الترتّب

السيد محمّد رضا الشيرازي

الترتّب

المؤلف:

السيد محمّد رضا الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة هيئة الأمين صلّى الله عليه وآله وسلّم
الطبعة: ٢
الصفحات: ١٩٨

وهذا الجواب لا يخلو من تأمل ، وذلك لان القيد المأخوذ في القضية يجب أن يؤخذ قيدا للمنفي في القضية المناقضة لها ، لا قيدا للنفي ، وذلك لاشتراط وحدة موضوع القضيتين ، في تحقق التناقض ، ولا تتم الوحدة المذكورة إلّا بذلك كي يتوارد النفي والاثبات على مصب واحد.

ومن هنا ذكروا جواز ارتفاع النقيضين عن المرتبة الماهوية ، لعدم استلزامه ارتفاع النقيضين ، اذ نقيض الوجود ـ المطلق أو المقيد ـ في المرتبة عدم الوجود في المرتبة على أن يكون الظرف قيدا للمنفي لا للنفي ، فنقيض وجود الكتابة المرتبية هو : عدم الكتابة المرتبية لا عدم الكتابة المرتبي ، فكذب الاولى لا يستلزم صدق الاخيرة لعدم كونها نقيضا لها ، فما هما نقيضان لم يرتفعا ـ لصدق عدم الكتابة المرتبية ـ وما ارتفعا ـ وهما الاولى والاخيرة ـ ليسا بنقيضين.

وعليه : يكون نقيض (ترك المهم حال ترك الاهم) ـ المعروض للحرمة ـ هو ترك (ترك المهم حال ترك الاهم) ـ بجعل الظرف قيدا للترك المدخول لا الداخل ـ فيكون واجبا ـ بناء على اقتضاء حرمة الشيء وجوب ضده ـ ومن الواضح أن (ترك المهم حال ترك الاهم) مفاده الجمع بين التركين ، فيكون مفاد ترك (ترك المهم حال ترك الاهم) ترك الجمع بين التركين ، وهو كما يتم بفعل المهم كذلك يتم بفعل الاهم ، فيكون لترك (ترك المهم حال ترك الاهم) لا زمان كما ذكره المحقق التقي (قدس‌سره).

والاقرب في رد اشكال تخييرية الوجوب ما سيأتي في الجهة الثالثة ، من الفرض الخامس من (ما يناط به الامر بالمهم) إن شاء الله تعالى.

ثم ان مصداقية الفعل لترك الترك غير تامة لما ذكره السيد الوالد ـ دام ظله ـ في مبحث (ثمرة المقدمة الموصلة) من (الاصول) وهو استحالة اتحاد الحيثية الوجودية مع الحيثية العدمية ، فلا تكون إحداهما فردا للاخرى.

١٠١

الوجه الرابع

(الوجه الرابع) ـ مما أورد به على الترتب ـ أن الامر بالشيء يقتضي حرمة ضده العام ، فالامر بالاهم يقتضي حرمة نقيضه ، والمهم ان لم يكن مصداقا للنقيض فهو ملازم له ـ ولو في الجملة ـ ولا يعقل اختلاف المتلازمين في الحكم وان لم نقل بسراية حكم أحدهما الى الآخر.

والجواب : أما عن مسلك (المصداقية) فبما مر من عدم معقولية مصداقية الوجود للعدم والعدم للوجود ، لاختلاف مزاج الحيثيتين ، فان الوجود عين منشئية الآثار وحيثية ذاته حيثية طرد العدم والإباء عن العدم ، ومن المعلوم أن فردية شيء لشيء متوقفة على الاتحاد بينهما ، فان الفرد هو مصداق الطبيعة بالحمل الشائع ، وكل طبيعة تؤخذ ـ لا محالة ـ في فردها ، فكيف يكون أحدهما فردا للآخر؟

وأما عن مسلك (السراية) فبأنه اما أن يراد السراية في مرحلة الملاك ، أو السراية في مرحلة الارادة ، أو السراية في مرحلة الجعل والاعتبار.

أما الملاك فهو صفة تكوينية في الشيء فلا يسري الى غيره وان كان ملازما له ، فاذا فرض قيام المصلحة بشرب المريض للدواء مثلا فلا يستلزم ذلك سرايتها الى الملازمات التكوينية للشرب ، التي لا تدخل ـ لكثرتها ـ تحت العد والاحصاء.

ومن هنا يمكن أن يقال بتعلق الملاكات ـ كالاوامر ـ بالطبائع لا بالافراد ، حتى أنها لو فرضت مجردة عن الخصوصيات لكانت واجدة للملاك ، وكفى الاتيان بها كذلك ، اذ ما دام الملاك قائما بالطبيعي فلا يسري منه الى الخصوصيات الفردية ، وان لم يكن التفكيك بينه وبينها بمقتضى ان الشيء ما لم يتشخص لم يوجد.

١٠٢

ونظير ما نحن فيه ما ذكروه من أن مصاحب العلة ليس بعلة ، ومصاحب المعلول ليس بمعلول ، اذ لا تكون العلية والمعلولية الا بملاك يقتضيهما ، والمصاحبة الوجودية لا تستلزم المشاركة الملاكية.

