فتح الرّحمن شرح ما يلتبس من القرآن

زكريّا بن محمّد بن أحمد الأنصاري

فتح الرّحمن شرح ما يلتبس من القرآن

المؤلف:

زكريّا بن محمّد بن أحمد الأنصاري


المحقق: الدكتور يحيى مراد
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 978-2-7451-4012-4
الصفحات: ٣٦٠

١
٢

المقدمة

بسم الله الرّحمن الرحيم

اعتنى السلف الصالح بالقرآن عناية بالغة منذ صدور الإسلام ، ومن العلوم التي أولوها عناية خاصة معرفة غريب القرآن ، وهذا الباب عظيم الخطر ؛ لذا تهيب كثير من السلف تفسير القرآن ، وتركوا القول فيه حذرا أن يزلوا فيذهبوا عن المراد ، وإن كانوا علماء باللسان فقهاء في الدين ، وكان الأصمعي وهو إمام اللغة لا يفسر شيئا من غريب القرآن.

وليس لغير العالم بحقائق اللغة وموضوعاتها تفسير شيء من كلام الله ، ولا يكفي في حقه تعلم اليسير منها ، فقد يكون اللفظ مشتركا وهو يعلم أحد المعنيين والمراد المعنى الآخر ، وهذا أبو بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ من أفصح قريش ، سئل أبو بكر عن (الأبّ) فقال أبو بكر : " أي سماء تظلني ، وأي أرض تقلني إذا قلت في كلام الله ما لا أعلم! " ، وقرأ عمر سورة (عبس) فلما بلغ (الأبّ) قال : " الفاكهة قد عرفناها ، فما الأب؟ ثم قال : لعمرك يا ابن الخطاب إن هذا لهو التكلف".

وهذا الفن ضروري للمفسر ، وإلا فلا يحل له الإقدام على كتاب الله تعالى ، قال يحيى بن نضلة المديني : سمعت مالك بن أنس يقول : لا أوتي برجل يفسر كتاب الله غير عالم بلغة العرب إلا جعلته نكالا.

وقال مجاهد : لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتكلم في كتاب الله إذا لم يكن عالما بلغات العرب.

ويحتاج الكاشف عن غريب القرآن إلى معرفة علم اللغة ، وإلى الدراية الواسعة بكلام العرب شعره ونثره ، روى عكرمة عن ابن عباس قال : إذا سألتموني عن غريب اللغة فالتمسوه في الشعر ؛ فإن الشعر ديوان العرب.

ومسائل نافع بن الأزرق لابن عباس عن مواضع من القرآن واستشهاد ابن عباس في كل جواب ببيت معروف مشهور ، وعليه فإن معنى الغريب هو : معرفة مدلول اللفظ وتصيد المعاني من السياق ؛ لأن مدلولات الألفاظ خاصة! وقد صنف فيه جماعة ؛ منهم أبو عبيدة كتاب (المجاز) ، وأبو عمر غلام ثعلب (ياقوتة الصراط)

٣

ومن أشهرها كتاب السجستاني ، ومن أحسنها كتاب (المفردات) للراغب.

ومن هنا تأتي أهمية نشر مثل هذا الكتاب القيم من كتب غريب القرآن ، التي تركها لنا علماء السلف ـ رحمهم‌الله أجمعين ـ ، فإن خير ما بذلت فيه الجهود ، وكلّت من أجله القرائح والعقول كتاب الله العزيز.

وهذا الكتاب من الكتب الجامعة المختصرة في بابه ، فلا هو بالطويل الممل ، ولا بالقصير المخل ، سهل العبارة ، مشرق الديباجة ، حسن الترتيب.

وقد رتب المؤلف كتابه هذا حسب ترتيب سور المصحف الشريف ، ليتتبع ألفاظ السور التي هي بحاجة إلى الشرح والتفسير.

٤

غريب القرآن وأهميته :

لم يخل عصر من العصور ممن جمع في هذا الفن شيئا ، وانفرد فيه بتأليف ، واستبد فيه بتصنيف ، واستمر الحال إلى عهد صاحبنا ، بل حتى عصرنا الذي نعيشه الآن ؛ وذلك لأهمية الموضوع.

تعريف الغريب لغة :

قال الخطابي : " الغريب من الكلام إنما هو الغامض البعيد من الفهم ، كالغريب من الناس ، إنما هو البعيد عن الوطن المنقطع عن الأهل ، ومنه قولك للرجل إذا نحيته أو أقصيته : اغرب عني ، أي : ابعد ، فيقال : غرب الرجل يغرب غربا إذا تنحى وذهب ، وغرب غربة إذا انقطع عن أهله ، وغربت الكلمة غرابة ، وغربت الشمس غروبا ، ثم إن الغريب يقال به على وجهين :

أحدهما : أن يراد به بعيد المعنى غامضه ، لا يتناوله الفهم إلا عن بعد ومعاناة فكر.

والوجه الآخر : أن يراد به كلام من بعدت به الدار ، ونأى به المحل من شواذ قبائل العرب ، فإذا وقعت إلينا الكلمة من لغاتهم استغر بناها ، وإنما هي من كلام القوم وبيانهم ، ومن هذا ما جاء عن بعضهم عندما قال له قائل : أسألك عن حرف من الغريب فقال : هو كلام القوم ، إنما الغريب أنت وأمثالك من الدخلاء فيه" (١).

