الترتّب

السيد محمّد رضا الشيرازي

الترتّب

المؤلف:

السيد محمّد رضا الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة هيئة الأمين صلّى الله عليه وآله وسلّم
الطبعة: ٢
الصفحات: ١٩٨

١
٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم الى يوم الدين.

وبعد :

فهذا بحث متواضع في مسألة (الترتب) ، وأسأل الله سبحانه التوفيق والقبول ، انه الموفق والمستعان.

٧ ـ صفر ـ ١٤٠٨ ه

٣

هل المسألة اصولية؟

الظاهر من بعض العبارات : أن موضوع المسألة وجود الامر بالضد المهم معلقا على عصيان الامر بالاهم ونحوه ، وعدم وجوده.

وظاهر بعض آخر : كون الموضوع صحة الضد المهم ، وفساده.

وقد يورد عليهما : ـ بناء على استقلالية المسألة وعدم تبعيتها لغيرها لوجود ملاكها فيها ـ بأن البحث عن حكم فعل المكلف من حيث الاقتضاء والتخيير ، والصحة والبطلان ونحوهما من المباحث الفقهية ، اذ موضوع المسألة الفقهية هو فعل المكلف ، ومحمولها هو عوارضه الحكمية ، ومن الواضح : أن الضد المهم فعل من أفعال المكلف ، وكونه مأمورا به وصحيحا أو باطلا عارض حكمي فتكون المسألة فقهية.

وفيه :

أولا : ما ذكره المحقق النائيني (قده) ـ كما في أجود التقريرات (١) ـ وهو : أن علم الفقه متكفل لبيان أحوال موضوعات خاصة كالصلاة والصوم

__________________

(١) العبارات المنقولة فى هذه الرسالة عن الاساطين (قدس‌سرهم) لوحظ فيها عادة : أداء المعنى لا اللفظ.

٤

ونحوها ، وأما الكليات التي لا ينحصر صدقها بموضوع خاص فلا يتكفله علم الفقه أصلا.

ويرد عليه :

عدم اختصاص المباحث الفقهية بما يبحث فيه عن حكم موضوع من الموضوعات الخاصة ، نان جملة من المباحث الفقهية كمباحث وجوب الوفاء بالنذر وأخويه ووجوب اطاعة الوالدين ووجوب الوفاء بالشرط ونحوها يبحث فيها عن أحكام العناوين العامة القابلة للصدق على الافعال المختلفة في الماهية والعنوان ـ كما ذكره بعض الاعلام ـ.

(هذا) مضافا الى أن سعة حدود العلم وضيقها تابعان لسعة حدود الغرض وضيقها ، فان العمل تابع للغرض ، وهو وان كان آخر ما يتحقق في الخارج ، إلّا أنه أول ما ينقدح في الذهن ، ولذا ذكروا ان الغاية علة فاعلية الفاعل بماهيتها ، وان كانت معلولة له بانيتها ومن هنا يعلم أنه وان كان التشابه الذي يقع ـ في غالب الاحيان ـ بين مسائل العلم أمرا تكوينيا ذاتيا ، إلّا أن افراد مركب اعتباري عن مركب اعتباري آخر وجعله علما برأسه ، وجعل محوره موضوعا معينا دون آخر مع كونه أعم منه أو أخص أو بينهما العموم من وجه ـ مما يتبعه سعة العلم وضيقه ـ انما يتبع تمايز الغرض ، ولذا قد لا تذكر بعض الامور المتشابهة في العلم لانها لا تخدم الغرض ، وقد تذكر امور فيها شيء من التباعد لدخلها جميعا في الغرض ، فالواضع غير مقيد بالتشابه التكويني ، وانما هو تابع لغرضه.

ومن المقرر : أن الغرض من المسألة الفقهية ـ قاعدة كانت أو حكما ـ هو معرفة الاحكام الشرعية اللاحقة لفعل المكلف ـ تكليفا ووضعا ـ لاجل أن لا يشذ عمل المكلف عما أراده له الشارع.

وعلى هذا فلا فرق في موضوع المسألة الفقهية بين العموم والخصوص

٥

وانحصار الصدق وعدمه ، وذلك لان الموضوع العام ـ كالخاص ـ مما له مدخلية في غرض الفقيه.

ولعل ما ذكره السيد الوالد ـ دام ظله ـ من أنه لا يشترط البحث عن أحوال موضوعات خاصة في كون المسألة فقهية ، بعد كون الوجوب من عوارض فعل المكلف ، اشارة الى ذلك.

