بحذفها من المعطوف ، لأن ما في الأول غاية التوكيد بقوله : (وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا) فأكّد المتعاطفين بالباء ، ليكون الكلام على نسق واحد ، بخلاف الثاني والثالث ، لم يتقدمهما ذلك.

١٦ ـ قوله تعالى : (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ ..) [التوبة : ٥٥] الآية. قاله هنا بالفاء ، وقاله بعد الواو. لأن الفاء تتضمّن معنى الجزاء ، والفعل قبلها في قوله : (وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ) وقوله : (وَلا يُنْفِقُونَ) لكونه مستقبلا ، يتضمّن معنى الشّرط ، فناسب فيه الفاء ، وما بعد ذكر قبله : (كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ) والفعل فيهما لكونه ماضيا ، لا يتضمّن معنى الشرط ، فناسب فيه الواو ، وقوله : (وَلا أَوْلادُهُمْ) ذكره هنا ب (فَلا) وفيما بعد بدونها ، لما في زيادتها هنا من التوكيد المناسب لغاية التوكيد ، بالحصر فيما قبلها ، وذلك مفقود فيما بعد.

١٧ ـ قوله تعالى : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها ..) [التوبة : ٦٠] الآية.

أضاف فيها الصّدقات ، إلى الأصناف الأربعة الأولى بلام الملك ، وإلى الأربعة الأخيرة ب" في" الظرفية ، للإشعار بإطلاق الملك في الأربعة الأولى ، وتقييده في الأخيرة ، حتى إذا لم يحصل الصرف في مصارفها استرجع ، بخلافه في الأولى ، كما هو مقرّر في الفقه ، وكرّر في الأخيرة في قوله : (وَفِي سَبِيلِ اللهِ) حثّا على الإعانة في الجهاد لشرفه.

١٨ ـ قوله تعالى : (قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ..) [التوبة : ٦١] الآية.

عدّى الإيمان إلى الله بالباء ، لتضمّنه معنى التصديق ، ولموافقته ضدّه وهو الكفر ، في قوله تعالى : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ.) وعدّاه إلى المؤمنين باللام ، لتضمّنه معنى الانقياد ، وموافقة لكثير من الآيات ، كقوله تعالى : (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا) [يوسف : ١٧] وقوله : (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ) [البقرة : ٧٥] وقوله : (أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) [الشعراء : ١١١].

وأما قوله تعالى في موضع : (قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) [الشعراء : ٤٩]

١٢١

وفي آخر (آمَنْتُمْ بِهِ) [الأعراف : ٧٦] فمشترك الدلالة ، بين الإيمان بموسى والإيمان بالله ، لأن من آمن بموسى حقيقة آمن بالله كعكسه.

١٩ ـ قوله تعالى : (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ..) [التوبة : ٦٣].

خبر عن المنافقين الذين سبق ذكرهم مخلّدون في النّار ، فلا يشكل بأنّ المؤمن العاصي ، لا يخلّد في النار.

٢٠ ـ قوله تعالى : (يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ ..) [التوبة : ٦٤].

إن قلت : كيف قال ذلك ، مع أن إنزال السورة إنما هو على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا عليهم؟

قلت : " على" بمعنى" في" كما في قوله تعالى : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) [البقرة : ١٠٢] أو أن الإنزال هنا بمعنى القراءة عليهم.

فإن قلت : الحذر واقع منهم على إنزال السورة ، فكيف قال : (إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ.)

قلت : معناه إن الله مظهر ما تحذرون ظهوره من نفاقكم ، بإنزال هذه السورة ، وهو المناسب لقوله : (تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ) أو مظهر ما تحذرون من إنزال هذه السورة.

فإن قلت : (تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ) تحصيل الحاصل ، لأنهم عالمون به؟

قلت : تنبّئهم بأسرارهم وما كتموه شائعة ذائعة ، وتفضحهم بظهور ما اعتقدوا أنه لا يعرفه غيرهم.

٢١ ـ قوله تعالى : (الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ ..) [التوبة : ٦٧] الآية.

إن قلت : كيف قال ذلك هنا ب (مِنْ) وقال في قوله : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) بلفظ (أَوْلِياءُ) مع أنّ (مِنْ) أدلّ على المجانسة ، لاقتضائها البعضية ، فكانت بالمؤمنين أولى ، لأنهم أشدّ تجانسا في الصفات؟!

قلت : المراد بقوله : (بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) على دين بعض ، لأن

١٢٢

(مِنْ) يأتي بمعنى" على" كما في قوله تعالى : (وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ) وقوله : (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ) [البقرة : ٢٢٦] أي يحلفون على عدم وطئهنّ ، والمراد بقوله : (بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) أنصارهم وأعوانهم في الدّين ، وعلى ذلك فكلّ من اللفظين يصلح مكان الآخر ، لكن للولاية شرف ، فكانت أولى بالمؤمنين والمؤمنات.

٢٢ ـ قوله تعالى : (أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) [التوبة : ٦٩].