وقال أبو القاسم الزجاجي في معرض حديثه عن باب الفرق بين النحو واللغة والإعراب والغريب : " وأما الغريب : فهو ما قل استماعه من اللغة ، ولم يدر في أفواه العامة كما دار في أفواه الخاصة ، كقولهم : صكمت الرجل ، أي : لكمته ، وقولهم للشمس : يوح ، وقولهم : رجل ظروري ، للكيّس ، وهذا كثير جدا ، وهذا ومن أشبهه ، وإن كان غريبا عند قوم فهو معروف عند العلماء ، وليس كل العرب يعرفون اللغة كلها ، غريبها وواضحها ، ومستعملها وشاذها ، بل هم في ذلك طبقات يتفاضلون فيها" (٢).

__________________

(١) غريب الحديث ، للخطابي : ١ / ٧٠ ـ ٧١ ، ت : عبد الكريم العزباوي ، ط. مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي ، جامعة أم القرى ١٤٠٢ ه‍ ـ ١٩٨٢ م. مكة المكرمة.

(٢) الإيضاح في علل النحو ، للزجاجي : ص ٩٢ ، ت / د. مازن المبارك ، ط / دار النفائس ، بيروت ١٣٩٣ ه‍ ـ ١٩٧٣ م.

٥

وإذا تأملنا ما قاله في هذا الصدد الإمام الزركشي نجده أصاب كبد الحقيقة والمسألة ، وقد تكلم بكلام قيّم عظيم في كتابه البرهان ، فقد قسم علوم القرآن إلى سبعة وأربعين نوعا ، وجعل النوع الثامن عشر : لمعرفة الغريب ، وقال : " هو معرفة المدلول ، وذكر طائفة من الذين ألفوا وصنفوا فيه (أي الغريب) ، وذكر من أحسنها كتاب : " المفردات" للراغب الأصفهاني ، وهو يتصيد المعاني من السياق ؛ لأن مدلولات الألفاظ خاصة ، ويحتاج الكاشف عن ذلك إلى معرفة علم اللغة ، اسما وفعلا وحرفا ؛ فالحروف لقلتها تكلم النحاة على معانيها ، فيؤخذ ذلك من كتبهم ، وأما الأسماء والأفعال فيؤخذ ذلك من كتب اللغة (١).

وقد ذكر صاحب اللسان في تعريفه للغريب ، كلاما موجزا وهو قريب الشبه جدا من كلام الخطابي حيث قال : " والغريب الغامض من الكلام ، وكلمة غريبة وقد غربت وهو من ذلك" (٢).

وبعد هذه العجالة السريعة أعتقد أن تعريف الزركشي للغريب هو أشملها وأدقها ، وإني أميل إليه.

غريب القرآن وأهميته :

لا ريب أن معرفة الغريب في القرآن الكريم هي اللبنة الأولى في فهم كلام الله تعالى ، وهي من أول ما يستعين به المفسر في التفسير والتأويل ، ولقد نبه العلماء إلى وجوب معرفة وتعلم هذا الفن ووجوهه المختلفة.

يقول الزركشي : " ومعرفة هذا الفن للمفسر ضرورية ، وإلا فلا يحل له الإقدام على كتاب الله تعالى. قال يحيى بن نضلة المديني : سمعت مالك بن أنس يقول : لا أوتى برجل يفسر كتاب الله غير عالم بلغة العرب إلا جعلته نكالا. وقال مجاهد : لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتكلم في كتاب الله إذا لم يكن عالما بلغات العرب".

وينبغي العناية بتدبر الألفاظ كي لا يقع الخطأ كما وقع لجماعة من الكبار ، وهذا الباب عظيم الخطر ، ومن هنا تهيب كثير من السلف تفسير القرآن ، وتركوا

__________________

(١) البرهان في علوم القرآن ، للزركشي : ١ / ٢٩٢ ، ٢٩١ بتصرف.

(٢) لسان العرب ، لابن منظور : ٥ / ٣٢٦ ، طبعة دار المعارف.

٦

القول فيه حذار أن يزلوا فيذهبوا عن المراد ، وإن كانوا علماء باللسان فقهاء في الدين.

واعلم أنه ليس لغير العالم بحقائق اللغة وموضوعاتها تفسير شيء من كلام الله ، ولا يكفي في حقه تعلم اليسير منها ، فقد يكون اللفظ مشتركا وهو يعلم أحد المعنيين والمراد المعنى الآخر (١) ".

ثم أورد الزركشي أمثلة كثيرة وهو يعرض لهذه المسألة وقع فيها الكبار ، وأمثلة أخرى عن تهيب عدد من السلف لتفسير القرآن.

وقال صاحب المفردات : " إن أول ما يحتاج أن يشتغل به من علوم القرآن العلوم اللفظية ، ومن العلوم اللفظية تحقيق الألفاظ المفردة ، فتحصيل معاني مفردات ألفاظ القرآن في كونه من أوائل المعاون في بناء ما يريد أن يدرك معانيه ، كتحصيل اللبن في كونه من أول المعاون في بناء ما يريد أن يبنيه ، وليس ذلك نافعا في علم القرآن فقط ، بل هو نافع في كل علم من علوم الشرع ، فألفاظ القرآن هي لب كلام العرب وزبدته ، وواسطته ، وكرائمه ، وعليها اعتماد الفقهاء والحكماء في أحكامهم وحكمهم ، وإليها مفزع حذاق الشعراء والبلغاء في نظمهم ونثرهم ، وما عداها وعدا الألفاظ المتفرعات عنها والمشتقات منها هو بالإضافة إليها كالقشور والنوى بالإضافة إلى أطايب الثمرة ، وكالحثالة والتبن بالإضافة إلى لبوب الحنطة" (٢).

تراث غريب القرآن :

إن الناظر للكتب التي ألفت في هذا النوع يجدها ركزت على توضيح الكلمة الغريبة أو المشكلة من القرآن ، وشرحها وتفسيرها كي يقرب معناها ومدلولها ، مع الاهتمام بالقراءات ، وفي بعضها اهتمام غير قليل بالنحو والصرف والدلالة ، وعناية بالشواهد من الشعر والحديث ، وآراء أئمة اللغة ، وأقوال العرب واللغات ، وغير ذلك.

