فتح الرّحمن شرح ما يلتبس من القرآن

زكريّا بن محمّد بن أحمد الأنصاري

فتح الرّحمن شرح ما يلتبس من القرآن

المؤلف:

زكريّا بن محمّد بن أحمد الأنصاري


المحقق: الدكتور يحيى مراد
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 978-2-7451-4012-4
الصفحات: ٣٦٠

سورة الطّور

١ ـ قوله تعالى : (وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) [الطور : ٢٠].

إن قلت : كيف قال ذلك ، مع أنّ الحور العين في الجنة ، مملوكات ملك يمين ، لا ملك نكاح؟

قلت : معناه قرنّاهم بهنّ ، من قولك : زوّجت إبلي أي قرنت بعضها إلى بعض ، وليس من التزويج الذي هو عقد النكاح ، ويؤيّده أن ذلك لا يعدّى بالباء بل بنفسه ، كما قال تعالى : (زَوَّجْناكَها) [الأحزاب : ٣٧].

٢ ـ قوله تعالى : (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) [الطور : ٢١].

إن قلت : كيف قال تعالى في وصف أهل الجنة ذلك ، مع أن المعنى : كل امرئ مرهون في النّار بعمله؟

قلت : بل المعنى كلّ نفس مرهونة بالعمل الصالح ، الذي هي مطالبة به ، فإن عمل صالحا فلها ، وإلا أوبقها ، أو الجملة من صفات أهل النار ، معترضة بين صفات أهل الجنّة. روي عن مقاتل أنه قال : معناه كلّ امرئ كافر بما عمل من الكفر ، مرتهن في النار ، والمؤمن لا يكون مرتهنا ، لقوله تعالى : (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ). (إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ.)

٣ ـ قوله تعالى : (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ) [الطور : ٢٤].

قاله هنا وفي الإنسان (١) بالواو ، عطفا على ما قبله ، وقاله في الواقعة (٢) بغير واو ، لأنه حال أو خبر بعد خبر.

٤ ـ قوله تعالى : (فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ) [الطور : ٢٩].

إن قلت : كيف قال ذلك ، مع أن كلّ أحد غيره كذلك؟

قلت : معناه فما أنت ـ بحمد الله وإنعامه عليك بالصّدق والنبوّة ـ بكاهن ولا مجنون كما يقول الكفّار ، أو" الباء" هنا بمعنى" مع" كما في قوله تعالى : (فَتَسْتَجِيبُونَ

__________________

(١) في الإنسان (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً).

(٢) وفي الواقعة (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ. بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ).

٢٨١

بِحَمْدِهِ) [الإسراء : ٥٢].

٥ ـ قوله تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) [الطور : ٣٠]. ذكر" أم" خمس عشرة مرّة ، وكلّها إلزامات ، ليس للمخاطبين بها عنها جواب.

٦ ـ قوله تعالى : (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا ..) [الطور : ٤٨].

معنى الجمع هنا : التفخيم والتعظيم ، أي بحيث نراك ونحفظك ، ومثله قوله تعالى : (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) [القمر : ١٤].

" تمت سورة الطور"

٢٨٢

سورة النّجم

١ ـ قوله تعالى : (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى) [النجم : ٢].

إن قلت : كيف قال ذلك ، مع أن الضلالة والغواية متّحدتان؟

قلت : لا نسلّم اتحادهما إذ الضلالة ضدّ الهدى ، والغواية ضدّ الرشد.

أو المعنى : ما ضلّ في قوله ، ولا غوى في فعله.

وبتقدير اتّحادهما ، يكون ذلك من باب التأكيد باللفظ المخالف ، مع اتّحاد المعنى.

٢ ـ قوله تعالى : (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى. فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) [النجم : ٨ ـ ٩].

إن قلت : كيف أدخل كلمة الشكّ ، وهو محال عليه تعالى؟

قلت : (" أَوْ") للتخيير لا للشكّ ، أي إن شئتم قدّروا ذلك القرب بقاب قوسين ، أو بأدنى منهما ، أو هي بمعنى" بل" أو للتشكيك لهم في قدر القرب.

٣ ـ قوله تعالى : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى. وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) [النجم : ١٩ ـ ٢٠].

إن قلت : " رأى" هنا من رؤية القلب ، فأين مفعولها الثاني؟

قلت : هو محذوف تقديره : أفرأيتموها بنات الله وأنداده؟ والمعنى : أخبروني ألهذه الأصنام قدرة على شيء ما فتعبدونها ، دون القادر على كل شيء؟!

