فتح الرّحمن شرح ما يلتبس من القرآن

زكريّا بن محمّد بن أحمد الأنصاري

فتح الرّحمن شرح ما يلتبس من القرآن

المؤلف:

زكريّا بن محمّد بن أحمد الأنصاري


المحقق: الدكتور يحيى مراد
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 978-2-7451-4012-4
الصفحات: ٣٦٠

قلت : فائدته التنبيه علي إرادة الذّكر ، وزيادة فائدة أخرى في الثاني وهي : (كَما هَداكُمْ) بمعنى اذكروه بتوحيده كما ذكركم بهدايته. أو الإشارة بالأول إلى الذكر باللفظ ، وبالثاني إلى الذكر بالقلب.

٩٠ ـ قوله تعالى : (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ.)

إن قلت : كيف عطف الإفاضة ، مع أنها الإفاضة من عرفات؟

قلت : ثمّ للترتيب الإخباري لا الزماني.

أو المراد بالإفاضة الثانية : الإفاضة من مزدلفة إلى منى ، لا من عرفات.

٩١ ـ قوله تعالى : (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ.)

إن قلت : ما فائدة قوله فيها : (وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) مع أنه معلوم بالأولى ممّا قبله؟

قلت : فائدته رفع ما كان عليه الجاهلية من أن بعضهم قائل بإثم المتعجل ، وبعضهم بإثم التأخر. أو المعنى : لا إثم على المتأخر في ترك الأخذ بالرخصة ، مع أن الله يحبّ أن تؤتى رخصه كما يحبّ أن تؤتى عزائمه.

فإن قلت : التعجيل في اليوم الثاني ، لا فيه وفي اليوم الأول ، فكيف قال : (فِي يَوْمَيْنِ)؟

قلت : المعنى في مجموع اليومين الصادق بأحدهما وهو الثاني ، كما في قوله تعالى : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) [الرحمن : ٢٢] وهما لا يخرجان إلا من الملح لا من العذاب.

٩٢ ـ قوله تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ.)

قال ذلك هنا ، وقال في آل عمران : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ) الآية.

وفي التوبة : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ) الآية.

غاير بما ذكر في الثالثة ، لأن الخطاب في الأولى للنبي والمؤمنين ، وفي الثانية للمجاهدين ، وفي الثالثة للمؤمنين.

٩٣ ـ قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ.)

٤١

إن قلت : كيف طابق الجواب السؤال ، لأنهم سألوا عن المنفق ، فأجيبوا ببيان المصرف؟

قلت : بل طابقه بقوله : (مِنْ خَيْرٍ) وزاد عليه بيان المصرف بما بعده ، فالجواب أعمّ ، ونظيره قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد سئل عن الوضوء بماء البحر : " هو الطّهور ماؤه ، الحلّ ميتته".

٩٤ ـ قوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ.)

ذكر (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) هنا ، وتركه في آخر السورة ، وفي الأنعام اختصارا ، للعلم به ممّا هنا.

٩٥ ـ قوله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ.)

بفتح التّاء هنا ، وبضمها في قوله : (وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ.)

لأن الأول من" نكح" وهو يتعدّى إلى مفعول واحد ، والثاني من" أنكح" وهو يتعدى إلى اثنين ، الأول في الآية (الْمُشْرِكِينَ ،) والثاني محذوف وهو (المؤمنات).

٩٦ ـ قوله تعالى : (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا.)

هو هنا بالتخفيف ، من" أمسك" وفي الممتحنة بالتخفيف والتشديد ، لمناسبة تخفيف لما هنا ما قبله من قوله : (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ) وقوله : (فَأَمْسِكُوهُنَّ.)

ومناسبة تخفيف وتشديد ما هناك ما قبله من قوله : (لَمْ يُخْرِجُوكُمْ) وقوله : (أَنْ تَبَرُّوهُمْ) وخفّف في الطلاق قوله : (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) لمناسبة تخفيفه ما قبله من قوله : (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ.)

٩٧ ـ قوله تعالى : (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.)

فإن قلت : عزمهم الطّلاق ممّا يعلم لا ممّا يسمع ، فكيف قال : (فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ)؟

قلت : العازم على الشيء يحدّث به نفسه ، وحديث النّفس ممّا يسمعه الله ووسوسة الشيطان ، مع أن الغالب في عزم الطلاق المقاولة مع الزوجة.

٩٨ ـ قوله تعالى : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ) أفعل ههنا بمعنى فاعل.

٩٩ ـ قوله تعالى : (ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ.)

قال : (ذلِكَ) هنا ، وقال في الطلاق : (ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ) لمّا كانت كاف (ذلِكَ) لمجرد الخطاب ، لا محلّ لها من الإعراب ، جاز الاقتصار

٤٢

على الواحد كما هنا ، وكما في قوله تعالى : (ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) وجاز الجمع نظرا للمخاطبين كما في الطلاق.

فإن قلت : لم ذكر (مِنْكُمْ) هنا ، وترك ثمّ؟

قلت : لترك ذكر المخاطبين هنا في قوله ذلك ، واكتفى بذكرهم ثمّ فيه.

١٠٠ ـ قوله تعالى : (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ.)

قال في هذه الآية : (بِالْمَعْرُوفِ) وقال في الآية الأخرى : (مِنْ مَعْرُوفٍ) لأن التقدير في هذه : فيما فعلن في أنفسهن بأمر الله المعروف من الشرع.

