زكريّا بن محمّد بن أحمد الأنصاري
المحقق: الدكتور يحيى مراد
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 978-2-7451-4012-4
الصفحات: ٣٦٠
قال ذلك هنا بالفاء ، وبالحجر بحذفها ، مع اتفاقهما في مدخول الباء.
وقال في ص : (فَبِعِزَّتِكَ) بالفاء ، مع مخالفته لتينك في مدخول الباء.
لأنّ" الفاء" وقعت هنا في محلها ، وفي" ص" لأنها متسببة عما قبلها ، ولا مانع فحسنت ، ولم تحسن في" الحجر" لوقوع النداء ثمّ في قوله (رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي) [الحجر : ٣٩].
والنداء يستأنف له الكلام ويقطع ، وال" باء" في المواضع الثلاثة للسببيّة ، أو للقسم ، وما بعد في" ص" موافق لما بعدها في غيرها في المعنى ، وإن خالفه لفظا ، فلا اختلاف في الحقيقة ، إذ غوى الله للشيطان يتضمّن عزته تعالى.
١٠ ـ قوله تعالى : (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما) [الأعراف : ٢٠].
اللّام فيه" لام العاقبة" والصّيرورة ، لا" لام كي" ، لأن الغرض إخراجهما من الجنة ، لا كشف عورتهما ، كما في قوله تعالى : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [القصص : ٨] وقول الشاعر :
لدوا للموت وابنوا للخراب |
|
فكلكم يصير إلى التّراب |
١١ ـ قوله تعالى : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) [الأعراف : ٢٩].
إن قلت : كيف قال ذلك ، مع أنه تعالى بدأنا أوّلا نطفة ، ثم علقة ، ثم مضغة ، ثم عظاما ، ثمّ لحما ، ونحن نعود بعد الموت كذلك؟
قلت : معناه : كما بدأكم من تراب ، كذلك تعودون منه!! أو كما أوجدكم بعد العدم ، كذلك يعيدكم بعده فالتشبيه في نفس الإحياء والخلق ، لا في الكيفيّة والترتيب.
١٢ ـ قوله تعالى : (قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) [الأعراف : ٣٢] الآية.
إن قلت : كيف أخبر عن الزّينة والطيّبات ، بأنهما للذين آمنوا في الحياة الدنيا ، مع أنّ المشاهد أنهما لغير الذين آمنوا أكثر وأدوم؟
قلت : في الآية إضمار تقديره : قل هي للذين آمنوا غير خالصة في الحياة الدنيا ، خالصة للمؤمنين يوم القيامة.
١٣ ـ قوله تعالى : (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) [الأعراف : ٣٤].
قاله هنا وفي سائر المواضع بالفاء ، إلا في يونس فبحذفها ، لأن مدخولها في غير يونس ، جملة معطوفة على أخرى ، مصدّرة بالواو ، وبينهما اتّصال وتعقيب ، فحسن الإتيان بالفاء ، الدالة على التعقيب ، بخلاف ما في يونس.
وقوله : في الآية : (وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) معطوف إلى الجملة الشرطية ، لا على جواب الشرط ، إذ لا يصحّ ترتّبه على الشرط.
١٤ ـ قوله تعالى : (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الأعراف : ٤٣].
إن قلت : كيف قال ذلك ، مع أن الميراث هو ما ينتقل من ميّت إلى حيّ ، وهو مفقود هنا؟!
قلت : بل هو تشبيه أهل الجنة وأهل النّار بالوارث والموروث عنه ، لأن الله خلق الجنّة منازل للكفار ، بتقدير إيمانهم ، فمن لم يؤمن منهم جعل منزله لأهل الجنة.
أو لأنّ دخول الجنة ، لا يكون إلا برحمة الله تعالى لا بعمل ، فأشبه الميراث ، وإن كانت الدرجات فيها بحسب الأعمال.
١٥ ـ قوله تعالى : (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ) [الأعراف : ٤٥].
قال ذلك هنا ، وقال في هود : (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) لأنّ ما هنا جاء على الأصل ، وتقديره : وهم كافرون بالآخرة ، فقدّم (بِالْآخِرَةِ) رعاية للفواصل.
وما في هود وقع بعد قوله تعالى : (وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) والقياس عليهم ، فلمّا عبّر عنهم بالظّالمين التبس أنهم هم الذين كذبوا إلى ربّهم أم غيرهم ، فقال : (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) ليعلم أنهم هم المذكرون لا غيرهم.
١٦ ـ قوله تعالى : (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها) [الأعراف : ٥٦] الآية.
أي : بعد أن أصلحها الله ، بالأمر بالعدل ، وإرسال الرسل.
أو بعد أن أصلح الله أهلها ، بحذف مضاف.
١٧ ـ قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) [الأعراف : ٥٧] الآية.
قاله هنا : وفي الروم بلفظ المضارع.
وقال في : الفرقان وفاطر : أرسل بلفظ الماضي.
لأنّ ما هنا تقدّمه ذكر الخوف والطّمع في قوله تعالى : (وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً) وهما للمستقبل.