فإن قلت : كيف وصف الثالثة بالأخرى ، مع أنه إنما يوصف بها الثانية ، وظاهر اللفظ أن يكون قد سبق ثالثة ، ثم لحقها أخرى ، ليكون ثالثتين؟

قلت : (الْأُخْرى) صفة للعزّى ، وإنما أخّرها رعاية للفواصل ، أو صفة ذمّ للّات ، والعزّى ، ومناة التي هي ثالثة اللّتين قبلها ، فالأخرى على هذا من التأخر في الرتبة.

٤ ـ قوله تعالى : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ ..) [النجم : ٢٣].

قاله هنا وبعد ، وليس بتكرار؟ لأن الأول متصل بعبادتهم اللّات والعزّى ومناة ، والثاني بعبادتهم الملائكة ، والظنّ فيها مذموم بقوله : (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) [يونس : ٣٦] أي لا يقوم مقام العلم.

٢٨٣

فإن قلت : كيف لا يقوم مقامه ، مع أنه يقوم مقامه في كثير من المسائل كالقياس؟

قلت : المراد هنا : الظنّ الحاصل من اتّباع الهوى ، دون الظنّ الحاصل من الاستدلال والنظر ، بقرينة قوله : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ) [النجم : ٣٩].

٥ ـ قوله تعالى : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى.)

إن قلت : ثواب الصّدقة ، والقراءة ، والحج ، والدعاء ، يصل إلى الميّت ، وليس من سعيه؟

قلت : ما دلّت عليه الآية مخصوص بقوم إبراهيم وموسى ، وهو حكاية لما في صحفهما ، أمّا هذه الأمة فلها ما سعت وما سعي لها.

أو هو ظاهره ، ولكن دعاء ولد الإنسان ، وصديقه ، وقراءتهما وصدقتهما عنه ، من سعيه أيضا ، بواسطة اكتسابه القرابة ، والصداقة ، أو المحبّة من الناس ، بسبب التقوى والعمل الصالح.

٦ ـ قوله تعالى : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى) [النجم : ٥٥].

أي : تشكّ ، والخطاب فيه للوليد بن المغيرة.

فإن قلت : كيف قال تعالى ذلك ، بعد تعديد النّقم ، والآلاء : النّعم؟

قلت : قد تقدم أيضا تعديد النّعم ، مع أن النّقمة في طيها نعمة ، لما تضمنته من المواعظ والزواجر ، والمعنى : فبأيّ نعم ربك ، الدالة على وحدانيته ، تشكّ يا وليد بن المغيرة؟

" تمت سورة النجم"

٢٨٤

سورة القمر

١ ـ قوله تعالى : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا ..) [القمر : ٨].

إن قلت : ما فائدة إعادة التكذيب فيه؟!

قلت : فائدته حكاية الواقع ، وهو أنهم كذّبوا تكذيبا بعد تكذيب.

أو الأول تكذيبهم بالتوحيد ، والثاني بالرسالة.

أو الأول تكذيبهم بالله ، والثاني برسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢ ـ قوله تعالى : (فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) [القمر : ١٢].

إن قلت : القياس ـ كما قرىء به شاذا ـ أي ماء السّماء ، وماء الأرض؟

قلت : أراد به جنس الماء ، وحّده موافقة لقوله قبل : (بِماءٍ مُنْهَمِرٍ.)

٣ ـ قوله تعالى : (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ) [القمر : ١٤].

إن قلت : كيف قال ذلك ، والجزاء إنما يكون للكافر لا للمكفور؟

قلت : إن قرىء" كفر" بالبناء للفاعل شاذا ، فالخبر للكافر ، أو بالبناء للمفعول ، والأصل : كفر به ، حذف الجارّ وأوصل بمجروره الفعل ، فالجزاء للمكفور به وهو الله تعالى ، أو نوح عليه‌السلام ، والجزاء لكونه مصدرا يضاف تارة للفاعل ، وتارة للمفعول.

٤ ـ قوله تعالى : (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) [القمر : ٢٠].

ذكّر وصف النخل هنا ب (مُنْقَعِرٍ) وأنّثه في الحاقّة ب (خاوِيَةٍ) (١) رعاية للفواصل فيهما ، وجاز فيه الأمر نظرا إلى" لفظ" النخل تارة فيذكّر ، وإلى" معناه" فيؤنّث.

" تمت سورة القمر"

__________________

(١) أشار إلى قوله تعالى (فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ).

٢٨٥

سورة الرّحمن

١ ـ قوله تعالى : (وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ.) [الرحمن : ٧].