وإذا تأملنا مسميات هذه الكتب نجدها لا تعدو هذه المسميات : غريب

__________________

(١) البرهان في علوم القرآن : ١ / ٢٩٤ وما بعدها.

(٢) المفردات في غريب القرآن ، للراغب الأصفهاني : ص ٦ ، ت / محمد سيد كيلاني ، ط / الحلبي ١٣٨١ ه‍ ـ ١٩٦١ م.

٧

القرآن (١) ، أو تفسير غريب القرآن (٢) ، أو تأويل مشكل القرآن ، ومعاني القرآن (٣) ، ومجاز القرآن (٤) ، المفردات في غريب القرآن (٥) ، وبعض هذه الكتب جمع غريبي

__________________

(١) من أقدم المؤلفات في ذلك : ، غريب القرآن لابن عباس ، برواية علي بن طلحة. قال السيوطي عن هذه الرواية في الإتقان (ط / دار الفكر ـ ١٩٧٩ م. بيروت) ١ / ١١٤ : " من أصح الطرق عن ابن عباس ، وعليها اعتمد البخاري في صحيحه مرتبا على السور". وقد وضع الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي" معجم غريب القرآن مستخرجا من صحيح البخاري ، وفيه ما ورد عن ابن عباس من طريق ابن أبي طلحة خاصة ، وكذلك ألحق هذا المعجم بمسائل نافع بن الأزرق ، لابن عباس ، ط / ٢ ، دار المعرفة ، بيروت.

ـ غريب القرآن ، لليزيدي ، ت : محمد سليم الحاج ، ط / عالم الكتب ١٤٠٥ ه‍ ـ ١٩٨٥ م. بيروت.

(٢) من الكتب التي وسمت بهذا الاسم : تفسير مجاهد.

ـ تفسير غريب القرآن ، للإمام زيد بن علي بن الحسين ، وقد حقق رسالة دكتوراه في كلية الآداب جامعة عين شمس سنة ١٩٨٦ م.

ـ تفسير غريب القرآن ، للإمام مالك بن أنس. (ورد في معجم المصنفات في القرآن الكريم ، لعلي شواخ ٣ / ٢٩٥ ـ ط / مكتبة الرفاعي ، ١٤٠٤ ه‍ ـ ١٩٨٤ م. الرياض). وقد طبع مؤخرا بعنوان : مرويات الإمام مالك بن أنس في التفسير ، جمع : محمد بن رزق الطرهوني ، ود : حكمت بشير ، ط / ١ ، دار المؤيد ١٤١٥ ه‍ ـ ١٩٩٥ م الرياض.

ـ تفسير غريب القرآن ، لابن قتيبة.

(٣) من هذه الكتب : معاني القرآن ، للفراء ، ت : محمد علي النجار ، وأحمد يوسف نجاتي. ط.

عالم الكتب بيروت (مصورة) ١٩٨٠ م بيروت.

معاني القرآن ، للأخفش الأوسط ، سعيد بن مسعدة ، ت د : فائز فارس ، ط. دار البشير والأمل ١٤٠٠ ه‍ ـ ١٩٧٩ م وما بعدها. الكويت.

معاني القرآن ، للنحاس ، ت : محمد علي الصابوني ، ط / ١ ، مركز إحياء التراث الإسلامي بجامعة أم القرى ١٤٠٨ ه‍ ـ ١٩٨٨ م مكة المكرمة.

(٤) وهو لأبي عبيدة ، معمر بن المثنى ، ت د : فؤاد سزكين ، ط. مؤسسة الرسالة ١٤٠٤ ه‍ ـ ١٩٨٤ وطبع غير طبعة ولم أقف على كتاب وسم بهذا الاسم غيره ، فيما بين يدي من مصادر.

(٥) منها كتاب : الأصفهاني ، وسبق بيانه في المبحث الأول من هذا الفصل ، ونأتي بضرب أمثلة منه في هذا الفصل بعد قليل ، وذكرت المصادر كتابا آخر وسم بهذا الاسم هو : مفردات القرآن ، للسمين الحلبي. (كشف الظنون ٢ / ١٢٠٨ ، وهدية العارفين ١ / ٨٩) ولم أقف عليه مطبوعا.

٨

القرآن والحديث ، فوسم باسم : الغريبين (١).

ومنهج هذه الكتب من جهة الترتيب هو على ترتيب سور القرآن في المصحف ، وقليل منها رتب ترتيبا هجائيا.

أما المنهج من حيث المادة العلمية فسوف أعرض له من خلال ذكر بعض الكتب وأمثلة منها ، وها هي ذي :

تفسير مجاهد بن جبر المكي (١٠٤ ه‍) : إن معظم تفسير مجاهد يشتمل على شرح الغريب ، وتعبيرات خاصة ، وحل الكلمات الصعبة ، وتوضيح الألفاظ الغامضة ، وتبيين العبارات العويصة أو غير المألوفة ، وفي كثير من آثاره التفسيرية يتجلى لنا مجاهد كأنه لغوي خبير ، متمكن من كلام العرب ولغتهم عارف بأساليب بيانهم ، وتصريف لسانهم واصطلاحاتهم (٢) ، وهذه بعض أمثلة من كتابه : قال في قوله تعالى : (بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [الحج : ٢٩] ، أعتقه الله عزوجل من الجبابرة أن يدعيه أحد منهم (٣).

(الْمُسَوَّمَةِ) [آل عمران : ١٤] : المصورة حسنا (٤).

