الترتّب

السيد محمّد رضا الشيرازي

الترتّب

المؤلف:

السيد محمّد رضا الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة هيئة الأمين صلّى الله عليه وآله وسلّم
الطبعة: ٢
الصفحات: ١٩٨

علق وجوب المهم على ترك الاهم الحاصل بالاول لزم طلب الحاصل ، أو الثاني لزم طلب الممتنع ـ لاستحالة الاتيان بالمهم حال الاشتغال بضده ـ وكذا الثالث ـ لاستحالة الاتيان به حال عدم الاشتغال بفعل وجودي أصلا ـ وان أريد المعنى الجامع بين الثلاثة ترتب المحذوران معا.

وعليه فلا فرق بين المقامين من هذه الجهة.

رابعا : ان المحذور ليس مترتبا على ثبوت الحكم على المقيد ، لعدم محذور في وجوب الشيء حال عدم الاشتغال بفعل وجودي أصلا أو حال الاشتغال بضده والامتناع في المقام ليس ذاتيا ولا وقوعيا ، بل هو امتناع بالغير ، وهو لا ينافي الامكان الذاتي والوقوعي ، ولا جواز التكليف ، بل المحذور مترتب على التقييد وهو يرتفع بالاطلاق ، فلا يكون محالا ، بل يكون ضروريا ـ وسيأتي توضيحه في أدلة القول بالامكان إن شاء الله تعالى ـ.

ثم انه لا دليل على وجود خطاب شرعي متعلق بحفظ القدرة ، لعدم وجوب مقدمة الواجب ، اللهم إلّا أن يراد الخطاب العقلي ، فتأمل.

(الصورة الثانية) أن يكون الواجب الاهم متقدما ، والمهم متأخرا بلحاظ الزمان.

وقد يعلل عدم جريان الترتب في هذه الصورة بأن الامر بأحد الضدين ـ كالطهارة الترابية ـ بعد سقوط الامر بالضد الآخر ـ كالطهارة المائية ـ لا محذور فيه ، لعدم اجتماع الفعليتين ، فلا يجري فيه بحث الاستحالة والامكان.

ويرد عليه : امكان تعاصر الفعليتين ـ بتعليق وجوب المهم أو كونه مشروطا بالوقت المتأخر على نحو الشرط المتأخر ، وذلك بغرض التحريك نحو مقدماته المفوتة ـ مثلا ـ فيجتمع في وقت واحد تحريكان متضادان نحو الاهم والمهم ـ ولو بالتحريك نحو مقدماتهما ـ ويتحقق بذلك موضوع الترتب ، فتأمل.

... هذه بعض الشروط المأخوذة في (الترتب) وهنالك شروط اخرى تطلب من المفصلات ، والله الموفق.

٤١
٤٢

ما أورد به على الترتب

وقد أورد على (الترتب) بوجوه (١).

الوجه الاول : تطارد الطلبين

الوجه الاول : ما ذكره صاحب الكفاية (قده) وهو : جريان محذور طلب الضدين في عرض واحد في المقام ، فانه وان لم يكن في مرتبة طلب الاهم اجتماع طلبهما ، إلّا أنه كان في مرتبة الامر بغيره اجتماعهما ، بداهة فعلية الامر بالاهم في هذه المرتبة وعدم سقوطه بمجرد المعصية فيما بعد ـ ما لم يعص ـ أو العزم عليها ، مع فعلية الامر بغيره أيضا ، لتحقق ما هو شرط فعليته فرضا.

(والتفريق) بين الاجتماع في عرض واحد والاجتماع كذلك ، بأن الطلب في كل منهما في الاول يطارد الآخر ، بخلافه في الثاني ، فان الطلب بغير الاهم لا يطارد طلب الاهم ، فانه يكون على تقدير عدم الاتيان بالاهم فلا يكاد يريد غيره على تقدير اتيانه وعدم عصيان أمره (مندفع) بأن عدم ارادة غير الاهم على تقدير الاتيان به

__________________

(١) لا يخفى ان بعض المناقشات المذكورة فى هذا الفصل انما سيقت لبيان ما يمكن أن يكون مدعى منكر الترتب ، ويعلم الحال فيها بما ذكر فى أدلة القول بالامكان.

٤٣

لا يوجب عدم التطارد على تقدير العصيان فيلزم اجتماعهما على هذا التقدير مع ما هما عليه من المطاردة من جهة المضادة بين المتعلقين ، مع انه يكفي الطرد من طرف الامر بالاهم ، فانه على هذا الحال يكون طاردا لطلب الضد ، كما كان في غير هذا الحال ـ انتهى.

وهذا الوجه يمكن أن يتلخص في نقاط : الاولى : فعلية الطلبين على تقدير عصيان الامر بالاهم.

أما فعلية طلب الاهم : فلان الامر لا يسقط بالعصيان أو العزم عليه ، اذ ذلك لا يوجب فوات الموضوع المسقط للتكليف.

وأما فعلية طلب المهم : فلفعلية موضوعه.

الثانية : تضاد متعلقي الطلبين ، وإلّا خرج الفرض عن موضوع المسألة ، وأمكن اجتماع الامرين بلا اشكال.

الثالثة : سراية التضاد من المتعلقين الى نفس الطلبين.

الرابعة : ان تضاد الطلبين محال ، اما لاستلزامه اللغوية ، أو لاستحالة انقداح الطلب الحقيقي المتعلق بالمحال في نفس المولى ـ على اختلاف الوجهين في طلب المحال ـ.