أي المنافقون والمنافقات حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة ، أما حبطها في الدنيا ، فمن حيث كيدهم ومكرهم وخداعهم ، التي كانوا يقصدون بها إطفاء نور الله ، ويأبى الله إلا أن يتم نوره. وأما حبطها في الآخرة ، فمن حيث إن عباداتهم وطاعاتهم ، أتوا بها رياء وسمعة ونفاقا ، فحبطت أعمالهم من الخبيثات المذكورات ، حيث لم يحصل بها غرضهم في الدنيا ولا في الآخرة.

وأمّا عباداتهم التي تجرى بها أحكام المسلمين عليهم ، كحقن دمائهم وأموالهم ، فينفقون بها في الدنيا خالصة ولا عبرة به.

٢٣ ـ قوله تعالى : (وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) [التوبة : ٧٤].

إن قلت : لم خصّص الأرض بالذكر ، مع أنهم لا ولي لهم في الأرض ولا في السماء ، ولا في الدنيا ولا في الآخرة؟

قلت : لمّا كانوا لا يعتقدون الوحدانية ، ولا يصدّقون بالآخرة ، كان اعتقادهم وجود الولي والنّصير ، مقصورا على الدنيا ، فعبّر عنها في الأرض.

أو أراد بالأرض أرض الدنيا والآخرة.

٢٤ ـ قوله تعالى : (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ) [التوبة : ٨٠] الآية.

إن قلت : لم خص السبعين ، مع أنهم لا يغفر لهم أصلا ، لقوله تعالى : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) [المنافقون : ٦] ولأنهم مشركون والله لا يغفر أن يشرك به؟

قلت : لأن عادة العرب جرت بضرب المثل في الآحاد بالسبعة ، وفي العشرات بالسبعين ، استكثارا ولا يريدون الحصر.

١٢٣

فإن قلت : لو كان المراد ذلك ، لما خفي على أفصح العرب ، وأعلمهم بأساليب الكلام ، حتى قال لما أنزلت هذه الآية : " لأزيدنّ على السبعين ، لعلّ الله أن يغفر لهم" قلت : لم يخف عليه ذلك ، وإنما أراد بما قال إظهار كمال رأفته ، ورحمته بمن بعث إليهم ، وفيه لطف بأمته وحثّ لهم على المراحم ، وشفقة بعضهم على بعض ، وهذا دأب الأنبياء عليهم‌السلام ، كما قال إبراهيم عليه‌السلام (وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [إبراهيم : ٣٦].

٢٥ ـ قوله تعالى : (وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) [التوبة : ٨٧]. قاله هنا بالبناء للمفعول ، وقال بعده : (وَطَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) بالبناء للفاعل ، لأن الأول تقدّمه مبنيّ للمفعول وهو قوله : (وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ) والثاني تقدّمه ذكر الله مرّات ، فناسب بناء الأول للمفعول ، والثاني للفاعل ، ليناسب الفاعل ما قبله ، ثم ختم كلا منهما بما يناسبه ، فقال في الأول : (لا يَفْقَهُونَ) وفي الثاني : (لا يَعْلَمُونَ) لأنّ العلم فوق الفقه أي الفهم.

٢٦ ـ قوله تعالى : (وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) [التوبة : ٩٤] قاله هنا ب (ثُمَ) بحذف (وَالْمُؤْمِنُونَ) وقاله بعدها بالواو ، وبذكر (وَالْمُؤْمِنُونَ.)

لأنّ الأول في المنافقين ، ولا يطّلع على ضمائرهم إلّا الله ، ثم رسوله بإطلاع الله إياه عليها. والثاني في المؤمنين ، وطاعاتهم وعباداتهم ظاهرة لله ولرسوله وللمؤمنين ، وختم الأول بقوله : (ثُمَّ تُرَدُّونَ) ليفيد قطعه عمّا قبله ، لأنه وعيد .. وختم الثاني بقوله (وَسَتُرَدُّونَ) ليفيد وصله بما قبله لأنه وعد ، فناسب في الأول (ثُمَ) وحذف (وَالْمُؤْمِنُونَ) وفي الثاني" الواو" وذكر (وَالْمُؤْمِنُونَ.)

فإن قلت : السّين في (سَيَرَى اللهُ) للاستقبال ، والرؤية بمعنى العلم ، والله تعالى عالم بعلمهم حالا ومآلا ، فكيف جمع بينهما؟!

قلت : معناه في حقّ الله ، أنه سيعلمه واقعا مآلا ، كما علمه غير واقع حالا ، لأن الله تعالى يعلم الأشياء على ما هي عليه ، فيعلم الواقع واقعا ، وغير الواقع غير واقع ، أمّا في حقّ الرسول فهو على ظاهره.

٢٧ ـ قوله تعالى : (الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما

١٢٤

أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ ..) [التوبة : ٩٧].

فإن قلت : وصف العرب بأنهم جاهلون بذلك ، ينافي صحّة الاحتجاج بألفاظهم وأشعارهم ، على كتاب الله وسنّة نبيه؟!

قلت : لا منافاة ، إذ وصفهم بالجهل إنما هو في أحكام القرآن ، لا في ألفاظه ، ونحن لا نحتجّ بلغتهم في بيان الأحكام ، بل في بيان معاني الألفاظ ، لأن القرآن والسّنّة جاءا بلغتهم.

٢٨ ـ قوله تعالى : (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ..) [التوبة : ١٠١] الآية.