وما في الروم ، تقدّمه التعبير بالمضارع مرّات في قوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ) الآية ، فناسب ذكر المضارع فيهما.
وما في الفرقان تقدّمه التعبير بالماضي مرّات ، في قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ) وتأخّر عنه ذلك في قوله (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) الآية.
وما في فاطر تقدّمه في أولها فاطر وجاعل وهما بمعنى الماضي ، فناسب ذكر الماضي في السورتين.
١٨ ـ قوله تعالى : (لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) [الأعراف : ٥٨] الآية. قاله هنا بغير واو ، وقاله في هود والمؤمنون بواو. لأن ما هنا مستأنف لم يتقدّمه ذكر نبيّ ، وما في هود تقدّمه ذكر الأنبياء مرّة بعد أخرى ، وما في المؤمنين تقدّمه : (وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ) وقوله : (وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) وكلّها بالواو ، فناسب ذكرها فيهما.
١٩ ـ قوله تعالى : (قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ) [الأعراف : ٥٩] الآية.
قاله هنا في قصة نوح وهود بلا فاء ، لأنه خرج مخرج الابتداء وإن تضمّن الجواب ، كما في قوله تعالى : (قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها) بعد قوله : (قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً) [العنكبوت : ٣٢].
وقاله في هود والمؤمنون بالفاء ، لأنه وقع جوابا لما قبله ، فناسبته الفاء.
فإن قلت : كيف وصف الملأ ب (الَّذِينَ كَفَرُوا) في قصة هود ، دون قصة نوح عليهما الصلاة والسّلام؟!
قلت : لأنه كان قد آمن بهود بعضهم ، فلم يكونوا كلهم قائلين له : (إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ) بخلاف قوم نوح ، فإنه لم يكن فيهم من آمن به إذ ذاك.
ونقض بأنه تعالى ، وصف أيضا الملأ من قوم نوح بالكفر في هود.
وأجيب بجواز كون هذا القول وقع مرتين ، المرة الثانية بعد إيمان بعضهم ، بخلاف المرة الأولى.
٢٠ ـ قوله تعالى في قصة نوح : (أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ) [الأعراف : ٦١].
قال فيها بلفظ المضارع في الجملة الثانية ، مناسبة للمضارع في الأولى ، كما عطف الماضي في قوله (لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ) [الأعراف : ٩٣].
وقاله في قصة هود بلفظ اسم الفاعل ، مناسبة لاسم الفاعل قبله في قوله : (وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ) وبعده في قوله : (أَمِينٌ.)
وعبّر في قصة نوح وهود بالمضارع في الجملة الأولى ، وفي قصة صالح وشعيب بالماضي فيهما ، لأن ما في الأوّلين وقع في ابتداء الرسالة ، وما في الآخرين وقع في آخرها.
٢١ ـ قوله تعالى : (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ.)
قاله هنا مرتين (١) ، وفي العنكبوت مرّة ، بالإفراد ، وقال في هود : (فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ) مرتين بالجمع لأن ما في المواضع الأول ، تقدّمه ذكر الرّجعة أي الزلزلة ، وهي تختصّ بجزء من الأرض ، فناسبها الإفراد. وما في الأخيرين ، تقدّمه ذكر الصّيحة ، وكانت من السّماء ، وهي زائدة على الرجفة ، فناسبها الجمع.
٢٢ ـ قوله تعالى في قصة صالح : (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي.)
قال ذلك فيها بالتوحيد ، وقاله في قصة شعيب بالجمع.
__________________
(١) في الأعراف وردت الآية مرتين بالإفراد في لفظ" دارهم" في قوله تعالى : (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) (٧٨) ، ومرة أخرى في قوله تعالى : (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) (٩١).
لأن ما أمر به شعيب قومه من التوحيد ، وإيفاء الكيل ، والنّهي عن الصّدّ ، وإقامة الوزن بالقسط ، أكثر ممّا أمر به صالح قومه.
أو لأن شعيبا : أرسل إلى أصحاب الأيكة ، وإلى مدين ، فجمع باعتبار تعدّد المرسل إليهم وصالح عليهالسلام وحّد باعتبار الجنس.
فإن قلت : كيف قال صالح لقومه ، بعد ما أخذتهم الرجفة وماتوا : (يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي) الآية ، ومخاطبة الحيّ للميّت لا فائدة فيه؟
قلت : بل فيه فائدة ، وهي نصيحة غيره ، فإن ذلك يستعمل عرفا فيما ذكر ، لأن من نصح غيره فلم يقبل منه حتى قتل ، ويراه ناصحه فإنه يقول له : كم نصحتك فلم تقبل حتى أصابك هذا!! حثّا للسّامعين له على قبولهم النصيحة.
٢٣ ـ قوله تعالى : (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) [الأعراف : ٨١].