الخامسة : انه لا فرق في استحالة التضاد بين كون التضاد مطلقا ـ كما في الطلبين العرضيين المتعلقين بالضدين ـ أو على تقدير دون تقدير ـ كما في الطلبين الطوليين المسوقين على نحو الترتب ـ ، اذ يكفي في بطلان الملزوم ترتب لازم باطل عليه ولو في بعض الاحيان.

السادسة : لو فرض عدم التطارد بين الامرين في صورة تحقق موضوع الامر بالمهم كفى في الاستحالة طرد أحد الجانبين للآخر ، فان الامر بالمهم ولو لم يقتض طرد الامر بالاهم فرضا لكن الامر بالاهم لا محالة يقتضي طرد الامر بالمهم ، ومعنى طرده له حينئذ انه يكون مانعا عن حدوث الامر بالمهم ـ كما في

٤٤

«الوصول» ـ وسيأتي بعض البحث في ذلك إن شاء الله تعالى.

الايراد الاول

ويرد على هذا الوجه امور :

(أحدها) : ما في نهاية الدراية وهو :

(ان اقتضاء كل أمر لاطاعة نفسه في رتبة سابقة على اطاعته ، لانها مرتبة تأثيره وأثره ، ومن البديهي ان كل علة منعزلة ـ في مرتبة الاثر ـ عن التأثير .. فيكون تمام اقتضاء الامر لاثره في مرتبة ذاته المقدمة على تأثيره واثره ، ولازم ذلك كون عصيانه في مرتبة متأخرة عن الامر واقتضاءه لكون النقيضين في مرتبة واحدة ، وعليه : فاذا انيط أمر بعصيان مثل هذا الامر فلا شبهة في ان هذه الاناطة تخرج الامرين عن المزاحمة في التأثير ، اذ في رتبة الامر بالاهم وتأثيره في صرف القدرة نحوه لا وجود للامر بالمهم ، وفي رتبة وجود الامر بالمهم لا يكون اقتضاء للامر بالاهم .. فلا مطاردة بين الامرين).

وحاصل هذا الايراد دفع محذور التطارد بين الامرين بالطولية والاختلاف الرتبي فيما بين الطلبين.

وهذا الايراد يمكن تقريره في ضمن مقدمات :

الاولى : ان اقتضاء كل علة لمعلولها في مرتبة ذاتها ، لان علية العلة مرتهنة بنحو وجودها الخاص ، ونحو الوجود ليس خارجا عن نفس الوجود ، فان كل مرتبة من الوجود بسيطة ، وليس الشديد مركبا من أصل الحقيقة والشدة ولا الضعيف مؤلفا من أصل الحقيقة والضعف ، فليست المرتبة القوية من النور ـ مثلا ـ نورا وشيئا زائدا على النورية ، ولا المرتبة الضعيفة بفاقدة من حقيقة

٤٥

الصحيح منها غير مجد في المقام ، والمجدي فيه منها غير صحيح ، وهي :

الاول : تساوي نسبة الماهية الى الوجود والعدم ، وعدم كون أحد الطرفين أولى بها من الآخر ، وكذا كل معروض بالنسبة الى عوارضه المفارقة ، فانه لا يقتضي بذاته أحد طرفي السلب أو الاثبات ، لا على نحو الوجوب ولا على نحو الاولوبة ، ومثلهما العلل الاختيارية ـ ما لم تبلغ مرحلة الفعلية ـ بالنسبة الى النقيضين ، كالارادة منسوبة الى طرفي المراد.

والمراد بتساوي النسبة : تكافؤ الاحتمالين عند قصر النظر على ذات المعروض أو العلة ـ بما هي هي ـ وان لم يخل الشيء عن الوجوب بالغير أو الامتناع كذلك بلحاظ علله أو محمولاته وجودا وعدما ، فان الامكان الذاتي لا ينافي الوجوب أو الامتناع الطارئ من قبل الغير ـ المعبر عنه بالوجوب السابق ـ والوجوب بشرط المحمول ـ المعبر عنه بالوجوب اللاحق ـ بل لا يخلو الممكن منهما أبدا.

الثاني : ان نقيض وجود الشيء في مرتبة من مراتب الواقع ليس إلّا عدم وجوده في تلك المرتبة ، وكذا العكس ، بداهة عدم تحقق التعاند في غير هذه الصورة ، فوجود الناطقية في مرتبة ذات الانسان يناقضه عدم وجودها فيها ، لا عدمه في مرتبة اخرى ، ووجود المعلول في المرتبة المعلولية يناقضه عدم وجوده فيها لا عدم وجوده في رتبة العلة ، ومن هنا كان عدم الشيء في الحقيقة هو العدم المجامع ، أما العدم السابق أو اللاحق فليس عدما له في الحقيقة للبداهة ، واشتراط وحدة الزمان في التناقض.

وقد يؤيد ذلك : بأن عدم الوجود في تلك المرتبة مناقض للوجود فيها ، فلو كان عدم الوجود في غيرها مناقضا للوجود فيها لزم تعدد النقائض ، مع ان نقيض الواحد لا يكون إلّا واحدا ، وإلّا لزم عند صدق أحد طرفي المتعدد دون الآخر ارتفاع النقيضين ـ ان لم يصدق الواحد ـ واجتماع النقيضين ـ ان صدق الواحد ـ.