الخطاب لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فإن قلت : كيف نفى عنه علمه بحال المنافقين هنا ، وأثبته له في قوله : (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) [محمد : ٣٠]؟

قلت : آية النّفي نزلت قبل آية الإثبات فلا تنافي.

٢٩ ـ قوله تعالى : (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً) [التوبة : ١٠٢] الآية. أي خلطوا كلا منهما بالآخر.

٣٠ ـ قوله تعالى : (وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [التوبة : ١١٢].

إن قلت : لم عطفه دون ما قبله من الصّفات؟

قلت : لأنه وقع بعد سبع صفات ، وعادة العرب أن تدخل الواو بعد السّبعة.

٣١ ـ قوله تعالى : (وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ ..) [التوبة : ١٢٠] الآية.

قال ذلك هنا ، وقال بعد : (إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ) بدون (عَمَلٌ صالِحٌ)!! لأنّ ما هنا مشتمل على ما هو من عملهم وهو قوله : (وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ) إلى آخره ، وعلى ما ليس من عملهم وهو قوله : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ) إلى آخره ، فتفضّل الله بإجرائه مجرى عملهم في الثواب ، فناسب ذلك زيادة قوله : (بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ) ولهذا عمّ عقبه في قوله : (إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ.)

وما ذكر في الآية الثانية ، مختصّ بما هو من عملهم وهو قوله : (وَلا يُنْفِقُونَ

١٢٥

نَفَقَةً صَغِيرَةً) إلى آخره ، ليكتب لهم ذلك بعينه ، ولهذا خصّهم عقبه في قوله : (لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ.)

وقوله : (أَحْسَنَ) أي بأحسن ، والمراد بحسن عملهم ، إذ لا يختصّ جزاؤهم بأحسن عملهم.

أو المراد ليجزيهم أحسن من الذي كانوا يعملون.

" تمت سورة التوبة"

١٢٦

سورة يونس

١ ـ قوله تعالى : (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقًّا ..) [يونس : ٤].

قال ذلك هنا ، وقال في هود : (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ) لأن ما هنا خطاب للمؤمنين والكفار ، بقرينة ذكرهما بعد ، وما في هود خطاب للكفار فقط ، بقرينة قوله قبله : (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ.)

٢ ـ قوله تعالى : (يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [يونس : ٥].

خصّ التفصيل بالعلماء ، مع أنه تعالى فصّل الآيات للجهلاء أيضا ، لأنّ انتفاعهم بالتفصيل أكثر.

٣ ـ قوله تعالى : (وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) [يونس : ١٣].

قاله هنا بالواو تبعا لها في قوله : (وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) وقاله في مواضع أخر ، بالفاء للتعقيب ، على أصلها.

٤ ـ قوله تعالى : (قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ ..) [يونس : ١٦] الآية.

إن قلت : كيف قال النبيّ ذلك ، مع أن الله تعالى أنكر على الكفّار احتجاجهم بمشيئته في قولهم : (لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا؟!) ولهذا لا ينبغي لمن فعل معصية ، أن يحتجّ بقوله : لو شاء الله ما فعلتها؟!

قلت : إنّما قال النبيّ ذلك ، بأمر الله تعالى له فيه ، بقوله : (لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ ..) وللعاصي أن يحتجّ بذلك إذا أمر الله به.

٥ ـ قوله تعالى : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ ..) [يونس : ١٨] الآية.

إن قلت : كيف نفى عن الأصنام الضرّ والنفع هنا ، وأثبتهما لها في قوله في الحجّ : (يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ) [الحج : ١٣].

قلت : نفيهما عنها باعتبار الذّات ، وإثباتهما لها باعتبار السبب.

٦ ـ قوله تعالى : (فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ..) [يونس : ٢٣] الآية.

١٢٧

إن قلت : ما فائدة قوله : (بِغَيْرِ الْحَقِ) بعد قوله : (يَبْغُونَ) مع أن البغي ـ وهو الفساد من قولهم : بغى الجرح أي فسد ـ لا يكون إلّا بغير حقّ؟

قلت : قد يكون الفساد بحقّ ، كاستيلاء المسلمين على أرض الكفار ، وهدم دورهم ، وإحراق زرعهم ، وقطع أشجارهم ، كما فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببني قريظة.

٧ ـ قوله تعالى : (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ ..) [يونس : ٢٤] الآية.

إن قلت : لم شبّه الحياة الدنيا بماء السّماء ، دون ماء الأرض؟

قلت : لأنّ ماء السّماء ـ وهو المطر ـ لا تأثير لكسب العبد فيه ، بزيادة أو نقص ، أو لأنّه يستوي فيه جميع الخلائق ، بخلاف ماء الأرض فيهما ، فكان تشبيه الحياة به أنسب.

٨ ـ قوله تعالى : (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) إلى قوله : (فَسَيَقُولُونَ اللهُ) [يونس : ٣١].

إن قلت : هذا يدلّ على أنهم معترفون بأنّ الله هو الخالق ، الرازق ، المدبّر ، فكيف عبدوا الأصنام؟!

قلت : كلّهم كانوا يعتقدون بعبادتهم الأصنام ، عبادة الله تعالى ، والتقرّب إليه ، لكن بطرق مختلفة.