قرنه برفع السماء ، لأنه تعالى عدّد نعمه على عباده ، ومن أجلّها الميزان ، الذي هو العدل ، الذي به نظام العالم وقوامه.

وقيل : هو القرآن ، وقيل : هو العقل ، وقيل : ما يعرف به المقادير ، كالميزان المعروف ، والمكيال ، والذراع.

إن قلت : ما فائدة تكرار لفظ الميزان ثلاث مرات ، مع أن القياس بعد الأولى الإضمار؟

قلت : فائدته بيان أنّ كلا من الآيات مستقلة بنفسها ، أو أن كلا من الألفاظ الثلاثة مغاير لكل من الآخرين ، إذ الأول ميزان الدنيا ، والثاني ميزان الآخرة ، والثالث ميزان العقل.

فإن قلت : قوله : (أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ) أي لا تجاوزوا فيه العدل ، مغن عن الجملتين المذكورتين بعده؟!

قلت : الطغيان فيه : أخذ الزائد ، والإخسار : إعطاء الناقص ، والقسط : التوسط بين الطرفين المذمومين.

٢ ـ قوله تعالى : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) [الرحمن : ١٣].

ذكر هنا إحدى وثلاثين مرّة ، وثمانية منها ذكرت عقب آيات ، فيها تعداد عجائب خلق الله ، وبدائع صنعه ، ومبدأ الخلق ومعادهم. ثم سبعة منها عقب آيات ، فيها ذكر النار وشدائدها ، بعدد أبواب جهنم ، وحسن ذكر الآلاء عقبها ، لأن من جملة الآلاء ، دفع البلاء وتأخير العقاب. وبعد هذه السبعة ثمانية ، في وصف الجنتين وأهلهما ، بعدد أبواب الجنة.

وثمانية أخرى بعدها في الجنتين ، اللتين هما دون الجنتين الأوليين ، أخذا من قوله تعالى : (وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ.) فمن اعتقد الثمانية الأولى ، وعمل بموجبها ، استحق هاتين الثمانيتين من الله ، ووقاه السبعة السابقة.

٣ ـ قوله تعالى : (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ) [الرحمن : ١٤] أي من طين يلبس لم يطبخ ، له صلصة : أي صوت إذا نقر.

٢٨٦

فإن قلت : كيف قال ذلك هنا ، وقال في الحجر : (مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) أي من طين أسود متغيّر ، وقال في الصافات : (مِنْ طِينٍ لازِبٍ) أي لازم يلصق باليد ، وقال في آل عمران : (كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ؟!)

قلت : الآيات كلّها متفقة المعنى ، لأنه تعالى خلقه من تراب ، ثم جعله طينا ، ثم حمأ مسنونا ، ثم صلصالا.

٤ ـ قوله تعالى : (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) [الرحمن : ١٧].

إن قلت : لم كرّر ذكر الربّ هنا ، دون سورتي : المعارج ، والمزمّل؟

قلت : كرّره هنا تأكيدا ، وخص ما هنا بالتأكيد لأنه موضع الامتنان ، وتعديد النّعم ، ولأن الخطاب فيه من جنسين هما : الإنس ، والجنّ ، بخلاف ذينك.

٥ ـ قوله تعالى : (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ) [الرحمن : ٣١]. أي سنقصد لحسابكم ، فهو وعيد وتهديد لهم ، فالفراغ هنا بمعنى القصد للشيء ، لا بمعنى الفراغ منه ، إذ معنى الفراغ من الشيء ، بذل المجهود فيه ، وهذا لا يقال في حقه تعالى.

٦ ـ قوله تعالى : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) [الرحمن : ٤٦].

أي : ولمن خاف قيامه بين يدي ربه ، والمعنى لكل خائف من الفريقين جنتان : جنة للخائف الإنسي ، وجنة للخائف الجنّي ، أو المعنى لكل خائف جنتان : جنة لعقيدته ، وجنة لعمله ، أو جنة لفعل الطاعات ، وجنة لترك المعاصي ، أو جنة يثاب بها ، وجنة يتفضّل بها عليه. أو المراد بالجنتين جنة واحدة ، وإنما ثنّى مراعاة للفواصل.

٧ ـ قوله تعالى : (فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ) [الرحمن : ٥٦]. جمع الضمير مع أن قبله جنتان ، لرجوعه إلى الآلاء المعدودة في الجنتين ، أو إلى الجنتين ، لكن جمعه لاشتمالهما على قصور ومنازل ، أو إلى المنازل والقصور التي دلّ عليها ذكر الجنتين ، أو إلى الفرش لقربها ، وتكون" في" بمعنى" على" كما في قوله تعالى (أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ) [الطور : ٣٨].