ومنه ينقدح النظر في السراية في مرحلة الارادة ومبادئها اذ الارادة تابعة للملاك ، فاختصاصه يستلزم اختصاصها.

وكذا السراية في مرحلة الجعل والاعتبار ، وذلك لتبعية الجعل للارادة ، كما لا يخفى.

اللهم إلّا أن يقال : بكفاية نفس (الملازمة) وعدم الحاجة الى ملاك كامن في ذات الملازم. لكن هذا القدر يثبت امكان تعلق الارادة ومبادئها بالملازم ، ولا يثبت كلية الملازمة ، فتدبر.

وقد يقرر النظر في السراية في مرحلة الجعل بأنه ان اريد بها (الاستتباع القهري) ـ المتحقق بين جعل الحكم على أحد المتلازمين وجعله على الآخر ـ فهو غير معقول ، اذ لا يكون الاستتباع الا في الاعمال غير الاختيارية ، أو الاختيارية غير المباشرية ، أما الافعال الاختيارية المباشرية فانها لا تكون معلولة لافعال مباشرية أخر ، لتبعيتها في وجودها لمبادئ الاختيار ـ من التصور والتصديق ونحوهما ـ وإلّا لم تكن اختيارية ، والانشاء فعل اختياري مباشري للجاعل ، فلا يكون انشاء الحرمة على النقيض مستتبعا لانشاء حكم مماثل على الملازمات.

وان أريد بها (الداعوية الاختيارية) ففيه : ان العمل الاختياري لا يكون إلّا لغاية يراد تحقيقها به ، فان وجود الشيء رهين بوجود علله الاربع : المادية والصورية والفاعلية والغائية ، فمن دون وجود العلة الغائية لا يمكن وجود الشيء ، اذ العلة الغائية علة فاعلية العلة الفاعلية ، وانشاء الحكم على الشيء ان كان كافيا في التحريك اليه أو الزجر عنه فلا تبقى حاجة الى الامر بالملازمات أو النهي عنها ، لكونهما

١٠٣

لغوا وعبثا ، وان لم يكن كافيا في التحريك أو الردع فالامر بالملازمات أو النهي عنها لا يكون مؤثرا في التحريك أو الردع ، فيكون الامر والنهي بلا غاية يقتضيانها ، وهو محال.

وفيه : انه يكفي في دفع اللغوية : التأكيد ، لامكان توقف الباعثية على تعدد الامر ، وعدم كفاية الامر الواحد في ذلك ، ونظيره ـ من بعض الوجوه ما ذكروه من امكان كون العمل مستحبا وتركه مكروها ، كصلاة الليل ، والسواك والزواج ، والرداء للامام ، والتحنك للمصلي ، وتزين المرأة في الصلاة ، ونحو ذلك ، ونظيره الحكم على الضدين اللذين لا ثالث لهما ونحوهما كتعدد الثياب التي ترتديها المرأة في الصلاة وموازاة العنق للظهر في الركوع ، وكون الكفن قطعة واحدة غير مخيطة ، وكبعض الفضائل الاخلاقية الى غير ذلك.

هذا ولكن لا يخفى أن (الامكان) أعم من (الوقوع) فلا يدل امكان تعدد الحكم في أطراف التلازم على وقوعه ، ومع احتمال الجعل وعدمه يكون الاصل العدم.

ثم انه يرد أيضا على مسلك (السراية) استلزامه لانحصار الاحكام في الواجب والحرام وانتفاء الثلاثة الأخر ، وهذا نظير ما قرر في شبهة الكعبي ، فتأمل.

وأما مسلك (عدم اختلاف المتلازمين في الحكم) فقد أجاب عنه المحقق الاصفهاني في (النهاية) بقوله :

(ان الكلام في الضدين اللذين لهما ثالث ، وإلّا فوجود أحدهما ملازم قهرا لعدم الآخر ، وبالعكس ، فلا معنى للحكم على ملازمه رأسا ، وفيما كان لهما ثالث وان سلمنا التلازم إلّا أن المانع من اختلاف المتلازمين في الحكم اللزومي : لزوم التكليف بما لا يطاق ، وهذا المحذور غير جار هنا ، لان الاتيان بالاهم رافع لموضوع امتثال الامر بالمهم ، وبعد اختيار عصيان الامر بالاهم وثبوت العصيان

١٠٤

ليس الحكم اللزومي بالمهم إلقاء له فيما لا يطاق ، فاختلاف المتلازمين انما يضر فيما اذا لم يكن هناك ترتب).

هذا ولكن للقائل بامتناع الترتب أن يقول : انه لا فرق في تحقق محذور (التكليف بما لا يطاق) بين كونه مطلقا أو على تقدير دون تقدير ، وبين تعليقه على ما لا يستطيع المكلف هدمه وما يستطيع ، فاذا كلف المولى عبده بالجمع بين الانتصاب والانتكاس ـ مثلا ـ في حالة عصيان الامر عد لاغيا وموقعا للمكلف فيما لا يطاق ، وان كان ذلك على تقدير اختياري ، وقد مضى طرف من الكلام في ذلك في الدليل الاول مما استدل به للامتناع ، فراجع.