وفي تلك : فيما فعلن في أنفسهنّ من فعل من أفعالهنّ معروف جوازه شرعا.

١٠١ ـ قوله تعالى : (فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ.)

إن قلت : هذا يقتضي موتهم مرتين ، وهو مناف للمعروف أن موت الخلق مرة واحدة؟

قلت : لا منافاة إذ الموت هنا عقوبة مع بقاء الأجل ، كما في قوله تعالى في قصة موسى : (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ.)

وثمّ موت بانتهاء الأجل ، ولأن الموت هنا خاصّ بقوم ، وثمّ عام في الخلق كلّهم ، فيكون ما هنا مستثنى إظهارا للمعجزة.

١٠٢ ـ قوله تعالى : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ.)

إنما ذكر لفظ الناس هنا وفي يوسف والمؤمن وتركه في يونس والنّمل.

لأن ما في الثلاثة الأولى ، لم يتقدمه كثرة تكرر لفظ (النَّاسِ ،) فناسب الإظهار ، وما في يونس تقدّمه ذلك فناسب الإضمار ، لئلا تزيد كثرة التكرار ، وما في النمل تقدّمه إضمار الموحى إليه ومخاطبته فناسب الإضمار ، وبعضهم أجاب بما فيه نظر فتركته.

١٠٣ ـ قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ.)

كرّره بقوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا) تأكيدا وتكذيبا لمن زعم أنّ ذلك لم يكن بمشيئة الله.

١٠٤ ـ قوله تعالى : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ.)

أي : بغير إذن الله لقوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ.)

٤٣

وقوله : (وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ.)

أو : لا شفاعة من الأصنام والكواكب التي يعتقدها الكفار.

١٠٥ ـ قوله تعالى : (وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) حصر الظلم في الكافرين ، لأن ظلمهم أشدّ ، فهو حصر إضافي كما في قوله تعالى : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) [فاطر : ٢٨].

١٠٦ ـ قوله تعالى : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ)

عبّر فيها بالمضارع لا بالماضي مع أن الإخراج قد وجد لمناسبة التعبير به قبله في قوله : (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ) ولأنّ المضارع يدلّ على الاستمرار ، فيدلّ هنا على الاستمرار ما ضمنه الإخراج من الله تعالى ، في الزمن المستقبل في حقّ من ذكر.

فإن قلت : كيف يخرج الكفّار من النور ، مع أنهم لم يكونوا في نور؟

قلت : لمقابلة ما ذكر قبله في المؤمنين ، ولأن الكفار هنا هم" اليهود" وقد كانوا مؤمنين بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما يجدونه من نعته في كتبهم ، فلما بعث كفروا به.

١٠٧ ـ قوله تعالى : (قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ.)

أي : بقدرتي على الإحياء ، قال له ذلك مع علمه بإيمانه بذلك ، ليجيب بما أجاب به ، فيعلم السامعون غرضه من طلبه لإحياء الموتى.

١٠٨ ـ قوله تعالى : (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي.)

قاله مع أنّ قلبه مطمئن بقدرة الله تعالى على الإحياء ، ليطمئنّ قلبه بعلم ذلك عيانا كما اطمأن به برهانا.

أو ليطمئنّ بأنه اتخذه خليلا ، أو بأنه مستجاب الدعوة.

١٠٩ ـ قوله تعالى : (قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ.)

خصّ الطير بالذكر من سائر الحيوان ، لزيادته عليه بطيرانه.

قيل : وكانت الأربعة : ديكا ، وطاووسا ، ونسرا ، وغرابا.

وفائدة التقييد بالأربعة في الطير ، وفي الأجبل (١) بعده ، الجمع بين الطبائع

__________________

(١) الأجبل : جمع جبل.

٤٤

الأربع ، في الطير بين مهاب الرياح من الجهات الأربع في الأجبل.

١١٠ ـ قوله تعالى : (ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً.)

إن قلت : كيف مدح المنفقين بترك المنّ ، وقد وصف نفسه بالمنّ ، كما في قوله تعالى : (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) [آل عمران : ١٦٤]؟

قلت : المنّ يقال للإعطاء ، وللاعتداد بالنعمة واستعظامها ، والمراد في الآية المعنى الثاني.

فإن قلت : من المعنى الثاني (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ) [الحجرات : ١٧].

قلت : ذلك اعتداد نعمة الإيمان ، فلا يكون قبيحا ، بخلاف نعمة المال.

على أنه يجوز أن يكون من صفات الله تعالى ، ما هو مدح في حقّه ، ذمّ في حقّ العبد ، كالجبّار ، والمتكبّر ، والمنتقم.

١١١ ـ قوله تعالى : (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ.)

فإن قلت : لم خصّ النّخيل والأعناب بالذّكر ، مع قوله بعد : (لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ؟)

قلت : لأنّ النخيل والأعناب أكرم الشجر ، وأكثرهم منافع.

١١٢ ـ قوله تعالى : (وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ.)

ذكر (مِنْ) هنا ـ خاصة ـ موافقة لما بعدها في ثلاث آيات ، ولأن الصّدقات لا تكفّر جميع السيّئات.

١١٣ ـ قوله تعالى : (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً.)

فإن قلت : هذا يفهم أنهم كانوا يسألون برفق ، مع أنه قال : (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ.)

قلت : المراد نفي المقيّد والقيد جميعا كما في قوله تعالى : (لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ) وقوله : (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) [الرعد : ٢].