أي : عليه ، وقوله تعالى : (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ) أي لم يفتضّ الإنسيّات إنسيّ ، ولا الجنيات جنيّ.

" تمت سورة الرحمن"

٢٨٧

سورة الواقعة

١ ـ قوله تعالى : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ. أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) [الواقعة : ١٠ ، ١١].

فائدة التكرار فيه التأكيد ، في مقابلة التأكيد في : (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) كأنه قال : هم المعروف حالهم ، المشهور وصفهم.

أو المعنى : والسابقون إلى طاعة الله ، هم السابقون إلى رحمته وكرامته .. ثم قيل المراد بهم : السابقون إلى الإيمان من كل أمة ، وقيل : الذين صلّوا إلى القبلتين ، وقيل : أهل القرآن ، وقيل : السابقون إلى المساجد ، وإلى الخروج في سبيل الله ، وقيل : هم الأنبياء.

٢ ـ قوله تعالى : (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) [الواقعة : ١٧].

إن قلت : كيف قال ذلك مع أن التخليد لا يختصّ بالولدان في الجنة؟

قلت : معناه أنهم لا يتحوّلون عن شكل الولدان ، والمراد بهم هنا ولدان المسلمين ، الذين يموتون صغارا ولا حسنة لهم.

وقيل : ولدان على سنّ واحد ، أنشأهم الله لأهل الجنة ، يطوفون عليهم ، من غير ولادة ، لأن الجنة لا ولادة فيها ، وقيل : أطفال المشركين وهم خدم أهل الجنة.

٣ ـ قوله تعالى : (نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ) [الواقعة : ٥٧]. أي فهلا تصدّقون بأنّا خلقناكم!!

إن قلت : كيف قال ذلك مع أنهم مصدّقون بذلك ، بدليل قوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [الزخرف : ٨٧].

قلت : هم وإن صدّقوا بألسنتهم ، لكن لما كان مذهبهم خلاف ما يقتضيه التصديق ، كانوا كأنهم مكذبون به ، أو أن ذلك تخصيص على التصديق بالبعث بعد الموت ، بالاستدلال بالخلق الأول ، فكأنه قال : هو خلقكم أولا باعترافكم فلا يمتنع عليه أن يعيدكم ثانيا ، فهلا تصدّقون بذلك!!

٤ ـ قوله تعالى : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ؟! أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ؟! أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ؟! أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ) [الواقعة : ٧١].

بدأ بذكر خلق الإنسان ، ثم بما لا غنى له عنه ، وهو الحبّ الذي منه قوته ، ثم

٢٨٨

بالماء الذي به سوغه وعجنه ، ثم بالنّار الذي بها نضجه وصلاحه ، وذكر عقب كلّ من الثلاثة الأولى ما يفسده ، فقال في الأولى (نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ) وفي الثانية (لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً) وفي الثالثة (لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً) ولم يقل في الرابعة ما يفسدها ، بل قال : (نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ) أي جعلناها تذكرة تتعظون بها ، ومتاعا للمسافرين ينتفعون بها.

٥ ـ قوله تعالى : (لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) [الواقعة : ٦٥].

ذكر في جواب (لَوْ) في الزرع اللام عملا بالأصل ، وحذفها منه في الماء اختصارا لدلالة الأول عليه ، أو أن أصل هذه اللام للتأكيد ، وهو أنسب بالمطعوم ، لأنه مقدّم وجودا ورتبة على المشروب.

٦ ـ قوله تعالى : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) [الواقعة : ٧٤].

أي : نزّه ربّك فقوله : (بِاسْمِ) زائد ، أو المعنى : نزّه اسم ربك ، فالباء زائدة والاسم باق على معناه ، أو هو بمعنى الذّكر ، أو الباء متعلقة بمحذوف.

والمراد بالتسبيح الصلاة وباسم ربك : التكبير ، أي افتتح الصلاة بالتكبير.

٧ ـ قوله تعالى : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ. فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) [الواقعة : ٧٧ ـ ٧٨.]

إن قلت : القرآن صفة قديمة قائمة بذات الله تعالى ، فكيف يكون حالا في : (كِتابٍ مَكْنُونٍ) أي لوح محفوظ ، أو مصحف؟!

