فتح الرّحمن شرح ما يلتبس من القرآن

زكريّا بن محمّد بن أحمد الأنصاري

فتح الرّحمن شرح ما يلتبس من القرآن

المؤلف:

زكريّا بن محمّد بن أحمد الأنصاري


المحقق: الدكتور يحيى مراد
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 978-2-7451-4012-4
الصفحات: ٣٦٠

سورة التّغابن

١ ـ قوله تعالى : (يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ) [التغابن : ١].

كرّر (" ما") هنا وفي قوله بعد : (وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ) تأكيدا وتعميما للاختلاف ، فناسب ذكر (" ما") فيهما ، لأن تسبيح ما في السّموات ، مخالف لتسبيح ما في الأرض ، كثرة وقلّة ، ووقوعا ، من حيوان وجماد ، وإسرارنا مخالف لعلانيتنا ، فناسب ذكر (" ما") فيهما ، ولم يكررها في قوله : (يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لعدم اختلاف علمه تعالى ، إذ علمه بما تحت الأرض ، كعلمه بما فوقها ، وعلمه بما يكون كعلمه بما كان ، فناسب حذفها فيه.

٢ ـ قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللهُ) [التغابن : ٦].

قوله : (فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللهُ) مرتّب على قوله : (ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ.)

فإن قلت : ظاهره أن استغناءه بعد إتيان الرسل بالبيّنات ، مع أنه مستغن دائما؟!

قلت : معناه ظهر استغناؤه عن إيمانهم ، حيث لم يلجئهم إليه مع قدرته على ذلك.

٣ ـ قوله تعالى : (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً) إلى قوله (أَبَداً) [التغابن : ٩].

ذكر مثله في الطلاق (١) ، لكن زاد هنا (يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ) لأن ما هنا تقدمه (أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا) الآيات ، وأخبر فيها عن الكفار بسيئات تحتاج إلى تكفير ، فناسب ذكر (يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ) بخلاف ما في الطلاق لم يتقدّمه شيء من ذلك.

٤ ـ قوله تعالى : (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ..) [التغابن : ١١].

__________________

(١) أشار إلى قوله تعالى في الطلاق (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً) الطلاق (١١).

٣٠١

إن قلت : كيف قال ذلك ، مع أن الهداية سابقة على الإيمان؟

قلت : ليس المراد يهدي قلبه للإيمان ، بل المراد يهديه لليقين عند نزول المصائب ، فيعلم أنّ ما أخطأه لم يكن ليصيبه ، وما أصابه لم يكن ليخطئه ، أو يهده للرضى والتسليم عند وجود المصائب ، أو للاسترجاع عند نزولها بأن يقول : (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) [البقرة : ١٥٦].

" تمت سورة التغابن"

٣٠٢

سورة الطّلاق

١ ـ قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ..) [الطلاق : ١].

إن قلت : كيف أفرد نبيّه بالخطاب ، مع أنه جمعه مع غيره عقبه؟!

قلت : أفرده به أولا لأنه إمام أمته ، وسادّ مسدّهم.

أو معناه : يا أيها النبيّ قل لأمتك إذا طلقتم النساء أي أردتم طلاق نسائكم فطلقوهن .. الخ.

٢ ـ قوله تعالى : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً ..) [الطلاق : ٢].

ذكره ثلاث مرات ، وختم الأول بقوله : (يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ،) والثاني بقوله تعالى : (يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً ،) والثالث بقوله تعالى : (يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً.) إشارة إلى تعداد النّعم المرتّبة على التّقوى ، من أنّ الله يجعل لمن اتّقاه في دنياه ، مخرجا من كرب الدنيا والآخرة ، ويرزقه من حيث لا يخطر بباله ، ويجعل له في دنياه وآخرته من أمره يسرا ، ويكفّر عنه في آخرته سيّئاته ، ويعظم له أجرا.

إن قلت : كيف قال ما ختم به في الأول ، مع أنّا نرى كثيرا من الأتقياء مضيّقا عليهم رزقهم؟

قلت : معناه ما مرّ ثمّ ، وذلك لا ينافي تضييق الرزق.

أو معناه أنه يجعل لكل متّق ، مخرجا من كل ما يضيق على من لا يتّقي ، مع أنّ في تضييقه في المتقى لطفا له ورحمة ، لتقلّ عوائقه عن الاشتغال بمولاه في الدنيا ، ويتوفر حظّه ، ويخفّ حسابه في الآخرة.