(الْمُهَيْمِنُ) [الحشر : ٢٣] : الشاهد على ما قبله من الكتب (٥).

(وَساءَتْ مُرْتَفَقاً) [الكهف : ٢٩] أي : مجتمعا (٦).

(فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) [يوسف : ١٨ ، ٨٣] : صبر ليس فيه جزع (٧).

وقريب الشبه بهذا التفسير تفسير ابن عباس رضي الله عنه ، وتفسير غريب القرآن للإمام مالك بن أنس.

مجاز القرآن ، لأبي عبيدة معمر بن المثني (٢١٠ ه‍) : ناقش محقق هذا الكتاب

__________________

(١) منها كتاب الغريبين ، للهروي ، وهو أحد مصادر المؤلف ، ويأتي الكلام عليه في الفصل الثالث ، المبحث الثاني ، ومنها كتاب : المجموع المغيث في غريي القرآن والحديث ، لمحمد بن أبي بكر عيسى المديني ، ت / عبد الكريم العزباوي ، ط / ١ ، مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي بجامعة أم القرى ١٤٠٦ ه‍ ـ ١٩٨٦ م مكة المكرمة.

(٢) تفسير مجاهد : ٢٧ ، ت / عبد الرحمن طاهر ، ط. (١) الكويت ١٣٩٦ ه‍ ـ ١٩٧٦ م).

(٣) تفسير مجاهد : ٢٨.

(٤) تفسير مجاهد : ١٢٣.

(٥) تفسير مجاهد : ١٢٣.

(٦) تفسير مجاهد : ٣٠.

(٧) تفسير مجاهد : ٣٠.

٩

ما ذكرته التراجم من أن لأبي عبيدة كتاب : غريب القرآن ، ومعاني القرآن ، وإعراب القرآن ، وقد بين أن ذلك أسماء متعددة والمسمى واحد ، هو هذا الكتاب : " مجاز القرآن" ودلل على أن ليس هناك لأبي عبيدة غير كتابه هذا السالف ذكره ، وأن هذه الأسماء أخذت من الموضوعات التي تناولها المجاز ، فهو يتكلم في معاني القرآن ، وتفسير غريبه ، وفي أثناء هذا يعرض لإعرابه ، ويشرح أوجه تعبيره ، وذلك ما عبر عنه : بمجاز القرآن.

ومهما كان الأمر فإن أبا عبيدة يستعمل في تفسيره للآيات هذه الكلمات : مجازه كذا ، وتفسيره كذا ، ومعناه كذا ، وغريبه كذا ، وتقديره ، وتأويله ، على أن معانيها واحدة أو تكاد ، ومعنى هذا : أن كلمة المجاز عنده عبارة عن الطرق التي يسلكها القرآن في تعبيراته (١).

وهذه أمثلة من الكتاب :

(عَذابٌ مُقِيمٌ) [المائدة : ٣٧] أي : دائم ، قال :

فإن لكم بيوم الشعب مني

عذابا دائما لكم مقيما (٢)

(وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً) [الأنعام : ١١١] ومجاز حشرنا : سقنا وجمعنا ؛ " قبلا" : جميع ، قبيل قبيل ؛ أي صنف صنف ، ومن قرأها" قبلا" فإنه يجعل مجازها عيانا ، كقولهم : " من ذي قبل". وقال آخرون : " قبلا" أي : مقابلة ، كقولهم : أقبل قبله ، وسقاها قبلا ، لم يكن أعد لها الماء ، فاستأنفت سقيها ، وبعضهم يقول : من ذي قبل (٣).

(لِلْمُتَوَسِّمِينَ) [الحجر : ٧٥] أي : المتبصرين المتثبتين (٤).

وننتقل بعد ذلك إلى كتب : " معاني القرآن" : يعني بهذا التركيب وهذا الاسم : ما يشكل في القرآن ، ويحتاج إلى بعض العناء في فهمه ، وكان هذا بإزاء معاني الآثار ، ومعاني الشعر ، أو أبيات المعاني ، وهذه الكتب ـ بجانب اهتمامها بالغريب وغيره ـ

__________________

(١) مجاز القرآن : ١ / ١٨ ـ ١٩ بتصرف واختصار.

(٢) مجاز القرآن : ١ / ١٦٥.

(٣) مجاز القرآن : ١ / ٢٠٤.

(٤) مجاز القرآن : ١ / ٣٥٤.

١٠

نجدها حفلت احتفالا كبيرا بقضايا النحو والصرف ، والأفعال وأبنيتها ، والأصوات والشواهد من القراءات ، والشعر ، وأقوال العرب ، واللغات ، وآراء العلماء في ذلك (١).

ولننظر إلى منهج بعض أصحاب هذه الكتب ، وقد حدده في مقدمة كتابه بقوله : " فقصدت في هذا الكتاب تفسير المعاني ، والغريب ، وأحكام القرآن ، والناسخ والمنسوخ عن المتقدمين من الأئمة ، وأذكر من قول الجلة من العلماء باللغة ، وأهل النظر ما حضرني ، وأبين من تصريف الكلمة واشتقاقها ـ إن علمت ذلك ـ وآتي من القراءات بما يحتاج إلى تفسير معناه ، وما احتاج إليه من الإعراب ، وبما احتج به العلماء في مسائل سأل عنها المجادلون ، وأبين ما فيه حذف ، أو اختصار ، أو إطالة لإفهامه ، وما كان فيه تقديم أو تأخير ، وأشرح ذلك حتى يتبينه المتعلم ، وينتفع به كما ينتفع العالم بتوفيق الله وتسديده" (٢).