مع أن ما ذكر في (النهاية) وان فرض كونه وافيا بدفع هذا الاشكال إلّا أنه لا يفي بدفع الاشكال في مرحلة (الارادة) اذ لا يمكن تخالف ارادتين منتهيتين الى الحكم بالنسبة الى أمرين متلازمين ، بأن يكون أحدهما مراد الوجود والآخر مراد العدم ، لاستحالة تحقيق مراد المولى في هذه الصورة ، وما يستحيل مراده تستحيل ارادته ، للتلازم بين المراد والارادة في الاستحالة والامكان وسراية حكم أحدهما الى الآخر ـ عند الالتفات ـ فاذا فرض ان استقبال الجنوب كان مراد العدم ومبغوضا للمولى في بعض الحالات بحيث انشأ الحكم بالحرمة عليه فلازمه ـ وهو استدبار الشمال ـ لا يخلو من أن يكون مبغوضا له أيضا ، أو لا تتعلق به ارادة ولا كراهة أبدا .. أما أن يكون اللازم مرادا للمولى بحيث يحكم عليه بالوجوب فهو غير معقول ..

وعليه : فاذا كان (عدم الاهم) مبغوضا للمولى ـ باعتبار أن الامر بالشيء يقتضي النهي عن نقيضه ـ فكيف يكون ملازمه وهو (وجود المهم) محبوبا لديه ومرادا عنده ، وتكون تلك الارادة مبعثا لانشاء الحكم اللزومي الوجوبي على (وجود المهم)؟! فتأمل.

ونظير ذلك يجري في مرحلة (الملاك) ، اذ أنه وان أمكن أن توجد المصلحة

١٠٥

في أحد المتلازمين والمفسدة في الآخر ـ كما يمكن أن توجدا في أمر واحد ـ إلّا أن مآل ذلك الى اباحة الفعل ، ان تساوى الملاكان بعد الكسر والانكسار ، وإلّا كان الحكم مع الغالب منهما ، على نحو الوجوب والتحريم ، أو على نحو الاستحباب والكراهة ، فلا يعقل أن يكون أحدهما ذا مفسدة مؤثرة في التحريم الفعلي ـ كالنقيض في المقام ـ والآخر ذا مصلحة مؤثرة في الوجوب الفعلي ـ كلازم النقيض فيما نحن فيه ـ.

وسيأتي تمام الكلام في ذلك في طي ما استدل به لجواز الترتب باذن الله تعالى.

ثم انه يرد على جميع ما تقدم من المسالك ـ من (المصداقية) و (السراية) و (عدم اختلاف المتلازمين في الحكم) ـ عدم تسليم المبنى ، اذ الامر لا يقتضي النهي عن ضده ـ ولو كان عاما ـ على ما قرر في محله.

(الوجه الخامس)

(الوجه الخامس) ـ مما أورد به على الترتب ـ قياس الارادة التشريعية بالارادة التكوينية ، فكما لا يمكن وجود ارادتين تكوينيتين مترتبتين ، كذلك لا يمكن وجود ارادتين تشريعيتين مترتبتين.

وهذا الوجه مبنى على كون الارادة التكوينية هي الجزء الاخير من العلة التامة للفعل ، فلا محالة تنتهي اليه ، لاستحالة تخلف المعلول عن العلة التامة ، ومعه ينتفي شرط تعلق الارادة بالمهم ، فلا تعقل ارادته على نحو الترتب مع ان وجودهما معا يستلزم تلبس المكلف بالضدين في وقت واحد ، وهو محال ، لكن سيأتي في مبحث (ما يناط به الامر بالمهم) المناقشة في المبنى إن شاء الله تعالى.

ويؤيده ما نجده من أنفسنا من تعلق الارادة بشيء مستقبلي ، وبغيره على تقدير

١٠٦

عدم تيسر الوصول اليه ، فتأمل.

وعلى فرض تسليم الحكم في المقيس عليه يرد على هذا الوجه ما ذكره المحقق الاصفهاني (قده) في (النهاية) حيث قال :

(انه قياس مع الفارق ، فان الارادة التكوينية هي الجزء الاخير من العلة التامة للفعل ، فلا يعقل اناطة ارادة أخرى بعدم متعلق الاولى مع ثبوتها ، بخلاف الارادة التشريعية فانها ليست كذلك ، بل الجزء الاخير لعلة الفعل ارادة المكلف فهي من قبيل المقتضي ، وثبوت المقتضي مع عدم مقتضاه لا مانع منه ، وخلو الزمان وان كان شرطا في تأثير المقتضي اثره إلّا ان خلوه عن المزاحم في التأثير شرط ، لا خلوه عن المقتضي المقرون بعدم التأثير ، فاما لا اقتضاء لاحدهما ، وأما لا مزاحمة للمقتضي) فتأمل.

ولا يخفى عليك ان اختلاف مزاج الارادتين غير خاص بالمقام بل يجري في مواطن أخرى ، مما يجعل قياس إحداهما بالاخرى قياسا فاقدا للجامع المشترك.

(الوجه السادس)

(الوجه السادس) ـ مما أورد به على الترتب ـ اجتماع الوجوب والحرمة في (ترك المهم) ، أما الوجوب فلان ترك الضد مقدمة لوجود ضده ، فيكون ترك المهم واجبا ، وأما الحرمة فلانه نقيض الواجب ـ أي المهم ـ فيكون حراما.