٤٦

وكون عدم وجود الشيء ـ مطلقا وبلا تقييده بقيد مكاني أو زماني أو نحوهما ـ مناقضا لوجوده المقيد بقيد خاص ، مع كون عدم (ذلك الوجود المقيد) مناقضا له أيضا لا يستلزم تعدد النقائض ، اذ تناقض الاول مع (الوجود المقيد بالقيد الخاص) انما هو باعتبار تضمنه للاخير ، فتناقض السلب الكلي معه تناقض بالتبع وبلحاظ احتواءه على الحصة ـ وهي سلب «الوجود المقيد المزبور» ـ وإلّا فسائر حصص السلب لا تتناقض مع الحصة الوجودية الخاصة ، لعدم وحدة المصب ، ولذا لا يكون ثمة تناف بين القضيتين المحتويتين عليهما ، ويكون من الممكن صدقهما معا.

وهذا الوجه (الثاني) ان اريد به ضرورة اتحاد الرتبة المأخوذة في متعلق النفي والاثبات ولزوم صبهما عليه بلحاظ تلك المرتبة فصحيح ، ومرجعه الى اعتبار وحدة الموضوع في التناقض ، وان اريد به ان المرتبة التي تكون قيدا لذات أحد النقيضين تكون قيدا لذات الآخر فغير صحيح.

اذ ان قولنا : (نقيض الوجود في مرتبة من مراتب الواقع ليس إلّا عدم الوجود في تلك المرتبة) ليس بمعنى (ان نقيض الوجود المقيد بالكون في المرتبة كائن معه في تلك المرتبة) ، فان المرتبة في النقيض يجب أن تكون قيدا للمسلوب لا للسلب ، فان نقيض (الوجود المرتبي) هو (عدم الوجود المرتبي) بجعل القيد قيدا للمنفي لا للنفي ، ونقيض (المقيد) هو (انتفاء المقيد) ـ على نحو الاضافة ـ لا (الانتفاء المقيد) ـ على نحو التوصيف ـ وإلّا اختلت الوحدة الموضوعية المعتبرة في التناقض ، وذلك لانحفاظ وحدة موضوع القضيتين المتناقضتين في قولنا (الوجود المرتبي متحقق) و (ليس الوجود المرتبي متحققا) ـ بجعل القيد قيدا للمسلوب ـ وعدم انحفاظ الوحدة لو كان القيد للسلب ، اذ يصبح الموضوع مقيدا في القضية الموجبة ، ومطلقا في القضية السالبة ، مضافا الى ان

٤٧

العدم لا ذات له حتى يشغل مرتبة من مراتب الواقع فلا بد ـ اذا ـ من كون المرتبة ظرفا للمنفي لا للنفي ، وكون الرفع رفعا للمقيد لا رفعا مقيدا ، ومن هنا ذكروا ان انتفاء الوجود والعدم عن الماهية ، وسائر المعاني المتقابلة عن المعروضات ـ وان كانت من لوازمها التي لا تنفك ـ ليس من ارتفاع النقيضين ، اذ ليس العدم المرتبي نقيضا للوجود المرتبي حتى لا يمكن ارتفاعهما معا ، بل نقيض (الوجود المرتبي) عدم (الوجود المرتبي) ، وهو صادق في الماهية ، لعدم أخذ الوجود في مرتبة ذات الماهية ، ولا اللوازم في حد ذات المعروضات ، فما هما نقيضان لم يرتفعا ، لصدق (عدم الوجود المرتبي) ـ بجعل الرتبة قيدا للمنفي ـ ، وما ارتفعا ليسا بنقيضين.

وهذا هو الذي ينبغي أن يكون المراد بقولهم (ان ارتفاع النقيضين عن المرتبة ليس بمستحيل ، وانما المستحيل ارتفاعهما عن الواقع مطلقا وبجميع مراتبه) فيكون اطلاق النقيضين على الوجود والعدم المقيدين من باب المسامحة وباعتبار حالهما لو أخذا مطلقين ، لا ما هو ظاهره ، اذ القاعدة العقلية لا تقبل التخصيص.

الثالث : انه لا تقدم ولا تأخر ـ بلحاظ الرتبة ـ بين ذاتي النقيضين فلا يكون وجود الشيء علة لعدمه ، ولا عدمه علة لوجوده ببديهة العقل.

الرابع : ان النقيض في نفس رتبة البديل مضافا لثالث ـ يكون علة أو معلولا أو نحوهما ـ ، بأن يكون التأخر الرتبي للثالث عن أحدهما ملازما لتأخره عن البديل ، ويكون التقدم الرتبي له عليه ملازما لتقدمه على البديل.

وما عدا الوجه الاخير لا يجدي في المقام ـ وان سلم بلحاظ الكبرى ـ وأما الوجه الاخير فيمكن الجواب عنه بأجوبة ثلاثة :

الجواب الاول :

ان الوجود هو المصحح للسبق واللحوق ، فلا سبق الا في الوجودات ، كما

٤٨

لا مسبوقية الا فيها ، فلا يكون العدم علة لعدم آخر ، ولا الوجود علة للعدم ، ولا العدم علة للوجود ، لان العدم باطل الذات ، وهالك الذات ، ولا شيئية محضة ، فكيف يؤثر في غيره ، أو يتأثر عن غيره ، أو يكون سابقا أو لاحقا ، مع أن ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له ، وما يرى من تخلل الفاء بين الاعدام ، أو بينها وبين الوجودات ـ على غرار تخللها بين نفس الوجودات ـ فانما هو بنوع من التقريب والمجاز على ما قرر في محله.