٣ ـ قوله تعالى : (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ) [الطلاق : ٤] الآية.

إن قلت : كيف قيّد عدة الآيسة والتي لم تخص ثلاثة أشهر بارتيابنا ، مع أنه ليس بقيد؟

قلت : المراد بالارتياب الشكّ ، بمعنى الجهل بمقدار عدّتهما ، وإذا كان هذه عدّة المرتاب فيها ، فغيرها أولى.

٣٠٣

٤ ـ قوله تعالى : (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) [الطلاق : ٦].

فائدة ذكر الغاية فيه ، رفع توهّم أن النفقة تتقيّد ، بمضيّ مقدار عدّة الأقراء (١) ، أو أنه إذا طالت مدة الحمل ، لا تجب النفقة من الإطالة.

٥ ـ قوله تعالى : (سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) [الطلاق : ٧].

لا ينافي قوله : (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) [الشرح : ٥] لأن (" مَعَ") بمعنى بعد ، وإلا فيلزم اجتماع الضّدين وهو محال.

٦ ـ قوله تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ ..) [الطلاق : ٨] الآية.

إن قلت : كيف قال فيها : (فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً) بلفظ الماضي ، مع أن الحساب والعذاب المرتّبين على العتو إنما هما في الآخرة؟

قلت : أتى بذلك على لفظ الماضي تحقيقا له وتقريرا ، لأن المنتظر من وعد الله ووعيده ، آت لا محالة ، ونظيره قوله تعالى : (وَنادى أَصْحابُ النَّارِ) [الأعراف : ٥٠].

" تمت سورة الطلاق"

__________________

(١) المراد بالأقراء : الحيض أو الأطهار على خلاف بين الفقهاء ، والحكم في المطلقات مأخوذ من قوله تعالى (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ) قُرُوءٍ البقرة (٢٢٨).

٣٠٤

سورة التّحريم

١ ـ قوله تعالى : (وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ..) [التحريم : ٤].

إن قلت : إن كان المراد به الفرد فأيّ فرد هو ، مع أنه لا يناسب جمع الملائكة بعده؟ أو الجمع فهلا كتب في المصحف بالواو؟

قلت : هو فرد أريد به الجمع كقوله تعالى : (وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها) [الحاقة : ١٧]. وقوله : (ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) [غافر : ٦٧] أو هو جمع لكنه كتب في المصحف بغير واو على اللفظ ، كما جاءت ألفاظ كثيرة في المصحف على اللفظ ، دون إصلاح الخطّ.

٢ ـ (وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) [التحريم : ٤].

وضع فيه المفرد موضع الجمع أي ظهراء ، أو أن" فعيلا" يستوي فيه الواحد وغيره كقعيد.

٣ ـ قوله تعالى : (عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ ..) [التحريم : ٥] الآية.

إن قلت : كيف أثبت الخيرية لهنّ بالصفات المذكورة بقوله : (مُسْلِماتٍ) إلى آخره مع اتّصاف أزواجه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بها أيضا؟

قلت : المراد : (خَيْراً مِنْكُنَ) في حفظ قلبه ، ومتابعة رضاه ، مع اتصافهنّ بهذه الصفات المشتركة بينكنّ وبينهنّ.

فإن قلت : لم ذكر الواو في أبكارا وحذفها في بقية الصفات؟

قلت : لأن أبكارا مباين للثيبات ، فذكر بالواو لامتناع اجتماعهما في ذات واحدة ، بخلاف بقية الصفات ، لا تباين فيها فذكرت بلا واو.

فإن قلت : أيّ مدح في كونهنّ ثيّبات؟!

قلت : الثّيّب تمدح من جهة أنها أكثر تجربة وعقلا ، وأسرع حبلا غالبا ، والبكر تمدح من جهة أنها أطهر وأطيب ، وأكثر مداعبة وملاعبة غالبا.

٤ ـ قوله تعالى : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) [التحريم : ٦].

٣٠٥

فائدة ذكره بعد (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ) التأكيد ، لاتحادهما صدقا ، أو التأسيس لاختلافهما مفهوما ، أو المراد بالأمر الأول : العبادات والطّاعات ، وبالثاني : الأمر بتعذيب أهل النار.

٥ ـ قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً ..) [التحريم : ٨].

لم يقل نصوحة ، لأن" فعولا" يستوي فيه المذكّر والمؤنّث ، كقولهم : امرأة صبور وشكور.