١١٤ ـ قوله تعالى : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا.)

خصّ الأكل بالذّكر مع أنّ غيره كاللّبس ، والادّخار ، والهبة كذلك ، لأنه أكثر وأهمّ انتفاعا بالمال ، إذ لا بدّ منه.

٤٥

أو أريد بالأكل الانتفاع ، كما يقال : فلان أكل ماله ، إذا انتفع به في الأكل وغيره.

١١٥ ـ قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا.)

فإن قلت : كيف قالوا ذلك مع أن مقصودهم تشبيه الربا بالبيع المتّفق على حلّه؟

قلت : جاء ذلك على طريق المبالغة ، لأنه أبلغ من اعتقادهم أن الربا حلال كالبيع ، كالتشبيه في قولهم : القمر وجه زيد ، والبحر ككفّه ، إذا أرادوا المبالغة.

أو أنّ مقصودهم أنّ البيع والربا يتماثلان من جميع الوجوه ، فساغ قياس البيع على الربا كعكسه.

١١٦ ـ قوله تعالى : (وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ.)

إن قلت : كيف قال ذلك ، مع أن مرتكب الكبيرة كآكل الربا لا يخلّد في النّار؟

قلت : الخلود يقال لطول البقاء ، وإن لم يكن بصيغة التأبيد ، كما يقال : خلّد الأمير فلانا في الحبس إذا أطال حبسه.

أو المراد بقوله (وَمَنْ عادَ) العائد إلى استحلال أكل الربا ، هو بذلك كافر ، والكافر مخلّد في النّار على التأبيد.

١١٧ ـ قوله تعالى : (وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة : ٢٨٠].

(خَيْرٌ لَكُمْ) أي : من إنظار المعسر.

فإن قلت : إنظار المعسر واجب ، والتصدّق عليه تطوّع ، فكيف يكون خيرا من الواجب؟

قلت : التّطوع المحصّل للواجب ، لما اشتمل عليه من الزيادة كما هنا أفضل من الواجب ، كما أن الزّهد في الحرام واجب ، وفي الحلال تطوّع ، والزهد في الحلال أفضل.

١١٨ ـ قوله تعالى : (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ.)

قال فيه وفي الجاثية ب (ما كَسَبَتْ) وقال في آخر النحل : (وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ) وفي آخر الزمر : (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ) موافقة لما قبل كل منها ، أو بعده ، أو قبله وبعده ، إذ ما هنا قبله : (أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ) وبعده : (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ.)

وقبله في آخر النّحل : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً) ... (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ.)

٤٦

وبعده : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ.)

وقبل ما في الجاثية : (وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً.)

وبعد ما في الزمر : (فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ.)

١١٩ ـ قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ.)

فإن قلت : ما فائدة قوله : (بِدَيْنٍ) مع أنه معلوم من (تَدايَنْتُمْ.)

قلت : فائدته الاحتراز عن" الدّين" بمعنى المجازاة ، يقال : داينت فلانا بالمودة ، أي جازيته بها ، وهو بهذا المعنى لا كتابة فيه ولا إشهاد.

وقيل : فائدته رجوع الضمير إليه في قوله : (فَاكْتُبُوهُ) إذ لو لم يذكره لقال : فاكتبوا الدّين ، والأول أحسن نظما.

١٢٠ ـ قوله تعالى : (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى.)

قرئ : " تذكر" بالتخفيف والتشديد.

فإن قلت : كيف جعل (أَنْ تَضِلَ) علة لاستشهاد المرأتين بدل رجل ، مع أن علّته إنما هو التذكير.

قلت : بل علّته (أَنْ تَضِلَ) لأن الضلال من إحداهما يكثر وقوعه فصلح أن يكون علّة لاستشهادهما ، وبتقدير عدم صلاحه فالتعليل" بأن تضلّ" في الحقيقة إنما هو للتذكير ، ومن شأن العرب إذا كانت للعلّة علّة ، قدّموا ذكر علّة العلّة ، وجعلوا العلّة معطوفة عليها بالفاء ، لتحصل الدلالتان معا بعبارة واحدة ، كقولك : أعددت الخشبة أن يميل الجدار ، فأدعمته بها ، فالإدعام علّة في إعداد الخشبة ، والميل علّة الإدعام.

١٢١ ـ قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ)

فإن قلت : كيف شرط السفر في الارتهان مع أنه ليس بشرط فيه؟

قلت : لم يذكره لتخصيص الحكم به ، بل لكونه مظنة عوز الكاتب ، والشاهد الموثوق بهما.

١٢٢ ـ قوله تعالى : (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ.)

فإن قلت : ما فائدة ذكر القلب ، مع أن الجملة موصوفة بالإثم؟

قلت : لما كان كتمان الشهادة هو إضمارها في القلب ، وإثمه مكتسبا بالقلب

٤٧

وبه ، أسند الإثم إليه ، لأن إسناد الفعل إلى الجارحة التي يعمل بها أبلغ ، كما يقال : هذا مما أبصرته عيناي ، وسمعته أذناي ، وعمله قلبي.

١٢٣ ـ قوله تعالى : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ)

إن قلت : كيف قال في الإخفاء : (يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) مع أن حديث النفس لا إثم فيه ، للحديث المشهور فيه ، ولأنه لا يمكن الاحتراز منه؟.

قلت : ذلك منسوخ بقوله : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها.)

أو المراد بالإخفاء : العزم القاطع ، والاعتقاد الجازم.