(مع) أنه لا ضابط لانحصار الصدق بموضوع خاص ، اذ الانحصار قد يكون صنفيا وقد يكون نوعيا ، وقد يكون جنسيا ، كما أن لكل واحد منها مراتب مختلفة في القرب والبعد ، وجعل الضابط أحدها دون الآخر مفتقر الى الدليل ، وهو مفقود في المقام.

ثم : ان المحقق العراقي (قده) في مقام الذب عن نظير الاشكال الوارد في المقام اشترط في كون المسألة فقهية مضافا الى وحدة الموضوع : وحدة المحمول ووحدة الملاك فما لم يكن واجدا للوحدات الثلاث لا يعد من المسائل الفقهية.

قال (ره) : ان الملاك في المسألة الفرعية على ما يقتضيه الاستقراء في مواردها انما هو وحدة الملاك والحكم والموضوع ، فكان المحمول فيها دائما حكما شخصيا متعلقا بموضوع وحداني بملاك خاص ، كما في مثل (الصلاة واجبة) في قبال (الصوم واجب) و (الحج واجب) ، ومثل هذا الملاك غير موجود في المقام ... الى آخر كلامه (ره).

ولعل ما ذكره (ره) هنا ينافي ما سبق منه من تبعية العلوم للاغراض قال (قده) : (ان كل من قنن قانونا أو أسس فنا من الفنون لا بد أن يلاحظ في نظره أولا غرضا ومقصدا خاصا ثم يجمع شتاتا من القواعد والمسائل الخاصة التي هي عبارة عن مجموع القضية من الموضوع والمحمول أو المحمولات المنتسبة الى الموضوعات مما كانت وافية بذلك الغرض والمقصد المخصوص ، كما عليه أيضا

٦

قد جرى ديدن أرباب الفنون من الصدر الاول .. ومن المعلوم أنه لا يكاد يجمع من القضايا والقواعد في كل فن الا ما كانت منها محصلة لذلك الغرض ، دون غيرها من القضايا التي لا يكون لها دخل في ذلك الغرض ، فمن كان غرضه مثلا هو صيانة الفكر عن الخطأ لا بد له من تدوين القضايا التي لها دخل في الغرض المزبور دون غيرها من القضايا غير المرتبطة به ..).

(مع) أنه لم ينقدح المراد بالوحدة التي جعلها ملاكا لكون المسألة فقهية ، اذ الوحدة الحقيقية الحقة ـ وهي ما لم تكن الذات فيها مأخوذة في مفهوم الصفة المشتقة من الوحدة ـ منتفية في المقام مطلقا ، والوحدة الحقيقية غير الحقة ـ وهي التي أخذت الذات فيها لكن كانت الوحدة وصفا لها بحال نفسها في مقابل الوحدة غير الحقيقية التي تكون الوحدة وصفا لها بحال متعلقها كالوحدة بالجنس أو النوع ـ سارية في كل أقسام الواحد بالعموم المفهومي دون فرق بين كون الوحدة صنفية أو نوعية أو جنسية وبين كونها قريبة أو بعيدة ، وتكثر المصاديق الخارجية مشترك بين الجميع ، وصرف سعة حيطة مفهوم وضيق آخر لا يكون مائزا فيما نحن بصدده ، وإلّا لزم الاقتصار في كون المسألة فقهية على ما يكون موضوعه هو الصنف القريب ، وهو مقطوع الانتفاء.

(ثم) على ما ذكره (قده) تخرج كثير من المسائل والقواعد الفقهية عن دائرة البحث الفقهي مثل (العبادات مشروطة بالنية) و (العقود تابعة للقصود) و (ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده) و (ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده) و (أوفوا بالعقود) و (انما يحلل الكلام ويحرم الكلام) و (الاستصحاب) و (البراءة) الجاريتين في الشبهات الموضوعية ـ على مبنى القوم فيهما ـ ونحوها ، لعدم وحدة الموضوع والمحمول فيها.

(مضافا) الى أنه لم يثبت كون الخطابات الوحدانية الموضوع والمحمول ـ ـ مثل قوله تعالى (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) وقوله تعالى (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ)

٧

ذات ملاك واحد ، اذ يحتمل ـ ثبوتا ـ وجود ملاكات متعددة يختص كل منها بصنف من أصناف موضوع الخطاب مثلا : يكون ملاك تغسيل عامة الناس هو التطهير ، وملاك تغسيل المعصوم (عليه‌السلام) جريان السنة ، الى غير ذلك ، وتوحيد كل الاصناف في موضوع واحد وحمل محمول واحد عليها لا يدل على وحدة الملاك ، كما يظهر بملاحظة القوانين العرفية والقواعد المذكورة في العلوم كالطب ونحوه.

