فتح الرّحمن شرح ما يلتبس من القرآن

زكريّا بن محمّد بن أحمد الأنصاري

فتح الرّحمن شرح ما يلتبس من القرآن

المؤلف:

زكريّا بن محمّد بن أحمد الأنصاري


المحقق: الدكتور يحيى مراد
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 978-2-7451-4012-4
الصفحات: ٣٦٠

٢٣ ـ قوله تعالى : (وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ) [هود : ١١٧]. قاله هنا بصيغة (لِيُهْلِكَ) لأنه لمّا ذكر قوله : (بِظُلْمٍ) نفى الظّلم عن نفسه ، بأبلغ لفظ يستعمل في النفي ، لأنّ اللام فيه لام الجحود ، والمضارع يفيد الاستمرار ، فمعناه : ما فعلت الظّلم فيما مضى ، ولا أفعله في الحال ، ولا في المستقبل ، فكان غاية في النفي.

وقاله في القصص ، بدون ذكر (بِظُلْمٍ) فاكتفى بذكر اسم الفاعل ، المفيد للحال فقط ، وإن كان يستعمل في الماضي ، والمستقبل مجازا.

٢٤ ـ قوله تعالى : (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ ..) [هود : ١٢٠] الآية.

إن قلت : ما الجمع بينه وبين قوله تعالى : (وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) [النساء : ١٦٤]؟

قلت : معناه كلّ نبأ نقصّه عليك من أنباء الرسل ، هو ما نثبت به فؤادك ، ف" ما" في موضع رفع خبر مبتدأ محذوف ، فلا يقتضي اللفظ قصّ أنباء جميع الرسل.

٢٥ ـ قوله تعالى : (وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ ..) [هود : ١٢٠].

أي : في هذه الأنباء ، أو الآيات ، أو السورة.

خصّها بالذّكر ، تشريفا لها ، وإن كان قد جاءه الحقّ في جميع السّور ، كقوله تعالى : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى ..) [البقرة : ٢٣٨].

والتعريف ب (فِي هذِهِ الْحَقُ) إما للجنس ، أو للعهد ، والمراد به : البراهين الدالة على التوحيد ، والعدل ، والنّبوّة.

" تمت سورة هود"

١٤١

سورة يوسف

١ ـ قوله تعالى : (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) [يوسف : ٤].

ذكر الرؤية ثانيا ، جوابا لسؤال مقدّر من" يعقوب" عليه‌السلام ، كأنه قال ليوسف بعد قوله : (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) كيف رأيتها؟ سائلا عن حال رؤيتها ، فقال مجيبا له : رأيتهم لي ساجدين.

وقيل : ذكره توكيدا ، وجمع الكواكب في قوله : (رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) جمع العقلاء ، لوصفه لها بما هو من صفات العقلاء وهو السجود ، كقوله تعالى : (قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ) [النمل : ١٨].

٢ ـ قوله تعالى : (اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ ..) [يوسف : ٩] الآية. هذا قول إخوة يوسف.

إن قلت : كيف قالوا ذلك وهم أنبياء؟!

قلت : لم يكونوا أنبياء على الصحيح ، وبتقدير أنهم كانوا أنبياء ، إنما قالوا ذلك قبل نبوّتهم.

والجواب ، بأن ذلك من الصغائر ، أو بأنهم قالوه في صغرهم ضعيف.

٣ ـ قوله تعالى : (أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [يوسف : ١٢].

إن قلت : كيف قالوا ذلك ، مع أنهم كانوا بالغين عاقلين ، وأنبياء أيضا على قول؟ وكيف رضي يعقوب بذلك منهم على قراءة النون؟!

قلت : كان لعبهم المسايفة والمناضلة (١) ، يؤيده : (إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ ،) وسمّوه لعبا لأنه في صورة اللّعب.

قال الفخر الرازي : ويردّ على أصل السؤال أن يقال : كيف يتورعون عن اللّعب ، وهم قد فعلوا ما هو أعظم حرمة من اللّعب وأشدّ ، وهو إلقاء أخيهم في الجبّ على قصد القتل!!

قلت لم يكن وقت إلقاء أخيهم يوسف في الجبّ ، وقت طلب تورّعهم عن اللّعب ولا قتله ، وأصل السؤال إنما وقع على طلب التورّع المتقدّم على الإلقاء ، لكن

__________________

(١) المسايفة : الضرب بالسيف ، والمناضلة : الرماية.

١٤٢

يطلب الجواب عن إلقائهم له في الجب من أن ذلك من المعاصي!؟ ويجاب بما مرّ في الجواب عن قولهم : (اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً!!)

٤ ـ قوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) [يوسف : ١٥].

(وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ) أي وحي إلهام لا وحي رسالة ، لأنه يومئذ لم يكن بالغا ، ووحي الرسالة إنما يكون بعد الأربعين.

٥ ـ قوله تعالى : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) [يوسف : ٢٢]. قاله هنا بدون (وَاسْتَوى) وقال في القصص به ، لأن يوسف أوحي إليه في الصّغر ، وموسى أوحي إليه بعد أربعين سنة ، فقوله : (وَاسْتَوى) إشارة إلى تلك الزّيادة.

٦ ـ قوله تعالى : (وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ ..) [يوسف : ٢٥] الآية.

وحّد الباب هنا ، وجمعه قبل في قوله : (وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ) لأن إغلاق الباب للاحتياط لا يتمّ إلّا بإغلاق الجميع ، وأمّا هروبه منها فلا يكون إلّا إلى باب واحد ، حتّى لو تعدّدت أمامه لم يقصد منها أوّلا إلّا الأول ، فلهذا وحّد الباب هنا وجمعه ثمّ.

٧ ـ قوله تعالى : (لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ) [يوسف : ٤٦].

كرّر" لعلّ" رعاية للفواصل ، إذ لو قال : لعلّي أرجع إلى الناس فيعلموا بحذف النون ، جوابا ل" لعلّ" لفاتت الرعاية.

٨ ـ قوله تعالى : (قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) [يوسف : ٥٥].

إن قلت : كيف قال ذلك ، مع أن الأنبياء عليهم‌السلام أعظم النّاس زهدا في الدّنيا ، ورغبة في الآخرة؟!

قلت : إنما طلب ذلك ليتوصّل به ، إلى إمضاء أحكام الله تعالى ، وإقامة الحقّ ، وبسط العدل ونحوه ، ولعلمه أن أحدا غيره لا يقوم مقامه في ذلك.

٩ ـ قوله تعالى : (وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ ..) [يوسف : ٥٩].

١٤٣

قاله هنا بالواو ، وقاله بعد بالفاء ، لأنه ذكر هنا أول مجيئهم إلى يوسف ، فناسبته الواو ، الدالة على الاستئناف.

وذكر بعد عند انصرافهم عنه ، عطفا على" لمّا دخلوا" فناسبته الفاء الدالة على الترتيب والتعقيب.

١٠ ـ قوله تعالى : (ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) [يوسف : ٧٠].

إن قلت : كيف جاز ليوسف أن يأمر المؤذن بأن يقول ذلك ، مع أن فيه بهتانا ، واتهام من لم يسرق بأنه سرق؟!

قلت : إنما قاله" تورية" عما جرى منهم مجرى السرقة ، من فعلهم بيوسف ما فعلوا أولا.

أو كان ذلك القول من المؤذن ، بغير أمر يوسف عليه‌السلام.

أو أن حكم ذلك حكم" الحيل الشّرعية" التي يتوصل بها إلى مصالح دينية ، كقوله تعالى لأيوب : (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ) [ص : ٤٤] ، وقول إبراهيم في حق زوجته : هي أختي لتسلم من يد الكافر (١).

١١ ـ قوله تعالى : (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) [يوسف : ٨٧].

(مِنْ رَوْحِ اللهِ :) أي من رحمته (إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ.)

إن قلت : من المؤمنين من ييأس من روح الله ، لشدة مصيبته ، أو كثرة ذنوبه ، كما في قصة الذي أمر أهله إذا مات أن يحرقوه .. الحديث (٢) ، ثم إن الله تعالى غفر له؟!

قلت : إنما ييأس من روح الله الكافر ، لا المؤمن عملا بظاهر الآية ، فكل من أيس من روح الله فهو كافر ، حتى يعود إلى الإيمان ، ولا نسلم أن صاحب القصة مات آيسا ، ولم يسمح له الرجوع عن وصيته.

١٢ ـ قوله تعالى : (فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً ..) [يوسف : ٩٦] الآية.

__________________

(١) القصة في صحيح البخاري.

(٢) القصة في صحيح البخاري.

١٤٤

قال هنا وفي العنكبوت آخرا في قوله تعالى : (وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً) بذكر (أَنْ.)

وقال في هود : (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً) وفي العنكبوت أولا : (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى) بحذفها بنيتها على جواز الأمرين.

والقول بأن ذكر" أن" يدل على وقوع جواب" لمّا" حالا ، بخلاف ما إذا حذفت ، يردّ بأن آية هود ، وآية العنكبوت ، التي ذكر فيها" أن" متحدتان شرطا وجوابا ، مع أن" أن" ذكرت في إحداهما ، وحذفت من الأخرى. إلا أن يقال إنها إذا لم تذكر ، لم يلزم وقوع جواب" لمّا" حالا.