أو ذلك إخبار بالمحاسبة لا بالمعاقبة ، فهو تعالى يخبر العباد بما أخفوا وأظهروا ، ليعلموا إحاطة علمه ، ثم يغفر أو يعذّب فضلا وعدلا.

١٢٤ ـ قوله تعالى : (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ.)

قدّم المغفرة في هذه وغيرها ، إلا في المائدة فقدّم العذاب ، لأنها في المائدة نزلت في حقّ السارق والسارقة ، وعذابهما يقع في الدنيا فقدّم العذاب ، وفي غيرها قدمت المغفرة رحمة منه للعباد ، وترغيبا لهم إلى المسارعة إلى موجباتها.

١٢٥ ـ قوله تعالى : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ.)

إن قلت : أيّ فائدة في هذا الإخبار مع أنّ الأنبياء في أعلى درجات الإيمان؟.

قلت : فائدته أن يبيّن للمؤمنين زيادة شرف الإيمان ، حيث مدح به خواصّه ورسله ، ونظيره في الصّافّات أنه ذكر في نبيّ : (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ.)

١٢٦ ـ قوله تعالى : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ.)

فإن قلت : كيف قال ذلك مع أن (بَيْنَ) لا تضاف إلا إلى اثنين فأكثر؟.

قلت : (أَحَدٍ) هنا بمعنى الجمع الذي هو آحاد كما في قوله تعالى : (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) فكأنه قال : لا نفرّق بين آحاد من رسله.

١٢٧ ـ قوله تعالى : (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) [البقرة : ٢٨٦].

(لَها ما كَسَبَتْ) أي : في الخير (وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) أي : في الشّرّ.

فإن قلت : ما الدليل على أن الأول في الخير ، والثاني في الشرّ؟.

قلت : " اللّام" في الأول و" على" في الثاني ، لأنهما يستعملان في ذلك عند تقارنهما كما في هذه الآية ، وكما في قوله : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ

٤٨

فَعَلَيْها) [فصلت : ٤٦].

وقولهم : الدّهر يومان : يوم لك ، ويوم عليك.

وقول الشاعر :

على أنني راض بأن أحمل الهوى

وأخلص منه لا عليّ ولا ليا

فإن قلت : لم خصّ الكسب بالخير ، والاكتساب بالشرّ؟.

قلت : لأن الاكتساب فيه أعمال ، والشرّ تشتهيه النفس وتنجذب ، فكانت أجدّ في تحصيله ، بخلاف الخير ، ولأن في ذلك إشارة إلى إكرامه تعالى وتفضله على الخلق ، حيث أثابهم على فعل الخير من غير جد واعتمال ، ولم يؤاخذهم على فعل الشرّ إلا بالجدّ والاعتمال.

" تمت سورة البقرة"

٤٩

آل عمران

١ ـ قوله تعالى : (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ.)

إن قلت : كيف قال هنا : (نَزَّلَ) ثم قال : (وَأَنْزَلَ) مرتين؟

قلت : للاحتراز عن كثرة التكرار.

خص المشدّد بالأول لمناسبته (مُصَدِّقاً.)

وقيل : لأن القرآن نزل منجّما ، والتوراة والإنجيل نزلا جملة واحدة ، فحيث عبّر فيه ب" نزل" أريد الأول ، أو" أنزل" أريد الثاني.

وردّ الأول بقوله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) [الفرقان : ٣٢].

والثاني بقوله : (وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ) [آل عمران : ٤] إن أريد به القرآن.

وبقوله : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ) [آل عمران : ٧].

وبقوله : (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) [البقرة : ٤].

٢ ـ قوله تعالى : (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ)

سمّى ما مضى بأنه (بَيْنَ يَدَيْهِ) لغاية ظهور أمره.

٣ ـ قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) [آل عمران : ٥].

قدّم الأرض على السماء هنا وفي موضع من يونس وإبراهيم وطه والعنكبوت عكس الغالب في سائر الآيات ، لأن المخاطبين في الخمس كائنون في الأرض فقط ، بخلافهم في غيرها كذا قيّد.

٤ ـ قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ.)

إن قلت : كيف قال ذلك ومن للتبعيض ، وقال في هود : (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ) وهو يقتضي إحكام آياته كلّها؟

قلت : المراد ب (مُحْكَماتٌ) هنا : النّاسخات ، أو العقليّات ، أو ما ظهر معناه.

كما أن المراد ب المتشابهات المنسوخات ، أو الشرعيّات ، أو ما كان في معناها غموض ودقّة.

٥٠

والمراد بقوله : (أُحْكِمَتْ آياتُهُ :) أن جميع القرآن صحيح ثابت ، مصون عن الخلل والزّلل ، ولا تنافي بين (مُتَشابِهاتٌ) وقوله : (كِتاباً مُتَشابِهاً) إذ المراد ب (مُتَشابِهاتٌ) ما مرّ وب (مُتَشابِهاً) أنه يشبه بعضه بعضا في الصّحّة ، وعدم التناقض ، وتأييد بعضه لبعض.

٥ ـ قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ.)

قاله بلفظ الغيبة ، وقال في آخر السورة : (إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ) بلفظ الخطاب لأن ما هنا متّصل بما قبله وهو قوله تعالى : (رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ) اتصالا لفظيا فقط.

وما في آخرها متّصل بما قبله وهو قوله : (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ) اتّصالا لفظيا ومعنويا ، لتقدم لفظ الوعد.