ثم انه اما أن يقال بعدم امكان تعلق الاوامر بالاعدام ـ باعتبار أنها لا تؤثر ولا تتأثر ، فيكون المطلوب ومتعلق الارادة النفسانية في الاوامر : الفعل ، كما ان المكروه ومتعلق الكراهة في النواهي : الفعل ، كما ذهب اليه السيد الوالد دام ظله في «الاصول» ـ.

أو يقال : بامكان تعلقها بالاعدام كامكان تعلقها بالوجودات ـ باعتباران الامر ناشئ عن قيام مصلحة الزامية في متعلقه ، كما أن النهي ناشئ عن قيام مفسدة الزامية في متعلقه ، ولا فرق في ذلك بين أن يكون المتعلق فعل الشيء أو تركه : كالامر بالصوم الناشئ عن قيام مصلحة ملزمة في التروك المعهودة ، ولذا يقال الصوم واجب ولا يقال ان فعل المفطرات محرم ، على ما في «المحاضرات» ـ.

(فعلى الاول) يقرر الجواب :

بأن تقدم الامر المتعلق بالمهم على طاعته ـ التي يجب أن تكون حيثية وجودية حسب هذا المبنى ـ لا يستلزم تقدمه على نقيضها العدمي ، لما ذكر من أن السبق واللحوق لا مسرح له الا في الوجودات. مع أن اطلاق كون الطاعة في رتبة متأخرة عن ذات الامر محل تأمل ، فان الوجود الامكاني تابع ـ في حدوثه وبقاءه ـ لعلله الخاصة التي بها وجوده يجب ، والامر وان أمكن أن يكون علة ـ على ما في النهاية ـ أو جزء علة ـ على ما هو الاصح ـ للطاعة إلّا أنه يمكن أن تكون العلة غيره

٤٩

أيضا ، فلا يتم الاطلاق المزبور بلحاظ الكبرى ، وعليه ينبغي تقييد التأخر بوقوع الامر في سلسلة عللها الوجودية.

(وعلى الثاني) يقرر الجواب :

بأن الطاعة لا تخلو من أن تكون حيثية وجودية أو عدمية ، فان كانت حيثية وجودية فقد ظهر الحكم فيها مما سبق ، وان كانت حيثية عدمية فلا تقدم للامر عليها كي يستدل بذلك على تقدمه على نقيضها الوجودي ـ وهو العصيان ـ باعتبار اتحاد رتبة النقيضين.

الجواب الثاني :

ان انتزاع مفهوم معين من شيء خاص لا يكون اعتباطا ، بل لا بد من أن يكون في منشأ الانتزاع خصوصية معينة بها صح الانتزاع ، وإلّا لانتزع كل شيء من كل شىء ، فانتزاع مفهوم العلية من العلة لا يكون إلّا لوجود خصوصية فيها ـ وهي كون وجوب المعلول قائما بها مستندا اليها ودورانه مدارها وجودا وعدما ـ وهكذا سائر المفاهيم الانتزاعية كالفوقية والتحتية والمحاذاة ونحوها. والمعية والسبق واللحوق مفاهيم انتزاعية يحتاج انتزاعها الى مصحح ، هو تلك الخصوصية الكامنة في منشأ الانتزاع ، فمجرد كون الشيء بديلا للنقيض لا يصحح تسرية ما اتصف به اليه ما دام فاقدا للخصوصية المصححة للانتزاع.

نعم لو كان البديل واجدا ـ كالنقيض ـ لتلك الخصوصية صح الانتزاع منه ـ كما صح الانتزاع من النقيض ـ لا لكونه بديلا للنقيض ، بل لكونه واجدا للملاك كالنقيض.

والى هذا أشار المحقق الاصفهاني في نهاية الدراية بقوله (ان تأخر الاطاعة ـ بمعنى الفعل ـ عن الامر لكونه معلولا له لا يقتضي تأخر العصيان النقيض لها عن الامر ، اذ ليس فيه هذا الملاك ، والتقدم والتأخر لا يكونان إلّا لملاك يوجبهما

٥٠

فلا يسري الى ما ليس فيه الملاك).

واستشهد على ذلك في موضع آخر (بأن الشرط وجوده متقدم بالطبع على مشروطه قضاء لحق الشرطية ، وعدمه لا تقدم له بالطبع على مشروطه ، لان التقدم بالطبع لشيء على شيء بملاك يختص بوجوده أو عدمه لا أن ذلك جزاف بخلاف التقدم الزماني والمعية الزمانية فان نقيض المتقدم زمانا اذا فرض قيامه مقامه لا محالة يكون متقدما بالزمان. ولذا قيل : ان ما مع العلة ليس له تقدم على المعلول ، اذ التقدم بالعلية شأن العلة دون غيره ، بخلاف ما مع المتقدم بالزمان فانه أيضا متقدم لانه في الزمان المتقدم. وبالجملة : التقدم بالعلية أو بالطبع الثابت لشيء لا يسري الى نقيضه ، ولذا لا شبهة في تقدم العلة على المعلول ، لا على عدمه كما أن المعلولين لعلة واحدة لهما المعية في الرتبة وليس لنقيض أحدهما المعية مع الآخر كما ليس له التأخر عن العلة) انتهى.