١٣ ـ قوله تعالى : (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً ..) [يوسف : ١٠٠] الآية.

إن قلت : كيف جاز لهم أن يسجدوا ليوسف ، والسجود لغير الله حرام؟!

قلت : المراد : أنهم جعلوه كالقبلة ، ثم سجدوا لله تعالى ، شكرا لنعمة وجدان يوسف ، كما تقول : سجدت وصليت للقبلة.

واللام للتعليل أي لأجله سجدوا لله ، ومنه قوله تعالى : (رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) أي إنما سجدت لله ، لأجل مصلحتي ، والسعي في إعلاء منصبي.

١٤ ـ قوله تعالى : (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ) [يوسف : ١٠٠].

إن قلت : لم ذكر" يوسف" عليه‌السلام ، نعمة الله عليه في إخراجه من السجن ، دون إخراجه من الجب ، مع أنه أعظم نعمة ، لأن وقوعه في الجب كان أعظم خطرا؟!

قلت : لأن مصيبة السجن كانت عنده أعظم ، لطول مدتها ، ولمصاحبته الأوباش وأعداء الدين فيه ، بخلاف مصيبة الجب ، لقصر مدتها ، ولكون المؤنس له فيه جبريل عليه‌السلام ، وغيره من الملائكة.

أو لأن في ذكر الجب" توبيخا وتقريعا" لإخوته ، بعد قوله : (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ.)

١٥ ـ قوله تعالى : (أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) [يوسف : ١٠١].

١٤٥

إن قلت : كيف قال يوسف ذلك ، مع أنه علمه بأن كل نبي لا يموت إلا مسلما؟

قلت : قاله إظهارا للعبودية والافتقار ، وشدة الرغبة في طلب سعادة الخاتمة ، وتعليما للأمة ، وطلبا للثواب.

١٦ ـ قوله تعالى : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) [يوسف :١٠٦].

إن قلت : كيف قال ذلك ، مع أن الإيمان والشرك لا يجتمعان؟

قلت : معناه : وما يؤمن أكثرهم بأن الله خالقه ورازقه ، وخالق كل شيء قولا ، إلا وهو مشرك بعبادة الأصنام فعلا.

أو أن المراد به المنافقون ، يؤمنون بألسنتهم قولا ، ويشركون بقلوبهم اعتقادا.

١٧ ـ قوله تعالى : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ..) [يوسف : ١٠٩] قاله هنا ، وفي الحج وفي آخر غافر بالفاء وقاله في الروم وفاطر ، وأول غافر بالواو ، لأن ما في الثلاثة الأول ، تقدمه التعبير في الإنكار بالفاء في قوله هنا : (أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ) وفي الحج : (فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) وفي آخر غافر : (فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ؟)

وما في الثلاثة الأخيرة ، تقدمه التعبير بالواو في قوله في الروم : (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ) وفي فاطر : (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) وفي أول غافر : (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ.)

" تمت سورة يوسف"

١٤٦

سورة الرّعد

١ ـ قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الرعد : ٣].

ختم الآية هنا ب (يَتَفَكَّرُونَ) وختمها بعد ب (يَعْقِلُونَ) [الرعد : ٤] ، لأن التفكر في الشيء سبب لتعقله ، والسبب مقدم على المسبب ، فناسب تقدم التفكر على التعقل.

٢ ـ قوله تعالى : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً ..) [الرعد : ١٥] الآية.

إن قلت : كيف قال ذلك هنا ، وقال في الحج : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ..) [الحج : ١٨] وفي النحل : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ..) [النحل : ٤٩]؟!

قلت : لأنه هنا ذكر العلويات ، من الرعد ، والبرق ، والسحاب ، ثم الملائكة بتسبيحهم ، ثم الأصنام والكفار ، فبدأ بذكر (مَنْ فِي السَّماواتِ) ليقدم ذكرهم ، وأتبعهم من في الأرض ، ولم يذكر" من" استخفافا بالأصنام والكفار.

وفي الحج تقدم ذكر المؤمنين وسائر الأديان ، فقد ذكر (مَنْ فِي السَّماواتِ) لشرفهم ، ثم قال (وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) ليقدم ذكر المؤمنين.

وفي النحل : تقدم ذكر ما خلقه الله عامّا ، ولم يكن فيه ذكر الملائكة والرعد ، ولا الإنس بالتصريح ، فاقتضت الآية (ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) فقال في كل آية ما يناسبها.

٣ ـ قوله تعالى : (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ ..) [الرعد : ٢٦].

قاله هنا ، وفي القصص ، والعنكبوت ، والروم ، بلفظ (اللهُ) وفي الإسراء ، وفي سبأ في موضعين بلفظ الرب ، وفي الشورى بإضمار لفظ الله وبزيادة (اللهُ) في العنكبوت ، وفي ثاني موضعي سبأ ، موافقة لتقدم تكرر لفظ (اللهُ) في السور الأربع ، ولتقدم تكرر لفظ الرب في المواضع الثلاثة ، ولتقدم تكرر الإضمار في الشورى.