ثانيا : أن ملاك كون المسألة اصولية لا ينحصر في وقوعها في طريق استنباط الاحكام الكلية من أدلتها وإلّا لزم اختلال الطرد والعكس ، وذلك لوقوع كثير من القواعد في طريق استنباط الاحكام الكلية مع عدم ادراج القوم لها في المسائل الاصولية كاصالة الطهارة ـ بناء على عمومها للشبهات الحكمية كعمومها للشبهات الموضوعية ـ وكقاعدة نفي الحرج ، التي بها ينفى ـ مثلا ـ وجوب الفحص عن المعارض حتى يقطع بعدمه على ما ذكره الشيخ الاعظم (ره) في الاستصحاب ، وكقاعدة الفراغ ، على ما ذكره المشكيني (قده) في مسألة النهي في العبادة ، وكقاعدة نفي الضرر بناء على جريانها في الشبهات الحكمية ، كما هو أحد القولين في المسألة ـ كما في المحاضرات والمصباح ـ وكالقياس والاستحسان والمصالح المرسلة ورأي الصحابي ونحوها ، اذ لا يشترط في اصولية المسألة ثبوت الدليلية أو الدلالة أو الاستلزام ، اذ قد يثبت في الاصول عدم دليلية شيء كالشهرة الفتوائية وقول اللغوي أو عدم دلالة شيء على شيء كما يقال لا دلالة للامر على الوجوب ولا للنهي على الحرمة ، أو عدم استلزام شيء لشيء كعدم استلزام وجوب الشيء لوجوب مقدماته ، وعدم استلزام حرمة الشيء لفساد ضده ، والتزام الاستطراد في ذلك كله فيه ما لا يخفى.

ومن هنا أبدل صاحب الفصول (قده) تعريف صاحب القوانين (قده) لموضوع الاصول بأنه : (ما يبحث فيه عن حال الدليل بعد الفراغ عن كونه دليلا) بقوله :

٨

(ان موضوع الاصول ذوات الادلة من حيث يبحث عن دليليتها أو عما يعرض لها بعد الدليلية).

وأيضا : نجد هنالك مسائل لا تقع في طريق استنباط الاحكام الكلية وقد أدرجها القوم في ضمن المباحث الاصولية ، كوجوب الفحص في الشبهات الموضوعية وكسريان اجمال المخصص الى العام في الشبهات المصداقية ، وكمبحث مخالفة العلم الاجمالي في الشبهة الموضوعية ، وكمسائل دوران الامر بين الحرمة وغير الوجوب مع الشك في الواقعة الجزئية ، ودوران الامر بين الوجوب وغير الحرمة من جهة الاشتباه في موضوع الحكم ، ودوران الامر بين الوجوب والحرمة من جهة اشتباه الموضوع ـ كل هذه الثلاثة في صورة كون الشك في نفس التكليف ، ويجري نظيرها في كون الشك في المكلف به مما يشمل شطرا من مباحث الشبهة المحصورة والشبهة غير المحصورة والاقل والاكثر ، والمتباينين ـ وكاستصحاب الكلي في باب الموضوعات ، الى غير ذلك.

والتزام الاستطراد في ذلك كله لا وجه له ، بعد امكان عدها من المسائل الاصولية. فانقدح بذلك عدم انحصار الملاك في وقوع المسألة في طريق استنباط الاحكام الكلية من ادلتها ، بل الملاك يتكون من امور مختلفة.

منها : ما ذكر.

ومنها : عمومها لجميع الابواب أو اكثرها أو كثير منها.

ومنها : عدم البحث عنها في فن آخر.

ومنها : احتياج المسألة الى مزيد نقض وابرام.

ومنها : قرب مدخليتها في عملية الاستنباط.

ومنها : شرائط الزمان والمكان.

ومنها : غير ذلك ...