٦ ـ قوله تعالى : (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا.)

قال هنا وفي موضع من" الأنفال" : (كَذَّبُوا) وفي آخر منها : (كَفَرُوا) تفنّنا ، جريا على عادة العرب في تفنّنهم في الكلام.

٧ ـ قوله تعالى : (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ.)

أي ترى الفئة الكافرة المسلمة بمثلي عدد نفسها ، أو بالعكس على الخلاف.

إن قلت : هذا ينافي قوله في الأنفال (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) إذ قضيّته أن كلا منهما ترى الأخرى قليلة؟

قلت : التقليل والتّكثير في حالين :

قلّل الله المشركين في نظر المؤمنين ، وعكسه أولا ، حتى اجترأت كلّ منهما على قتال الأخرى.

ثمّ كثّر الله المؤمنين في نظر المشركين لما التقتا ، حتى جبنوا وفشلوا.

وكثّر الله المشركين في نظر المؤمنين ، وأراهم إيّاهم على ما هم عليه ـ وكانوا في الحقيقة أكثر من المؤمنين ـ ليعلموا صدق وعد الله في قوله : (فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) فإن المؤمنين غلبوهم في هذا الغزاة وهي" غزاة بدر" مع أنهم كانوا أضعاف عدد المؤمنين.

٨ ـ قوله تعالى : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً

٥١

بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ.)

كرّر فيها : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) لأن الأول قول الله ، والثاني حكاية قول الملائكة وأولي العلم.

أو لأن الأول جرى مجرى الشهادة ، والثاني مجرى الحكم بصحة ما شهدته الشّهود.

وقال جعفر الصادق : الأول وصف ، والثاني تعليم أي : قولوا واشهدوا كما شهدت.

٩ ـ قوله تعالى : (ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ.)

إن قلت : التولي والإعراض واحد ـ كما مرّ في البقرة ـ فلم جمع بينهما؟

قلت : لأن المعنى : يتولون عن الدّاعي ، ويعرضون عمّا دعاهم إليه وهو كتاب الله. أو يتولون بإيذائهم ، ويعرضون عن الحقّ بقلوبهم.

أو كان الذي تولّى علماؤهم ، والذي أعرض أتباعهم.

١٠ ـ قوله تعالى : (بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.) خصّ الخير بالذّكر ـ وإن كان بيده السر أيضا ـ لأن الكلام إنما ورد فيه ، ردّا على المشركين فيما أنكروه ، ووعد الله به نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ووعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم به الصحابة رضي الله عنهم.

أو أراد الخير والشرّ ، واكتفى بأحدهما لدلالته على الآخر ، كما في قوله تعالى : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل : ٨١] وإنما خصّ الخير بالذكر لأنه هو المرغوب فيه.

١١ ـ قوله تعالى : (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ.)

أي تدخله فيه بأن يزيد كلّ منهما ما نقص من الآخر.

١٢ ـ قوله تعالى : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ.)

كرّره توكيدا للوعيد.

والأحسن ـ كما قال التفتازانيّ ـ ما قيل : إنّه ذكره أولا للمنع من موالاة الكافرين ، وثانيا : للحثّ على عمل الخير ، والمنع من عمل الشرّ.

١٣ ـ قوله تعالى : (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى.)

إن قلت : ما فائدة ذكره مع أنه معلوم؟

قلت : فائدته اعتذارها عمّا قالته ظنّا ، فإنها ظنّت ما في بطنها ذكرا ، فنذرت أن تجعله خادما لبيت المقدس ، وكان من شريعتهم صحة هذا النّذر في الذكور خاصة ،

٥٢

فلمّا خاب ظنّها استحيت حيث لم يقبل نذرها فقالت ذلك معتذرة أنها لا تصلح لما يصلح له الذّكر من خدمة المسجد ، فمنّ الله عليها بتخصيص" مريم" بقبولها في النذر ، دون غيرها من الإناث فقال : (فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ.)

١٤ ـ قوله تعالى : (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى.)

إن قلت : كيف نادت الملائكة زكريا وهو قائم يصلي ، وأجابها وهو في الصلاة؟

قلت : المراد بالصلاة هنا : الدّعاء كقوله تعالى : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ) [الإسراء : ١١٠].

فإن قلت : لم خصّ" يحيى" عليه‌السلام بقوله : (مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ) مع أن كل واحد من المؤمنين ، مصدّق بجميع كلمات الله تعالى؟

قلت : لأن معناه مصدّقا ب" عيسى" الذي كان وجوده بكلمة من الله تعالى ، وهو قوله : كن من غير أب في الوجود أو المرتبة ، وكان تصديق يحيى لعيسى أصدق من تصديق كل أحد به.

١٥ ـ قوله تعالى : (قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ)

قدّم هنا ذكر (الْكِبَرُ) على ذكر المرأة ، وعكس في" مريم" لأن الذّكر مقدّم على الأنثى ، فقدّم كبره هنا وأخرّ ثمّ لتتوافق الفواصل في" عتيّا ، وسويّا ، وعشيّا ، وصبيّا" وغيرها.

فإن قلت : كيف استبعد زكريا ذلك ، ولم يكن شاكا في قدرة الله تعالى عليه؟

قلت : إنما قال ذلك تعجبا من قدرة الله تعالى ، لا استبعادا.

١٦ ـ قوله تعالى : (قالَ كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ.)