وزاد في العنكبوت (مِنْ عِبادِهِ) و (اللهُ) موافقة لبسط الكلام على الرزق المذكور فيها صريحا.

وزاد في القصص (مِنْ عِبادِهِ) موافقة لذلك ، وإن كان لفظ الرزق فيه

١٤٧

تضمنا.

وزاد (لَهُ) في ثاني موضعي سبأ ، لأنه نزل في المؤمنين ، وما قبله في الكافرين.

وحذف لفظ (اللهُ) في غير العنكبوت ، وفي أول موضعي سبأ (١) اختصارا.

٤ ـ قوله تعالى : (قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ) [الرعد : ٢٧].

إن قلت : كيف طابق هذا الجواب قولهم : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ؟)

قلت : المعنى قل لهم : إن الله أنزل عليّ آيات ظاهرة ، ومعجزات قاهرة ، لكن الإضلال والهداية من الله ، فأضلكم عن تلك الآيات ، وهدى إليها آخرين ، فلا فائدة في تكثير الآيات والمعجزات ، أو هو كلام جرى مجرى التعجب من قولهم ، لأن الآيات الباهرة المتكاثرة ، التي ظهرت على يد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كانت أكثر من أن تشتبه على العاقل ، فلما طلبوا بعدها آيات أخر ، كان محل التعجب والإنكار ، فكأنه قيل لهم : ما أعظم عنادكم!! إن الله يضل من يشاء ، كمن كان على صنيعكم ، من التصميم على الكفر ، فلا سبيل إلى هدايتكم ، وإن أنزلت كل آية!! ويهدي من كان على خلاف صنيعكم.

٥ ـ قوله تعالى : (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ ..) [الرعد : ٣٣] الآية.

إن قلت : كيف طابق قوله عقبه : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ؟)

قلت : فيه محذوف تقديره : أفمن هو رقيب على كل نفس ، صالحة وطالحة ، يعلم ما كسبت من خير وشر ، كمن ليس كذلك؟ من شركائهم التي لا تضر ولا تنفع؟ ويدل له قوله تعالى : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ) ونحوه قوله تعالى : (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) [الزمر : ٢٢] تقديره : كمن قسا قلبه؟ يدل له قوله : (فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ) [الزمر : ٢٢].

٦ ـ قوله تعالى : (قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ ..) [الرعد : ٣٦].

إن قلت : كيف اتصل هذا بقوله قبله : (وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ؟)

قلت : هو جواب للمنكرين معناه : قل إنما أمرت فيما أنزل إلي بأن أعبد الله ولا أشرك به ، فإنكاركم لبعضه إنكار لعبادة الله وتوحيده.

__________________

(١) سورة سبأ ، آية (٣٦).

١٤٨

٧ ـ قوله تعالى : (وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً ..) [الرعد : ٤٢].

إن قلت : كيف أثبت لهم مكرا ثم نفاه عنهم بقوله : (فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً؟)

قلت : معناه إن مكر الماكرين مخلوق له ، ولا يضر إلا بإرادته ، فإثباته لهم باعتبار الكسب ، ونفيه عنهم باعتبار الخلق.

" تمت سورة الرعد"

١٤٩

سورة إبراهيم

١ ـ قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) [إبراهيم : ٤].

إن قلت : هذا يقتضي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما بعث إلى العرب خاصة ، فكيف الجمع بينه وبين قوله : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) [الأعراف : ١٥٨]؟ وقوله : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً) [سبأ : ٢٨]؟.

قلت : أرسل إلى الناس كافة بلسان قومه وهم العرب ، ونزوله بلسانهم مع الترجمة لباقي الألسن كاف ، لحصول الغرض بذلك ، ولأنه أبعد عن التحريف والتبديل ، وأسلم من التنازع والاختلاف.

٢ ـ قوله تعالى : (يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ..) [إبراهيم : ١٠].

(مِنْ) زائدة ، إذ الإسلام يغفر به ما قبله ، أو تبعيضية لإخراج حق العباد.

٣ ـ قوله تعالى : (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [إبراهيم : ١١].

ل ذلك هنا ، وقال بعده : (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ؛) لأن الإيمان سابق على التوكل.

٤ ـ قوله تعالى : (لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ..) [إبراهيم : ١٨].

قدم (مِمَّا كَسَبُوا) على ما بعده ، لأن الكسب هو المقصود بالذكر ، بقرينة ما قبله ، وإن كان القياس عكس ذلك كما في البقرة ، لأن (عَلى شَيْءٍ) صلة ل (يَقْدِرُونَ) و (مِمَّا كَسَبُوا) صفة لشيء.