ففرقة قالت : ليست لنا أهليّة لعبادة الله تعالى ، بلا واسطة لعظمته ، فعبدناها لتقرّبنا إليه تعالى ، كما قال حكاية عنهم : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣].

وفرقة قالت : الملائكة ذوو جاه ومترلة عند الله ، فاتّخذنا أصناما على هيئة الملائكة ، ليقرّبونا إلى الله.

وفرقة قالت : جعلنا الأصنام قبلة لنا في عبادة الله تعالى ، كما أنّ الكعبة قبلة في عبادته.

وفرقة اعتقدت أنّ على كل صنم شيطانا ، موكّلا بأمر الله ، فمن عبد الصّنم حقّ عبادته ، قضى الشيطان حوائجه بأمر الله ، وإلّا أصابه الشيطان بنكبة بأمر الله.

٩ ـ قوله تعالى : (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ..) [يونس : ٣٤] الآية.

١٢٨

إن قلت : كيف قال ذلك ، مع أنهم غير معترفين ، بوجود الإعادة أصلا؟!

قلت : لمّا كانت الإعادة ، ظاهرة الوجود لظهور برهانها ، وهو القدرة على إعدام الخلق ، والإعادة أهون بالنسبة إلينا ، لزمهم الاعتراف بها ، فكأنهم مسلّمون وجودها (*) ، من حيث ظهور الحجّة ووضوحها.

١٠ ـ قوله تعالى : (فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ) [يونس:٤٦].

رتّب شهادته على فعلهم ، على رجوعهم إليه في القيامة ، مع أنه شهيد عليهم في الدنيا أيضا ، لأنّ المراد بما ذكر نتيجته ، وهو العذاب والجزاء ، كأنه قال : ثمّ الله معاقب ، أو مجاز على ما يفعلون.

١١ ـ قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ..) [يونس : ٥٠] الآية.

إن قلت : لم قال : (بَياتاً) ولم يقل : ليلا ، مع أنه أكثر استعمالا ، وأظهر مطابقة مع النّهار؟

قلت : لأنّ المعهود في الاستعمال ، عند ذكر الإهلاك والتهديد ، ذكر البيات ، وإن قرن به النّهار.

١٢ ـ قوله تعالى : (أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ..) [يونس : ٥٥] الآية.

قاله هنا بلفظ : (ما) ولم يكرّره ، وقاله بعد بلفظ (مَنْ.)

وكرره ، لأنّ" ما" لغير العقلاء ، وهو في الأول : المال ، المأخوذ من قوله تعالى : (لَافْتَدَتْ بِهِ ،) ولم يكرّر (ما) اكتفاء بقوله قبله : (وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ) [يونس : ٥٤].

و" من" للعقلاء ، وهم في الثاني قوم آذوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزل فيهم : (وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ) وكرّر (" مَنْ") لأن المراد من في الأرض ، وهم القوم المذكورون ، وإنما قدّم عليهم (مَنْ فِي السَّماواتِ) لعلوّها ، ولموافقة سائر الآيات ، سوى ما قدّمته في آل عمران ، وذكر قوله بعد : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) بلفظ" ما" وكرّر

__________________

(*) لعل الصواب : مسلّمون بوجودها.

١٢٩

لأن بعض الكفار قالوا : (اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) [البقرة : ١١٦] فقال تعالى : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ،) أي اتخاذ الولد إنما يكون لدفع أذى ، أو جلب منفعة ، والله مالك ما في السموات والأرض ، فكان المحلّ محلّ" ما" ومحلّ التكرار ، للتعميم والتوكيد.

فإن قلت : لم خصّ (ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) بالذكر ، مع أنه تعالى مالك أيضا للسّموات والأرض وما وراءهما؟

قلت : لأن في السموات والأرض الأنبياء ، والملائكة ، والعلماء ، والأولياء ، ومن يعقل فيهم أحقّ بالذّكر ، مع أن غيرهم مفهوم بالأولى.

١٣ ـ قوله تعالى : (وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ ..) [يونس : ٦٠] الآية.

إن قلت : هذا تهديد ، فكيف ناسبه قوله بعد : (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ)

قلت : هو مناسب لأنّ معناه : إنّ الله لذو فضل على النّاس ، حيث أنعم عليهم بالعقل ، وإرسال الرّسل ، وتأخير العذاب ، وفتح باب التوبة ، أي كيف تفترون على الله الكذب مع تضافر نعمه عليكم؟!

١٤ ـ قوله تعالى : (وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ ..) [يونس : ٦١] الآية.

إن قلت : كيف جمع الضمير ، مع أنه أفرد قبل في قوله : (وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ) والخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟!

قلت : جمع ليدلّ على أنّ الأمّة ، داخلون مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما خوطب به قبل ، أو جمع تعظيما للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً) [المؤمنون : ٥١].

١٥ ـ قوله تعالى : (وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ ..) [يونس : ٦٥].

أي لك لست مرسلا ، فالمقول محذوف كنظيره في" يس" ، والوقف على (قَوْلُهُمْ) فيهما لازم ، ويمتنع الوصل ، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم منزه عن أن يخاطب بذلك.

١٦ ـ قوله تعالى : (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [يونس : ٦٥].