قال في حقّ زكريا : (يَفْعَلُ) وفي حقّ مريم بعد (يَخْلُقُ ،) مع اشتراكهما في بشارتهما بولد لأن استبعاد زكريا لم يكن لأمر خارق ، بل نادر بعيد فحسن التعبير ب (يَفْعَلُ). واستبعاد مريم كان لأمر خارق ، فكان ذكر" الخلق" أنسب.

إن قلت : ما الجمع بين قوله هنا : (ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) وقوله في مريم (ثَلاثَ لَيالٍ؟)

٥٣

إن قلت : كلّ منهما مقيّد بالآخر ، فلا بد من الجمع بينهما.

١٨ ـ قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) كرّر (اصْطَفاكِ) لأن الاصطفاء الأول للعبادة التي هي خدمة" بيت المقدس" وتخصيص مريم بقبولها النّذر مع كونها أنثى ، والاصطفاء الثاني لولادة عيسى.

١٩ ـ قوله تعالى : (قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ)

قال هنا : (وَلَدٌ) وفي مريم : (غُلامٌ.)

لأن ذكر المسيح تقدّم هنا وهو ولدها ، وفي مريم تقدّم ذكر الغلام.

٢٠ ـ قوله تعالى : (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ.)

إن قلت : كيف نفى وجود النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في زمن مريم ، مع أنه معلوم عندهم ، وترك ما كانوا يتوهمونه من استماعه ذلك الخبر من حفّاظه؟

قلت : لأنهم يعلمون أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أميّ لا يقرأ ولا يكتب ، وإنما كانوا منكرين للوحي ، فنفى الله الوجود الذي هو في غاية الاستحالة ، على وجه التهكّم بالمنكرين للوحي ، مع علمهم أنه لا قراءة له ولا رواية.

٢١ ـ قوله تعالى : (اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ.)

فيه التفات إذ القياس : " ابنك".

فإن قلت : كيف قال (ابْنُ مَرْيَمَ) والخطاب معها ، وهي تعلم أنّ الولد الذي بشّرت به يكون ابنها؟

قلت : لأن النّاس ينسبون إلى الآباء ، لا إلى الأمهات ، فأعلمت بنسبته إليها أنه يولد من غير أب ، فلا ينسب إلا إلى أمه.

٢٢ ـ قوله تعالى : (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ.)

إن قلت : أيّ معجزة لعيسى عليه‌السلام في تكليمه النّاس كهلا؟

قلت : معناه تكلّمه في الحالتين بكلام الأنبياء ، من غير تفاوت بين الطفولة والكهولة التي يستحكم فيها العقل وتنبّأ فيها الأنبياء.

وقال الزجّاج : هذا أخرج مخرج البشارة لمريم ، ببقاء" عيسى" إلى وقت الكهولة.

٢٣ ـ قوله تعالى : (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ

٥٤

طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ.)

نسبة هذه الأفعال إلى عيسى ، لكونه سببا فيها : ومعنى : (بِإِذْنِ اللهِ) بإرادته. وقال هنا : (فَأَنْفُخُ فِيهِ) وفي المائدة : (فَتَنْفُخُ فِيها) بإعادة الضمير هنا إلى الطير أو الطين ، وفي المائدة إلى هيئة الطّير ، تفنّنا جريا على عادة العرب في تفنّنهم في الكلام. وخصّ ما هنا بتوحيد الضمير مذكرا ، وما في المائدة بجمعه مؤنثا!!.

قيل : لأن ما هنا إخبار من عيسى قبل الفعل فوحّده ، وما في المائدة خطاب من الله له في القيامة ، وقد سبق من عيسى الفعل مرّات فجمعه.

٢٤ ـ قوله تعالى : (بِإِذْنِ اللهِ.)

ذكرها هنا مرتين بهذا اللفظ ، وفي" المائدة" أربعا بلفظ : (بِإِذْنِي!!) لأنه هنا من كلام عيسى ، وثمّ من كلام الله.

٢٥ ـ قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ.)

هو كقوله في مريم : (إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ) وقال في الزخرف : (إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ) بضمير الفعل ، الدّالّ على حصر المبتدأ في الخبر ، بمعنى : إن الله ربي لا أبي كما زعمت النّصارى ، ولم يتقدّم ذلك ما يغني عن الحصر ، فحسن ذكر (هُوَ) بخلافه في الأخريين ، فإنه ذكر في" آل عمران" عشر آيات من قصة مريم وعيسى ، وفي" مريم" عشرون آية منها ، فأغنى ذلك فيهما عن ذكر" هو".

٢٦ ـ قوله تعالى : (وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ.)

قال هنا (بِأَنَّا) وفي المائدة (بِأَنَّنا) لأن ما فيها أول كلام الحواريين ، فجاء على الأصل ، وما هنا تكرار له بالمعنى ، فناسب فيه التخفيف ، لأنّ كلّا من التخفيف والتكرار فرع ، والفرع بالفرع أولى.

٢٧ ـ قوله تعالى : (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ.)

إن قلت : كيف قاله والله رفعه ولم يتوفّه؟

قلت : لما هدّده اليهود بالقتل ، بشّره الله بأنه لا يقبض روحه ، إلا بالوفاة لا بالقتل ، والواو لا تقتضي الترتيب.

أو إنّي متوفّي نفسك بالنوم من قوله تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) [آل عمران : ٤٢] ورافعك وأنت نائم لئلا تخاف ، بل

٥٥

تستيقظ وأنت في السّماء آمن مقرّب.