قلت : لا يلزم من كتابته في كتاب حلوله فيه ، كما لو كتب على شيء ألف دينار ، لا يلزم منه وجودها فيه ، ومثله قوله تعالى : (الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) [الأعراف : ١٥٧]. فثبت أنه ليس حالا في شيء من ذلك ، بل هو كلام الله تعالى ، وكلامه صفة قديمة قائمة به لا تفارقه.

فإن قلت : إذا لم تفارقه فكيف سماه منزّلا؟

قلت : معنى" إنزاله تعالى له" إنه علّمه جبريل ، وأمره أن يعلّمه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويأمره أن يعلمه لأمته ، مع أنه لم يزل ولا يزال صفة لله تعالى قائمة به لا تفارقه.

" تمت سورة الواقعة"

٢٨٩

سورة الحديد

١ ـ قوله تعالى : (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ..) [الحديد : ١].

عبّر هنا وفي الحشر والصفّ بالماضي (١) ، وفي الجمعة (٢) والتغابن بالمضارع ، وفي الأعلى بالأمر (٣) ، وفي الإسراء بالمصدر (٤) ، استيعابا للجهات المشهورة لهذه الكلمة ، وبدأ بالمصدر في الإسراء لأنه الأصل ، ثم الماضي لسبق زمنه ، ثم بالمضارع لشموله الحال والمستقبل ، ثم بالأمر لخصوصه بالحال مع تأخره في النطق به في قولهم : فعل ، يفعل ، افعل ، وقوله : (ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) قاله هنا بحذف" ما" موافقة لقوله بعد : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) و (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وقاله في الحشر ، والصفّ ، والجمعة ، والتغابن بإثباتها عملا بالأصل.

٢ ـ قوله تعالى : (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الحديد : ٢] الآية.

ذكره مرتين وليس بتكرار ، لأن الأول في الدنيا لقوله عقبه : (يُحْيِي وَيُمِيتُ.)

والثاني في العقبى لقوله عقبه : (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ.)

٣ ـ قوله تعالى : (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ ..) [الحديد : ١٠].

تقديره : من أنفق وقاتل قبل الفتح ، ومن أنفق وقاتل بعده ، لأن الاستواء إنما يكون بين اثنين فأكثر ، وإنما حذفه لدلالة ما بعده عليه.

٤ ـ قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ) [الحديد : ١٩] سمّاهم شهداء تغليبا ، أو المراد لهم أجر الشّهداء ، وإلا فبعضهم لم يقتل حتى يكون شهيدا.

٥ ـ قوله تعالى : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ ..) [الحديد : ٢٢] الآية.

قاله هنا ، وقال في التغابن : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) فصّل هنا ،

__________________

(١) قال تعالى في الحشر (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(٢) وقال في الجمعة (يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ...)

(٣) وقال في الأعلى (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى).

(٤) وقال في الإسراء (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً).

٢٩٠

وأجمل ثمّ ، موافقة لما قبلهما ، لأنه فصّل هنا بقوله : (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا) الآية ، بخلافه ثمّ.

٦ ـ قوله تعالى : (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ ..) [الحديد : ٢٣].

ليس المراد به الانتهاء عن الحزن والفرح ، اللّذين لا ينفكّ عنهما الإنسان بطبعه ، بل المراد الحزن المخرج لصاحبه إلى الذّهول ، عن الصبر والتسليم لأمر الله تعالى ، والفرح الملهي عن الشكر ، نعوذ بالله منهما.

٧ ـ قوله تعالى : (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ ..) [الحديد : ٢٥].

المراد بالميزان : العدل أو العقل ، وقيل : هو الميزان المعروف ، أنزله جبريل عليه‌السلام ، فدفعه إلى نوح عليه‌السلام وقال له : مر قومك يزنوا به.

٨ ـ قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ) [الحديد : ٢٨].

إن قلت : كيف قال ذلك مع أن المؤمنين مؤمنون برسوله؟!

قلت : معناه يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى آمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيكون خطابا لأهل الكتاب خاصة.

أو معناه : يا أيها الذين آمنوا يوم الميثاق ، آمنوا بالله ورسوله اليوم ، أو أيها الذين آمنوا في العلانية باللسان ، اتقوا الله وآمنوا برسوله في السّر بتصديق القلب.

" تمت سورة الحديد"

٢٩١

سورة المجادلة

١ ـ قوله تعالى : (الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ ..) [المجادلة : ٢].

قال ذلك هنا ، وقال بعده (وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ) لأن الأول : خطاب للعرب خاصة ، وكان طلاقهم في الجاهلية الظهار ، والثاني : بيان أحكام الظهار للناس عامة.