٥ ـ قوله تعالى : (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ ..) [إبراهيم : ٣٢].

قاله هنا بدون (لَكُمْ) وقاله في النمل بذكر (لَكُمْ) اكتفاء هنا بذكره بعد ، لا سيما وقد ذكر مكررا.

٦ ـ قوله تعالى : (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ ..) [إبراهيم : ٣٦].

إن قلت : كيف جعل الأصنام مضلة ، والمضل ضار ، وقد نفى عنهم الضرر بقوله : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ) [يونس : ١٨]؟!

١٥٠

قلت : نسبة الإضلال إليها مجاز ، من باب نسبة الشيء إلى سببه ، كما يقال : فتنتهم الدنيا ، ودواء مسهل ، فهي سبب للإضلال ، وفاعله حقيقة هو الله تعالى.

٧ ـ قوله تعالى : (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ) [إبراهيم : ٤١].

إن قلت : كيف استغفر إبراهيم عليه‌السلام لوالديه وهما كافران ، والاستغفار للكافر حرام؟!

قلت : المعنى : واغفر لوالدي إن أسلما ، أو أراد بهما آدم وحواء ..

٨ ـ قوله تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) [إبراهيم : ٤٢] الآية.

إن قلت : كيف يحسبه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم غافلا ، وهو أعلم الخلق بالله؟!

قلت : المراد دوام نهيه عن ذلك ، كقوله تعالى : (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [الأنعام : ١٤] وقوله : (وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) [القصص : ٨٨].

ونظيره في الأمر قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) [النساء : ١٣٦].

أو هو نهي لغير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ممن يحسبه غافلا ، لجهله بصفاته تعالى.

" تمت سورة إبراهيم"

١٥١

سورة الحجر

١ ـ قوله تعالى : (وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) [الحجر : ٦].

إن قلت : كيف وصفوه بالجنون مع قولهم : (نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) أي القرآن ، المستلزم ذلك لاعترافهم بنبوته؟

قلت : إنما قالوا ذلك استهزاء وسخرية ، لا اعترافا ، كما قال فرعون لقومه : (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) [الشعراء : ٢٧].

أو فيه حذف : أي يا أيها الذي تدّعي أنك نزل عليك الذكر.

٢ ـ قوله تعالى : (وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ) [الحجر : ٢٣].

إن قلت : كيف قال ذلك ، والوارث من يتجدد له الملك ، بعد فناء المورث ، والله تعالى لم يتجدد له ملك ، لأنه لم يزل مالكا للعالم؟!

قلت : الوارث لغة هو الباقي بعد فناء غيره ، ولم يتجدد له ملك ، فمعنى الآية : ونحن الباقون بعد فناء الخلائق لما كانوا يعتقدون أنهم مالكون ، ويسمون بذلك أيضا مجازا ثم ماتوا ، خلصت الأملاك كلها لله تعالى عن ذلك التعلق ، فبهذا الاعتبار سمي وارثا.

ونظير ذلك قوله تعالى : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) [غافر : ١٦] ، والملك له أزلي وأبدي.

٣ ـ قوله تعالى : (وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ) [الحجر : ٣٥].

قال ذلك هنا بتعريف الجنس ، ليناسب ما قبله من التعبير بالجنس ، في قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) [الحجر : ٢٧]. (وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ) [الحجر : ٢٦] (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ) [الحجر : ٣٠].

وقال في ص : (وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ.) بالإضافة ، ليناسب ما قبله من قوله (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ؟.)

٤ ـ قوله تعالى : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) [الحجر : ٤٧].

قاله هنا بزيادة (إِخْواناً ؛) لأنه نزل في أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

١٥٢

وقاله في غير هذه السورة بدونهم (١) ، لأنه نزل في عامة المؤمنين.

٥ ـ قوله تعالى : (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ) [الحجر : ٥٢].

حذف منه قبل" قال" اختصارا ، قوله في هود : (قالَ سَلامٌ) وفي هود (قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) فحذف للدلالة عليه.

٦ ـ قوله تعالى : (قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) [الحجر : ٥٣].

(لا تَوْجَلْ) أي لا تخف ، وربه عبر في هود توسعة في التعبير عن الشيء الواحد بمتساويين ، وخص ما هنا بالأول لموافقته قوله : (إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ) وما في هود بالثاني لموافقته قوله : (خِيفَةً.)

٧ ـ قوله تعالى : (إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ) [الحجر : ٦٠].

إسناد التقدير إلى الملائكة مجاز ، إذ المقدر حقيقة هو الله تعالى ، وهذا كما يقول خواص الملك : دبرنا كذا ، وأمرنا بكذا ، والمدبر والآمر : هو الملك ، وفي ذلك إظهار لمزيد قربهم بالملك.