٢٨ ـ قوله تعالى : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ.)

إن قلت : كيف قاله وآدم خلق من التراب ، وعيسى من الهواء ، وآدم خلق من غير أب وأم ، وعيسى خلق من أم؟

قلت : المراد تشبيهه به في الوجود بغير أب ، والتشبيه لا يقتضي المماثلة من جميع الوجوه.

٢٩ ـ قوله تعالى : (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ.)

إن قلت : لم خصّ أهل الكتاب بذلك ، مع أن غيرهم منهم الأمين والخائن؟

قلت : إنّما خصّهم باعتبار واقعة الحال ، إذ سبب نزول الآية أن" عبد الله بن سلام" أودع ألفا ومائتي أوقية من الذهب ، فأدّى الأمانة فيها ، و" فنحاص بن عازوراء" أودع دينارا فخانه. ولأنّ خيانة أهل الكتاب المسلمين ، تكون عن استحلال بدليل آخر الآية ، بخلاف خيانة المسلم المسلم.

٣٠ ـ قوله تعالى : (وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي) أي : عهدي.

٣١ ـ قوله تعالى : (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً.)

إن قلت : كيف قال ذلك ، مع أن أكثر الإنس والجنّ كفرة؟

قلت : المراد بهذا الاستسلام والانقياد لما قدّره عليهم ، من الحياة والموت ، والمرض والصحة ، والشقاء والسعادة ، ونحوها.

٣٢ ـ قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ.)

إن قلت : كيف قال ذلك ، مع أن المرتدّ وإن ازداد ارتداده مقبول التوبة؟

قلت : الآية نزلت في قوم ارتدّوا ، ثم أظهروا التوبة بالقول ، لستر أحوالهم ، والكفر في ضمائرهم.

٣٣ ـ قوله تعالى : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً.)

قال ذلك هنا ، وقال في الأعراف : (مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً) بزيادة" به" و" الواو" جريا هناك على الأصل ، في ذكر" به" لكونه معمولا ، وذكر" واو العطف"

٥٦

إذ مدخولها معطوف على (تُوعِدُونَ) المعطوف عليه (تَصُدُّونَ) وجريا هنا على موافقة (وَمَنْ كَفَرَ) في عدم ذكر" به".

وإنما لم يذكر الواو هنا ، لأنّ (تَبْغُونَها) وقع حالا ، والواو لا تزاد مع الفعل إذا وقع حالا ، كما في قوله تعالى : (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) [المدثر : ٦].

٣٤ ـ قوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ.)

إن قلت : كيف قال ذلك ، ولم يقل : أنتم خير أمّة؟

قلت : لأنّ معناه : كنتم في سابق علم الله ، أو في يوم أخذ الميثاق على الذرية.

فأعلم بذلك أن كونهم خير أمّة ، صفة أصيلة فيهم ، لا عرضة متجدّدة. أو معنى (كُنْتُمْ :) وجدتم ، بجعل كان تامّة.

٣٥ ـ قوله تعالى : (وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ.)

إن قلت : كيف قال ذلك ، مع أن غير الإيمان لا خير فيه ، حتى يقال إن الإيمان خير منه؟

قلت : ليس" خير" هنا أفعل تفضيل ، بل هو خير ، أو هو أفعل تفضيل ، وإيمانهم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع إيمانهم بموسى وعيسى ، خير من إيمانهم بموسى وعيسى فقط.

٣٦ ـ قوله تعالى : (كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ.)

أي : حرّ أو برد شديد.

٣٧ ـ قوله تعالى : (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها) وصف" الحسنة" بالمسّ ، و" السّيئة" بالإصابة ، توسعة في العبارة ، وإلّا فهما بمعنى واحد في الأمرين ، قال تعالى (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ) [التوبة : ٥٠].

وقال تعالى : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) [النساء : ٧٩].

وقال تعالى : (إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) [المعارج : ٢٠ ، ٢١].

٣٨ ـ قوله تعالى : (وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ.)

هذه تخالف آية" الأنفال" في ثلاثة أمور :

٥٧

أ ـ لأنه ذكر في هذه (لَكُمْ) لتمام القصة قبلها ، وتركها ثمّ إيجازا أو اكتفاء بذكره له قبل في قوله : (فَاسْتَجابَ لَكُمْ.)

ب ـ وقدّم (قُلُوبُكُمْ) على (بِهِ) هنا ، وعكس في الأنفال ليزاوج بين الخطابين في (لَكُمْ) و (قُلُوبُكُمْ.)

ج ـ وذكر هنا وصفي (الْعَزِيزِ) و (الْحَكِيمِ) تابعين بقوله : (الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) وثمّ ذكرهما في جملة مستأنفة بقوله : (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) لأنه لما خاطبهم هنا ، حسن تعجيل بشارتهم بأنّ ناصرهم عزيز حكيم.

ولأن ما هناك قصة" بدر" وهي سابقة على ما هنا ، فإنها في قصة" أحد" فأخبر هناك بأنه (عَزِيزٌ حَكِيمٌ) وجعل ذلك هنا صفة لأن الخبر قد سبق.

٣٩ ـ قوله تعالى : (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ.)

أي : إلى أسبابها كالتوبة.

إن قلت : كيف قال ذلك وقد روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : " العجلة من الشيطان ، والتأنّي من الرحمن"؟!