عبّر هنا بلفظ السّرف والاسم ، وفي النّمل بلفظ الجهل والفعل تكثيرا للفائدة في التعبير عن المراد بلفظين متساويين معنى ، إذ كلّ سرف جهل ، وبالعكس ، ورعاية للفواصل في التعبير بالاسم والفعل ، إذ الفواصل هنا أسماء وهي : " للعالمين ، المرسلين ، النّاصحين" إلى آخرها.
وفي النّمل أفعال وهي : " يعلمون ، يتقون ، يبصرون" فناسب الاسم هنا ، والفعل ثمّ.
٢٤ ـ قوله تعالى : (وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ) [الأعراف : ٨٢].
قاله هنا بالواو ، وفي النمل وفي العنكبوت في الموضعين بالفاء.
لأن ما هنا تقدّمه اسم هو" مسرفون" والاسم لا يناسبه التعقيب. وما في تينك تقدّمه فعل ، هو" تجهلون" ، و" تقطعون" ، و (وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ ،) والفعل يناسبه التعقيب ، فناسب ذكر الفاء الدّالة عليه ثمّ ، وذكر" الواو" هنا.
٢٥ ـ قوله تعالى : (لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) [الأعراف : ٨٨].
فيه تغليب الجمع على الواحد ، إذ منهم شعيب ، ولم يكن في ملّتهم حتى يعود إليها ، وكذا قول شعيب : (إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها) على أن
" عاد" تأتي بمعنى صار ، كما في قوله تعالى : (حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) [يس : ٣٩] والمعنى : إن صرنا في ملّتكم.
٢٦ ـ قوله تعالى : (وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ) [الأعراف : ١٠٠].
قاله هنا بحذف المعمول وهو" به" وفي يونس بإثباته تبعا لما قبلهما في الموضعين.
إذ قبل ما هنا : (وَلكِنْ كَذَّبُوا) وقبل ما في يونس : (كَذَّبُوا بِآياتِنا) بإثباته.
٢٧ ـ قوله تعالى : (وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) [الأعراف : ١٠٠]. مع قوله بعد : (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ) [الأعراف : ١٠١].
قاله هنا أولا بالنون وإضمار الفاعل ، وثانيا بالياء وإظهار الفاعل ، وقال في يونس بالنون والإضمار لأن الآيتين هنا تقدمهما الأمران : الياء مع الإظهار مرتين في قوله تعالى : (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) والنون مع الإضمار في قوله : (أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) فناسب الجمع بين الأمرين هنا.
والآية ثمّ تقدّمها النون مع الإضمار فقط ، في قوله : (فَنَجَّيْناهُ وَجَعَلْناهُمْ ثُمَّ بَعَثْنا) فناسب الاقتصار على النون مع الإضمار ثمّ.
٢٨ ـ قوله تعالى : (قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) [الأعراف : ١٠٦].
إن قلت : لم قال فرعون هذا ، بعد قوله : (إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ؟)
قلت : معناه إن كنت جئت بآية من عند الله فأتني بها.
فإن قلت : كيف قال تعالى هنا حكاية عن السّحرة الذين آمنوا وعن فرعون (قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ) إلى قوله : (وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ) ثم حكى عنهم هذا في طه والشعراء بزيادة ونقصان ، واختلاف ألفاظ في الألفاظ المنسوبة إليهم ، والقصة واحدة ، فكيف اختلفت عبارتهم فيها؟
قلت : حكى الله ذلك عنهم مرارا ، بألفاظ متساوية معنى ، جريا على عادة العرب في التفنّن في الكلام ، والحذف في محلّ ، إحالة على ذكره في محل آخر ، وإنما خولف في ذلك ، لئلا يملّ إذا تمحّض تكراره.
والحكمة في تكرار قصة موسى وغيرها من القصص ، تأكيد التحدي ، وإظهار الإعجاز ، ولهذا سمّى الله القرآن" مثاني" لأنه تثنّى فيه الأخبار والقصص ، أو إفادة الغائب عن المرّة السابقة ، فقد كان أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم يحضر بعضهم ، ويغيب بعضهم في الغزوات ، فإذا حضر الغائبون ، أكرمهم الله تعالى بإعادة الوحي ، تشريفا لهم.
٢٩ ـ قوله تعالى : (قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ) [الأعراف : ١٠٩].
إن قلت : كيف نسب القول هنا للملأ ، ونسبه في الشعراء لفرعون في قوله تعالى : (قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ؟)
قلت : قاله فرعون وهم ، فحكى قوله ثمّ ، وقولهم وحدهم أو معه هنا.
٣٠ ـ قوله تعالى : (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ) [الأعراف : ١١٠].
قاله هنا بحذف (بِسِحْرِهِ) وقاله في الشعراء بإثباته ، لأن الآية هنا بنيت على الاختصار ، ولأن ما قبل الآية هنا وهو : (لَساحِرٌ عَلِيمٌ) يدلّ على السحر ، بخلاف الآية ثمّ.
٣١ ـ قوله تعالى : (قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ) [الأعراف : ١١١] قاله هنا بلفظ (وَأَرْسِلْ) وفي الشعراء بلفظ (وَابْعَثْ) وهما بمعنى واحد تكثيرا للفائدة في التعبير عن المراد ، بلفظين متساويين معنى.