والجواب :

أولا : عدم تسليم الاقتضاء ـ كما مر ـ فلا حرمة.

ثانيا : عدم تسليم المقدمية ـ على ما قرر في مسألة (الضد) ـ فلا وجوب.

١٠٧

ثالثا : عدم تسليم الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته ، على ما قرر في مبحث (مقدمة الواجب) ، فلا وجوب أيضا.

وقد يورد عليه بان عدم التلازم بلحاظ عالم الحكم لا يجدي بعد الملازمة في عالم (الارادة) وما يسبقها من (المبادي) اذ ارادة الشيء تشريعا كارادته تكوينا مستلزمة لارادة مقدماته فاذا تعلقت الارادة بعدم المهم ـ لمكان مقدميته ـ استحال ان تتعلق الكراهة به ـ كما هو مقتضى الوجوب والاقتضاء ـ.

لكن قد يجاب ـ كما ذكره بعضهم ـ بان ارادة المقدمة ليست بمعنى تعلق الشوق بها ، بل بمعنى التحرك اليها واعمال القدرة نحوها ، لحكم الوجدان بان لا شوق الا نحو المطلوب النفسي فقط ، فان الحب والبغض ينشآن من ملائمة الشيء مع النفس أو منافرته معها ، وحيثية المقدمية وتوقف المطلوب النفسي على المقدمة حيثية عقلائية تستوجب اعمال القدرة نحوها ، وليست موجبة لملاءمة أخرى مع الذات.

وينبه عليه : امكان بغض المقدمة وحب ذيها فيما لو توقف انقاذ النفس على بتر عضو من الاعضاء مثلا ، فانه لا يخرج ـ بسبب مقدميته ـ عن كونه مبغوضا.

وكذا لو اضطر الانسان لارتكاب حرام يكرهه لتخليص نفسه من الهلكة.

وأيضا : قد يبتهج الانسان بالاثر المترتب على قتل ولي من الاولياء ـ من الهداية والارشاد ونحوهما ـ مع حزنه على ما أصابه ، وهكذا.

وعليه : فاعمال القدرة نحو المقدمة في الارادة التكوينية لمكان الاضطرار اليها غير مستلزم للشوق اليها في الارادة التشريعية.

ولا يخفى ان نظير ما ذكرناه في هذا الجواب ـ الثالث ـ يرد في الجواب الاول ، فتدبر.

رابعا : ان حرمة ترك المهم ـ باعتبار كونه نقيضا للواجب ـ انما هي على

١٠٨

تقدير ترك الاهم لا مطلقا ، وأما وجوبه فهو ـ لكونه مقدميا ـ يتبع الوجوب المتعلق بالاهم اطلاقا وتقييدا واهمالا ، وتقييد وجوب الاهم بتركه واطلاقه لتركه محال ، فترك المهم من حيث نفسه واجب ، ومبنيا على تقدير ترك الاهم حرام ، فليس في مرتبة ترك الاهم وعلى هذا التقدير الا الحرمة لاستحالة وجوبه المقدمي في هذه المرتبة.

(وفيه) : جواز اطلاق وجوب الاهم لحالة تركه وإلّا لورد نظيره في كل موطن استحال فيه تقييد الحكم بتقدير من التقادير ، كما في تقييد الحكم بتقدير العلم به أو كان التقييد فيه لغوا ، كما في تقييد عدم الابصار في حالة النوم بتقدير كون الانسان أبيض ـ مثلا ـ ، ولان المحذور ليس في ثبوت الحكم على المقيد كي يثبت المحذور في الاطلاق أيضا ، بل هو في التقييد ، فلا يجري في المطلق ، اذ مركزه نفس التقييد ، والمفروض عدمه في المطلق وسيأتي توضيحه إن شاء الله تعالى في مناقشة المقدمة الثانية من مقدمات المحقق النائيني (قده).

(مضافا) الى ما ذكره المحقق الاصفهاني في (النهاية) من انه بعد ما كانت الذات واحدة ، وهي محفوظة في هذه المرتبة ، لا يعقل ان تكون من حيث نفسها واجبة ومن حيث مرتبتها المتأخرة عن مرتبة الذات محرمة ، لان مناط رفع التضاد ليس اختلاف الموضوع بالرتب ، بل بالوجود. انتهى.

وقد سبق البحث في ذلك في الوجه الاول من ما اورد به على الترتب.

خامسا : ان الواجب هو المقدمة الموصلة ، لا مطلق المقدمة ، فيكون الواجب هو ترك المهم الموصل ومع الايصال ينتفي موضوع الامر بالمهم ، فلا يكون المهم واجبا ، ليكون تركه حراما. ومع عدم الايصال لا وجوب للمقدمة فلا يجتمع الوجوب والحرمة على أي واحد من التقديرين.

ثم انه يمكن تقرير هذا الوجه ـ السادس ـ بان ترك المهم واجب ـ لمكان

١٠٩

المقدمية ـ فلا يعقل أن يكون فعله أيضا واجبا ومأمورا به بالامر الترتبي.

وبهذا يستغنى في الدليل عن الاقتضاء.

لكن لا يخفى ان المحذور على هذا التقرير ليس هو الاجتماع ، بل الحكم على طرفي الايجاب والسلب لامر واحد بحكمين لزوميين متماثلين ، وهو محال.

