فتح الرّحمن شرح ما يلتبس من القرآن

زكريّا بن محمّد بن أحمد الأنصاري

فتح الرّحمن شرح ما يلتبس من القرآن

المؤلف:

زكريّا بن محمّد بن أحمد الأنصاري


المحقق: الدكتور يحيى مراد
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 978-2-7451-4012-4
الصفحات: ٣٦٠

(حَتَّى إِذا جاؤُها) مرتين ، وفي الزخرف : (حَتَّى إِذا جاءَنا ،) لأن الكلام هنا في أعداء الله ، أبسط وآكد منه في البقيّة ، فناسب ذكر" ما" للتأكيد هنا دون البقيّة.

٤ ـ قوله تعالى : (فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ ..) [فصلت : ٢٤] الآية.

فيه إضمار تقديره : فإن يصبروا أو لا يصبروا فالنار مثوى لهم ، أو قيّد ذلك لأنه جواب لقولهم : (أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ) [ص : ٦] فلا مفهوم له.

٥ ـ قوله تعالى : (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) [فصلت : ٢٧].

المراد سيّئه إذ لا يختصّ جزاؤهم بأسوأ عملهم.

٦ ـ قوله تعالى : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [فصلت : ٣٦].

قاله هنا بزيادة" هو" و" أل" وفي الأعراف بدونهما ، لأن ما هنا متصل بمؤكدين : بالتكرار ، وبالحصر ، فناسب التأكيد بما ذكر ، وما في الأعراف خليّ عن ذلك ، فجرى على القياس من كون المسند إليه معرفة ، والمسند نكرة.

٧ ـ قوله تعالى : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ..) [فصلت : ٤٥].

قاله هنا ، وقاله في الشورى بزيادة (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) لموافقته ثمّ مبدأ كفر الذين تفرقوا في الدين ، وهو مجيء العلم بالتوحيد في قوله (وَما تَفَرَّقُوا) الآية ، مناسب ذكره للنهاية التي انتهوا إليها ، ليكون محدودا من الطرفين ، بخلاف ما هنا.

٨ ـ قوله تعالى : (وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ) [فصلت : ٤٩].

لا ينافي قوله بعد : (وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) لأن المعنى قنوط من الصنم ، دعاء لله ، أو قنوط بالقلب دعاء باللسان ، أو الأولى في قوم ، والثانية في آخرين.

٩ ـ قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ) [فصلت : ٥٢].

قاله هنا ب" ثمّ" وفي الأحقاف (١) بالواو ، لأن معناها هنا : كان عاقبة أمركم بعد الإمهال ، للنظر والتدبر ، الكفر ، فناسب ذكر" ثم" الدالة على الترتيب ، وفي

__________________

(١) الأحقاف (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ) (١٠).

٢٦١

الأحقاف لم ينظر إلى ترتيب كفرهم على ما ذكر ، بل عطف على (وَكَفَرْتُمْ وَشَهِدَ شاهِدٌ) بالواو ، فناسب ذكرها لدلالتها على مطلق الجمع.

" تمت سورة فصلت"

٢٦٢

سورة الشّورى

١ ـ قوله تعالى : (كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [الشورى : ٣].

قاله بلفظ المضارع مع أن الوحي إلى من قبل النبيّ ماض ، لأنه ـ كما قال الزمخشريّ ـ قصد بالمضارع كون ذلك عادة وسنّة الله ، وهذا لا يوجد في لفظ الماضي.

٢ ـ قوله تعالى : (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى : ١١].

أي : يخلقكم في الجعل المذكور قبله ، ليس كمثله شيء ..

إن قلت : هذا يقتضي ثبوت مثله ، إنّما نفى مثل مثله؟!

قلت : المثل يقال للذات ، كما في قولهم : مثلك لا يليق به كذا ، فمعناه : ليس كذاته شيء ، أو هو من باب الكناية ، لأنه إذا نفى مثل مثله لزم نفي مثله ، إذ لو بقى مثله لكان هو مثل المثل ، فيلزم ثبوت مثل المثل ، والغرض أنه نفي.