ويلاحظ عليه :

١ ـ عدم معقولية اشتراك الملاك وما يتبعه من الوصف الانتزاعي بين النقيضين ـ ولو في الزمانيات ـ لما سبق من أنه لا مسرح للسبق واللحوق الا في الوجودات إلّا أن يكون الكلام مسوقا على نحو التقريب والمجاز.

٢ ـ لو سلم الاشتراك فهو لا يختص بالسبق الزماني ، بل يشمل أيضا السبق بالرتب الحسية ، ولعل المراد التمثيل لا الحصر.

٣ ـ ان تقدم مفاد ليس التامة على الناقصة يصير التعليل بفقدان الذات أولى من التعليل بفقدان الوصف فيما نحن فيه ف (ليس النقيض العدمي) ـ كما هو مفاد الجواب الاول ـ مقدم على (ليس ذا ملاك) ـ كما هو مفاد الجواب الثاني ـ ولذا يعلل عدم العارض عند عدم المعروض به ، لا يفقد المقتضي أو وجود المانع عن العروض ـ اللذين هما مفاد كان الناقصة ـ لانه لا يكون إلّا بعد الفراغ عن ثبوت

٥١

أصل الشيء ـ الذي هو مفاد كان التامة ـ ومن هنا ذكروا : أن (هل البسيطة) مقدمة على (ما الحقيقة) لتقدم منشأ الانتزاع على العنوان الانتزاعي ، وعلى (هل المركبة) لان ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له.

نعم : يصح هذا الجواب (الثاني) لو سيق على نحو الترتب على الجواب الاول ، بأن يقال : لا ذات للنقيض العدمي ، ومع التسليم : فليس ذا ملاك ، كما لا يخفى.

الجواب الثالث :

ان المعية بين النقيضين كما تقتضي اتحادهما في الرتبة كذلك تقتضي وحدة سنخ الملاك الذي بكون فيه التقدم والتأخر الرتبيان ، وحينئذ ينتقض ذلك بالتقدم بالعلية ، فان العلة متقدمة على المعلول ، وملاك هذا التقدم : اشتراكهما في وجوب الوجود مع كون وجوب العلة بالذات ووجوب المعلول بالغير ، فلو كان نقيض المعلول متأخرا عنها بالعلية لزم اجتماع النقيضين لفرض تحقق العلة التي تفيض الوجوب عليهما ، وهو محال ، مضافا الى انه لا بد أن يكون لكل علة طبيعية خصوصية بحسبها يصدر عنها المعلول المعين ، ولا يمكن فرض خصوصية في العلة تكون مصدرا للعدم كما هي مصدر للوجود ـ وكذا ينتقض بالتقدم بالتجوهر ، وهو تقدم أجزاء الماهية ـ من الجنس والفصل ـ عليها ، وملاكه اشتراك المتقدم والمتأخر في تقرر الماهية مع توقف تقرر المتأخر على المتقدم ، فلو كانت نقائض أجزاء الماهية متقدمة عليها بالتجوهر لزم دخول النقائض في قوام الماهية ، وهو بديهي البطلان ـ فتأمل.

هذا كله (ان) اريد بالطاعة : نفس الفعل ، وبالعصيان : نقيضه كما هو مقتضى الاستدلال على اتحاد رتبتهما بمقولة (النقيضان في رتبة واحدة) ـ اذ النقيضان هما نفس الفعل والترك بما هما هما ، لا بما أنهما موصوفان بوصف زائد على ذاتهما ، وان كان في اطلاق الطاعة والمعصية حينئذ عليهما نوع مسامحة ، اذ ليس مطلق

٥٢

الفعل والترك : طاعة ومعصية على ما سيأتي إن شاء الله تعالى ـ.

وقد تحصل من ذلك : ان تأخر الطاعة عن الامر ـ لكونه علة لها أو جزء العلة ، على ما تقدم من الوجهين ـ لا يقتضي تأخر العصيان عنه.

وأما (ان) اريد الطاعة والمعصية اللتان تنتزعان من موافقة المأتي به للمأمور به وعدمها ـ سواء كان العدم على نحو السالبة بانتفاء الموضوع بأن لا يكون هناك مأتي به ، أو السالبة بانتفاء المحمول ، بأن يكون المأتي به غير موافق للمأمور به ـ فمع أنهما ليسا بنقيضين ، اذ هما من قبيل العدم والملكة ، ومع ان كون النقيضين في رتبة واحدة ممنوع ، لكن مع ذلك يصح القول بتأخرهما عن الامر ، كما قال المحقق الاصفهاني في (النهاية) :

(الاطاعة والمعصية الانتزاعيتان لهما التأخر الطبعي عن الامر ، لوجود الملاك لا لكون أحدهما نقيض ما فيه الملاك ، فان ملاك التأخر والتقدم الطبعيين هو انه يمكن أن يكون للمتقدم وجود ولا وجود للمتأخر ، ولا يمكن أن يكون للمتأخر وجود الا والمتقدم موجود ، وهنا كذلك اذ يستحيل تحقق عنوان الاطاعة الا مع تحقق الامر ، ولكن يمكن أن يتحقق الامر ولا اطاعة ، وكذلك يستحيل تحقق العصيان للامر بلا تحقق للامر ، ويمكن تحقق الامر ولا عصيان) انتهى.