ويلاحظ أن أحجام هذه الكتب أكبر من كتب الغريب بسبب المنهج الذي سلكته ، وكثرة القضايا التي تناولتها في البحث ، ولا سيما كتاب : معاني القرآن للنحاس ، وهو قد جاء متأخرا بعد كتاب الفراء ، والأخفش ، ففيه توسع عظيم إذا قورن بهما وإذا نظرنا إلى المادة العلمية في كتابه والمنهج الذي ذكره هنا نجده طبقه وزيادة (٣).

ونختار من بين كتب المعاني : معاني القرآن ، للأخفش الأوسط سعيد بن مسعدة (٢١٥ ه‍) فهذه أمثلة من بعض ما تناوله :

ـ وقال تعالى : (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ) [آل عمران : ١٦١] وقال بعضهم : " يغلّ" ، وكلّ صواب ـ والله أعلم ـ لأن المعنى أن يخون أو يخان (٤).

وقال تعالى : (فَزادَهُمْ إِيماناً) [آل عمران : ١٧٣] فزاد قولهم إيمانا (٥).

وقال تعالى : (شَهادَةُ بَيْنِكُمْ) [المائدة : ١٠٦] ثم قال : (اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ)

__________________

(١) معاني القرآن ، للفراء : ١ / ١١ ـ ١٣ ومعاني القرآن ، للأخفش : ١ / ٧٠ وما بعدها.

(٢) معاني القرآن ، للنحاس : ١ / ٤٣ ، ٤٢.

(٣) يقع هذا الكتاب في ٦ مجلدات ، ومعاني القرآن ، للفراء في ٣ مجلدات ، ومعاني القرآن ، للأخفش في مجلدين.

(٤) معاني القرآن ، للأخفش : ١ / ٢٢٠.

(٥) معاني القرآن ، للأخفش : ١ / ٢٢١.

١١

أي : شهادة بينكم شهادة اثنين ، فلما ألقى الشهادة قام الاثنان مقامها ، وارتفعا.

وقال تعالى : (شَهادَةُ بَيْنِكُمْ) [المائدة : ١٠٦] ثم قال : (اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) أي : شهادة بينكم شهادة اثنين ، فلما ألقى الشهادة قام الاثنان مقامها ، وارتفعا بارتفاعها ، كما قال : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] يريد : أهل القرية ، وانتصب القرية بانتصاب الأهل ، وقامت مقامه ، ثم عطف قوله : (أَوْ آخَرانِ) [المائدة : ١٠٦] على الاثنين (١).

ومن كتب المعاني كذلك : معاني القرآن وإعرابه ، للزجاج (٣١١ ه‍) (٢) :

وهذا الكتاب من أهم آثار الزجاج ، وقد حدد منهجه في مقدمته لهذا الكتاب حيث يقول : " وإنما نذكر من الإعراب المعنى والتفسير ؛ لأن كتاب الله ينبغي أن يتبين ، ألا ترى أن الله يقول : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) ، فحضضنا على التدبر والنظر ، ولكن لا ينبغي لأحد أن يتكلم إلا على مذهب اللغة ، أو ما يوافق نقله أهل العلم ، " (٣).

وطريقة الزجاج في كتابه : أن يبدأ عقب ذكر الآية باختيار ألفاظ منها ليحللها على طريقته في الاشتقاق اللغوي ، فيذكر أصل الكلمة ، والمعنى اللغوي الذي تدل عليه ، ثم يورد الكلمات التي تشاركها في حروفها أو بعضها ؛ ليردها جميعا إلى أصل واحد ، ويستشهد على رأيه بما يؤيده من كلام العرب شعرا أو غير شعر ، وقد يستطرد فيشرح الأمثلة التي يستشهد بها ، ثم يعود لإعراب الآية ـ إن كان فيها ما يحتاج إلى إعراب ـ وفي هذا المقام يناقش النحويين الآخرين ، فيرد رأيهم أو يؤيده ، ويورد قراءات القراء ، ويبين المعنى على هذه القراءات ، فيقبله أو يرده ، وفي هذا الكتاب تتجلى قيمة الأساس اللغوي والنحوي في فهم القرآن ، فالتفسير الذي لا يعتمد على فهم اللغة لا قيمة له ، وهذا الأساس في الواقع قيم جدا ، وقد يوجه إلى معان فرعية لم تلتفت إليها أذهان المفسرين ومن مميزات هذا الكتاب أنه راجع

__________________

(١) معاني القرآن ، للأخفش : ١ / ٢٦٦.

(٢) ت. د : عبد الجليل شلبي ، ط / ١ ، عالم الكتب ـ بيروت ١٤٠٨ ه‍ ـ ١٩٨٨ م. ويقع هذا الكتاب في ٥ مجلدات.

(٣) معاني القرآن ، للزجاج : ج ١ / ١٨٥.

١٢

المفسرين السابقين من النحويين واللغويين وأشار إلى قراءتهم ، وما يتجه عليها من المعاني (١).

ونصل الآن إلى الكتب التي وسمت باسم : " الغريب". المتأمل لهذه الكتب يجدها اهتمت بالألفاظ الغريبة ، وبعض التراكيب ، مع العناية بالقراءات ؛ لأنها أساسية في فهم المعنى ، وعرض الشواهد في ذلك من الشعر ، والحديث ، وأقوال أهل اللغة.