قلت : استثنى منه ـ بتقدير صحته ـ التوبة ، وقضاء الدّين الحالّ ، وتزويج البكر البالغ ، ودفن الميت ، وإكرام الضيف.

٤٠ ـ قوله تعالى : (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) [آل عمران : ١٣٥] صرّح بذكر الفاحشة مع دخولها في ظلم النفس ، لأنّ المراد بها نوع من أنواع ظلم النفس ، وهو الزنى ، أو كلّ كبيرة ، وخصّ بهذا الاسم تنبيها على زيادة قبحه.

٤١ ـ قوله تعالى : (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ) [آل عمران : ١٣٥] أي يسترها.

فإن قلت : كيف قال ذلك ، مع أنه قال : (وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) [الشورى : ٣٧]؟

وقال : (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ) [الجاثية : ١٤]؟

قلت : معناه : ومن يغفر الذنوب من جميع الوجوه إلا الله؟ وهذا لا يوجد من غيره.

٥٨

٤٢ ـ قوله تعالى : (وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) [آل عمران : ١٣٦]. ذكره بواو العطف هنا ، وتركها في العنكبوت ، لوقوع مدلولها هنا بعد خبرين متعاطفين بالواو ، فناسب عطفه بها ربطا ، بخلاف ما في العنكبوت إذ لم يقع قبل ذلك إلا خبر واحد. كنظيره في الأنفال في قوله (نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ.)

ونظير الأول قوله في الحج : (فَنِعْمَ الْمَوْلى) وإن كان العطف فيه بالفاء.

٤٣ ـ قوله تعالى : (وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) [آل عمران : ١٤٠] الآية.

معطوف على مقدّر ، والتقدير : وتلك الأيام نداولها بين النّاس ، ليتعظوا وليعلم الله الذين آمنوا.

٤٤ ـ قوله تعالى : (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [آل عمران : ١٦١] الآية.

إن قلت : كيف قال ذلك ، وقد قال : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) [الأنعام : ٩٤]؟

قلت : معناه يأتي به مكتوبا في ديوانه. أو يأتي به حاملا إثمه.

ومعنى (فُرادى) منفردين عن أهل ، ومال ، وشركاء ، ينتصرون بهم.

٤٥ ـ قوله تعالى : (هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) [آل عمران : ١٦٣] أي ذوو درجات.

فإن قلت : الضمير في (هُمْ) يعود على الفريقين ، وأهل النّار لهم دركات لا درجات؟

قلت : الدّرجات تستعمل في الفريقين ، قال تعالى : (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) [الأنعام : ١٣٢] وإن افترقتا عن المقابلة في قولهم : المؤمنون في درجات ، والكفّار في دركات.

٤٦ ـ قوله تعالى : (سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ) [آل عمران : ١٨١] قال ذلك مع أنهم كانوا في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما قتلوا أنبياء قطّ ، لكنههم لما رضوا بقتل أسلافهم أنبياءهم ، نسب الفعل إليهم.

٤٧ ـ قوله تعالى : (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [آل عمران : ١٨٢]. قاله هنا بجمع اليد ، لأنه نزل في قوم تقدّم ذكرهم ، وقاله في

٥٩

الحج بتثنيتها لأنه نزل في" النّضر بن الحارث" أو في" أبي جهل" والواحد ليس له إلا يدان.

٤٨ ـ قوله تعالى : (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [آل عمران : ١٨٢].

فإن قلت : " ظلام" صيغة مبالغة من الظلم ، ولا يلزم من نفيها نفيه ، مع أنه منفيّ عنه قال تعالى (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) [الكهف : ٤٩]؟

قلت : صيغة المبالغة هنا لكثرة العبيد لا لكثرة الظلم ، كما في قوله تعالى : (مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ) [الفتح : ٢٧] إذ التشديد فيه لكثرة الفاعلين ، لا لتكرار الفعل.

أو الصيغة هنا للنسبة ، أي : لا ينسب إليه ظلم ، فالمعنى ليس بذي ظلم.

٤٩ ـ قوله تعالى : (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) [آل عمران : ١٨٤].

جواب الشرط محذوف ، إذ لا يصلح قوله (فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) جوابا له ، لأنه سابق عليه.

والتقدير : فإن كذّبوك فتأسّ بمن كذّب من الرسل قبلك ، فهو من إقامة السبب مقام المسبّب.

٥٠ ـ قوله تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) [آل عمران : ١٨٥].

أي أجسادها إذ النّفس لا تموت ، ولو ماتت لما ذاقت الموت في حال موتها ، لأن الحياة شرط في الذوق وسائر الإدراكات. وقوله تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) معناه حين موت أجسادها.

٥١ ـ قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) [آل عمران : ١٨٧].

إن قلت : ما فائدة (وَلا تَكْتُمُونَهُ) بعد (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ) مع أنه معلوم منه؟

قلت : فائدته التأكيد ، أو المعنى لتبيننّه في الحال ، ولا تكتمونه في المستقبل.

٥٢ ـ قوله تعالى : (رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) [آل عمران : ١٩٢].

إن قلت : هذا يقتضي خزي كلّ من يدخلها ، وقوله : (يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) [التحريم : ٢٨] يقتضي انتفاء الخزي عن المؤمنين فلا يدخلون النار؟

قلت : " أخزى" في الأول من" الخزي" وهو الإذلال والإهانة ، وفي الثاني من

٦٠