٦ ـ قوله تعالى : (كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ) [التحريم : ١٠].

فائدة قوله : (مِنْ عِبادِنا) بعد عبدين ، مدحهما والثناء عليهما ، بإضافتهما إليه إضافة التشريف والتخصيص ، كما في قوله تعالى (وَعِبادُ الرَّحْمنِ) [الفرقان : ٦٣] وقوله تعالى : (فَادْخُلِي فِي عِبادِي) [الفجر : ٢٩] وفي ذلك مبالغة في المعنى المقصود ، وهو أن الإنسان ، لا تنفعه عادة إلا صلاح نفسه لا صلاح غيره ، وإن كان ذلك الغير في أعلى المراتب.

٧ ـ قوله تعالى : (وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ) [التحريم : ١٢].

إن قلت : القياس من القانتات ، فلم عدل عنه إلى القانتين؟

قلت : رعاية للفواصل ، أو معناه من القوم القانتين.

" تمت سورة التحريم"

٣٠٦

سورة الملك

١ ـ قوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [الملك : ٢].

قدّم الموت لأنه هو المخلوق أولا ، لقوله تعالى : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) [البقرة : ٢٨].

٢ ـ قوله تعالى : (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ ..) [الملك : ٣].

أي من خلل وعيب ، وإلا فالتفاوت بين المخلوقات ، بالصّغر والكبر وغيرهما كثير.

٣ ـ قوله تعالى : (فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) [الملك : ٣].

قاله بعده : (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) قيل : أي مع الكرّة الأولى ، فتصير ثلاث مرّات ، والمشهور أنّ المراد بهذه التثنية التكثير ، بدليل قوله تعالى : (يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً) أي ذليلا (وَهُوَ حَسِيرٌ) أي كليل ، وهذان الوصفان لا يتأتّيان بنظرتين ولا ثلاث ، فالمعنى كرّات كثيرة ، كنظيره في قولهم : لبّيك وسعديك ، وحنانيك ودواليك ، وهذا كذلك.

٤ ـ قوله تعالى : (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ ..) [الملك : ١٦].

ليس بتكرار مع قوله تعالى : (أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً) لأن الأول في تخويفهم بخسف الأرض بهم ، والثاني في تخويفهم بالحصب من السماء ، وقدم الأول ، لأن الأرض التي جعلها الله مقرا لهم ، وعبدوا فيها غيره ، أقرب إليهم من السماء البعيدة عنهم.

إن قلت : كيف قال : (مَنْ فِي السَّماءِ) مع أنه تعالى ليس فيها ولا غيرها ، بل هو تعالى منزه عن كل مكان؟!

قلت : المعنى من ملكوته في السماء ، التي هي مسكن ملائكته ، ومحلّ عرشه وكرسيّه ، واللوح المحفوظ ، ومنه تنزل أقضيته وكتبه.

" تمت سورة الملك"

٣٠٧

سورة القلم

١ ـ قوله تعالى : (ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ) [القلم : ١].

يأتي فيهما ما مرّ في سورة" ص" لكنّ جواب القسم هنا مذكور ، وهو الجملة المنفية ، وفي جوابه يعرف ممّا مرّ ثمّ.

٢ ـ قوله تعالى : (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ ..) [القلم : ٤٢].

أي توبيخا وتعنيفا لهم على تركه في الدنيا ، لا تكليفا وتعبّدا ، إذ لا تكليف في الآخرة.

٣ ـ قوله تعالى : (وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ ..) [القلم : ٤٢].

أي : إلى الصلاة : (وَهُمْ سالِمُونَ) أي : صحيحون.

فإن قلت : الصحّة ليست شرطا في وجوب الصلاة؟

قلت : المراد الخروج إلى الصلاة في جماعة مشروط بالصحة.

" تمت سورة القلم"

٣٠٨

سورة الحاقّة

١ ـ قوله تعالى : (وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ) [الحاقة : ٦].

إنما لم يقل" صرصرة" كما قال" عاتية" مع أن الريح مؤنثة ، لأن الصّرصر وصف مختصّ بالريح ، فأشبه باب" حائض ، وطامث ، وحامل" بخلاف عاتية فإنها غير الريح ، من الأسماء المؤنثة يوصف به.

٢ ـ قوله تعالى : (فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) [الحاقة : ٧].