وما ذكره من تقدم الامر على طاعته وعصيانه ـ بما هما كذلك ـ متين ، وذلك لتقومهما (بتحقق) التكليف المولوي ـ أولا ـ فمع عدم تحققه لا يكون الفعل أو الترك طاعة أو عصيانا ، بل تجريا أو انقيادا ، وحرمة التجري ـ لو سلمت ـ ليست بلحاظ التكليف المتجرى عليه ، اذ لا واقعية له ، بل باعتبار المخالفة الحقيقية للتكليف الواقعي بعدم هتك حرمة المولى والطغيان عليه.

(وبالالتفات) الى التكليف ـ ثانيا ـ ، فمع عدمه لا طاعة ولا عصيان ـ مع عدم التقصير ، فان الامتناع بالاختيار لا ينافيه ـ.

٥٣

وكون التكليف الواقعي ثابتا في حق غير الملتفت ـ لما تقرر من قاعدة الاشتراك ـ لا ينافي عدم صدقهما فى حقه.

(وبالانبعاث) عن بعث المولى. والانزجار عن زجره ـ في الطاعة ـ ـ ثالثا ـ أما لو كانا بدافع آخر فقط أو مشتركا بأقسامه ، فلا تصدق الطاعة ، وسقوط التكليف بالانبعاث ـ لا عن بعثه ـ أو الانزجار ـ لا عن زجره ـ في غير التعبديات ليس لصدق الطاعة ، بل لتحقق الغرض.

فتحصل من ذلك : تأخر الطاعة والعصيان عن الامر ، بأكثر من مرتبة واحدة ومن هنا قد يستبدل بتعليق (الامر بالمهم على العصيان بمعنى مجرد الترك) تعليقه على (العصيان الانتزاعي) المتأخر عن الامر طبعا ، ويستغنى عن مقولة كون النقيضين في رتبة واحدة ، في ايراد النهاية على ما ذكره صاحب الكفاية (قده) ، فلا يتم ما ذكر في رد الايراد لثبوت تأخر العصيان عن الامر بالاهم ، لا لاتحاد رتبة النقيضين ، بل لما سبق.

فتحصل من كل ما سبق :

ان مقولة كون النقيضين في مرتبة واحدة تحتمل عدة معان والثلاثة الاول منها لا تجدي في المقام ، ولو سلمت في حد ذاتها والرابع هو المجدي فيه.

وحينئذ فاما أن يراد بالطاعة والمعصية : نفس الفعل والترك أو يراد الطاعة والمعصية الانتزاعيتان.

فان أريد الاول : ورد على مقولة (النقيضان في رتبة واحدة) ـ التي استند المستدل اليها لاثبات اتحاد رتبة الطاعة والمعصية ـ :

١ ـ ان مسرح السبق واللحوق يختص بالامور الوجودية والطاعة ان كانت حيثية وجودية فتقدم الامر عليها لا يستلزم تقدمه على نقيضها العدمي ـ أي العصيان ـ مع أن تقدمه عليها ليس مطلقا ، اذ لا يتم إلّا في صورة وقوع الامر في سلسلة عللها

٥٤

الوجودية وان كانت حيثية عدمية فلا تقدم للامر عليها كي يسري هذا الوصف الى نقيضها الوجودي ـ أي العصيان ـ.

٢ ـ ان التقدم والتأخر لا يكونان إلّا بملاك يقتضيهما ، فلا يسريان الى النقيض الفاقد للملاك.

٣ ـ وان الكلية المذكورة تنتقض بالتقدم بالعلية وبالتجوهر.

(وان أريد) الطاعة والمعصية الانتزاعيتان صح ما ذكر من تقدم الامر ـ تقدما بالطبع ـ عليهما.

تزاحم الاقتضاءين فى فرض التعليق

(ثانيا) : ان ما ذكر من خروج الامرين ـ بالتقييد ـ عن التزاحم في التأثير للاختلاف الرتبي بينهما انما يتم لو كان الامر بالمهم مشروطا ، أما لو فرض كونه معلقا ـ بأن يكون التقييد للمادة ، لا للهيئة ـ وسبق الامر العصيان فيتزاحم الاقتضاء ان من دون تقدم وتأخر بلحاظ الرتب ، اذ المتأخر عن العصيان حينئذ هو المطلوب لا الطلب.

ولا يقدح في كونه معلقا اناطته بأمر مقدور بذاته ـ وان كان غير مقدور بقيده لتقيده بالزمان المتأخر ـ اذ لا فرق في المعلق بين اناطته بأمر غير مقدور بذاته ـ كالوقت ـ أو بأمر مقدور بذاته ـ كالعصيان ـ ، لوحدة الملاك ، خلافا لما نسب الى بعضهم من اشتراط المقدورية بالذات وسيأتي تمام الكلام في ذلك في أدلة القول بالامكان إن شاء الله تعالى.