٢ ـ قوله تعالى : (وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ) [المجادلة : ٤].

ختمه هنا ب (أَلِيمٌ) وبعده ب (مُهِينٌ) لأن الأول متّصل بضده وهو الإيمان ، فتوعّدهم على الكفر بالعذاب الأليم ، الذي هو جزاء الكافرين ، والثاني متصل بقوله : (كُبِتُوا) وهو الإذلال والإهانة ، فوصف العذاب بمثل ذلك فقال : (مُهِينٌ.)

٣ ـ قوله تعالى : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ ..) [المجادلة : ٧] الآية.

إن قلت : لم خصّ" الثلاثة" و" الخمسة" بالذكر؟

قلت : لأن قوما من المنافقين تحلّقوا للتناجي ، وكانوا بعدّة العدد المذكور ، مغايظة للمؤمنين ، فنزلت الآية بصفة حالهم عند تناجيهم.

أو لأن العدد الفرد أشرف من الزوج ، لأن الله تعالى وتر يحبّ الوتر ، فخصص العددان المذكوران بالذّكر ، تنبيها على أنه لا بدّ من رعاية الأمور الإلهية في جميع الأمور ، ثم بعدد ذكرهما زيد عليهما ما يعمّ غيرهما من المتناجين بقوله : (وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ) تعميما للفائدة.

٤ ـ قوله تعالى : (وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [المجادلة : ١٤] أي أنهم كاذبون.

إن قلت : ما فائدة الإخبار عنهم بذلك؟

قلت : فائدته بيان ذمّهم بارتكابهم اليمين الغموس.

" تمت سورة المجادلة"

٢٩٢

سورة الحشر

١ ـ قوله تعالى : (وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ ..) [الحشر : ٦] الآية.

قاله هنا بالواو ، عطفا على قوله تعالى : (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ) وقاله بعد بحذفها (١) ، لأنه مستأنف عمّا قبله.

٢ ـ قوله تعالى : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ ..) [الحشر : ٩].

(" الدَّارَ") : أي المدينة اتخذوها منزلا ، فقوله بعده : (وَالْإِيمانَ) منصوب ب (تَبَوَّؤُا) بتضمنه لزموا ، أو بتقدير أي واعتقدوا ، أو وأخلصوا ، أو واختاروا الإيمان ، لأن الإيمان لا يتّخذ منزلا ، فهو على الثاني من باب" علفتها تبنا وماء باردا" أو منصوب بتبوءوا بلا تضمين ، على أنه مجاز ، بجعله منزلا لهم ، لتمكنهم فيه كتمكنهم في المدينة ، ففي : (تَبَوَّؤُا) جمع بين الحقيقة والمجاز ، هو جائز عند الشافعي رضي الله عنه.

٣ ـ قوله تعالى : (وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ..) [الحشر : ١٢].

إن قلت : " إنّ" الشرطية إنما تدخل على ما يحتمل وجوده وعدمه ، فكيف قال تعالى ذلك ، مع إخباره بأنهم لا ينصرون؟

قلت : معناه : ولئن نصروهم فرضا وتقديرا ، كقوله تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر : ٦٥].

٤ ـ قوله تعالى : (لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ) [الحشر : ١٣].

أي : أشدّ خوفا في صدور المنافقين أو اليهود ، وظاهره لأنتم أشدّ خوفا من الله تعالى.

فإن قلت : إن علّق قوله (مِنَ اللهِ) لزم ثبوت الخوف لله وهو محال ، أو بالرهبة لزم كون المؤمنين أشدّ خوفا من المذكورين ، وليس مرادا؟

قلت : الرهبة مصدر" رهب" بالبناء للمفعول هنا ، فالمعنى أشدّ موهوبية ، يعنى :

__________________

(١) في قوله تعالى (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) (٧).

٢٩٣

أنكم في صدورهم أهيب من كون الله تعالى فيها ، ونظيره قولك : زيد أشدّ ضربا في الدار من عمرو ، يعنى مضروبية.

٥ ـ قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) [الحشر : ١٣].

ختمه هنا بقوله : (لا يَفْقَهُونَ) وبعده بقوله : (لا يَعْقِلُونَ) (١) لأن الأول متصل بقوله : (لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ) أي لأنهم يفقهون ظاهر الشيء دون باطنه ، والفقه معرفة الظاهر والباطن ، فناسب نفيه الفقه عنهم.

والثاني متّصل بقوله : (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) أي لو عقلوا لاجتمعوا على الحقّ ولم يتفرقوا ، فناسب نفي العقل عنهم.