" فيها" أي تلك الليالي والأيام ، متعلّق بصرعى لا ب" ترى" ، والرؤية علمية لا بصرية ، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أبصرهم صرعى فيها ولا رآهم ، فصار المعنى : فتعلمهم صرعى فيها بإعلامنا ، حتى كأنك تشاهدهم.

٣ ـ قوله تعالى : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) إلى قوله تعالى : (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ) [الحاقة : ١٣ ـ ١٨].

فإن قلت : كيف قال ذلك ، مع أن المراد بهذه النفخة" النفخة الأولى" وهي نفخة الصّعق ، والعرض إنما يكون بعد النفحة الثانية ، وبين النفحتين زمن طويل؟

قلت : المراد باليوم : الوقت الواسع الذي يقع فيه النفحتان وما بعدهما.

٤ ـ قوله تعالى : (إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) [الحاقة : ٢٠].

إن قلت : كيف عبر بأنه يظن ذلك ، مع أنه يعلمه؟!

قلت : الظنّ مطلق بمعنى العلم ، كما في قوله تعالى : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ) [البقرة : ٤٦].

٥ ـ قوله تعالى : (فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ. وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) [الحاقة : ٣٥ ، ٣٦].

إن قلت : ما التوفيق بينه وبين قوله تعالى : (لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) [الغاشية : ٦] ، وفي آخر (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ) [الدخان : ٤٤] ، وفي آخر : (أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ) [البقرة : ١٧٤].

قلت : لا منافاة إذ يجوز أن يكون طعامهم جميع ذلك.

٣٠٩

أو أنّ العذاب أنواع والمعذبين طبقات ، فمنهم أكلة غسلين (١) ، ومنهم أكلة الضّريع ، ومنهم أكلة الزقّوم ، ومنهم أكلة النّار ، لكل باب منهم جزء مقسوم.

٦ ـ قوله تعالى : (وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) [الحاقة : ٤١ ـ ٤٢].

إن قلت : لم ختم الأولى بقلّة الإيمان ، والثانية بقلّة التذكّر؟

قلت : لأن من نسب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أنه شاعر ، وأنّ ما أتى به شعر فهو كافر ، وأنّ من نسبه إلى الكهانة فإنما نسبه إليها لقلّة تذكّره في ألفاظ القرآن ؛ إذ كلام الكهنة نثر لا شعر ، فناسب ختمه بقلّة التذكّر ، وختم الأول بقلّة الإيمان.

" تمت سورة الحاقة"

__________________

(١) غسلين : صديد أهل النّار ، الذي يسيل من جراحاتهم ، وقال قتادة : شرّ الطعام وأخبثه وأبشعه ، والأول هو قول ابن عباس.

٣١٠

سورة المعارج

١ ـ قوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً) [المعارج : ١٩].

فسّر (هَلُوعاً) بقوله (إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً. وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً.)

فإن قلت : الإنسان في حال خلقه ، لم يكن موصوفا بذلك؟

قلت : (هَلُوعاً) حال مقدّرة أي مقدّر في خلقه الهلع ، كما في قوله تعالى : (مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ) [الفتح : ٢٧] أي لتدخلنّ المسجد الحرام مقدرين حلق رؤوسكم.

٢ ـ قوله تعالى : (الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) [المعارج : ٢٣].

ختمه هنا بقوله : (دائِمُونَ) وبعد بقوله : (يُحافِظُونَ) لأن المراد بدوامهم عليها ، ألا يتركوها في وقت من أوقاتها ، وبمحافظتهم عليها ، أن يأتوا بها على أكمل أحوالها ، من الإتيان بها بجميع واجباتها وسننها ، ومنها الاجتهاد في تفريغ القلب عن الوسوسة ، والرياء ، والسّمعة.

" تمت سورة المعارج"

٣١١

سورة نوح

١ ـ قوله تعالى : (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) [نوح : ٤].

خطاب لقوم نوح عليه‌السلام.

فإن قلت : إن كان المراد تأخيرهم عن الأجل المقدّر أزلا فهو محال ، لقوله تعالى (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها) [المنافقون : ١١] أو تأخيرهم إلى مجيء أجلهم المقدّر ، فهم كغيرهم سواء آمنوا أم لا؟

قلت : معناه يؤخركم عن العذاب إلى منتهى آجالكم ، على تقدير الإيمان ، فلا يعذّبكم في الدنيا إن وقع منكم ذنب ، كما عذّب غيركم من الأمم الكافرة فيها ، أو يؤخر موتكم كأن قضى الله بتعميركم ألف سنة إن آمنوا ، وبخمسمائة سنة إن لم يؤمنوا.