ويرد على هذا التقرير بعض ما تقدم.

ثم انه يمكن جعل مصب اجتماع الوجوب والحرمة (فعل المهم) بتقريب : ان الامر بالشيء يقتضي النهي عن ضده الخاص ، فيكون المهم منهيا عنه ـ لكونه ضدا للاهم ـ ومأمورا به ـ لانه المفروض عند القائل بالترتب ـ.

ويرد عليه :

أولا : عدم تسليم الاقتضاء.

ثانيا : عدم تسليم المنافاة ، فان مبغوضية (فعل المهم) غيرية ، فلا تنافي تعلق المحبوبية النفسية به ، فان مبغوضية الفعل ليست لملاك فيه يقتضيها ، بل لمجرد المزاحمة للواجب الاهم. فيكون الفعل على ما هو عليه من الملاك المقتضي لمحبوبيته ، لكن هذا الجواب لا يخلو من نظر ، لان الكلام في الامر لا في المحبوبية فتأمل.

ثم انه يمكن جعل مصب الاجتماع (فعل المهم) بتقريب آخر وهو :

ان ترك المهم واجب ـ لمكان مقدميته لفعل الاهم ـ فيكون نقيضه ـ وهو فعل المهم ـ حراما ، فاذا فرض كون فعل المهم مأمورا به بالامر الترتبي لزم الاجتماع.

وقد يجاب عنه ـ مضافا الى ما تقدم ـ بأن مانعية الضد لكل واحد من أضداده غير مانعيته للآخر ، فسد باب عدم الضد من ناحيته غير سد باب عدم ضد آخر من ناحيته ، ومقدميته للضد الاهم تقتضي تفويته من هذه الجهة لا من سائر الجهات

١١٠

ونقيضه حفظه من هذه الجهة لا من سائر الجهات ، فهو المبغوض ، دون حفظه وسد باب عدمه من جميع الجهات ، فلا مانع من محبوبية حفظه وسد باب عدمه من سائر الجهات.

وأورد عليه : بان وجود المهم بوحدته مضاد لجميع أضداده ومانع عنها ، وتركه مقدمة لكل واحد واحد منها ، ولا يتعدد هذا الواحد باضافته الى أضداده وبكثرة اعتباراته ، فان مطابق طرد جميع أعدامه المضافة الى أضداده شخص هذا الوجود.

١١١

أدلة جواز الترتب

وقد استدل لجواز الترتب بأدلة :

(الدليل الاول)

ما ذكره المحقق النائيني (قدس‌سره) وهو يتألف من مقدمات ، والعمدة منها ثلاث :

(المقدمة الاولى)

ان الواجب المشروط لا يخرج عما هو عليه بعد تحقق شرطه ، لان شرائط التكليف ترجع الى قيود الموضوع ، والموضوع لا ينسلخ عن الموضوعية بعد وجوده خارجا ، والسبب في ذلك أن الاحكام الشرعية مجعولة على نهج القضايا الحقيقية لا الخارجية.

ولعل القول بالانقلاب نشأ من جهة خلط موضوع الحكم بداعي الجعل

١١٢

بتوهم أن شرط التكليف خارج عن موضوعه ومن قبيل الداعي لجعل الحكم على موضوعه فبعد وجوده يتعلق الحكم بموضوعه ولا يبقى للاشتراط مجال ، وذلك مبتن على أن تكون القضايا المتكفلة لبيان الاحكام الشرعية من قبيل الاخبار عن انشاء تكاليف عديدة يتعلق كل واحد منها بمكلف خاص عند تحقق شرطه وقد بينا بطلانه.

وهذا الخلط وقع في جملة من المباحث منها ما نحن فيه فانه توهم أن الامر بالمهم يصير مطلقا أيضا بعد عصيان الامر بالاهم فيقع التزاحم بين الخطابين. انتهى.

هذه المقدمة أسست لبيان : عدم المطاردة بين الامر بالمهم والامر بالاهم .. باعتبار تأخره عنه في الرتبة ، لا قبل تحقق الشرط فقط ، بل بعده أيضا ..

أما الاول فلأخذ عصيان الامر بالاهم في موضوع الامر بالمهم ، والعصيان متأخر عن الامر بالاهم ، كما أن المحمول متأخر عن الموضوع ، فيتأخر الامر بالمهم في الرتبة عن الامر بالاهم.

وأما الثاني ـ وهو مصب البحث في هذه المقدمة ـ فلان شرط الواجب المشروط يرجع للموضوع ، وهو لا يتبدل بتحقق الشرط في الخارج وعدمه ، فيظل الامر بالمهم مشروطا بعصيان الامر بالاهم ، فيظل التأخر الرتبي بين الامرين ، فتنتفي المطاردة من البين.

وفي هذه المقدمة مواقع للنظر :

أولا : ان حديث الاحتفاظ بالهوية وعدم الانقلاب لا يختص بالموضوع ، بل يعم كل ما يتعلق بالقضية الحكمية ، فالموضوع يبقى على ما هو عليه ، والحكم لا يتبدل ، والشرط لا يخرج عن كونه شرطا ـ ولو فرض القول بعدم رجوعه الى الموضوع ـ (الا في حالات طرو النسخ ونحوه).