٣٢ ـ قوله تعالى : (يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ) [الأعراف : ١١٢]. قاله هنا وفي يونس بلفظ (ساحِرٍ) موافقة لما قبله ، وهو : (إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ) هنا ، وإنه (لا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ) في يونس.
وقرىء : (بِكُلِّ سَحَّارٍ) موافقة لما في الشعراء.
٣٣ ـ قوله تعالى : (قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) [الأعراف : ١٢٣].
قاله هنا بلفظ (بِهِ) وقال في طه والشعراء بلفظ : (لَهُ.) لأن الضمير هنا عائد إلى ربّ العالمين ، وفي تينك إلى موسى ، لقوله فيهما : (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ.)
وقيل : (آمَنْتُمْ بِهِ) و (آمَنْتُمْ لَهُ) واحد.
٣٤ ـ قوله تعالى : (وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) [الأعراف : ١٣٢].
إن قلت : كيف سمّوا ذلك آية مع قولهم : (لِتَسْحَرَنا بِها؟!)
قلت : إنما سمّوه آية استهزاء بموسى ، لا اعتقادا أنه آية.
٣٥ ـ قوله تعالى : (وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ) [الأعراف : ١٣٧].
إن قلت : ما الجمع بينه وبين قوله في الشعراء : (فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) الآية؟
قلت : معنى (دَمَّرْنا) أبطلنا ما كان يصنع فرعون وقومه ، من المكر والكيد بموسى عليهالسلام (وَما كانُوا يَعْرِشُونَ) يبنون من الصّرح ، الذي أمر فرعون هامان ببنائه ، ليصعد بواسطته إلى السّماء.
وقيل : هو على ظاهره من أنّ معنى (دَمَّرْنا :) أهلكنا ، لأن الله تعالى أورث ذلك بني إسرائيل مدّة ثمّ دمّره.
٣٦ ـ قوله تعالى : (وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) [الأعراف : ١٤١].
أي : نعمة عظيمة ، إن جعلت الإشارة راجعة إلى الإنجاء في قوله تعالى : (أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ.) أو محنة عظيمة ، إن جعلت الإشارة راجعة إلى قتل الأبناء ، واستحياء النساء ، في قوله تعالى : (يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) إذ البلاء بين" النّعمة" و" المحنة" قال تعالى : (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ) [الأعراف : ١٦٨] وقال : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء : ٣٥].
٣٧ ـ قوله تعالى : (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ) [الأعراف : ١٤٢] الآية.
فإن قلت : المواعدة كانت أمرا بالصّوم في هذا العدد ، فكيف ذكر الليالي مع أنها ليست محلا للصوم؟!
قلت : العرب في أغلب تواريخها ، إنما تذكر الليالي ، وإن أرادت الأيام ، لأن الليل هو الأصل في الزمان ، والنّهار عارض ، لأن الظّلمة سابقة في الوجود على النور ، مع أن الليل ظرف لبعض الصوم وهي النيّة ، التي هي ركن فيه.
٣٨ ـ قوله تعالى : (فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) [الأعراف : ١٤٢]
إن قلت : ما فائدته مع علمه ممّا قبله؟
قلت : فائدته التوكيد ، والعلم بأن العشر ليال ، لا ساعات ، ورفع توهّم أن العشر داخلة في الثلاثين ، بمعنى أنها كانت عشرين وأتمّت بعشر.
٣٩ ـ قوله تعالى : (فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) [الأعراف : ١٤٣].
أي : أنا أول من آمن من بني إسرائيل في زمني.
أو بأنك لا ترى في الدنيا بالحاسّة الفانية.
٤٠ ـ قوله تعالى : (وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ) [الأعراف : ١٤٥].
" أحسنها" أي : التوراة.
إن قلت : كيف قال : (بِأَحْسَنِها) مع أنهم مأمورون بجميع ما فيها؟
قلت : معنى (بِأَحْسَنِها) بحسنها وكلّها حسن.
أو أمروا فيها بالخير ، ونهوا عن الشرّ.
وفعل الخير أحسن من ترك الشرّ ، أو أن فيها حسنا وأحسن ، كالقود والعفو ، والانتصار والصبر ، والمأمور به والمباح ، فأمروا بما هو الأكثر ثوابا.
٤١ ـ قوله تعالى : (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ) [الأعراف : ١٤٨].
ليس المراد من بعد زمن موسى ، لأن اتخاذ قومه ذلك إنما كان في زمنه ، بل المراد : من بعد ذهابه إلى الجبل ، أو من بعد عهده إليهم أن لا يعبدوا غير الله.
٤٢ ـ قوله تعالى : (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) [الأعراف : ١٤٩].
أي : ندموا على عبادتهم العجل.
إن قلت : كيف عبّر عن الندم بالسّقوط في اليد؟
قلت : لأن عادة من اشتدّ ندمه على فائت ، أن يعض يده غمّا ، كما في قوله تعالى : (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ) فتصير يده مسقوطا فيها ، لأن فاه قد وقع
فيها.