٨ ـ قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ. وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) [الحجر : ٧٥ ، ٧٧ ، ٧٦].

إن قلت : كيف جمع الآية أولا ، ووحدها ثانيا ، والقصة واحدة؟!

قلت : جمع أولا باعتبار تعدّد ما قص من حديث لوط ، وضيف إبراهيم ، وتعرض أهل لوط لهم ، وما كان من إهلاكهم ، وقلب المدينة على من فيها ، وإمطار الحجارة على من غاب عنها.

ووحد ثانيا : باعتبار وحدة قرية قوم لوط ، المشار إليها بقوله : (وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ.)

٩ ـ قوله تعالى : (وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ) [الحجر : ٨٠].

__________________

(١) كما في قوله في الأعراف : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) آية (٤٣).

١٥٣

" الحجر" اسم واديهم أو مدينتهم.

فإن قلت : أصحابه وهم قوم صالح ، إنما كذبوا صالحا ، لأنه المرسل إليهم ، لا المرسلين كلهم؟!

قلت : من كذب رسولا واحدا ، كذب جميع الرسل ، لاتفاقهم في دعوة الناس إلى توحيد الله تعالى.

١٠ ـ قوله تعالى : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) [الحجر : ٩٣].

إن قلت : كيف قال ذلك هنا ، وقال في الرحمن : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ؟)

قلت : لأن في يوم القيامة مواقف ، ففي بعضها يسألون ، وفي بعضها لا يسألون ، وتقدم نظيره في هود.

أو لأن المراد هنا أنهم يسألون سؤال توبيخ ، وهو لم فعلتم؟ أو نحوه ، وثمّ لا يسألون سؤال استعلام واستخبار.

" تمت سورة الحجر"

١٥٤

سورة النّحل

١ ـ قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ) [النحل : ٦].

قدم الإراحة على السرح ، مع أنها مؤخرة عنها في الواقع ، لأن الأنعام وقت الإراحة ـ وهي ردّها عشاء إلى مراحها ـ أجمل وأحسن من سرحها ، لأنها تقبل مالئة البطون ، حافلة الضروع ، متهادية في مشيها ، بخلاف وقت سرحها ، وهو إخراجها إلى المرعى.

٢ ـ قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [النحل : ١١].

وحد الآية في هذه السورة في خمسة مواضع ، نظرا لمدلولها.

وجمعها في موضعين لمناسبة قوله قبلها : (وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ.)

٣ ـ قوله تعالى : (وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [النحل : ١٤].

قاله هنا بتأخير (فِيهِ) عن (مَواخِرَ) وبالواو في (وَلِتَبْتَغُوا ،) وقاله في" فاطر" بتقديم (فِيهِ) وحذف الواو ، جريا هنا على القياس ، إذ (الْفُلْكَ) مفعول أول لترى ، و (مَواخِرَ) مفعول ثان له ، و (فِيهِ) ظرف وحقه التأخير ، والواو للعطف على لام العلة ، في قوله : (لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا) وحذف الواو ، لعدم المعطوف عليه هنا.

٤ ـ قوله تعالى : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) [النحل : ١٧].

هذا من عكس التشبيه ، إذ مقتضى الظاهر العكس ، لأن الخطاب لعباد الأوثان حيث سموها آلهة ، تشبيها به تعالى ، فجعلوا غير الخالق كالخالق ، فخولف في خطابهم ، لأنهم بالغوا في عبادتها ، حتى صارت عندهم أصلا في العبادة ، والخالق فرعا ، فجاء الإنكار إلى وفق ذلك ، ليفهموا المراد على معتقدهم.

إن قلت : المراد ب (من لّا يخلق) الأصنام ، فكيف جيء ب (من) المختصة بأولي العلم؟!

قلت : خاطبهم على معتقدهم ، لأنهم سموها آلهة وعبدوها ، فأجروها مجرى أولي العلم ونظيره قوله تعالى : (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها) [الأعراف : ١٩٥] الآية.

٥ ـ قوله تعالى : (أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) [النحل : ٢١].

١٥٥

إن قلت : ما فائدة قوله في وصف الأصنام (غَيْرُ أَحْياءٍ) بعد قوله : (أَمْواتٌ؟)

قلت : فائدته أنها أموات لا يعقب موتها حياة ، احترازا عن أموات يعقب موتها حياة ، كالنطف ، والبيض ، والأجساد الميتة ، وذلك أبلغ في موتها ، كأنه قال : أموات في الحال ، غير أحياء في المآل.

٦ ـ قوله تعالى : (وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) [النحل : ٢١].