١١٣

والسبب في ذلك : أن (القضية الحكمية) يتحقق لها وجود فعلي بانشاء المولى الحكم على الموضوع المقدر الوجود ، دون أن تكون لها حالة انتظارية ، أو تبدل ، أما الاول فلانه يستحيل انفكاك (المنشأ) عن (الانشاء) ، استحالة انفكاك الانكسار عن الكسر ، والوجود عن الايجاد ، وأما الثاني فلانه يستحيل انقلاب المعلول عما هو عليه بدون تبدل في ناحية علله الوجودية ـ والمفروض في المقام عدمه.

وبتقرير آخر : الحكم المشروط له مراحل أربع : الملاك ، والارادة ، والجعل ، والمجعول ...

أما المجعول فلا يوجد الا بوجود موضوعه ، وإلّا لزم انفكاك المعلول عن علته.

وأما الجعل فتبدله من الاشتراط الى الاطلاق يحتاج الى علة ، وليست إلّا تبدل الملاك والارادة ، أو الارادة وحدها ـ ولا يتصور الفرض الثاني الا في المولى العرفي ـ والمفروض عدم التبدل فيما نحن فيه ، فيبقى الحكم على ما كان عليه ، لبقاء علته على ما كانت عليه.

ومنه يظهر عدم الفرق في ذلك بين القضايا الحقيقية ، والقضايا الخارجية التي ينشأ الحكم فيها معلقا على تحقق الشرط في الخارج ، اذ جانب (الجعل) يمثل الثبات في كلنا القضيتين ، وجانب (المجعول) و (الخارج) يمثل التغير في كلتيهما دون فرق بينهما أصلا.

وعليه : فلا ملزم لارجاع الشرط الى الموضوع ـ لاشتراك الامرين في الثبات وعدم الانسلاخ عما هما عليه ـ.

ثانيا : ان «رجوع شرائط التكليف الى قيود الموضوع» :

(ان) أريد به «رجوع شرائط الجعل ـ أي علله ودواعيه التي يتوخى الحصول عليها ـ اليها» ففيه أنه يستحيل كون الداعي قيدا للموضوع لانه يلزم منه خروج الواجب المطلق عن كونه واجبا مطلقا أو تحصيل الحاصل أو الامر بالشيء بلا ملاك

١١٤

يقتضيه ، كما في قوله تعالى (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) فانه لو جعل الموضوع (المكلف المتذكر) فقبل أداء الصلاة لا يكون لها وجوب ضرورة أن الحكم لا يدعو الى موضوعه اذ أن وجوده متفرع على وجود موضوعه ، فدعوته اليه تستلزم تقدم الشيء على نفسه ، بل على علته ، وحين أداء الصلاة يكون الامر بأدائها تحصيلا للحاصل ، وبعد الاداء يكون الامر بلا ملاك يقتضيه ، لفرض استيفاء الملاك من قبل.

و (ان) أريد به «رجوع شرائط المجعول اليها» ففيه ما في (التهذيب) من أن القيود بحسب نفس الامر على قسمين :

(قسم) يرجع الى المادة والمتعلق بحيث لا يعقل ارجاعه الى الحكم والارادة كما اذا تعلق بالصلاة في المسجد غرض مطلق ، فالوجوب المطلق توجه الى الصلاة في المسجد ، فيجب على العبد بناء المسجد والصلاة فيه.

و (قسم) يرجع الى الوجوب والحكم ولا يعقل عكسه كما اذا لم يتعلق باكرام الضيف غرض معتد به إلّا أنه اذا ألم به ونزل في بيته يتعلق به الغرض ويحكم على عبيده بأن يكرموه اذا نزل فالقيد حينئذ قيد لنفس التكليف لا يعقل ارجاعه الى المادة لانه يستلزم أن يتعلق باكرامه ارادة مطلقة فيجب عليهم تحصيل الضيف وانزاله في بيته.

فارجاع جميع الشروط الى الموضوع يستلزم الغاء ما هو الدائر بين العقلاء من انشاء الحكم على قسمين بل ظهور الارادة على ضربين ، وقد عرفت أن اختلاف الواجب المشروط والمطلق لبي واقعي ، فلا يجوز الارجاع بعد كون كل واحد معتبرا لدى العرف ، بل بينهما اختلاف في الآثار المطلوبة منهما في باب الاحكام ـ انتهى.

وهذا الاشكال بشقيه لا يرد على ما ذكره المحقق النائيني (قدس‌سره).

١١٥

أما الاول : فلانصراف كلامه عن شرائط الجعل.

وأما الثاني : فلان المراد ب (الموضوع) في الاصطلاح هو (المكلف) ـ كما صرح به المحقق النائيني في مواضع من كلامه وكما ذكره المورد نفسه ـ ورجوع شرائط التكليف الى الموضوع لا يلغي الواجب المشروط فقولنا (المكلف يجب عليه الحج اذا استطاع) لو رجع الى (المكلف المستطيع يجب عليه الحج) لم يضر بكون وجوبه مشروطا لبا ، وان اختلف التعبيران لفظا ، لعدم داعوية الحكم الى ايجاد موضوعه ، فيبقى الوجوب مشروطا ومنوطا بتحقق الموضوع ، وأما قيد المادة وحدها فليس من شرائط التكليف ، بل هو من شرائط المتعلق ، فهو أجنبي عن كلامه ، فلا يرد عليه : أن رجوعه الى الموضوع يخرج الواجب المطلق عن كونه كذلك كما في قولنا (صل عن طهارة) اذا رجع الى (المكلف المتطهر يجب عليه الصلاة) اذ يكون وجوبها ـ حينئذ ـ ثابتا على تقدير اتفاق التطهر ، وهو خلف.