ملاك التزاحم المعية الوجودية

(ثالثا) : ما في نهاية الدراية وهو :

٥٥

(ان ملاك التزاحم والتضاد في مورد ليس المعية الرتبية بل المعية الوجودية الزمانية ، فمجرد عدم كون أحد المقتضيين في رتبة المقتضي الآخر لا يرفع المزاحمة بعد المعية الوجودية الزمانية ، بل اللازم بيان عدم منافاة أحد الاقتضائين للآخر لمكان الترتب ، لا عدم المنافاة ، للتقدم والتأخر الرتبيين ، وما ذكر من عدم اقتضاء الامر بالاهم في رتبة وجود الامر بالمهم معناه عدم معية الاقتضائين رتبة ، لا سقوط أحد الاقتضائين عن الاقتضاء والتأثير مع وجود الاقتضاء الآخر ، والفرض ان مجرد تأخر الامر بالمهم عن الامر بالاهم بحسب الرتبة مع المعية في الاقتضاء وجودا زمانيا لا يدفع الاستحالة ، اذ مناطها هي المعية الكونية الزمانية في المتزاحمات والمتضادات ، وليست الرتبة من المراتب الوجودية).

وهذا الجواب وان تم بلحاظ الكبرى ، لكن لا يخفى عدم تحقق الموضوع ـ وهو التضاد ـ في المقام (لا) لما في التهذيب من خروج الاحكام عن تقابل التضاد بأخذ قيد التعاقب على موضوع واحد فيه ، اذ المراد من الموضوع هو الموضوع الشخصي لا الماهية النوعية ، ومتعلقات الاحكام لا يمكن أن تكون هي الموجود الخارجي فلا معنى للتعاقب وعدم الاجتماع فيها. انتهى.

(وذلك) لعدم دخل طبيعة المعروض في تحقق التضاد وعدمه ، بل طبيعة العارض هي الملاك ، فالمعروض المتصف بوصف خاص يستحيل أن يعرض عليه ما يضاده من الاوصاف وان كان المعروض كليا ، لعدم حصول ميز له بذلك من هذه الجهة في نظر العقل ، ولان الصفة لا تحمل على الشيء إلّا اذا كانت فيه خصوصية بها يصح الحمل ، وإلّا لحمل كل شيء على كل شيء ، ومع وجود تلك الخصوصية يستحيل وجود ما يضادها فيه ، فلا يمكن حمل الضد عليه ، ولا فرق في ذلك بين كون المعروض ذهنيا أو خارجيا ، اذ الذهن مرتبة من مراتب الخارج ، وكونه ذهنيا انما هو بالقياس ، فكما أن السواد والبياض صفات للوجودات العينية ، كذلك

٥٦

الكلية والجزئية والمعرفية ونحوها صفات للوجودات الذهنية التي هي مرتبة من مراتب الخارج.

وعلى هذا فالتضاد يعم :

(ما) كان ذا وجود محمولي في العين ـ كالسواد والبياض ـ

و (ما) كان ذا وجود رابط فيه ـ كالزوجية والامكان مما كان من المعقولات الثانية الفلسفية التي يتحقق عروضها في الذهن والاتصاف بها في الخارج ، وان لم تنحصر فيه ، لشمولها للمنطقية.

و (ما) كان ذا وجود ذهني ـ كالكلية والجزئية (بناء على كونهما ضدين) ونحوهما من المعقولات الثانية المنطقية التي يكون الاتصاف بها ـ كعروضها ـ في الذهن.

(نعم) يصح ما في التهذيب لو أريد به : أن وجود الشيء رهين بتشخصه ، فان الشيء ما لم يتشخص لم يوجد ، ومع عدم وجوده يستحيل أن يكون معروضا للعوارض ، فلا تجري عليه أحكام التضاد ـ من باب السالبة بانتفاء الموضوع ـ وبعبارة أخرى : الماهية بما هي هي أمر اعتباري فلا يتعاقب عليها الضدان ، بل المعروض الماهية بما هي موجودة فتأمل.

هذا ويمكن الاستدلال على عدم التضاد في المقام بأن الاحكام الخمسة وما تنطوي عليه من بعث وزجر واقتضاء وتحريك أمور اعتبارية لا تحقق لها الا في وعاء الاعتبار لكون حدوثها منوطا بحدوث الاعتبار ، وبقائها منوطا بدوام الاعتبار ، ولا شيء من الحقائق التكوينية ـ متأصلة كانت أو انتزاعية ـ كذلك.

ومن الواضح : عدم تحقق التضاد في الامور الاعتبارية ـ بالمعنى الاخص للاعتبار ، لا بالاعم الشامل للانتزاعيات ـ لكون مسرحه ـ كالتماثل غيرها ، لشهادة الوجدان بعدم التضاد بين الاحكام ـ بلحاظ ذاتها ـ لو جردت عما يكتنفها في طرفي

٥٧

المبدا والمنتهى من الملاك ، والارادة ، ومقدماتها ، والجري العملي.

وعليه فيكون فرض المعية الوجودية غير قادح في جواز الاجتماع ـ ان قصر النظر على الامر واقتضائه ـ فلا بد أن يراد ـ مما في النهاية من أن المعية الوجودية بين الامرين تستلزم التضاد بينهما ـ التضاد بالعرض ، فان التضاد قد يكون بالذات ـ وهو ما كان التضاد فيه ذاتيا ناشئا من ذات المتضادين وقد يكون بالتبع ـ وهو ما كان التضاد فيه غيريا معلولا لعلة خارجة عن الذات ، وقد يكون بالعرض وهو ما وصف بالتضاد تجوزا لملابسة بينه وبين ما اتصف ـ حقيقة ـ به.

والاول : كالتضاد بين المتعلقين.

والثاني : كالتضاد بين الارادتين المتعلقتين بهما.

والثالث : كالتضاد بين الامرين المنصبين عليهما.