٣ ـ قوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ ..) [الشورى : ٢٩].

إن قلت : كيف قال : (فِيهِما مِنْ دابَّةٍ) مع أن الدواب إنما هي في الأرض فقط؟

قلت : هو من إطلاق المثنّى على المفرد ، كما في قوله تعالى : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) [الرحمن : ٢٢] وإنما يخرجان من أحدهما وهو الملح.

وقيل : إن الملائكة لهم دبيب مع طيرانهم أيضا ، وهم مبثوثون في السماء عملا بمفهوم قوله : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ) [هود : ٦] على القول بالعمل به في مثل ذلك.

٤ ـ قوله تعالى : (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [الشورى : ٤٣].

قاله هنا بلام التأكيد ، وقاله في لقمان بدونهما ، لأن الصبر على مكروه حدث بظلم كقتل ولد ، أشدّ من الصبر على مكروه حدث بلا ظلم كموت ولد ، كما أن

٢٦٣

العزم على الأول أوكد منه على الثاني ، وما هنا من القبيل الأول ، فكان أنسب بالتوكيد ، وما في لقمان من القبيل الثاني فكان أنسب بعدمه.

٥ ـ قوله تعالى : (يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ) [الشورى : ٤٩].

فإن قلت : لم قدّم الإناث مع أنّ جهتهنّ التأخير ، ولم عرّف الذكور دونهنّ؟

قلت : لأن الآية سيقت لبيان عظمة ملكه ومشيئته ، وأنه فاعل ما يشاء ، لا ما يشاؤه عبيده كما قال : (ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) [القصص : ٦٨].

ولما كان الإناث ممّا لا يختاره العباد ، قدّمهنّ في الذّكر ، لبيان نفوذ إرادته ومشيئته ، وانفراده بالأمر ، ونكّرهنّ وعرّف الذكور لانحطاط رتبتهنّ ، لئلا يظنّ أن التقديم كان لأحقيتهنّ به ، ثم أعطى كل جنس حقّه من التقديم والتأخير ، ليعلم أن تقديمهنّ لم يكن لتقدمهنّ ، بل لمقتضى ، فقال : (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً) كما قال : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) [الحجرات : ١٣].

٦ ـ قوله تعالى : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) [الشورى : ٥٢].

المراد بالإيمان هنا : " شرائع الإسلام" وأحكامه كالصلاة والصوم ، وإلا فالأنبياء مؤمنون بالله ، قبل أن يوحى إليهم بأدلة عقولهم.

وقيل : المراد بالإيمان : الكلمة التي بها دعوة الإيمان والتوحيد ، وهي" لا إله إلا الله محمد رسول الله" والإيمان بهذا التفسير إنما علمه بالوحي لا بالعقل.

" تمت سورة الشورى"

٢٦٤

سورة الزّخرف

١ ـ قوله تعالى : (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [الزخرف : ٣].

إن قلت : القرآن ليس بمجعول ، لأن الجعل هو الخلق ، فلم لم ـ يقل : قلناه أو أنزلناه؟

قلت : الجعل يأتي بمعنى القول أيضا ، كقوله تعالى : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ) [النحل : ٥٧] ، وقوله : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) [إبراهيم : ٣٠].

٢ ـ قوله تعالى : (ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) [الزخرف : ٢٠].

قاله هنا بلفظ (يَخْرُصُونَ) وفي الجاثية بلفظ (يَظُنُّونَ) لأنّ ما هنا متّصل بقوله (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) أي قالوا : الملائكة بنات الله ، وإنّ الله قد شاء منّا عبادتنا إيّاهن ، وهذا كذب ، فناسبه (يَخْرُصُونَ) أي يكذبون.

وما هنالك متصل بخلطهم الصّدق بالكذب ، فإنّ قولهم (نَمُوتُ وَنَحْيا) صدق ، وكذبوا في إنكارهم البعث ، وقولهم : (وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) فناسبه (يَظُنُّونَ) أي يشكون فيما يقولون.