٤٣ ـ قوله تعالى : (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً) [الأعراف : ١٥٠] الآية.
إن قلت : يعني غضبان عن أسف؟
قلت : لا ، لأنّ" الأسف" : الحزين ، وقيل : الشديد الغضب.
٤٤ ـ قوله تعالى : (أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) [الأعراف : ١٥٤].
الجملة الثانية فيها حال من الألواح ، والمعنى : أخذ الألواح ، والحال أن فيما نسخ فيها أي : كتب ـ هدى ورحمة.
٤٥ ـ قوله تعالى : (وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الأعراف : ١٥٧].
أي : اتبعوا القرآن الذي أنزل معه ـ أي مع النبي صلىاللهعليهوسلم.
فإن قلت : القرآن لم ينزل مع النبي ، بل عليه ، وإنما نزل مع جبريل؟!
قلت : " معه" بمعنى" : مقارنا لزمنه ، أو بمعنى عليه ، أو هو متعلق باتّبعوا أي : اتبعوا القرآن كما اتّبعه هو ، مصاحبين له في اتباعه.
٤٦ ـ قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) [الأعراف : ١٧٠] خصّ الصلاة بالذكر ، مع دخولها فيما قبلها ، إظهارا لمرتبتها ، لكونها عماد الدين ، وناهية عن الفحشاء والمنكر.
٤٧ ـ قوله تعالى : (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) [الأعراف : ١٧٦] الآية.
فإن قلت : هذا تمثيل لحال" بلعام" (١) فكيف قال بعده : (ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ) ولم يضرب إلا لواحد؟
قلت : المثل في الصّورة وإن ضرب لواحد ، فالمراد به كفّار مكة كلّهم ، لأنهم صنعوا مع النبي صلىاللهعليهوسلم ، بسبب ميلهم إلى الدنيا من الكيد والمكر ، ما يشبه فعل" بلعام"
__________________
(١) هو" بلعام بن باعوراء" : من علماء بني إسرائيل.
مع موسى.
أو أنّ : (ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ) راجع إلى قوله تعالى : (ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ) لا إلى أول الآية.
٤٨ ـ قوله تعالى : (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُ) [الأعراف : ١٤٩].
إن قلت : كيف جمع بين الأمرين؟
قلت : المراد بالأول تشبيههم بالأنعام في أصل الضلال لا في مقداره وبالثاني في بيان مقداره. وقيل : المراد بالأول : التشبيه في المقدار أيضا ، لكن المراد به طائفة ، وبالثاني أخرى ، ووجه كونها أضل من الأنعام أنها تنقاد لأربابها ، وتعرف من يحسن إليها ، وتجتنب ما يضرّها. وهؤلاء لا ينقادون لربهم ، ولا يعرفون إحسانه إليهم ، من إساءة الشيطان ، الذي هو عدوّهم.
٤٩ ـ قوله تعالى : (إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [الأعراف : ١٨٨].
إن قلت : كيف خصّ المؤمنين بالذّكر ، مع أنه نذير بشير للنّاس كافة ، كما قال تعالى (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً) [سبأ : ٢٨]؟
قلت : خصّهم بالذكر ، لأنهم المنتفعون بالإنذار والبشارة.
٥٠ ـ قوله تعالى : (فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما) [الأعراف : ١٩٠] الآية.
إن قلت : كيف قال عن" آدم وحواء" ذلك ، مع أن الأنبياء معصومون عن مطلق الكبائر ، فضلا عن الشّرك الذي هو أكبر الكبائر؟!
قلت : فيه حذف مضاف ، أي : جعلا أولادهما شركاء له (فِيما آتاهُما) أي آتى أولادهما ، بقرينة قوله تعالى : (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) بالجمع. ومعنى إشراك أولادهما فيما آتاهم الله ، تسميتهم أولادهم ب" عبد العزّى" و" عبد مناة" و" عبد شمس" ونحوها ، مكان" عبد الله" و" عبد الرحمن" و" عبد الرحيم".
٥١ ـ قوله تعالى : (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللهُ) [الأعراف : ١٨٨].
قدّم النّفع هنا على الضّرّ ، وعكس في يونس لأن أكثر ما جاء في القرآن ، من لفظي : الضرّ ، والنفع معا ، جاء بتقديم الضرّ على النفع ، ولو بغير لفظهما ، كالطّوع
والكره في الوعد ، لأن العابد يعبد معبوده ، خوفا من عقابه أولا ، ثمّ طمعا في ثوابه ثانيا ، كما قال تعالى (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً) [السجدة : ١٦] ، وحيث تقدّم النّفع على الضّرّ ، تقدّمه لفظ تضمّن نفعا ، وذلك في ثمانية مواضع : هنا وفي الرّعد ، وسبأ ، والأنعام ، وآخر يونس ، وفي الأنبياء ، والفرقان ، والشّعراء.