إن قلت : كيف عاب الأصنام بأنهم لا يعلمون ، مع أن المؤمنين كذلك؟

قلت : معناه وما تشعر الأصنام متى تبعث عبّادها ، فكيف تكون آلهة مع الجهل؟ بخلاف المؤمنين فإنهم يعلمون أنه يوم القيامة.

٧ ـ قوله تعالى : (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ) [النحل : ٢٥].

أي ليحملوا أوزار كفرهم مباشرة ، ومثل أو بعض أوزار كفر من أضلوهم ، بتسببهم في كفرهم .. ف (مِنْ) زائدة ، أو تبعيضية.

وأما قوله تعالى : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [فاطر : ١٨].

فمعناه وزرا لا مدخل لها فيها ، ولا تعلق له بها بتسبب ولا غير.

ونظير هاتين الآيتين ، سؤالا وجوابا ، قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) [العنكبوت : ١٣].

٨ ـ قوله تعالى : (فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) [النحل : ٣٤].

قال فيه وفي الجاثية (ما عَمِلُوا) وفي الزمر (ما كَسَبُوا) موافقة لما قبل كل منها ، أو بعده ، أو قبله وبعده إذ ما هنا قبله : (ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ) و (تَعْمَلُونَ) مرتين.

وقبل ما في الجاثية : (ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) و (عَمِلُوا الصَّالِحاتِ) وبعده : (سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا.)

وقبل ما في الزمر (ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) وبعده : (فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ.)

١٥٦

٩ ـ قوله تعالى : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [النحل : ٤٠].

إن قلت : هذا يدل على أن المعدوم شيء ، وعلى أن خطاب المعدوم جائز ، مع أن الأول منتف عند أكثر العلماء ، والثاني بالإجماع.

قلت : أما تسميته" شيئا" فمجاز بالأول ، وأما الثاني فلأن ذلك خطاب تكوين ، لا خطاب إيجاد ، فيمتنع أن يكون المخاطب به موجودا قبل الخطاب ، لأنه إنما يكون بالخطاب.

١٠ ـ قوله تعالى : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ ..) [النحل : ٤٩].

تجوز بالسجود عن الانقياد ، فيما لا يعقل ، والسجود على الجبهة فيمن يعقل ، ففيه جمع بين الحقيقة والمجاز ، وإنما لم يغلب العقلاء من الدواب على غيرهم ، كما في آية : (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ) [النور : ٤٥] لأنه أراد هنا عموم كل دابة ، ولم يقترن بتغليب ، فجاء ب (ما) التي تعم النوعين ، وفي تلك ـ وإن أراد العموم ـ لكنه اقترن بتغليب ، وهو ذكر ضمير العقلاء ، في قوله : (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي) فجاء ب (مِنْ) تغليبا للعقلاء.

١١ ـ قوله تعالى : (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) [النحل : ٥٥].

قال هنا ، وفي الروم بالتاء ، بإضمار القول ، أي قل لهم : تمتعوا ، كما في قوله تعالى : (قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) [إبراهيم : ٥٥] وقوله : (قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً) [الزمر : ٣٠].

وقال في العنكبوت : (وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) باللام والياء ، على القياس ، إذ هو معطوف على اللام ومدخولها في قوله : (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ) ومدخولها غائب.

١٢ ـ قوله تعالى : (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ ..) [النحل : ٦١].

(ما تَرَكَ عَلَيْها) أي على الأرض ، قال ذلك هنا ، وقال في فاطر : (بِما كَسَبُوا

١٥٧

ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ.)

ترك لفظ" ظهر" هنا ، احترازا عن الجمع بين الظائين : في ظهرها ، وظلمهم ، بخلافه في فاطر ، إذ لم يذكر فيها (بِظُلْمِهِمْ.)

فإن قلت : الآية تقتضي مؤاخذة البريء ، بظلم الظالم ، وذلك لا يحسن من الحكيم؟!

قلت : المراد بالظلم هنا : الكفر ، وبالدابة : الدابّة الظالمة وهي الكافر ، كما نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما.

١٣ ـ قوله تعالى : (وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها ..) [النحل : ٦٥].

قاله هنا بحذف من لعدم ذكرها قبله ، وليوافق حذفها بعده من قوله : (لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً.)

وقاله في العنكبوت بإثباتها ، ليوافق التعبير بها في قوله قبل : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً.)

وأثبتها في قوله في الحج : (لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً) ليوافق التعبير بها قبل في قوله (فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) الآية.

١٤ ـ قوله تعالى : (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ ..) [النحل : ٦٦] الآية.

قاله هنا بإفراد الضمير مذكرا ، وفي المؤمنين : (بُطُونِها) بجمعه مؤنثا ، نظرا هنا إلى أن الأنعام" مفرد" كما نقله الزمخشري عن سيبويه ، وثمّ إلى أنه" جمع" كما هو الشائع.