٣ ـ قوله تعالى : (بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ) [الزخرف : ٢٢].

قاله هنا بلفظ (مُهْتَدُونَ) وبعده بلفظ (مُقْتَدُونَ) لأن الأول وقع في محاجّتهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وادّعائهم أن آباءهم كانوا مهتدين ، وأنهم مهتدون كآبائهم ، فناسبه (مُهْتَدُونَ) والثاني وقع حكاية عن قوم ادّعوا الاقتداء بالآباء دون الاهتداء ، فناسبه (مُقْتَدُونَ.)

٤ ـ قوله تعالى : (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا ..) [الزخرف : ٤٥] الآية.

إن قلت : كيف قال ذلك ، مع أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يلق أحدا من الرسل حتى يسأله؟!

قلت : فيه إضمار تقديره : واسأل أتباع أو أمم من أرسلنا ، أو هو مجاز عن

٢٦٥

النظر في أديانهم ، والبحث عن مللهم هل فيها ذلك؟

أو واسأل المرسلين ليلة الإسراء ، فإنه لقيهم وأمّهم في مسجد بيت المقدس ، وقال بعد أن نزلت عليه هذه الآية بعد سلامه : " لا أسأل قد كفيت" ، كأنّ المراد بالأمر بالسؤال ، التقريب لمشركي قريش ، أنه لم يأت رسول من الله ، ولا كتاب بعبادة غير الله.

٥ ـ قوله تعالى : (وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها) [الزخرف : ٤٨] الآية.

أي : من قرينتها التي قبلها.

٦ ـ قوله تعالى : (قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ) [الزخرف : ٦٣].

إن قلت : كيف قال عيسى عليه‌السلام لأمته ذلك ، مع أن كل نبيّ يلزمه أن يبيّن لأمته كلّ ما يختلفون فيه؟

قلت : المراد أنه يبيّن لهم ممّا اختلفوا فيه ، ما يحتاجونه دون ما لا يحتاجونه.

أو المراد بالبعض الكلّ ، كما مرّ نظيره في غافر.

٧ ـ قوله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) [الزخرف : ٦٦].

فائدة ذكر (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) بعد (بَغْتَةً) أي فجأة ، أنّ الساعة تأتيهم وهم غافلون ، مشغولون بأمور دنياهم ، كما قال تعالى : (ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ) [يس : ٤٩] فلو لا قوله : (لا يَشْعُرُونَ) لجاز أن تأتيهم بغتة وهم يقظون حذرون مستعدّون لها.

٨ ـ قوله تعالى : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) [الزخرف : ٧٥].

إن قلت : كيف وصف أهل النّار فيها بأنهم مبلسون ، والمبلس : هو الآيس من الرحمة والفرج ، مع قوله بعد : (وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) الدالّ على طلبهم الفرج بالموت؟

قلت : وقع كلّ منهما في زمن ، لأن أزمنة يوم القيامة متعدّدة.

٢٦٦

٩ ـ قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) [الزخرف : ٨٤].

إن قلت : هذا يقتضي تعدّد الآلهة ، لأن النكرة إذا أعيدت نكرة تعدّدت ، كقولك : أنت طالق وطالق؟

قلت : الإله هنا بمعنى المعبود ، وهو تعالى معبود فيهما ، والمغايرة إنما هي بين معبوديته في السماء ، ومعبوديته في الأرض ، لأن المعبود به من الأمور الإضافية ، فيكفي التغاير فيها من أحد الطرفين ، فإذا كان العابد في السماء غير العابد في الأرض ، صدق أنّ معبوديته في الأرض ، مع أن المعبود واحد.

" تمت سورة الزخرف"

٢٦٧

سورة الدّخان

١ ـ قوله تعالى : (وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ) [الدخان : ٣٢].

قاله هنا بذكر (عَلى عِلْمٍ) أي منك ، وقال في الجاثية : (وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) بحذفه ، جريا هنا على الأصل في ذكر ما لا يغني عنه غيره ، واكتفاء ثمّ بقوله بعد : (وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ.)