فقدّم هنا النفع لموافقة قوله قبله : (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي) الآية. وقوله بعده : (لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ) إذ الهداية والخير من جنس النفع ، وقدّم الضرّ في آخر يونس على الأصل ولموافقة قوله قبله : (ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ.)
" تمت سورة الأعراف"
سورة الأنفال
١ ـ قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) [الأنفال : ٢] الآية.
أي خافت ، والمراد بالمؤمنين هنا ، وفي قوله تعالى بعد : (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) الكاملون.
٢ ـ قوله تعالى : (وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [الأنفال : ٢].
إن قلت : كيف قال ذلك ، مع أن حقيقة الإيمان ـ عند الأكثر ـ لا تزيد ولا تنقص ، كالإلهية والوحدانية؟
قلت : المراد بزيادته آثاره من الطمأنينة ، واليقين ، والخشية ونحوها ، وعليه يحمل ما نقل عن الشافعي من أنه يقبل الزيادة والنقص.
٣ ـ قوله تعالى : (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِ) [الأنفال : ٥]. الآية ، الكاف للتشبيه أي امض على ما رأيته صوابا ، من تنفيل الغزاة في قسمة الغنائم وإن كرهوا ، كما مضيت في خروجك من بيتك بالحق وهم كارهون.
٤ ـ قوله تعالى : (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) [الأنفال :٨].
إن قلت : فيه تحصيل الحاصل؟
قلت : لا ، لأن المراد بالحقّ الإيمان ، وبالباطل الشرك.
فإن قلت : ما فائدة تكرار (لِيُحِقَّ الْحَقَ) هنا مع قوله قبل : (وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ.)
قلت : فائدته أنه أريد بالأول ، ما وعد الله به في هذه الواقعة ، من النّصر والظفر بالأعداء ، بقرينة قوله عقبه : (وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ.) وبالثاني تقوية الدّين ، ونصرة الشريعة ، بقرينة قوله عقبه : (وَيُبْطِلَ الْباطِلَ.)
٥ ـ قوله تعالى : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ) [الأنفال : ١٧] الآية.
إن قلت : كيف نفى عن المؤمنين قتل الكفّار ، مع أنهم قتلوهم يوم بدر ، ونفى عن النبي صلىاللهعليهوسلم رميهم ، مع أنه رماهم يوم بدر بالحصباء في وجوههم؟!
قلت : نفي الفعل عنهم وعنه باعتبار الإيجاد ، إذ الموجد له حقيقة هو الله تعالى ، وإثباته لهم وله باعتبار الكسب والصورة.
٦ ـ قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ) [الأنفال : ٣٠]. ثنّى في الأمر ، وأفرد في النهي ، تحرّزا بالإفراد عن الإخلال بالأدب من النبي صلىاللهعليهوسلم ، عن نهيه الكفار في قرانه بين اسمه واسم الله تعالى ، في ذكرهما بلفظ واحد ، كما روي أن خطيبا خطب فقال : " من أطاع الله ورسوله فقد رشد ، ومن عصاهما فقد غوى" فقال له النبي صلىاللهعليهوسلم : " بئس خطيب القوم أنت ، هلّا قلت : ومن عصى الله ورسوله فقد غوى"!!
أو أفرد باعتبار عوده إلى الله وحده ، لأنه الأصل ، مع أن طاعة الله ، وطاعة رسوله متلازمتان. أو أنّ الاسم المفرد ، يأتي في لغة العرب ويراد به الاثنان والجمع ، كقولهم : إنعام فلان ومعروفه يغنيني ، والإنعام والمعروف لا ينفع مع فلان ، وعلى ذلك قوله تعالى : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) [التوبة : ٦٢].
٧ ـ قوله تعالى : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) [الأنفال : ٢٣].
معناه : ولو علم الله فيهم إيمانا في المستقبل ، لأسمعهم سماع فهم وقبول ، أو لأنطق لهم الموتى ، يشهدون بصدق نبوّتك كما طلبوا ، ولو أسمعهم أو أنطق لهم الموتى ، يشهدون بما ذكر ، بعد أن علم أن لا خير فيهم ، (لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ،) لعنادهم وجحودهم الحق بعد ظهوره. وتقدّم في البقرة الكلام على الجمع بين التولّي والإعراض.
٨ ـ قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) [الأنفال : ٣٣]. الآية.
إن قلت : قد عذّبهم الله يوم بدر والنبي صلىاللهعليهوسلم فيهم.
قلت : المراد : (وَأَنْتَ فِيهِمْ) مقيم بمكة ، وتعذيبهم ببدر إنما كان بعد خروجه من مكة.
أو المراد : ما كان الله ليعذبهم العذاب الذي طلبوه وهو إمطار الحجارة وأنت فيهم.
٩ ـ قوله تعالى : (وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ
الْحَرامِ) [الأنفال : ٣٤]. الآية.
إن قلت هذا ينافي قوله أولا : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ؟!)
قلت : لا منافاة ، لأنه مقيّد بكونه صلىاللهعليهوسلم فيهم ، والثاني بخروجه عنهم.