إن قلت : كيف يستقيم التفضيل بأشدّية الرهبة ، مع أنهم لا يرهبون الله ، لأنهم لو رهبوه لتركوا النفاق والكفر؟!

قلت : معناه أن رهبتهم في السرّ منكم ، أشدّ من رهبتهم من الله تعالى ، التي يظهرونها لكم ، وكانوا يظهرون للمؤمنين رهبة شديدة من الله تعالى.

٦ ـ قوله تعالى : (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ ..) [الحشر : ١٨].

أي : ليوم القيامة ، وفائدة تنكير النّفس ، بيان أن الأنفس الناظرة في معادها قليلة جدا ، كأنه قيل : ولتنظر نفس واحدة في ذلك ، وأين تلك النّفس!! وفائدة تنكير" الغد" تعظيمه ، وإبهام أمره ، كأنه قيل : لا تعرف النفس كنه عظمته وهوله ، فالتنكير فيه للتعظيم ، وفي النّفس للتقليل.

فإن قلت : الغد اليوم الذي يعقب ليلتك ، فكيف أطلق على يوم القيامة؟

قلت : الغد له معنيان : ما ذكرتم ، ومطلق الزمان والمستقبل ، كما أن للأمس ، معنيين مقابلين لما ذكرنا ، وقيل : إنما أطلق الغد على يوم القيامة تقريبا له ، لقوله تعالى : (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ) [النحل : ٧٧] فكأنه لقربه أشبه اليوم الذي يعقب ليلتك.

٧ ـ قوله تعالى : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً ..) [الحشر : ٢١] الآية ، أي لو جعلنا في جبل ـ على قساوته ـ تمييزا كما في الإنسان ، ثم

__________________

(١) أشار إلى قوله تعالى (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ).

٢٩٤

أنزلنا عليه القرآن ، لتشقّق خشية من الله تعالى ، وخوفا ألا يؤدي حقه في تعظيم القرآن.

والمقصود تنبيه الإنسان على قسوة قلبه ، وقلّة خشوعه عند تلاوة القرآن ، وإعراضه عن تدبر زواجره.

٨ ـ قوله تعالى : (هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ ..) [الحشر : ٢٤] الخالق : هو الذي قدّر ما يوجده ، والبارئ : هو الذي يميّز بعضه عن بعض بالأشكال المختلفة.

وقيل : الخالق : المبدي ، والبارئ : المعيد.

" تمت سورة الحشر"

٢٩٥

سورة الممتحنة

١ ـ قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) [الممتحنة : ١].

بدأه هنا ب (تُلْقُونَ) وبعده ب (تُسِرُّونَ) تنبيها بالأول على ذمّ مودّة الأعداء ، جهرا وسرا ، وبالثاني على تأكيد ذمّها سرّا ، وخص الأول بالعموم لتقدمه ، وباء" المودّة" زائدة ، وقيل : سببية ، والمفعول محذوف والتقدير : يلقون إليهم أخبار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بسبب المودّة التي بينكم وبينهم.

٢ ـ قوله تعالى : (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ) [الممتحنة : ٤].

قاله هنا بتأنيث الفعل مع الفاصل ، لقربه وإن جاز التذكير ، وأعاده في قوله : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) بتذكيره مع الفاصل ، لكثرته وإن جاز التأنيث ، وإنما كرّر ذلك لأن الأول في القول ، والثاني في الفعل ، وقيل : الأول في إبراهيم ، والثاني في محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٣ ـ قوله تعالى : (إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) [الممتحنة : ٤] مستثنى من قوله : (أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) وقوله : (وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) ليس مستثنى ، وإنما ذكر لكونه من تمام قول إبراهيم عليه‌السلام ، كأنه قال : أنا أستغفر لك ، وليس في طاقتي إلا الاستغفار.

" تمت سورة الممتحنة"

٢٩٦

سورة الصّف

١ ـ قوله تعالى : (يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ) [الصف : ٥].

فائدة ذكر" قد" التأكيد أو التكثير ، كما تكون للتقليل.

٢ ـ قوله تعالى : (وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) [الصف : ٦].

إن قلت : كيف خصّ عيسى" أحمد" بالذكر دون" محمد" مع أنه أشهر أسماء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟

قلت : خصّه بالذّكر لأنه في الإنجيل مسمى بهذا الاسم ، ولأنّ اسمه في السّماء أحمد (١) ، فذكر باسمه السماوي ، لأنه أحمد الناس لربه ، لأن حمده لربه بما يفتحه الله عليه يوم القيامة من المحامد ، قبل شفاعته لأمته ، سابق على حمدهم له تعالى ، على طلبه الشفاعة من نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهم.