٢ ـ قوله تعالى : (إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ. إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ) [الدخان : ٣٤ ، ٣٥].

إن قلت : القوم كانوا ينكرون الحياة الثانية ، فكان حقّهم أن يقولوا : إن هي إلا حياتنا الأولى.

قلت : لما قيل لهم : إنكم تموتون موتة يعقبها حياة ، كما تقدمتكم موتة ، لذلك قالوا : (إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى) أي ما الموتة التي من شأنها أن يعقبها حياة ، إلا الموتة الأولى.

٣ ـ قوله تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) [الدخان : ٣٨].

قاله بالجمع موافقة لقوله أول السورة : (رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.)

٤ ـ قوله تعالى : (ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ) [الدخان : ٤٨].

إن قلت : كيف قال ذلك ، مع أن العذاب لا يصبّ وإنما يصبّ الحميم ، كما قال في محل آخر : (يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ) [الحج : ١٩]؟

قلت : هو استعارة ليكون الوعيد أهيب وأعظم.

٥ ـ قوله تعالى : (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) [الدخان : ٥٦].

إن قلت : كيف قال في صفة أهل الجنّة ذلك ، مع أنهم لم يذوقوه فيها؟

قلت : " إلا" بمعنى" سوى" كما في قوله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) [النساء : ٢٢] أو الاستثناء منقطع أي لكن الموتة الأولى قد ذاقوها.

٦ ـ قوله تعالى : (يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ) [الدخان : ٥٣].

٢٦٨

إن قلت : كيف وعد الله تعالى أهل الجنة بلبس" الإستبرق" : وهو غليظ الديباج (١) ، مع أن غليظه عند السعداء من أهل الدنيا عيب ونقص؟

قلت : غليظ ديباج الجنة ، لا يشابه غليظ ديباج الدنيا حتى يعاب ، كما أن سندس الجنة وهو رقيق الديباج ، لا يشابه سندس الدنيا.

وقيل : إن السّندس : لباس أهل الجنة ، والإستبرق : لباس خدمهم إظهارا لتفاوت الرّتب.

" تمت سورة الدخان"

__________________

(١) معنى الديباج : الحرير فهو لباس أهل الجنة كما قال تعالى (وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) وهو نوعان : إستبرق ، وسندس ، وكلاهما من الحرير.

٢٦٩

سورة الجاثية

١ ـ قوله تعالى : (إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ. وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) إلى (آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [الجاثية : ٣ ـ ٥].

إن قلت : لم ختم الآية الأولى ب (لِلْمُؤْمِنِينَ) والثانية بقوله : (يُوقِنُونَ) والثالثة بقوله : (يَعْقِلُونَ؟)

قلت : لأنه تعالى لمّا ذكر العالم ضمنا ، ولا بدّ له من صانع ، موصوف بصفات الكمال ، ومن الإيمان بالصانع ناسب ختم الأولى بالمؤمنين ، ولمّا كان الإنسان أقرب إلى الفهم من غيره ، وكان فكره في خلقه وخلق الدوابّ ممّا يزيده يقينا في إيمانه ، ناسب ختم الثانية بقوله : (يُوقِنُونَ) ولما كان جزئيات العالم ، من اختلاف الليل والنهار وما ذكره معهما ، مما لا يدرك إلا بالعقل ، ناسب ختم الثالثة بقوله : (يَعْقِلُونَ.)

٢ ـ قوله تعالى : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ ..) [الجاثية : ٢٥ ، ٢٦].

إن قلت : ما وجه مطابقة الجواب وهو : (قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ) إلى آخره للسؤال وهو (ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ؟)

قلت : وجهه أنهم ألزموا بما هم مقرّون به ، من أنّ الله تعالى هو الذي أحياهم أولا ، ثم يميتهم ، ومن قدر على ذلك قدر على جمعهم يوم القيامة ، فيكون قادرا على إحياء آبائهم.