أو المراد بالأول عذاب الدنيا ، وبالثاني عذاب الآخرة.
١٠ ـ قوله تعالى : (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً) [الأنفال : ٣٥]. الآية ، أي إلّا صفيرا وتصفيقا.
١١ ـ قوله تعالى : (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً) [الأنفال : ٤٤]. الآية.
إن قلت : فائدة تقليل الكفّار في أعين المؤمنين ظاهر ، وهو زوال الرعب من قلوب المؤمنين ، فما فائدة تقليل المؤمنين في أعين الكفار في قوله : (وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ؟)
قلت : فائدته ألّا يبالغوا في الاستعداد لقتال المؤمنين ، لظنّهم كمال قدرتهم فيقدموا عليهم ، ثمّ تفجؤهم كثرة المؤمنين ، فيدهشوا ، ويتحيروا ، ويفشلوا.
١٢ ـ قوله تعالى : (وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) [الأنفال : ٤٦]. الآية. أي لا تتنازعوا في أمر الحرب ، بأن تختلفوا فيه ، وإلّا فالمنازعة في إظهار الحقّ مطلوبة ، كما قال تعالى : (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل : ١٢٥].
١٣ ـ قوله تعالى : (إِنِّي أَخافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) [الأنفال : ٤٨].
إن قلت : كيف قال الشيطان ذلك ، مع أنه لا يخافه وإلّا لما خالفه وأضل عبيده؟!
قلت : قاله كذبا كما قاله قتادة ، أو صدقا كما قاله عطاء ، لكنّه خالف عنادا.
أو الخوف بمعنى العلم ، كما في قوله : (إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) [البقرة : ٢٢٩] أي أعلم صدق وعد الله نبيّه النصر.
١٤ ـ قوله تعالى : (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [الأنفال : ٤٩].
جوابه محذوف أي يغلب ، دلّ عليه قوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي غالب.
١٥ ـ قوله تعالى : (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) [الأنفال : ٥٤]
الآية.
كرّره لأنّ الأول إخبار عن عذاب ، لم يمكّن الله أحدا من فعله ، وهو ضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم ، عند نزع أرواحهم.
والثاني : إخبار عن عذاب مكّن الله النّاس من فعل مثله ، وهو الإهلاك والإغراق.
أو معنى الأول : (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) فيما فعلوا ، والثاني : (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) فيما فعل بهم.
أو المراد بالأول كفرهم بالله ، وبالثاني تكذيبهم الأنبياء.
١٦ ـ قوله تعالى : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [الأنفال : ٥٥].
إن قلت : ما فائدة (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) بعد ذكر ما قبله؟!
قلت : مراده أن يبيّن أنّ شرّ الدوابّ هم الذين كفروا ، واستمروا على كفرهم إلى وقت موتهم.
١٧ ـ قوله تعالى : (فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ..) [الأنفال : ٦٦] الآيتين. حاصله أنّ البعض منا يقاوم عشرة أعشاره منهم قبل التخفيف ، ويقاوم ضعفه بعده .. وقد كرّر كلا من المعنيين في الآيتين.
وفائدة التكرار : الدّلالة على أن الحال مع الكثرة والقلة لا يختلف ، فكما تغلب العشرون المائتين ، تغلب المائة الألف ، وكما تغلب المائة المائتين ، يغلب الألف الألفين.
١٨ ـ قوله تعالى : (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [الأنفال : ٦٧].
(وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) أي ثوابها ، وإلّا فهو كما يريد الآخرة ، يريد الدنيا وإلّا فما وجدت.
١٩ ـ قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) [الأنفال : ٧٢].
قدّم هنا (بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) على قوله : (فِي سَبِيلِ اللهِ) وعكس في براءة لأنّ ما هنا تقدّمه ذكر المال والأنفس ، في قوله تعالى : (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا)
وقوله : (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ) أي من الفداء ، وقوله : (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ) وما في" براءة" تقدّمه ذكر : (فِي سَبِيلِ اللهِ) فناسب تقديم (بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) وتقديم (فِي سَبِيلِ اللهِ) ثمّ.
" تمت سورة الأنفال"
سورة التّوبة
١ ـ قوله تعالى : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [التوبة : ١].
إن قلت : لم ترك البسملة فيها دون غيرها؟
قلت : لاختلاف الصحابة في أنّ براءة والأنفال سورتان ، أو سورة واحدة ، نظرا لأن كلّا منهما نزل في القتال ، فترك بينهما فرجة ، عملا بالأول ، وتركت البسملة عملا بالثاني.
أو لأنّ البسملة أمان ، وبراءة فيها قتل المشركين ومحاربتهم ، فلا مناسبة بينهما.
أو لأنّ الأنفال ، لمّا تضمّنت طلب موالاة المؤمنين ، بعضهم بعضا ، وأن ينقطعوا عن الكفّار بالكلّية ، وكان قوله تعالى : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) تقريرا وتأكيدا ، لذلك تركت البسملة بينهما.