فمناهجها من جهة البحث وسط ؛ ولهذا صارت أحجامها ما بين صغير في الحجم ومتوسط ، وأكبرها يعادل حجم مجلد من القطع المتوسط. فمن هذه الكتب :

المفردات في غريب القرآن ، للراغب الأصفهاني (٥٠٢ ه‍):

وهذا الكتاب من أجلّ كتب الغريب وأجزلها فائدة ، فهو تفسير جامع لما ورد في القرآن الكريم من الكلمات الصعبة ، وقد رتبه بحسب الحروف الهجائية ، كما هو الشأن في المعاجم اللغوية ، وبذلك كان من السهل على الباحث أن يحصل على مراده دون تعب وفي مدة وجيزة ، وقد أدى المؤلف إلى الباحثين خدمة كبرى بهذا الكتاب الذي أصبح من المراجع المهمة التي لا يستغني عنها المشتغلون بدراسة القرآن وتفسيره ، ويتبين من هذا الكتاب أن مؤلفه كان متمكنا من اللغة تمكنا تاما ، ومحيطا بدقائقها ، وملما بالنحو والصرف إلماما جيدا ، وهو فوق ذلك وصف بأنه أحد أئمة أهل السنة والجماعة ، وردّ على المعتزلة والجبرية والقدرية (٢) ، وفنّد أقوالهم بالأدلة العقلية والنقلية (٣) ، فرحمه‌الله رحمة واسعة.

ومن أمثلة ما ورد في هذا الكتاب :

حدب : يجوز أن يكون الأصل في الحدب حدب الظهر ، يقال : حدب الرجل حدبا فهو أحدب ، واحدودب ، وناقة حدباء : تشبيها به ، ثم شبه به ما ارتفع من الأرض فسمي حدبا ، قال تعالى : (وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ) (٤) [الأنبياء : ٩٦]

حذر أو الحذر : احتراز عن مخيف ، يقال : حذر حذرا حذرته ، قال عزوجل :

__________________

(١) معاني القرآن ، للزجاج : ج ١ / ٢١ وما بعدها. (بتصرف واختصار)

(٢) انظر المفردات : مادة (جبر) ، ص ٨٥ وما بعدها.

(٣) المفردات : ص ٣ ـ ٤.

(٤) المفردات : ص ١١٠.

١٣

(يَحْذَرُ الْآخِرَةَ) [الزمر : ٩] وقرئ : وإنا لجميع حذرون ـ وحاذرون [الشعراء : ٥٦] وقال تعالى : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) [آل عمران : ٢٨] وقال عزوجل : (خُذُوا حِذْرَكُمْ) [النساء : ٧١] أي : ما فيه الحذر من السلاح وغيره ، وقوله تعالى : (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ) [المنافقون : ٤] وقال تعالى : (إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) [التغابن : ١٤] وحذار أي : احذر ، نحو مناع أي : امنع (١).

عدل : العدالة والمعادلة لفظ يقتضي معنى المساواة ، ويستعمل باعتبار المضايفة ، والعدل والعدل يتقاربان ، لكن العدل يستعمل فيما يدرك بالبصيرة كالأحكام ، وعلى ذلك قوله تعالى : (أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً) [المائدة : ٩٥].

والعدل والعديل فيما يدرك بالحاسة ، كالموزونات والمكيلات ، فالعدل هو التقسيط على سواء ، وعلى هذا روي : " بالعدل قامت السماوات والأرض" تنبيها أنه لو كان ركن من الأركان الأربعة في العالم زائدا على الآخر ، أو ناقصا عنه على مقتضى الحكمة لم يكن العالم منتظما.

والعدل ضربان : مطلق يقتضي العقل حسنه ، ولا يكون في شيء من الأزمنة منسوخا ، ولا يوصف بالاعتداء بوجه ، نحو : الإحسان إلى من أحسن إليك ، وكف الأذية عمن كف أذاه عنك ، وعدل يعرف كونه عدلا بالشرع ، ويمكن أن يكون منسوخا في بعض الأزمنة ، وهذا النحو هو المعنيّ بقوله : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) [النحل : ٩٠] فإن العدل هو المساواة في المكافأة إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ، والإحسان أن يقابل الخير بأكثر منه ، والشر بأقل منه ، ورجل عدل عادل ، ورجال عدل يقال في الواحد والجمع ، قال الشاعر :

فهم رضا وهم عدل

ويعتبر هذا الكتاب من الكتب الكبيرة نسبيا ، وهناك بعض الكتب في الغريب فيها اختصار شديد ، بحيث إنها لم تأت إلا بكلمة واحدة من المعنى الغريب ، وقد تصل إلى كلمتين ، وهذا يكون نادرا ، وخلت من إيراد الشواهد من القراءات والشعر والحديث ، وآراء أهل اللغة ، وينطبق هذا على كتاب : " العمدة في غريب القرآن"

__________________

(١) المفردات : ص ١١١

١٤

لمكي بن أبي طالب (٤٣٧ ه‍) ، ومن أمثلة ما ورد في هذا الكتاب ما يلي :

(قَسَتْ) [البقرة : ٧٤] : صلبت (١).

(الأمنية) [البقرة : ٧٨] : التلاوة (٢).

(تَظاهَرُونَ) [البقرة : ٨٥] : تعاونون.

(غُلْفٌ) [البقرة : ٨٨] : في أغطية (٣).

السابغات [سبأ : ٥] : الدروع الواسعات.

(السَّرْدِ) [سبأ : ١١] : الثقب (٤).

ومن اللافت أن حركة التأليف في هذا الميدان ما زالت مستمرة ، وستظل إلى ما شاء الله ؛ وذلك لارتباطها بالقرآن الكريم ، كتاب الله الخالد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وصدق الحق سبحانه وتعالى إذ يقول : (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً) [الكهف : ١٠٩] وقال عزوجل : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [لقمان : ٢٧]. وكان سهل بن عبد الرحمن يقول : " لو أعطي العبد بكل حرف من القرآن ألف لم يبلغ نهاية ما أودعه الله في آية من كتابه ؛ لأنه كلام الله ، وكلامه صفته ، وكما أنه ليس له نهاية فكذلك لا نهاية لفهم كلامه ، وإنما يفهم كل بمقدار ما يفتح الله عليه ، وكلام الله غير مخلوق ، ولا تبلغ إلى نهاية فهمه فهوم محدثة مخلوقة" (٥).