٣ ـ قوله تعالى : (وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا ..) [الجاثية : ٢٨]. أي : إلى قراءة كتاب أعمالها. فإن قلت : كيف أضاف الكتاب إلى الأمّة ، ثم أضافه إليه تعالى في قوله : (هذا كِتابُنا؟)

قلت : الإضافة تحصل بأدنى ملابسة ، فأضافه إلى الأمّة لكون أعمالهم مثبتة فيه ، وأضافه إليه تعالى لكونه مالكه ، وآمر ملائكته بكتابته.

" تمت سورة الجاثية"

٢٧٠

سورة الأحقاف

١ ـ قوله تعالى : (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) [الأحقاف : ١٩].

إن قلت : كيف وصف الفريقين بأنّ لكلّ منهما درجات ، مع أن أهل النّار لهم دركات لا درجات؟

ت : الدرجات هي : الطبقات من المراتب مطلقا.

أو فيه إضمار تقديره : ولكلّ فريق درجات أو دركات ، لكن حذف الثاني اختصارا ، لدلالة المذكور عليه.

٢ ـ قوله تعالى : (قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ. قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ) [الأحقاف : ٢٢ ، ٢٣].

وجه مطابقة الجواب فيه : أن سؤالهم متضمّن لاستعجالهم العذاب ، الذي توعّدهم به ، بقرينة قوله بعد : (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ) فأجابهم بأنه لا علم له بوقت تعذيبهم ، بل الله تعالى هو العالم به وحده.

٣ ـ قوله تعالى : (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها ..) [الأحقاف : ٢٥].

أي كلّ شيء مرّت به ، من أموال قوم عاد وأهليهم.

٤ ـ قوله تعالى : (يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ..) [الأحقاف : ٣١] الآية.

أفاد بذكر (مِنْ) أنّ من الذنوب ما لا يغفره الإيمان كمظالم العباد.

" تمت سورة الأحقاف"

٢٧١

سورة محمّد

١ ـ قوله تعالى : (سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ) [محمد : ٥].

إن قلت : كيف قال ذلك تعالى في حقّ الشهداء ، بعد ما قتلوا ، مع أن الهداية إنما تكون قبل الموت لا بعده.

قلت : معناه سيهديهم إلى محاجّة منكر ونكير ، وقيل : سيهديهم يوم القيامة إلى طريق الجنة.

٢ ـ قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ ...)

نزلت في قوم ارتدوا عن الإيمان.

قوله تعالى قبل : (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ.)

نزلت في اليهود ، فليس بتكرار.

" تمت سورة محمد"

٢٧٢

سورة الفتح

١ ـ قوله تعالى : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) [الفتح : ١].

نزلت قبل فتح مكة ، وجيء بالفعل ماضيا ، لأنه في علمه تعالى كالواقع ، لتحقّق وقوعه.

٢ ـ قوله تعالى : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) [الفتح : ٢].

إن قلت : كيف قال ذلك والنبيّ معصوم من الذنوب؟

قلت : المراد ذنب المؤمنين ، أو ترك الأفضل ، أو أراد الصغائر على ما قاله به جمع ، أو المراد بالمغفرة العصمة.

ومعنى قوله" ما تقدّم" وما تأخّر" ما فرط منك فرضا ، قبل النبوة وبعدها ، أو قبل فتح مكة وبعده.

أو المراد بما تأخّر العموم والمبالغة ، كقولهم : فلان يضرب من يلقاه ومن لا يلقاه ، بمعنى يضرب كلّ أحد ، مع أن من لا يلقاه لا يمكنه ضربه.

٣ ـ قوله تعالى : (وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً) [الفتح : ٢].

أي : يزيدك هدى ، وإلا فهو مهديّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٤ ـ قوله تعالى : (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها) [الفتح : ٢٦].

إن قلت : ما فائدة قوله : (وَأَهْلَها) بعد قوله : (أَحَقَّ بِها؟)

قلت : الضمير في (بِها) لكلمة التوحيد ، وفي أهليّتهما للتقوى ، فلا تكرار.