وحينئذ فيقرر الايراد : بأن التعدد الرتبي بين المتعلقين أو الارادتين لا يدفع محذور التضاد بعد المعية الوجودية المفروضة بينهما.

ثم ان ما اعتبره في النهاية من (المعية الزمانية) في التضاد لعله باعتبار المورد ، أو يراد به مطلق المعية الوجودية وان لم تكن في افق الزمان ـ تجوزا ـ وإلّا فالتجرد لا يسوغ التضاد ـ كما ألمع اليه السيد الوالد دام ظله في الاصول ـ ، ولذا يستحيل اتصاف المجرد بالاوصاف المتضادة كاستحالة اتصاف المادي بها.

النقض بأخذ العلم بالحكم موضوعا لحكم ضده

(رابعا) : لو كان الاختلاف الرتبي مجديا في دفع التطارد لاجدى في أخذ العلم بالحكم موضوعا لحكم ضده لتأخره عنه برتبتين ـ لتأخر العلم فيما نحن فيه عن معلومه والمحمول عن موضوعه ـ فيخرج الحكمان عن المزاحمة في

٥٨

التأثير بنفس التقريب المتقدم.

ووحدة سنخ الحكم ، وتعدد المتعلق في الامر الترتبي بخلاف مورد النقض لا تصلح فارقا ـ على فرض التسليم ـ ، بعد وحدة الملاك ، اذ كما ان الحكمين في مورد النقض متضادان كذلك الحكمان في مورد الترتب ـ لسراية التضاد من المتعلقين الى الحكمين ـ فالتعدد الرتبي ان أجدى في دفع التضاد بين الحكمين أجدى في مورد النقض أيضا ، وان لم يجد لم يجد في الامر الترتبي أيضا.

ويرد عليه :

عدم تسليم الملازمة ، لعدم انحصار محذور الاخذ المذكور في تزاحم الاقتضائين كي ينظر به المقام ، بل يمكن أن يكون استلزامه للغوية ـ مثلا ـ ، لامتناع تصديق المكلف به ، لفرض علمه بالضد فلا يمكن جعله بداعي جعل الداعي الامتثالي ، لعدم ترتبه عليه ، وما لا يترتب على الشيء في علم الجاعل لا يمكن أن يكون غرضا للجعل.

نعم لا بأس بجعله بدواع أخر ، على ما حرر في محله ، فما نحن فيه من صغريات الردع عن العمل بالقطع ، واستحالته نابعة من استحالته.

(اللهم) إلّا أن يقال بجريان محذور اللغوية في المقام أيضا ، لامتناع تصديق المكلف بأمرين متواردين على متعلقين متضادين ، لمكان التضاد القائم بينهما ، فيلزم من منع تسويغ أحدهما ـ وهو أخذ العلم بالحكم موضوعا لحكم ضده ـ منع تسويغ الآخر ، وبعبارة اخرى : كلا المقامين من مصاديق توجيه حكمين متضادين الى المكلف فتكون المحاذير مشتركة بينهما ، لان حكم الامثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد.

(لكن) هذا الكلام لا يخلو من نظر على ما سيأتي في أدلة القول بامكان الترتب إن شاء الله تعالى.

٥٩

النقض بتقييد الامر بالمهم بفعلية الامر بالاهم

(خامسا) : ما في (مباحث الدليل اللفظي) من النقض بما اذا قيد الامر بالمهم بفعلية الامر بالاهم ، فانه فيه تتعدد رتبة الامرين واقتضائهما ، مع عدم ارتفاع غائلة تعلق الامر بالضدين بذلك.

ويرد عليه نظير ما ورد على سابقه بتقريب :

ان سد باب العدم على (تقييد الامر بالمهم بفعلية الامر بالاهم) من ناحية تطارد الامرين ، بتعدد الرتبة لا يجدي في جوازه ، وان أجدى في (التقييد بالعصيان) فرضا لان وجود الشيء مشروط بسد جميع أبواب العدم عليه ـ فان تحقق الشيء ـ مرهون بوجود علته التامة ، ولا تحصل إلّا بسد جميعها عليه بخلاف عدمه الذي يكفي فيه انفتاح باب واحد من أبواب العدم ، ولو مع سد جميع الابواب الأخر فسد باب العدم على (التقييد بالفعلية) من ناحية تزاحم الاقتضائين بتعدد الرتبة لا يجدي ما لم ينسد باب العدم من النواحي الأخر ، كلزوم اللغوية ، اذ يكون الامر بالاهم لغوا ، لعدم صلاحيته للمحركية والباعثية ، فيلغو جعله ، بل يستحيل انقداح الداعي لجعله في نفس المولى لوجود المانع عن الانبعاث نحوه عند فعليته ـ وهو الامر بضده ـ والمانع الشرعي كالعقلي فكما يستحيل انقداح الداعي الحقيقي للامر الجدي بالمحال العقلي ، كذلك يستحيل انقداح الداعي للامر بالمحال الشرعي.

وعليه : فلا يصح النقض على (الامر الترتبي المنوط بالعصيان) ب (الامر الترتبي المنوط بالفعلية) لامكان التفريق بينهما بامكان الاول ـ لاجداء تعدد الرتب وعدم اللغوية ـ واستحالة الاخير ـ للغوية ـ.

وسوق باقي الكلام فيه كسوقه فيما تقدمه.

٦٠