وإذا نظرنا إلى عصرنا هذا نجد طائفة من الكتب غير قليلة ألفت في هذا الموضوع ، لكنها ركزت على الكلمة الغريبة ليس غير ، ولم تكن تحتفل بشيء مما حوته الكتب القديمة ، مما أشرنا إليه سابقا (٦).

__________________

(١) العمدة في غريب القرآن ، لمكي بن أبي طالب : ٧٩ (ت د : يوسف المرعشلي ، ط. (١) مؤسسة الرسالة ١٤٠٤ ه‍ ـ ١٩٨١ م بيروت).

(٢) العمدة : ٧٩.

(٣) العمدة : ٧٩.

(٤) العمدة : ٢٤٥.

(٥) البرهان في علوم القرآن : ١ / ٩.

(٦) من هذه المؤلفات : معجم غريب القرآن مستخرجا من صحيح البخاري ، وضعه : محمد فؤاد

١٥

ترجمة المؤلف :

هو شيخ الإسلام ، قاضي القضاة ، زين الدين الحافظ ، زكريا بن محمد بن أحمد زكريا الأنصاري السنيكي ، القاهري الأزهري الشافعي.

ولد سنة ٨٢٦ ه‍ بسنيكة من قرى الشرقية ، ونشأ بها ، وحفظ القرآن الكريم ، وعمدة الأحكام ، وبعض مختصر التبريزي ، ثم تحول إلى القاهرة سنة ٨٤١ ه‍ ، فقطن في جامع الأزهر ، وأكمل حفظ المختصر ، ثم حفظ المنهاج الفرعي ، والألفية النحوية ، والشاطبية ، والرائية ، وبعض المنهاج الأصلي ، ونحو النصف من ألفية الحديث ، ومن التسهيل إلى" كاد" ، وأقام بالقاهرة يسيرا ، ثم رجع إلى بلده ، ودوام الاشتغال ، وجدّ فيه ، وكان ممن أخذ عنه : القاياتي ، والعلم البلقيني ، والشرف السبكي ، والشموس الوفائي ، والحجازي ، والبدرشي ، والشهاب بن المجدي ، والبدر النسابة ، والزين البوشنجي ، والحافظ ابن حجر ، والزين رضوان وآخرين ، وحضر دروس الشرف المناوي ، وأخذ عن الكافيجي ، وابن الهمام ، ومن لا يحصى كثرة ، ورجع إلى القاهرة ، فلم ينفك عن الاشتغال والإشغال مع الطريقة الجميلة والتواضع ، وحسن العشرة ، والأدب والعفة ، والإقلاع عن أبناء الدنيا ، مع التقلل ، وشرف النفس ، ومزيد العقل ، وسعة الباطن ، والاحتمال ، والمداراة ، وأذن له غير واحد من شيوخه في الإفتاء ، والإقراء ، منهم : شيخ الإسلام ابن حجر ، وتصدى للتدريس في حياة شيوخه ، وانتفع به الفضلاء طبقة بعد طبقة ، وشرح عدة كتب ، وألف مالا يحصى كثرة ، وهي أشهر من الشمس ، وقصد بالفتوى ، وزاحم كثيرا من شيوخه فيها ، ورويّته أحسن من بديهته ، وكتابته أمتن من عبارته ، وعدم مسارعته إلى الفتوى يعد من حسناته ، وله الباع الطويل في كل فن ، خصوصا التصوف ، وولي تدريس عدة مدارس إلى أن رقي إلى منصب قضاء القضاة بعد امتناع كثير ، وذلك في رجب سنة ٨٨٦ ه‍ ، واستمر قاضيا مدة ولاية الأشرف قايتباي ، ثم بعد ذلك إلى أن كف بصره ، فعزل بالعمي ، ولم يزل ملازما التدريس والإفتاء ، والتصنيف ، وانتفع به خلائق لا يحصون ، منهم ابن حجر الهيتمي ، وقال في معجم مشايخه : " وقدمت شيخنا زكريا ، لأنّه أجلّ من وقع

__________________

عبد الباقي ، وكلمات القرآن تفسير وبيان ، للشيخ حسنين مخلوف.

١٦

عليه بصري من العلماء العاملين والأئمة الوارثين ، وأعلى من عنه رويت ودريت من الفقهاء الحكماء المهندسين ، فهو عمدة العلماء الأعلام ، وحجة الله على الأنام ، حامل لواء المذهب الشافعي على كاهله ، ومحرر مشكلاته ، وكاشف عويصاته في بكرة وآصالة ، فلحق الأحفاد بالأجداد ، المتفرد في زمانه بعلو الإسناد ، كيف ولم يوجد في عصره إلا من أخذ عنه مشافهة تارة ، وعن غيره ممن بينه وبينه نحو سبع وسائط تارة أخرى ، وهذا لا نظير له في أحد من أهل عصره ، فنعم هذا التمييز الذي هو عند الأئمة أولى به وأحرى ؛ لأنه حاز به سعة التلامذة والأتباع ، وكثرة الآخذين عنه ، ودوام الانتفاع". ا ه.

توفي رحمه‌الله تعالى يوم الجمعة الرابع من ذي الحجة سنة ٩٢٥ ه‍ بالقاهرة ، ودفن بالقرافة بالقرب من الإمام الشافعي رضي الله عنه ، وجزم في" الكواكب" بوفاته في السنة التي بعدها وقال : عاش ١٠٣ سنوات. ا ه.

مصنفاته :

مصنفاته كثيرة جدا منها :

١ ـ أسنى المطالب في شرح روض الطالب في فقه الإمام الشافعي.