٢ ـ قوله تعالى : (فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [التوبة : ٣] كرّره لأنّ الأول للمكان ، والثاني للزمان المذكور قبل ، في قوله تعالى : (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ.)
٣ ـ قوله تعالى : (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ) [التوبة : ١١].
كرّره لاختلاف جزاء الشرط ، إذ جزاء الشرط في الأول تخلية سبيلهم في الدنيا ، وفي الثاني أخوّتهم لنا في الدّين ، وهي ليست عين تخليتهم ، بل سببها.
٤ ـ قوله تعالى : (كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً) [التوبة : ٨]. (إِلًّا) أي قرابة (وَلا ذِمَّةً) أي عهدا.
كرّر ذلك بإبدال الضمير ب (مُؤْمِنٍ) في قوله تعالى (لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً) لأن الأول وقع جوابا لقوله (وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ) أي الكفار. والثاني وقع إخبارا عن تقبيح حالهم.
٥ ـ قوله تعالى : (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) [التوبة : ١٢]. خصّ فيه (أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) بالذّكر ، وهم رؤساء الكفر وقادتهم ، لأنهم الأصل في النكث ، والطّعن في الدّين.
٦ ـ قوله تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) [التوبة : ٣٠] قائل ذلك في كلّ منهما بعضهم ، لا كلّهم ، " ف" ال" فيهما للعهد ، لا للاستغراق ، كما في قوله تعالى : (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ) [آل عمران : ٤٢] الآية. إذ القائل لها إنما هو جبرائيل عليهالسلام.
٧ ـ قوله تعالى : (ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ ..) [التوبة : ٣٠]. فائدة قوله : (بِأَفْواهِهِمْ) مع أن القول لا يكون إلّا بالفم ، الإعلام بأن ذلك مجرّد قول ، لا أصل له ، مبالغة في الرّدّ عليهم.
٨ ـ قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ ..) [التوبة : ٣٣] الآية.
فائدة ذكر (وَدِينِ الْحَقِ) مع دخوله في الهدى قبله ، بيان شرفه وتعظيمه ، كقوله تعالى : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) [البقرة : ٢٣٨].
أو أنّ المراد بالهدى القرآن. وبالدّين الإسلام.
٩ ـ قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ ..) [التوبة : ٣٤].
أفرد الضمير ، مع تقدّم اثنين (الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) نظرا إلى عوده إلى الفضة لقربها ، ولأنها أكثر من الذّهب.
أو إلى عوده إلى المعنى ، لأن المكنوز دراهم ودنانير ، ونظيره قوله (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا.)
١٠ ـ قوله تعالى : (مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ..) [التوبة : ٣٦].
إن قلت : لم خصّ الأربعة الحرم بذلك ، مع أن ظلم النفس منهيّ عنه في كل زمان؟
قلت : لم يخصّها به ، إذ الضمير عائد إلى" اثنا عشر شهرا" كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما ، لا إلى الأربعة الحرم فقط.
أو خصّها به لقربها ، أو لمزيد فضلها وحرمتها عندهم في الجاهلية.
١١ ـ قوله تعالى : (لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ
يُجاهِدُوا ..) [التوبة : ٤٤].
أي لا يستأذنوك في التخلّف عن الجهاد.
إن قلت : كيف قال ذلك ، مع أن كثيرا من المؤمنين ، استأذنوه في ذلك لعذر ، أخذا من قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) [التوبة : ٦٢].
قلت : لا منافاة ، لأن ذلك نفي بمعنى النهي كقوله تعالى : (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ.)
أو هو منسوخ كما قال ابن عباس بقوله : (لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ.)
أو المراد : أنهم لا يستأذنوه في ذلك لغير عذر.
١٢ ـ قوله تعالى : (وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ) [التوبة : ٤٦].
إن قلت : كيف أمرهم بالقعود عن الجهاد ، مع أنه ذمّهم عليه؟
قلت : إنما أمرهم بذلك أمر توبيخ ، كقوله تعالى : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) [فصلت : ٤٠] بقرينة قوله : (مَعَ الْقاعِدِينَ) أي من النّساء ، والصّبيان ، والزّمنى ، الذين شأنهم القعود في البيوت.
أو الآمر لهم إنما هو الشيطان بالوسوسة ، أو بعضهم بعضا.
١٣ ـ قوله تعالى : (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ ..) [التوبة : ٤٧].
فإن قلت : إذا علم الله أن المنافقين ، لو خرجوا مع المؤمنين للجهاد ، ما زادوهم إلّا خبالا أي فسادا ، ولأوضعوا خلالهم أي لأسرعوا في السّعي بينهم بالنميمة ، فكيف أمرهم بالخروج مع المؤمنين.
قلت : أمرهم بالخروج لإلزامهم الحجّة ، ولإظهار نفاقهم.
١٤ ـ قوله تعالى : (قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ) [التوبة : ٥٣].
أي كافرين ولو بالنفاق ، بقرينة قوله : (وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ) [التوبة : ٥٤].