١٣٠

قال ذلك هنا ، وقال في سورة المنافقين : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) لأن المراد هنا ، العزّة الخاصّة بالله وهي : عزّة الإلهيّة ، والخلق ، والإماتة ، والإحياء ، والبقاء الدائم ، وشبهها. وهناك العزّة المشتركة ، وهي في حقّ الله تعالى : القدرة ، والغلبة. وفي حقّ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : علوّ كلمته ، وإظهار دينه. وفي حقّ المؤمنين : نصرهم على الأعداء.

١٧ ـ قوله تعالى : (قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا ..) [يونس : ٧٧] الآية.

إن قلت : كيف قال موسى إنهم قالوا : أسحر هذا؟ بطريق الاستفهام ، مع أنهم إنما قالوه بطريق الإخبار المؤكّد ، في قوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ؟!)

قلت : فيه إضمار تقديره : أتقولون للحقّ لّما جاءكم ، إنّ هذا لسحر مبين؟ ثم قال لهم : أسحر هذا؟ إنكارا لما قالوا ، فالاستفهام للإنكار ، من قول" موسى" لا من قولهم.

١٨ ـ قوله تعالى : (فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ ..) [يونس : ٨٣].

قاله هنا بضمير الجمع ، لعوده إلى الذّريّة ، أو القوم ، لتقدّمها عليه ، بخلاف بقية الآيات ، فإنه بضمير المفرد ، لعوده إلى فرعون.

١٩ ـ قوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) [يونس : ٨٧].

ثنّى ضمير المأمور فيها ، لعوده إلى موسى وأخيه ، للتصريح بهما.

وجمعه ثانيا ، لعوده إليهما مع قومهما ، لأن كلّا منهم مأمور يجعل بيته قبلة يصلّي إليها ، خوفا من ظهورها لفرعون.

وأفرده ثالثا لعوده إلى موسى ، لأنه الأصل المناسب تخصيصه بالبشارة لشرفها.

٢٠ ـ قوله تعالى : (قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما ..) [يونس : ٨٩] الآية.

إن قلت : لم أضاف الدعوة إليهما ، مع أنها إنما صدرت من موسى عليه

١٣١

السلام ، لآية : (وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً ..) الآية؟

قلت : أضافهما إليهما لأن" هارون" كان يؤمن على دعاء موسى ، والتأمين دعاء في المعنى ، أو لأنّ هارون دعا أيضا مع موسى ، إلّا أنه تعالى خصّ موسى بالذكر ، لأنه كان أسبق بالدعوة ، أو أحرص عليها.

٢١ ـ قوله تعالى : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ ..) [يونس : ٩٤].

إن قلت : " إن" للشكّ ، والشكّ في القرآن منتف عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قطعا ، فكيف قال الله ذلك له؟!

قلت : لم يقل له ، بل لمن كان شاكّا في القرآن ، وفي نبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا ينافيه قوله : (مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) لوروده في قوله : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً) [النساء :١٧٤].

وقوله : (يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ) [التوبة : ٦٤].

وقيل : الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد غيره ، كما في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) [الأحزاب : ١].

أو المراد إلزام الحجّة على الشاكّين الكافرين ، كما يقول لعيسى عليه‌السلام (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) [المائدة : ١١٦]؟ وهو عالم بانتفاء هذا القول منه ، لإلزام الحجّة على النصارى.

٢٢ ـ قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً ..) [يونس : ٩٩] الآية.

فائدة ذكر (جَمِيعاً) بعد (كُلُّهُمْ) مع أنّ كلّا منهما يفيد الإحاطة والشمول ، الدّلالة على وجود الإيمان منهم ، بصفة الاجتماع الذي لا يدلّ عليه (كُلُّهُمْ) كقولك : جاء القوم جميعا أي مجتمعين ، ونظيره قوله تعالى : (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) [الحجر : ٣٠].

٢٣ ـ قوله تعالى : (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [يونس : ١٠٤].

قال ذلك هنا ، موافقة لقوله قبل : (وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ.)

قال في النّمل : (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) موافقة لقوله قبل : (فَهُمْ مُسْلِمُونَ) [النمل : ٨١].

١٣٢

٢٤ ـ قوله تعالى : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ ..) [يونس : ١٠٧] الآية.

إن قلت : لم ذكر المسّ في الضر ، والإرادة في الخير؟!

قلت : لاستعمال كلّ من المسّ ، والإرادة ، في كلّ من الضرّ والخير ، وأنه لا مزيل لما يصيب به منهما ، ولا رادّ لما يريده فيهما ، فأوجز الكلام بأن ذكر المس في أحدهما ، والإرادة في الآخر ، ليدلّ بما ذكر إلى ما لم يذكر ، مع أنه قد ذكر المسّ فيهما في سورة الأنعام.

" تمت سورة يونس"

١٣٣

سورة هود

١ ـ قوله تعالى : (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) [هود : ٣].

(ثُمَ) للترتيب" الإخباري" لا" الوجودي" إذ التوبة سابقة على الاستغفار.

أو المعنى : استغفروا ربكم من الشّرك ، (ثُمَّ تُوبُوا) أي ارجعوا إليه بالطاعة.

إن قلت : نجد من لم يستغفر الله ولم يتب ، يمتّعه الله متاعا حسنا إلى أجله ، أي يرزقه ويوسّع عليه كما قال ابن عباس ، أو يعمّره كما قال ابن قتيبة ، فما فائدة التقييد بالاستغفار والتوبة؟!