٣ ـ قوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ) [الصف : ٧].

قاله هنا بتعريف الكذب ، إشارة إلى قول اليهود : (هذا سِحْرٌ مُبِينٌ.)

وقاله في مواضع بتنكيره (٢) ، جريا على الأكثر ، من استعمال المصدر منكّرا.

٤ ـ قوله تعالى : (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ ..) اللام زائدة للتأكيد في مفعول" يريد" وأصله يريدون أن يطفئوا ، كما في براءة (٣) ، أو تعليلية والمفعول محذوف تقديره : يريدون إبطال القرآن ليطفئوا.

٥ ـ قوله تعالى : (يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ ..) [الصف : ١٢] مجزوم جوابا للأمر ، المأخوذ من (" تُؤْمِنُونَ") أو جوابا للاستفهام في قوله (هَلْ أَدُلُّكُمْ

__________________

(١) أخرج البخاري ومسلم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال : " لي خمسة أسماء : أنا محمد ، وأنا أحمد ، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي ، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر ، وأنا العاقب" أي الذي لا نبي بعده.

(٢) كقوله تعالى (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) [الأنعام : ٢١].

(٣) في براءة (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ).

٢٩٧

عَلى تِجارَةٍ) أو مجزوم بشرط مقدّر أي تؤمنوا يغفر لكم.

٦ ـ قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) [الصف : ١٤] الآية.

إن قلت : ظاهره تشبيه كونهم أنصار الله بقول عيسى عليه‌السلام : (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) وليس مرادا؟!

قلت : التشبيه محمول على المعنى تقديره : كونوا أنصار الله كما كان الحواريون أنصارا لعيسى حين قال لهم : (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ؟)

" تمت سورة الصف"

٢٩٨

سورة الجمعة

١ ـ قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ) [الجمعة : ٢].

إن قلت : ما وجه التقييد في بعث الرسول ، بكونه أمّيا منهم؟

قلت : مشاكلة حاله لأحوالهم ، فيكون أقرب إلى موافقتهم له ، أو انتفاء سوء الظنّ عنه ، في أنّ ما دعاهم إليه تعلّمه من كتب قرأها ، وحكم تلاها.

٢ ـ قوله تعالى : (إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ ..) [الجمعة : ٩].

المراد بالسعي هنا : القصد لا العدو كقوله تعالى : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) [النجم : ٣٩] وقول الداعي : وإليك نسعى ونحفد.

٣ ـ قوله تعالى : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها ..) [الجمعة : ١١] فيه حذف تقديره : وإذا رأوا تجارة انفضّوا إليها أو لهوا انفضّوا إليه ، فحذف الثاني لدلالة الأول عليه ، وقرأ ابن مسعود : انفضّوا إليهما وعليه فلا حذف.

" تمت سورة الجمعة"

٢٩٩

سورة المنافقون

١ ـ قوله تعالى : (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) [المنافقون : ١].

أي : في شهادتهم التي يعتقدونها ، فالتكذيب للشهادة لا للمشهود به.

٢ ـ قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ) [المنافقون : ٣] ، (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ) أي المنافقين (آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا) أي آمنوا بألسنتهم ، وكفروا بقلوبهم ، ف (" ثُمَّ") للترتيب الإخباري لا الإيجادي.

٣ ـ قوله تعالى : (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ) [المنافقون : ٤] ، (كُلَ) مفعول أول ليحسب ، و (" عَلَيْهِمْ") مفعول ثان له ، والتقدير : يحسبون كل صيحة واقعة عليهم ، وقوله (" الْعَدُوُّ") استئناف ، وقيل : هو المفعول الثاني ليحسب ، وعليه ف (عَلَيْهِمْ) حال.

٤ ـ قوله تعالى : (وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ) [المنافقون : ٧].

ختمه هنا ب (لا يَفْقَهُونَ) وبعده ب (لا يَعْلَمُونَ) لأن الأول متّصل بقوله (وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وفي معرفتها غموض يحتاج إلى فطنة وفقه ، فناسب نفي الفقه عنهم ، والثاني متصل بقوله : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) وفي معرفتها غموض زائد يحتاج إلى علم ، فناسب نفي العلم عنهم ، فالمعنى : لا يعلمون أن الله معزّ أوليائه ، ومذلّ أعدائه.

" تمت سورة المنافقين"

٣٠٠