ثالثا : لو رجعت الشرائط الى القيود ـ في الموضوع أو المتعلق لم يصح الاستصحاب في مثل (الماء نجس اذا تغير) ـ فيما لم يعلم كون المناط التلبس بالتغير ولو آناً ما ليشمل الحكم حالة انقضاء التلبس ، أو أن المناط هو التلبس بالفعل ـ وذلك لعدم احراز وحدة موضوع القضيتين ، وهي شرط جريانه.

وفيه : أنه ليس المناط في بقاء الموضوع : البقاء الحقيقي العقلي ، ولا بقاء ما أخذ موضوعا في لسان الدليل ، بل البقاء العرفي ـ على ما فصل في مباحث الاستصحاب ـ ولا فرق فيه بين كون الوصف مأخوذا في الشرط أو الموضوع ، فرجوعه اليه ليس بضائر.

رابعا : ان ما ذكره (قدس‌سره) انما يتم لو كان الامر بالمهم مشروطا ، وأما لو كان معلقا فلا ـ على ما سبق في أدلة القول بالامتناع ـ.

١١٦

لا يقال : لو لم تقيد الهيئة كان الوجوب فعليا ، فيترشح على المقدمة من ذيها ـ ولو عقلا ـ لتبعيتها له في الاطلاق والاشتراط ، وخصوصية الشرط في المقام تمنع عن وجوبه ، وإلّا لزم اجتماع الضدين.

لانه يقال : ينتفي الترشح في حالات ثلاث :

أحدها : كون المصلحة مقتضية لاخذ الشرط بوجوده الاتفاقي مناطا للتنجز كالاستطاعة بالنسبة الى الحج مثلا.

ثانيها : وجود المانع العقلي كخروج المقدمة عن حيز القدرة مثل شرطية الدلوك لوجوب الصلاة.

ثالثها : وجود المانع الشرعي فانه كالعقلي ، مثل ما نحن فيه حيث أخذ الوجوب فيه على نحو لا يترشح على هذه المقدمة ، حذرا من اجتماع الضدين ، ولذا يترشح على غيرها من المقدمات ـ ولو عقلا ـ لو فرض معلقا. فتأمل.

هذا ولا يخفى أن ذلك لا يرد على مسلك من أنكر وجود الواجب المعلق ، بل امكانه ، كما هو مسلك المحقق النائيني (قدس‌سره).

خامسا : ما في (آراء الاصول) من أن الشرائط غالبا تصرمية ، وبوجودها التصرمي تكون عللا لتعلق الحكم بالموضوع ، فكيف ترجع للموضوع.

ويرد عليه : انه لو فرض رجوع الشرط الى الموضوع فانما يؤخذ فيه بنفس مفهومه حين كان شرطا ، فلا يكون هناك فرق بين أخذه في الشرط أو الموضوع من هذه الجهة ، وهكذا الامر بالنسبة الى المتعلق ، ففي قولنا (الماء اذا تغير ينجس) ان كان التلبس بالتغير فعلا ، شرطا ، أخذ في المتعلق كذلك ، فلا محالة ينتفي بانتفاء التلبس الفعلي ، وان كان التلبس آناً ما شرطا فلا محالة يستمر الحكم ولو بعد انتفاء التلبس ، وفي كلتا الحالتين لا فرق بين أخذ التغير شرطا خارجا عن المتعلق أو شطرا داخلا فيه.

١١٧

سادسا : ان التأخر الرتبي لا ينافي التقارن الزمني ، بل قد يجب معه ، فان المعلول وأن تأخر بلحاظ الرتبة عن العلة إلّا أنه يقارنها في الزمان ـ وإلّا لزم انفكاك العلة التامة عن معلولها ، وجواز الانفكاك في كل آن لان حكم الامثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد ، وهو مساوق لانكار العلية رأسا ـ.

وعليه : فان الامر بالمهم وأن تأخر عن الامر بالاهم في الرتبة ـ لاخذ عصيانه في موضوعه ـ إلّا أنهما يتقارنان في الزمان بعد تحقق شرط الامر بالمهم ، فيلزم منه اجتماع الحكمين ، ويعود المحذور ، وقد سبق الكلام في ذلك في أدلة القول بالامتناع.

سابعا : انه لو فرض انتفاء التضاد بين الخطابين بافتراض طوليتهما إلّا أنه سيظل التضاد في الحكم العقلي بعد تحقق شرط الامر بالمهم.

وبعبارة أخرى : سيكون هناك تنجيزان عقليان يتعلق أحدهما بالامر بالاهم لمكان اطلاقه والآخر بالامر بالمهم لتحقق شرطه فيلزم التهافت في حكم العقل وهو كاف في المحذور.