قلت : قال غيرهما : المتاع الحسن ـ المقيّد بالاستغفار والتوبة ـ هو الحياة في الطّاعة والقناعة ، ولا يكونان إلّا للمستغفر التّائب.

٢ ـ قوله تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها ..) [هود : ٦] الآية.

لم يقل" على الأرض" مع أنه أنسب بتفسير الدابة لغة ، لأنها ما يدبّ على الأرض ، لأنّ" في" أعمّ من" على" لأنها تتناول من الدوابّ ما على ظهر الأرض ، وما في بطنها.

وقيل : " في" بمعنى" على" كما في قوله تعالى (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) [طه : ٧١] وقوله : (أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ) [الطور : ٣٨] وظاهر أنّ تفسير الدابة بما يدبّ على الأرض ، يتناول الطير ، فلا يرد أنّ الآية ، لا تتناول الطير في ضمان رزقه.

فإن قلت : " على" للوجوب ، والله تعالى لا يجب عليه شيء؟

قلت : المراد بالوجوب هنا" وجوب اختيار" لا" وجوب إلزام" كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " غسل يوم الجمعة واجب على كلّ محتلم" (١) وكقول الإنسان لصاحبه : حقّك واجب عليّ.

أو" على" بمعنى" من" كما في قوله تعالى : (الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ

__________________

(١) أخرجه البخاري ومسلم ، ومعنى محتلم : أي مكلف بالغ ، ولا يراد به الجنب.

١٣٤

يَسْتَوْفُونَ) [المطففين : ٢].

٣ ـ قوله تعالى : (وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي ..) [هود : ١٠] قاله هنا ، وقال في" فصّلت" : (وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ) بزيادة" منّا" و" من" لأنه ثمّ بيّن جهة الرحمة ، بقوله : (لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ) فناسب ذكر" منّا" وحذفه هنا اكتفاء بقوله قبل : (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً)

وزاد" من" ثمّ ، لأنه لّما حدّ الرحمة وجهتها ، لحدّ الظّرف بعدها لتتشا كلا في التحديد ، وهنا لّما أهمل الأول ، أهمل الثاني ليتشاكلا.

٤ ـ قوله تعالى : (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ ..) [هود : ١٢] الآية.

إنما قال : (ضائِقٌ) ولم يقل : ضيّق ، لموافقة قوله قبله : (تارِكٌ ،) ليدلّ على أنه ضيق عارض لا ثابت ، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان أوسع النّاس صدرا.

ونظيره قولك : زيد سائد وجائد ، تريد حدث فيه السيادة والجود ، فإن أردت وصفه بثبوتهما ، قلت : زيد سيّد وجواد.

٥ ـ قوله تعالى : (قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ ..) [هود : ١٣] أي مثله في الفصاحة والبلاغة ، وإلّا فما يأتون به مفترى ، والقرآن ليس بمفترى.

أو معناه : مفتريات كما أنّ القرآن ـ في زعمكم ـ مفترى!!

فإن قلت : كيف أفرد في قوله : (قُلْ) ثمّ جمع في قوله : (فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ)

قلت : الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيهما ، لكنّه جمع في" لكم" تعظيما ، وتفخيما له ، ويعضده قوله في سورة القصص : (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ.)

أو الخطاب في الثاني للمشركين ، وفي (يَسْتَجِيبُوا) ل (مَنِ اسْتَطَعْتُمْ) والمعنى : فأتوا أيها المشركون بعشر سور مثله ، إلى آخره ، فإن لم يستجب لكم من تدعونه ، إلى المظاهرة على معارضته لعجزهم (فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ) وبالنظر إلى هذا الجواب ، جمع الضمير في (فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ) هنا ، وأفرد في القصص.

فإن قلت : قال في سورة يونس : (فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ) وقد عجزوا عنه ،

١٣٥

فكيف قال هنا (فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ؟!)

قلت : قيل : نزلت سورة هود أولا ، لكن أنكره المبّرد وقال : بل سورة يونس أولا ، قال : ومعنى قوله في سورة يونس : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) أي في الإخبار عن الغيب ، والأحكام ، والوعد والوعيد ، فعجزوا ، فقال لهم في سورة هود : إن عجزتم عن ذلك ، فأتوا بعشر سور مثله في البلاغة ، لا في غيره مما ذكر ، وما قاله هو المتّجه. هذا وتحرير الأول ، مع زيادة أن يقال : إنّ الإعجاز وقع أولا بالتحدّي بكل القرآن في آية : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُ) [الإسراء : ٨٨] فلمّا عجزوا تحدّاهم ـ بعشر سور ، فلما عجزوا تحدّاهم بسورة ، فلما عجزوا تحدّاهم ـ بدونها بقوله : (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ) [الطور : ٣٤].

٦ ـ قوله تعالى : (لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) [هود : ٢٣].

قال ذلك هنا ، وقال في النّحل : (هُمُ الْخاسِرُونَ) لأنّ ما هنا نزل في قوم صدّوا عن سبيل الله ، وصدّوا غيرهم ، فضلّوا وأضلّوا.