٢ ـ قوله تعالى : (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ..) [نوح : ١٠] أي من الشرك بالتوحيد.

٣ ـ قوله تعالى : (قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي) [نوح : ٢١].

قاله هنا بلا واو ، وقاله بعد بواو (١) ، لأن الأول استئناف ، والثاني معطوف عليه.

٤ ـ قوله تعالى : (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالاً) [نوح : ٢٤].

ختمه بقوله (ضَلالاً) موافقة لقوله قبل : (وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً) وختمه بعد بقوله (تَباراً) أي هلاكا ، موافقة لقوله قبل : (لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً.)

٥ ـ قوله تعالى : (وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) [نوح : ٢٦].

إن قلت : كيف دعا نوح على قومه بذلك ، مع أنه أرسل إليهم ليهديهم

__________________

(١) أشار إلى قوله تعالى (وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً)

٣١٢

ويرشدهم؟

قلت : إنما دعا عليهم بذلك ، بعد أن أعلمه الله تعالى أنهم لا يؤمنون (١).

٦ ـ قوله تعالى : (وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) [نوح : ٢٧] من كلام نوح.

فإن قلت : كيف وصفهم بالفجور والكفر حال ولادتهم ، وكيف عرف أنهم لا يلدوا إلا فاجرا كفارا؟!

قلت : وصفهم بما يئولون إليه من الفجور والكفر ، وعلم ذلك بإعلام الله إياه.

" تمت سورة نوح"

__________________

(١) كما قال تعالى (إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ).

٣١٣

سورة الجنّ

قوله تعالى : (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ ..) [الجن : ١٩].

أي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإنما عدل عنه إلى (عَبْدُ اللهِ) تواضعا لأنه واقع موقع كلامه عن نفسه.

" تمت سورة الجن"

٣١٤

سورة المزّمّل

١ ـ قوله تعالى : (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) [المزمل : ٥].

وصف القرآن بالثّقل ، لثقله بنزول الوحي على نبيّه ، حتى كان يعرق في اليوم الشّاتي ، أو لثقل العمل بما فيه ، أو لثقله في الميزان ، أو لثقله على المنافقين.

٢ ـ قوله تعالى : (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ ..) [المزمل : ١٨].

أي : بذلك اليوم لشدّته ، وإنما لم يؤنث صفة السماء مع أنها مؤنثة ، لأنها بمعنى السقف ، تقول : هذا سماء البيت أي سقفه ، قال تعالى (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً) [الأنبياء : ٣٢].

أو لأنها تذكّر وتؤنّث ، أو جاء (مُنْفَطِرٌ) على النّسب أي ذات انفطار ، كامرأة مرضع وحائض أي ذات إرضاع وذات حيض.

٣ ـ قوله تعالى : (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) [المزمل : ١٩].

إن قلت : إن جعل (اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) جوابا فأين الشرط؟ أو (شاءَ) لا يصلح شرطا بدون ذكر مفعوله ، أو جعل المجموع شرطا فأين الجواب؟

قلت : معناه فمن شاء النّجاة اتخذ إلى ربه سبيلا.

أو فمن شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا ، اتخذ إلى ربه سبيلا ، كقوله تعالى : (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) [الكهف : ٢٩].

أي : فمن شاء الإيمان فليؤمن ، ومن شاء الكفر فليكفر.

٤ ـ قوله تعالى : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ..) [المزمل : ٢٠].

أي : في الصلاة ، بأن تصلّوا ما تيسّر من الصّلاة ، بما تيسّر من القرآن ، وهذا يرجع إلى قول بعضهم : إن المراد ب (فَاقْرَؤُا) صلّوا ، وإن عبّر بالقراءة عن الصلاة ، التي هي بعض واجباتها ، فهو من إطلاق" الجزء على الكل" وقوله بعده : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) تأكيد ، حثّا على قيام الليل بما تيسّر.

" تمت سورة المزمل"

٣١٥

سورة المدّثّر

١ ـ قوله تعالى : (فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ. عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ) [المدثر : ٩ ـ ١٠].