٥ ـ قوله تعالى : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ ..) [الفتح : ٢٧].

إن قلت : ما وجه التعليق بمشيئة الله تعالى في إخباره؟

قلت : (إِنْ) بمعنى إذ كما في قوله تعالى (وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [البقرة : ٢٧٨].

أو أنه استثناء منه تعالى فيما يعلم ، تعليما لعبادة أن يستثنوا فيما لا يعلمون.

٢٧٣

أو أنّه على سبيل الحكاية لرؤيا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإنه رأى أن قائلا يقول : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ ...)

٦ ـ قوله تعالى : (مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ ...)

إن قلت : ما فائدة ذكر (لا تَخافُونَ) بعد قوله : (آمِنِينَ؟)

قلت : المعنى آمنين في حال الدخول ، لا تخافون عدوّكم أن يخرجكم منه في المستقبل.

٧ ـ قوله تعالى : (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ..) [الفتح : ٢٩].

تعليل لما دلّ عليه تشبيههم بالزرع ، من نمائهم وقوّتهم ، كأنه قيل : إنما قوّاهم وكثّرهم ليغيظ بهم الكفار.

٨ ـ قوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) [الفتح : ٢٩].

(مِنْهُمْ) أي من الذين مع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم" الصحابة" مغفرة وأجرا عظيما ف" من" هنا لبيان الجنس ، كما في قوله تعالى : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) [الحج : ٣٠] لا للتبعيض ، لأن الصحابة كلّهم موصوفون بالإيمان والعمل الصالح.

" تمت سورة الفتح"

٢٧٤

سورة الحجرات

١ ـ قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ ..) [الحجرات : ١] الآية.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ذكر في السورة خمس مرات ، والمخاطبون فيها المؤمنون ، والمخاطب به أمر ، أو نهي ، وذكر فيها (يا أَيُّهَا النَّاسُ) مرّة ، والمخاطبون فيها يعمّ المؤمنين والكافرون ، كما أن المخاطب به وهو قوله : (إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) يعمّهما ، فناسب فيها ذكر النّاس ، وقوله : (لا تُقَدِّمُوا) من قدّم بمعنى تقدم ، لأن المراد به نهيهم عن أن يتقدّموا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقول ، أو فعل ، لا عن أن يقدّموا غيرهم.

٢ ـ قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ) [الحجرات : ٢].

فائدة ذكر (وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ) بعد قوله : (لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ) النهي عن الجهر في مخاطبته ، وإن لم يتضمّن رفع أصواتهم على صوته.

وقيل : المراد النهي عن مخاطبته صلى‌الله‌عليه‌وسلم باسمه.

٣ ـ قوله تعالى : (أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) [الحجرات : ٢].

أي : مخافة حبوطها.

فإن قلت : كيف قال ذلك ، مع أنّ الأعمال إنما تحبط بالكفر ، ورفع الصوت على صوت النبي ليس بكفر؟

قلت : المراد الاستخفاف بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأنه ربما يؤدي إلى الكفر.

وقيل : حبوط العمل هنا مجاز عن نقصان المنزلة ، وانحطاط الرتبة.

٤ ـ قوله تعالى : (وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ) [الحجرات : ٧].

إن قلت : ما فائدة الجمع بين الفسق والعصيان؟!

قلت : الفسوق : الكذب كما نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما ، والعصيان : بقيّة المعاصي ، وإنما أفرد الكذب بالذّكر ، لأنه سبب نزول هذه الآية.

٢٧٥

وقيل : الفسوق : الكبيرة ، والعصيان : الصغيرة (١).

٥ ـ قوله تعالى : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا ..) [الحجرات : ١٤].

المنفيّ هنا : الإيمان بالقلب ، والمثبت : الانقياد ظاهرا ، فهما في اللغة متغايران بهذا الاعتبار ، كما أنهما في الشرع مختلفان مفهوما ، متّحدان صدقا ، إذ الإيمان هو التصديق بالقلب ، بشرط التلفظ بالشهادتين ، والإسلام بالعكس.