وما هناك نزل في قوم صدّوا عن سبيل الله ، فناسب في الأول : (الْأَخْسَرُونَ) وفي الثاني : (الْخاسِرُونَ.)

٧ ـ قوله تعالى : (قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ ..) [هود : ٢٨].

قال هنا بتقديم (رَحْمَةً) على الجارّ والمجرور ، وعكس بعد في قوله : (وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً) وفي قوله : (وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً) ليوافق كلّ منهما ما قبله ، إذ الأفعال المتقدمة هنا وهي : " ترى ، نرى ، ونظنّ" لم يفصل بينهما وبين مفاعليها جارّ ومجرور ، والفعل المتقدّم بعد ، وهو" كان" في الثاني و" نفعل" في الثالث ، فصل بينه وبين مفعوله جارّ ومجرور ، إذ خبر" كان" كالمفعول.

فإن قلت : لم قال في الأوّلين : (وَآتانِي) وفي الثالث : (وَرَزَقَنِي؟!)

قلت : لأنّ الثالث تقدّمه ذكر الأموال ، وتأخرّ عنه قوله : (رِزْقاً حَسَناً) وهما خاصّان ، فناسبهما قوله : (وَرَزَقَنِي) بخلاف الأوّلين فإنه تقدّمهما أمور عامة ، فناسبها قوله : (وَآتانِي.)

٨ ـ قوله تعالى : (وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ ..) [هود : ٢٩].

١٣٦

إن قلت : لم قال هنا حكاية عن نوح بلفظ (مالاً) وقاله بعد حكاية عن هود بلفظ (أَجْراً؟!)

قلت : توسعة في التعبير عن المراد بمتساويين ، ولأن قصّة نوح وقع بعدها (خَزائِنُ) والمال بها أنسب.

فإن قلت : لم قال في الأولى (وَيا قَوْمِ) بالواو ، وفي الثانية (يا قَوْمِ) بدونها؟

قلت : لطول الكلام ، الواقع بين النداءين في قصة نوح ، وقصر ما بينهما في قصة هود ، فناسب ذكر الواو لتوصيل ما بعدها بما قبلها.

٩ ـ قوله تعالى : (قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ ..) [هود : ٤٣] الآية.

الاستثناء فيه منقطع ، لأن من رحمة الله معصوم لا عاصم.

أو متّصل لأن معنى من رحم الراحم ـ وهو الله ـ فكأنه قيل : لا عاصم إلا الله.

أو لأنّ عاصما بمعنى معصوم ، ك (ماءٍ دافِقٍ) [الطارق : ٦] ، و (عِيشَةٍ راضِيَةٍ) [القارعة : ٧].

١٠ ـ قوله تعالى : (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي ..) [هود : ٤٤] الآية.

إن قلت : هما لا يعقلان فكيف أمرا؟

قلت : الأمر هنا أمر" إيجاد" لا أمر" إيجاب" ، فلا يشترط فيه فهم ولا عقل ، لأنّ الأشياء كلّها منقادة لله تعالى ومنه قوله تعالى : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [النحل : ٤٠] وقوله : (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) [فصلت : ١١].

١١ ـ قوله تعالى : (وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ..) [هود : ٤٥] الآية. قاله هنا بالفاء ، وقال في مريم في قصة زكريا : (إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا قالَ رَبِ) بلا فاء ... لأنه أريد بالنداء هنا إرادته ، فهي سبب له ، فناسب الفاء الدالة إلى السببيّة ، وهناك لم يرد ذلك ، فناسب ترك الفاء.

١٢ ـ قوله تعالى : (قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ ..) [هود : ٥٣] الآية.

إن قلت : هود كان رسولا ، فكيف لم يظهر معجزة؟!

قلت : قد أظهرها وهي" الريح الصّرصر" ولا يقبل قول الكفّار في حقه.

١٣٧

قال بعضهم : أو إنّ الرسول إنما يحتاج إلى معجزة ، إذا كان صاحب شريعة ، لتنقاد أمته إليها ، إذ في كل شريعة أحكام غير معقولة ، فيحتاج الرسول الآتي بها إلى معجزة ، تشهد بصحة صدقه ، وهود لم يكن له شريعة ، وإنّما كان يأمر بالعقل ، فلا يحتاج إلى معجزة ، لأنّ الناس ينقادون إلى ما يأمرهم به ، لموافقته للعقل.

والمعتمد الجواب الأول ، ولا يلزم من عدم إظهاره ، معجزة ، عدمها في نفس الأمر ، فقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " ما من نبيّ إلّا وقد أوتي من الآيات ، ما مثله آمن عليه البشر .." (١).

وقولهم : (ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ) كقول غيرهم : (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ) [المؤمنون : ٢٥] ، و (إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ) [الأعراف : ١٠٩].

١٣ ـ قوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) [هود : ٥٨].

قاله في قصة هود وشعيب بالواو ، وفي قصة صالح ولوط بالفاء ، لأن العذاب في قصة الأوّلين تأخّر عن وقت الوعيد ، فناسب الإتيان بالواو ، وفي قصّة الأخيرين وقع العذاب عقب الوعيد ، فناسب الإتيان بالفاء ، الدّالة على التعقيب.

١٤ ـ قوله تعالى : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ ..) [هود : ٥٧] الآية.