فائدة ذكره بعد قوله : (فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ. عَلَى الْكافِرِينَ) رفع توهّم أن يراد ب (عَسِيرٌ :) عسير يرجى تيسيره ، كما يرجى تيسير العسر من أمور الدنيا ، وقيل : فائدته التوكيد.

٢ ـ قوله تعالى : (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ. فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) [المدثر : ١٨ ـ ٢٠].

ذكر (قَدَّرَ) ثلاث مرات ، و (قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) مرتين ، لأن المعنى أن الوليد فكّر في شأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما أتى به ، وقدّر ماذا يمكنه أن يقول فيهما ، فقال الله : (فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) أي : على أي حال كان تقديره ، فالتقدير الأول مغاير للثاني والثالث ، لاختلاف المقّدر ، وقوله : (ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) كرّره للمبالغة فهو تأكيد ، ولزم منه أن" قدّر" الثالث تأكيد للثاني ، وأن" قتل" الثاني تأكيد للأول ، و" ثمّ" للدلالة على أن مدخولها أبلغ ممّا قبلها.

وقيل : المراد بالقتل الأول لغو الوليد وتعذيبه ، فهو مغاير للثاني.

٣ ـ قوله تعالى : (لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ. لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ. عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) [المدثر : ٢٨ ـ ٣٠].

قيل : معناهما واحد ، أي لا تبقي ولا تذر للكفّار شيئا من لحم ولا عصب إلا أهلكته ، ثم يعود كما كان ، وقيل : متغايران ، أي لا تبقي لهم لحما ، ولا تذر لهم عظما ، أو لا تبقيهم أحياء ، ولا تذرهم أمواتا.

فإن قلت : لأي معنى خصّ عدد خزنة جهنم ب (تِسْعَةَ عَشَرَ؟!)

قلت : لأنها موافقة لعدد أسباب فساد النفس الإنسانية ، وهي القوى" الإنسانية ، والطبيعية" إذ القوى الإنسانية اثنتا عشرة : الخمسة الظاهرة ، والخمسة الباطنة ، والشهوة والغضب.

والقوى الطبيعية سبعة : الجاذبة ، والماسكة ، والهاضمة ، والدافعة ، والغاذية ، والنّامية ، والمولّدة ، والمجموع تسعة عشر.

" تمت سورة المدثر"

٣١٦

سورة القيامة

١ ـ قوله تعالى : (فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) [القيامة : ١٨].

أي : بقراءة جبريل عليك.

٢ ـ قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ. إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) [القيامة : ٢٢ ، ٢٣].

إن قلت : الذي يوصف بالنظر بمعنى الإبصار : النظر بالعين لا بالوجه؟

قلت : أطلق الوجه فيه وأراد جزأه ، ففي لفظ" وجوه" بالنظر إلى" ناضرة" و" ناظرة" جمع بين الحقيقة والمجاز ، وهو جائز.

٣ ـ قوله تعالى : (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) [القيامة : ٣٤].

أي : أولاك الله ما تكره ، وكرّره مرارا بقوله : (ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) مبالغة في التهديد والوعيد ، فهو تهديد بعد تهديد ، ووعيد بعد وعيد.

" تمت سورة القيامة"

٣١٧

سورة الإنسان

١ ـ قوله تعالى : (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ) [الإنسان : ٢].

وصف النطفة مع أنها مفرد ب (أَمْشاجٍ) (١) وهو جمع ، لأنها في معنى الجمع ، كقوله : (مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ) [الرحمن : ٧٦] أو بجعل أجزائها نطفا ، وقيل : (أَمْشاجٍ) مفرد لا جمع ، كبرمة أعشار ، وثوب أخلاق.

٢ ـ قوله تعالى : (نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً) [الإنسان : ٢].

إن قلت : كيف عطف على" نبتليه" ما بعده بالفاء ، مع أنّ الابتلاء متأخر عنه؟

قلت : " نبتليه" حال مقدّرة أي مريدين ابتلاءه حين تأهّله ، فجعلناه سميعا بصيرا ، فالمعطوف عليه هو إرادة الابتلاء لا الابتلاء.

٣ ـ قوله تعالى : (وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ ..) [الإنسان : ١٥].

ذكره بالبناء للمفعول ، وقال بعد : (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ) بالبناء للفاعل ، لأن المقصود في الأول : ما يطاف به لا الطائفون ، بقرينة قوله : (بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ) والمقصود في الثاني : الطائفون ، فذكر في كل منهما ما يناسبه.