٢ ـ الأضواء المبهجة في إبراز دقائق المنفرجة : قصيدة.

٣ ـ تحرير تنقيح اللباب وشرحه عليه المسمى تحفة الطالب.

٤ ـ تحفة الباري على صحيح البخاري.

٥ ـ تعريف الألفاظ الاصطلاحية في العلوم.

٦ ـ حاشية على التلويح في علم الأصول.

٧ ـ الدقائق المحكمة في شرح المقدمة لابن الجزري في علم التجويد.

٨ ـ شرح إيساغوجي في علم المنطق.

٩ ـ شرح الشافية لابن الحاجب في علم التّصريف.

١٠ ـ شرح الرسالة القشيرية.

١١ ـ غاية الوصول في شرح لب الأصول.

١٢ ـ الغرر البهية في شرح البهجة الوردية في فقه الشافعي.

١٣ ـ فتح رب البرية بشرح القصيدة الخزرجية.

١٧

١٤ ـ فتح الرحمن شرح ما يلتبس في القرآن.

١٥ ـ فتح الرحمن بشرح رسالة الولي رسلان في علم التوحيد.

١٦ ـ فتح الرحمن على متن لقطة العجلان.

١٧ ـ فتح الوهاب بشرح منهاج الطلاب.

١٨ ـ فتوح منزل المباني بشرح أقصى الأماني في علوم البلاغة.

١٩ ـ اللؤلؤ النظيم في روح التعلم والتعليم في حدود العلوم وأصنافها.

٢٠ ـ المقصد لتلخيص المرشد في الوقف والابتداء.

٢١ ـ الملخص من تلخيص المفتاح في علوم البلاغة.

٢٢ ـ منهاج الطلاب في فقه الشافعي.

٢٣ ـ فتح الباقي شرح ألفية العراقي.

٢٤ ـ حاشية على تفسير البيضاوي.

٢٥ ـ شرح آداب البحث والمناظرة.

٢٦ ـ حاشية على جمع الجوامع.

٢٧ ـ كتاب الأعلام بأحاديث الأحكام.

٢٨ ـ شرح على البردة.

٢٩ ـ شرح مختصر المزني في فروع الفقه الشافعي.

٣٠ ـ شرح صحيح مسلم.

١٨

مقدّمة المؤلّف

الحمد لله الذي نوّر قلوب العارفين بكتابه العظيم ، وأطلعهم على خبايا الزوايا (١) بالبرهان القويم ، والصلاة والسلام على خير الأنام ، وعلى آله وصحبه البررة الكرام.

وبعد : فهذا مختصر من ذكر آيات القرآن المتشابهات ، المختلفة بزيادة ، أو تقديم ، أو إبدال حرف بآخر ، أو غير ذلك مع بيان سبب تكراره ، وفي ذكر أنموذج من أسئلة القرآن العزيز وأجوبتها ، صريحا أو إشارة ، جمعته من كلام العلماء المحققين ، وما فتح الله به من فيض فضله المتين ، وسميته ب" فتح الرحمن : شرح ما يلتبس في القرآن".

والله أسأل أن ينفع به ، ويجعله خالصا لوجهه الكريم ، وهو حسبي ونعم الوكيل.

__________________

(١) يعني بها أسرار القرآن الدقيقة.

١٩

الفاتحة

١ ـ قوله تعالى : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) أي : أبتدئ ، وتقدير العامل مؤخرا كما صنعت أولى من تقديمه ليفيد الاختصاص ، والاهتمام بشأن المقدم.

وإنما قدم في قوله : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) [العلق : ١] للاهتمام بالقرآن ، لأن ذلك أول نزلت.

٢ ـ قوله تعالى : (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) كرّره لأن الرحمة : هي الإنعام على المحتاج ، وذكر في الآية الأولى المنعم دون المنعم عليهم ، وأعادها مع ذكرهم بقوله :

(رَبِّ الْعالَمِينَ) إلخ.

فإن قلت : الرحمن أبلغ من الرحيم ، فكيف قدمه؟ وعادة العرب في صفات المدح الترقي من الأدنى إلى الأعلى كقولهم : فلان عالم نحرير ؛ لأنه إن ذكر الأعلى أولا ، ثم الأدنى ، لم يتجدد بذكر الأدنى فائدة ، بخلاف عكسه؟!.

قلت : إن كانا بمعنى واحد كندمان ونديم ، كما قال الجوهري وغيره فلا إشكال ، أو بأنّ (" الرَّحْمنِ") أبلغ كما عليه الأكثر ، فإنما قدّمه لأنه اسم خاص بالله تعالى كلفظ" الله".

٣ ـ قوله تعالى : (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ، كرّر (إِيَّاكَ) لأنه لو حذفه في الثاني لفاتت فائدة التقديم ، وهي قطع الاشتراك بين العاملين ، إذ لو قال : " إيّاك نعبد ونستعين" لم يظهر أن التقدير إيّاك نعبد إيّاك نستعين أو إيّاك نعبد ونستعينك!!

فإن قلت : إذا كان" نستعينك" مفيدا لقطع الاشتراك بين العاملين ، فلم عدل عنه مع أنه أخصر إلى (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ؟)

قلت : عدل إليه ليفيد الحصر بين العاملين مع أنه أخصر.

فإن قلت : فلم قدّم العبادة على الاستعانة ، مع أن الاستعانة مقدمة ، لأن العبد يستعين الله على العبادة ليعينه عليها؟

قلت : الواو تقتضي الترتيب ، أو المراد بالعبادة : التوحيد ، وهو مقدّم على الاستعانة على سائر العبادات.

٤ ـ قوله تعالى : (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ.) كرّر" الصراط" لأنه

٢٠