جواب الشرط محذوف ، إذ الإبلاغ ليس هو الجواب ، لتقدّمه على تولّيهم ، وإنما هو متعلّق الجواب ، والتقدير : فقل لهم : قد أبلغتكم.

١٥ ـ قوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) [هود : ٥٨].

كرّر التنجية ، لأنّ المراد بالأولى : تنجيتهم من عذاب الدنيا ، الذي نزل بقوم هود ، وهي" سموم" أرسلها الله عليهم ، فقطّعتهم عضوا عضوا.

وبالثانية : تنجيتهم من عذاب الآخرة ، الذي استحقّه قوم هود بالكفر.

١٦ ـ قوله تعالى : (وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ ..) [هود : ٦٠] الآية.

__________________

(١) أخرجه البخاري ومسلم.

١٣٨

قاله هنا بذكر (الدُّنْيا) وقال في قصة موسى بعد : (وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً) بحذفها ، اختصارا واكتفاء بما هنا.

١٧ ـ قوله تعالى : (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ) [هود : ٦٧].

قاله هنا في قصة صالح ، بلا" تاء" وقاله بها بعد في قصة شعيب ، وكلّ صحيح ، لكن اختصّ الثاني بها ، لأنّ قوم شعيب وقع الإخبار عن عذابهم ، بثلاثة ألفاظ مؤنثة ـ في الأعراف ، والعنكبوت (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) وهنا (الصَّيْحَةُ) وفي الشعراء (الظُّلَّةِ) ـ وقعت لهم الثلاثة في ثلاثة أوقات.

١٨ ـ قوله تعالى : (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ ..) [هود : ٨١].

استثنى فيها (إِلَّا امْرَأَتَكَ) ولم يستثنها منها في الحجر اكتفاء باستثنائها ثمّ قبله في قوله : (إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا امْرَأَتَهُ.)

١٩ ـ قوله تعالى : (وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ ..) [هود : ٨٤] الآية.

هذا النّهي يتضمّن الأمر بالإيفاء ، وصرّح به بعد في قوله (وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ) وهو يتضمّن النهي عن النقص ، ففي ذلك تأكيد على الحثّ على عدم البخس ، وعلى الحثّ على العدل ، وقدّم النّهي على الأمر ، لأنّ دفع المفاسد آكد من جلب المصالح.

٢٠ ـ قوله تعالى : (يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ ..) [هود : ١٠٥] الآية.

مقيّد لقوله تعالى : (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) [النحل : ١١١] ، أي بإذن الله ، ولا ينافي ذلك قوله تعالى : (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ. وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) [المرسلات : ٣٥ ، ٣٦] ؛ لأنّ في يوم القيامة مواقف ، ففي بعضها لا يؤذن لهم في الكلام ، فيكفّون عنه ، وفي بعضها يؤذن لهم فيه ، فيتكلّمون.

٢١ ـ قوله تعالى : (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) [هود : ١٠٥].

إن قلت : " من" للتبعيض ، ومعلوم أن الناس كلّهم ، إمّا شقيّ أو سعيد ، فما معنى التبعيض؟!

١٣٩

قلت : التبعيض صحيح لأنّ أهل القيامة ثلاثة أقسام :

أ ـ قسم شقيّ ، وهم أهل النّار.

ب ـ وقسم سعيد ، وهم أهل الجنّة.

ج ـ وقسم لا شقيّ ولا سعيد ، وهم أهل الأعراف ، وإن كان مصيرهم إلى الجنة ، كما قاله قتادة وغيره.

٢٢ ـ قوله تعالى : (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ ..) [هود : ١٠٨] الآية.

إن قلت : كيف قال ذلك ، مع أنّ السموات والأرض يفنيان ، وذلك ينافي الخلود الدائم؟!

قلت : هذا خرج مخرج الألفاظ ، التي يعبّر العرب فيها عن إرادة الدّوام ، دون التأقيت ، كقولهم : لا أفعل هذا ما اختلف الليل ، وما دامت السموات والأرض ، يريد لا يفعله أبدا.

أو أنهم خوطبوا على معتقدهم أنّ السموات والأرض لا يفنيان.

أو أن المراد سماوات الآخرة وأرضها ، قال تعالى : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) [إبراهيم : ٤٨] وتلك دائمة لا تفنى.

إن قلت : إذا كان المراد بما ذكر الخلود الدائم ، فما معنى الاستثناء في قوله (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ؟)

قلت : هو استثناء من الخلود في عذاب أهل النار ، ومن الخلود في نعيم أهل الجنة ، لأن أهل النّار لا يخلّدون في عذابها وحده ، بل يعذّبون بالزمهرير ، وبأنواع أخر من العذاب ، وبما هو أشدّ من ذلك ، وهو سخط الله عليهم.

وأهل الجنة لا يخلّدون في نعيمها وحده ، بل ينعّمون بالرضوان ، والنظر إلى وجهه الكريم ، وغير ذلك ، كما دلّ عليه قوله تعالى : (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ.)

أو" إلّا" بمعنى غير ، أي خالدين فيها ما دامت السّموات والأرض ، غير ما شاء الله من الزيادة عليهما ، إلى ما لا نهاية له.

أو" إلّا" بمعنى الواو ، كقوله تعالى : (إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ) [النمل : ١٠].

١٤٠