٤ ـ قوله تعالى : (وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا) [الإنسان : ١٥].

معناه تكوّنت لا أنها كانت قبل قوارير (٢) ، فهو من قوله تعالى : (كُنْ فَيَكُونُ) [آل عمران : ١١٧] وكذا (كانَ مِزاجُها كافُوراً) [الإنسان : ٥].

٥ ـ قوله تعالى : (إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً) [الإنسان : ١٩].

إن قلت : ما الحكمة في تشبيههم باللؤلؤ المنثور دون المنظوم؟

قلت : لأنه تعالى أراد تشبيههم ـ لحسنهم وانتشارهم في الخدمة ـ باللؤلؤ الذي لم يثقب ، وهو أشدّ صفاء ، وأحسن منظرا ، مما ثقب ، لأنه إذا ثقب نقص صفاؤه ومائيّته ، وما لم يثقب لا يكون إلا منثورا.

٦ ـ قوله تعالى : (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) [الإنسان : ٢٠].

__________________

(١) أمشاج : أخلاط جمع مشج ومشيج ، أي اختلطت نطفة الرجل بنطفة المرأة ، فتكون منه هذا الإنسان السميع البصير ، بقدرة الله العلي القدير ، فهذا معنى الأمشاج.

(٢) القوارير : جمع قارورة وهي الزجاجة الصافية ، وهذه القوارير جمعت بين صفاء الزجاج وحسن الفضة وبياضها ولهذا قال (قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ).

٣١٨

إن قلت : أيّ شرف لتلك الدّار ، مع أنه سقاهم ذلك في الدنيا ، قال تعالى : (وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً) [المرسلات : ٢٧] أي : عذبا؟

قلت : المراد سقاهم في تلك الدار بغير واسطة ، وأيضا فشتّان ما بين الشرابين ، والآنيتين ، والمترلين.

٧ ـ قوله تعالى : (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) [الإنسان : ٢٤].

أفاد بالتعبير ب" أو" : النهي عن طاعتهما معا بالأولى ، ولو عطف بالواو لأفهم جواز طاعة أحدهما ، وليس مرادا.

٨ ـ قوله تعالى : (نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ ..) [الإنسان : ٢٨].

أي : خلقهم.

فإن قلت : كيف قال ذلك هنا ، وقال في النساء : (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً؟)

قلت : قال ابن عباس وغيره : المراد به : ضعيف عن الصبر عن النساء ، فلذلك أباح الله له نكاح الأمة ، وقال الزجّاج : معناه يغلبه هواه وشهوته ، فلذلك وصف بالضعف ومعنى قوله : (وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ) ربطنا أوصالهم بعضها إلى بعض العروق والأعصاب ، أو المراد بالأسر : عجب الذنب ، لأنه لا يتفتت في القبر.

" تمت سورة الإنسان"

٣١٩

سورة المرسلات

١ ـ قوله تعالى : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) [المرسلات : ١٩].

كرّر هنا عشر مرّات ، والتكرار في مقام الترغيب والترهيب مستحسن ، لاسيما إذا تغايرت الآيات السابقة على المرّات المكرّرة كما هنا.

٢ ـ قوله تعالى : (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ. وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) [المرسلات : ٣٥ ـ ٣٦].

إن قلت : نفي النطق عنهم يدلّ على انتفاء الاعتذار منهم ، إذ الاعتذار لا يكون إلا بالنّطق ، فما فائدة قوله عقبه : (وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ.)

قلت : معناه لا ينطقون ابتداء بعذر مقبول ، ولا بعد أن يؤذن لهم في الاعتذار ، لو أذن لهم فيه ، إذ الخائف عادة قد لا ينطق لسانه بعذر وحجة لخوفه ، لكن إذا أذن له فيه نطق ، ففائدة ذلك نفي هذا المعنى ، أي لا ينطقون ابتداء بعذر ولا بعد الإذن.

فإن قلت : ما ذكر ينافيه ما دل عليه قوله تعالى : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ) [غافر : ٥٢] من وقوع الاعتذار منهم؟

قلت : لا ينافيه لأن يوم القيامة يوم طويل ، فيعتذرون في وقت ، ولا يعتذرون في آخر ، والجواب بأن المراد بتلك الآية" الظالمون" من المسلمين ، وبما هنا" الكافرون" ضعيف ، لتعقيب تلك الآية بقوله تعالى : (وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ.)

" تمت سورة المرسلات"

٣٢٠