اللهم إلّا أن يقال : ان التنجيز في حالاته فرع الامر في طواريه قضاء لحق الظلية فلو تكفلت الطولية برفع التضاد عنه لتكفلت برفعه عنه أيضا.

وفيه أنه يصح في الحكم الكلي العقلي الذي يتبع الامر الشرعي لا في الحكم الجزئي المتعلق بالجري العملي. فتأمل.

المقدمة الثانية

انحفاظ الخطاب في تقدير ما يكون بوجوه :

الاول : أن يكون الخطاب مشروطا بوجوده أو مطلقا بالنسبة اليه وهذا انما

١١٨

يكون في موارد الانقسامات السابقة على الخطاب ، كانحفاظ خطاب الحج والصلاة في ظرف الاستطاعة لاشتراطه واطلاقها ، ولا بد من لحاظ أحدهما عند الالتفات للانقسامات ، والاطلاق فيه كالتقييد يكون لحاظيا.

الثاني : أن يكون مطلقا أو مقيدا بالنسبة اليه بنتيجة الاطلاق أو التقييد وانما يكون في الانقسامات اللاحقة للخطاب ، والموجب لكل منهما تقيد الغرض به أو اطلاقه والكاشف عنهما متمم الجعل كما في مسألة اشتراك الاحكام بين العالم والجاهل واختصاص وجوب الجهر أو الاخفات بالعالم ، والاطلاق فيه ـ كالتقييد ـ يكون ملاكيا لاستحالة اللحاظي.

الثالث : أن يكون مقتضيا بنفسه لوضع ذلك التقدير أو رفعه ، وهو مختص بباب الطاعة والمعصية ، ويستحيل فيه الاطلاق والتقييد بقسميهما ، لان وجوب فعل لو كان مشروطا بوجوده لزم طلب الحاصل ، ولو كان مشروطا بعدمه لزم طلب الجمع بين النقيضين ، ومنه يظهر استحالة الاطلاق لانه في قوة التصريح بكلا التقديرين ، فيلزم منه كلا المحذورين مضافا الى ان تقابل الاطلاق والتقييد انما هو تقابل العدم والملكة فامتناع التقييد يساوق امتناع الاطلاق.

وكون انقسام المكلف الى المطيع والعاصي لاحقا للخطاب فيكون انحفاظ الخطاب فيهما بنتيجة الاطلاق مدفوع بكون محل الكلام منشأ انتزاع هذين العنوانين وهو الفعل والترك ، ولا بد من ملاحظتهما حين الخطاب عند الحاكم ليكون خطابه بعثا الى أحدهما وزجرا عن الآخر.

فظهر ان حال الخطاب بالاضافة الى تقديري الفعل والترك كحال حمل الوجود أو العدم على الماهية ، اذ ليست المقيدة بالوجود أو بالعدم أو المطلقة موضوعا بل نفس الماهية المعراة عن لحاظ الاطلاق والتقييد.

وفرق هذا القسم عن سابقيه : كون انحفاظ الخطاب من لوازم ذاته فيه لان

١١٩

تعلق الخطاب بشيء يقتضي وضع تقدير وهدم آخر ، بخلافه فيهما فانه من جهة التقييد بذلك التقدير أو الاطلاق ، ويترتب على هذا الفرق أمران :

(الاول) : ان نسبة التقدير المحفوظ فيه الخطاب في الاولين بالاضافة اليه نسبة العلة الى معلولها ، أما في موارد التقييد فلرجوع الشرائط الى الموضوع المتقدم رتبة على الحكم ، واما في موارد الاطلاق فلاتحاد مرتبة الاطلاق والتقييد ، وهذا عكس الاخير لان للخطاب نحو علية للامتثال ، وكذا العصيان لكون مرتبته عين مرتبة الامتثال.

(الثاني) : ان الخطاب في الاولين لا يكون متعرضا لحال التقدير المحفوظ فيه الخطاب ، لعدم تعرض الحكم لموضوعه ، فلا يقتضي وجوده ولا عدمه ، بخلاف الاخير فانه بنفسه متعرض لحال ذلك التقدير وضعا ورفعا اذ المفروض انه المقتضي لوضع أحد التقديرين ورفع الآخر.

ومنه يظهر ان انحفاظ خطاب الاهم حال العصيان من جهة اقتضاءه لرفع هذا التقدير ، بخلاف خطاب المهم فانه لا نظر له الى وضع هذا التقدير ورفعه لانه موضوعه ، وانما يقتضي ايجاد متعلقه على تقدير العصيان ، فلا خطاب المهم يرتفع لمرتبة الاهم ليقتضي موضوع نفسه ، ولا خطاب المهم يتنزل ويقتضي شيئا غير رفع موضوع خطاب المهم ، فالخطابان في مرتبتين طوليتين وان اتحدا زمانا ـ انتهى.

وهذه المقدمة منظور فيها من وجوه :

الاول : ان ما ذكر من خروج الامرين عن التزاحم ، للطولية والاختلاف الرتبي فيما بينهما انما يتم لو كان الامر بالمهم مشروطا ، اما لو فرض كونه معلقا فلا.

الثاني : ان ملاك التزاحم والتضاد ليس المعية الرتبية بل المعية الوجودية

١٢٠