٦ ـ قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا ..) [الحجرات : ١٥] الآية.

إن قلت : العمل ليس من الإيمان ، فكيف ذكر أنه منه في هذه الآية؟

قلت : المراد منها الإيمان الكامل ، أي إنما المؤمنون إيمانا كاملا ، كما في قوله تعالى (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) [فاطر : ٢٨] وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده" (٢).

" تمت سورة الحجرات"

__________________

(١) الفسوق : الخروج عن طاعة الله بالجرائم الكبيرة ، والعصيان معصية أمر الله وأمر رسوله بصغائر الذنوب. قال ابن كثير : والمراد بالفسوق : الذنوب الكبار ، وبالعصيان جميع المعاصي. المختصر ٣ / ٢٣٤.

(٢) أخرجه البخاري ومسلم.

٢٧٦

سورة ق

١ ـ قوله تعالى : (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ. بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ ..) [ق : ١ ـ ٣].

" ق" إذا جعل اسما للسورة ، فهو خبر مبتدأ محذوف أي هذه ق بالمعنى السابق في ص.

وإن جعل قسما فجوابه مع ما عطف عليه محذوف ، تقديره : لتبعثنّ ، بدليل قوله : (ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) [ق : ٣].

أو لقد أرسلنا محمدا ، بدليل قوله : (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ.)

أو هو قوله : (قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ) حذفت من اللّام لطول الكلام.

أو هو قوله : (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق : ١٨].

٢ ـ قوله تعالى : (فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ) [ق : ٩].

إن قلت : فيه إضافة الشيء إلى نفسه وهي ممتنعة ، لأن الإضافة تقتضي المغايرة بين المضاف والمضاف إليه؟

قلت : ليست ممتنعة مطلقا ، بل هي جائزة عند اختلاف اللفظين ، كما في قوله (حَقُّ الْيَقِينِ) [الواقعة : ٩٥] و (حَبْلِ الْوَرِيدِ) [ق : ١٦] و (لَدارُ الْآخِرَةِ) [يوسف : ١٠٩].

وبتقدير امتناعها مطلقا فالتقدير : حبّ الزّرع أو النبات الحصيد.

٣ ـ قوله تعالى : (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ) [ق : ١٧].

إن قلت : كيف قال" قعيد" ولم يقل : قعيدان ، إذ أنه وصف للملكين المذكورين؟

قلت : معناه عن اليمين قعيد ، وعن الشمال قعيد ، لكنه حذف أحدهما لدلالة المذكور عليه.

أو أن" فعيلا" يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع ، قال تعالى :

٢٧٧

(وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) [التحريم : ٤] أو قال ذلك رعاية للفواصل.

٤ ـ قوله تعالى : (وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ) [ق : ٢٣].

قاله هنا بالواو ، وقاله بعد بدونهما (١) ، لأن الأول خطاب للإنسان من قرينه ومتعلّق به ، فناسب ذكر الواو ، والثاني استئناف خطاب من الله ، غير متعلق بما قبله ، فناسب حذفها.

٥ ـ قوله تعالى : (أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ) [ق : ٢٤].

إن قلت : كيف ثنّى الفاعل مع أنه واحد ، وهو مالك خازن النّار؟

قلت : بل الفاعل مثنّى ، وهما الملكان اللّذان مرّ ذكرهما بقوله : (وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ ،) أو أنّ تثنية الفاعل أقيمت مقام تكرّر الفعل للتأكيد ، واتحادهما حكما ، فكأنه قال : ألق ، ألق ، كقول امرىء القيس : قفا نبك ، أو أن العرب أكثر ما يوافق الرجل منهم اثنين ، فكثر على ألسنتهم خطابهما فقالوا ، خليليّ ، وصاحبيّ ، وقفا ، ونحوها.

٦ ـ قوله تعالى : (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ) [ق : ٣١].