١٥ ـ قوله تعالى : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً ..) [النحل : ٧٢] الآية.

أي من جنسكم ، كما قال تعالى : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ..) [التوبة : ١٢٨] الآية.

١٦ ـ قوله تعالى : (أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ) [النحل : ٧٢].

قاله هنا بزيادة (هُمْ) وفي العنكبوت بدونها ؛ لأن ما هنا اتصل بقوله : (وَاللهُ

١٥٨

جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) إلى آخره ، وهو بالخطاب ، ثم انتقل إلى الغيبة فقال : (أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ) فلو ترك (هُمْ) لالتبست الغيبة بالخطاب ، بأن تبدل الياء تاء.

١٧ ـ قوله تعالى : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ) [النحل : ٧٣].

غلب فيه من يعقل ، على من لا يعقل ، فعبر بالواو والنون ، إذ في من يعبد ، من يعقل كالعزير ، والمسيح ، ومن لا يعقل كالأصنام ، وأفرد (يَمْلِكُ) نظرا إلى لفظ (ما) وجمع نظرا إلى معناها (١) ، كما قال تعالى : (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ) [الزخرف : ١٣].

فإن قلت : ما فائدة نفي استطاعة الرزق ، بعد نفي ملكه؟!

قلت : ليس في (يَسْتَطِيعُونَ) ضمير مفعول هو الرزق ، بل الاستطاعة منفية عنهم مطلقا ، في الرزق وغيره ، وبتقدير أن فيه ضميرا ، لا يلزم من نفي الملك نفي استطاعته ، لجواز بقاء الاستطاعة على اكتساب الملك ، بخلاف هؤلاء فإنهم لا يملكون ، ولا يستطيعون أن يملكوا!!

١٨ ـ قوله تعالى : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) [النحل : ٧٥] الآية.

فائدة ذكره (مَمْلُوكاً) بعد قوله (عَبْداً) الاحتراز عن الحر ، فإنه عبد الله تعالى ، وليس مملوكا لغيره ، وفائدة (لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) بعد قوله (مَمْلُوكاً) الاحتراز عن المأذون له ، والمكاتب ، لقدرتهما على التصرف استقلالا.

١٩ ـ قوله تعالى : (هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) [النحل : ٧٥].

إن قلت : لم جمع ولم يثن ، مع أن المضروب به المثل اثنان : مملوك ، ومن رزقه الله رزقا حسنا؟!

قلت : جمع باعتبار جنسي المماليك ، والمالكين ، أو نظرا أن أقل الجمع اثنان.

__________________

(١) سورة الزخرف ، آية (١٣).

١٥٩

٢٠ ـ قوله تعالى : (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) [النحل : ٧٧] الآية.

إن قلت : (أَوْ) للشك ، وهو على الله محال ، فما معنى ذلك؟

قلت : (أَوْ) هنا بمعنى الواو ، أو الشك بالنسبة إلينا ، أو بمعنى" بل" ونظير ذلك قوله تعالى : (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) [الصافات : ١٤٧] ، وقوله : (فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) [البقرة : ٧٤] .. وأورد على الأخير أن" بل" للإضراب ، وهو رجوع عن الإخبار ، وهو على الله محال .. ويجاب بمنع أنه محال ، بناء على جواز وقوع النسخ في الأخبار ، وهو جائز عند الأشاعرة مطلقا ، خلافا للمعتزلة فيما لا يتغير.

٢١ ـ قوله تعالى : (وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ) [النحل : ٨١] (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) أي والبرد ، وإنما حذفه لدلالة ضده عليه ، كما في قوله تعالى : (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) [آل عمران : آية ٢٦] أي والشر.

وخص الحر ، والخير بالذكر ، لأن الخطاب بالقرآن أول ما وقع بالحجاز ، والوقاية من الحر ، أهم عند أهله ، لأن الحر عندهم أشد من البرد ، والخير مطلوب العباد من ربهم دون الشر.

٢٢ ـ قوله تعالى : (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ) [النحل : ٨٣].

إن قلت : بل كلهم كافرون؟!

قلت : المراد بالأكثر هنا الجمع.

٢٣ ـ قوله تعالى : (وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ) [النحل : ٨٦].

إن قلت : ما فائدة قولهم ذلك ، مع أنه تعالى عالم بهم؟!

قلت : لما أنكروا الشرك بقولهم : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) عاقبهم الله بإصمات ألسنتهم ، وأنطق جوارحهم ، فقالوا عند معاينة آلهتهم : (رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا.)

فأقروا بعد إنكارهم طلبا للرحمة ، وفرارا من الغضب ، فكان هذا القول على

١٦٠