إن قلت : لم لم يقل : غير بعيدة ، لكونه وصفا للجنة؟

قلت : لأن" فعيلا" يستوي فيه المذكّر والمؤنث ، أو لأنه صفة لمذكّر محذوف أي مكانا غير بعيد.

فإن قلت : ما فائدة قوله : (غَيْرَ بَعِيدٍ) بعد قوله : (وَأُزْلِفَتِ) بمعنى قرّبت؟

قلت : فائدته التأكيد ، كقولهم : هو قريب غير بعيد ، وعزيز غير ذليل.

٧ ـ قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ ..) [ق : ٣٧].

أي : واع ، وإلا فكلّ إنسان له قلب ، بل كلّ حيوان أو المراد بالقلب : العقل.

" تمت سورة ق"

__________________

(١) في قوله تعالى (قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) (٢٧).

٢٧٨

سورة الذّاريات

١ ـ قوله تعالى : (إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ) [الذاريات : ٥].

إن قلت : كيف قال ذلك ، مع أن الصّادق وصف للواعد ، لا لما يوعد؟

قلت : وصف به ما يوعد مبالغة.

أو هو بمعنى مصدوق ، ك (عِيشَةٍ راضِيَةٍ) [القارعة : ٧] ، (ماءٍ دافِقٍ) [الطارق : ٦].

٢ ـ قوله تعالى : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ ..) [الذاريات : ١٥ ـ ١٦].

ختم الآية هنا بقوله (وَعُيُونٍ. آخِذِينَ) وفي الطور بقوله : (وَنَعِيمٍ. فاكِهِينَ) لأن ما هنا متّصل بما به يصل الإنسان إلى الجنّات ، وهو قوله : (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ) الآيات. وما في الطور متّصل بما يناله الإنسان فيها ، وهو قوله : (وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ. كُلُوا وَاشْرَبُوا) الآية.

٣ ـ قوله تعالى : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [الذاريات : ٤٩].

أي : صنفين.

فإن قلت : كيف قال ذلك ، مع أن العرش ، والكرسي ، واللوح ، والقلم ، لم يخلق من كل منها إلا واحد؟

قلت : معناه ومن كل حيوان خلقنا ذكرا وأنثى ، ومن كل شيء يشاهدونه خلقنا صنفين ، كالليل والنهار ، والنور والظلمة ، والصيف والشتاء ، والخير والشر ، والحياة والموت ، والشمس والقمر.

٤ ـ قوله تعالى : (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) [الذاريات : ٥٠].

قاله هنا وبعد ، وليس بتكرار ، لأن الأول متعلق بترك الطاعة إلى المعصية ، والثاني بالشرك بالله.

٥ ـ قوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦].

لا ينافي ذلك عدم عبادة الكافرين ، لأن الغاية لا يلزم وجودها ، كما في قولك : بريت القلم لأكتب به ، فإنك قد لا تكتب به ، أو لأن ذلك عام أريد به

٢٧٩

الخصوص ، بدليل قوله تعالى : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) [الأعراف : ١٧٩] ومن خلق لجهنم لا يكون مخلوقا للعبادة.

٦ ـ قوله تعالى : (ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) [الذاريات : ٥٧].

إن قلت : ما فائدة تكرار لفظ (ما أُرِيدُ؟)

قلت : فائدته إفادة حكم زائد على ما قبله ، إذ المعنى ما أريد منهم أن يطعموا أنفسهم ، وما أريد منهم أن يطعموا عبيدي ، وإنما أضاف تعالى الإطعام إلى نفسه ، لأن الخلق عياله وعبيده ، ومن أطعم عيال غيره فكأنه أطعمه ، ويؤيده خبر : (إن الله تعالى يقول يوم القيامة : يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني) (١) ، أي استطعمك عبدي فلم تطعمه.

" تمت سورة الذاريات"

__________________

(١) الحديث أخرجه الشيخان ، وله تتمه : ابن آدم مرضت فلم تعدني .. إلخ.

٢٨٠