٩

فالمزيج من هذه الامور ـ كلا أو بعضا ـ هو الملاك في أصولية المسألة .. ويؤيد ذلك ـ ولو في الجملة ـ : ما ذكره صاحب الكفاية (قده) في مبحث الاصول العملية قال :

(والمهم منها أربعة فان مثل قاعدة الطهارة فيما اشتبه طهارته بالشبهة الحكمية وان كان مما ينتهي اليها فيما لا حجة على طهارته ولا على نجاسته إلّا أن البحث عنها ليس بمهم حيث أنها ثابتة بلا كلام من دون حاجة الى نقض وابرام ، بخلاف الاربعة وهي البراءة والاحتياط والتخيير والاستصحاب فانها محل الخلاف بين الاصحاب ويحتاج تنقيح مجاريها وتوضيح ما هو حكم العقل أو مقتضى عموم النقل فيها الى مزيد بحث وبيان ومئونة حجة وبرهان ، هذا مع جريانها في كل الابواب ، واختصاص تلك القاعدة ببعضها).

وما في (المحاضرات) في تقسيم القواعد الاصولية حيث قال :

(الضرب الاول ما يكون البحث فيه عن الصغرى بعد احراز الكبرى والفراغ عنها ، وهي مباحث الالفاظ بأجمعها ، فان كبرى هذه المباحث وهي مسألة حجية الظهور محرزة ومفروغ عنها وثابتة من جهة بناء العقلاء وقيام السيرة القطعية عليها ، ولم يختلف فيها اثنان ، ولم يقع البحث عنها في أي علم ، ومن هنا قلنا انها خارجة عن المسائل الاصولية).

وقريب منه ما في (مصباح الاصول) وهو وان كان محل تأمل ، إلّا انه لا يخلو من تأييد لما ذكرنا.

ويؤيده أيضا : اختلاف كتب الاصول في المسائل المبحوثة فيها ، فهنالك مسائل كثيرة أدرجت في كتب الاصول السابقة ، ثم هجرت في كتب الاصول الحديثة ، خصوصا بعد الشيخ الاعظم (قده).

ويكفي : أن يعلم أن قسما من مباحث الدراية كانت ضمن الاصول ثم فصلت

١٠

عنه وكذا ملاحظة تاريخ تطور علم الاصول والتفاعل المتبادل بين علم الاصول وعلم الفقه.

ثالثا : مع التسليم يمكن القول :

ان البحث في هذه المسألة ليس عن نفس الوجوب ، بل عن الملازمة العقلية بين الامر بالاهم وانتفاء الامر بالمهم ، أو بين وجوبه وانتفاء وجوبه ومن المعلوم ان الملازمة من عوارض نفس الطلب ، لا من عوارض فعل المكلف ، وان كان العلم بالملازمة مستلزما للعلم بحكم فعل المكلف وهو وجوب الاتيان بالضد المهم أو عدم وجوبه ، وبذلك ينطبق ما ذكروه في ضابط المسألة الاصولية من وقوعها في طريق استنباط الحكم الكلي على محل البحث ، فانه على الملازمة يستنبط عدم وجوب المهم ، وعلى عدمها يستنبط الوجوب ، ولا يعنى بالمسألة الاصولية الا ما يصح أن تقع كبرى لقياس ينتج الحكم الكلي ، ومع انطباق ضابط المسألة الاصولية على مبحث (الترتب) لا وجه للالتزام بكون البحث فيها استطراديا ، ولا بجعلها مسألة فقهية ، وان كانت فيها جهتها ، وذلك لما تقرر في محله من امكان تداخل علمين أو أزيد في بعض المسائل ، وكون التمايز بينها بالاغراض أو نحوها.

وعلى ذلك فتندرج المسألة في الملازمات العقلية غير المستقلة ، نظير مسئلة الضد والمقدمة والاجزاء ونحوها ، فلا تكون حينئذ من المسائل الفرعية. فتأمل

١١

شرائط تحقق الموضوع

يشترط في تحقق موضوع (الترتب) امور :

وجود التضاد بين الامرين

(الأول) : وجود التضاد بين الامرين ، وإلّا لم يكن محذور في الجمع بينهما.

ولا يخفى أنه ليس المراد (التضاد بالذات) ، اذ لا يجري في الاحكام الشرعية لكونها أمورا اعتبارية ، على ما تقرر في محله.

ولا (التضاد بالتبع) ـ بأن يكون الموصوف بالتضاد بالذات واسطة في ثبوت التضاد لها ، كوسطية النار في ثبوت الحرارة للماء ـ اذ الوجدان قاض بأنه لا تضاد بين انشاء الوجوب وانشاء الحرمة على شيء معين لو قصر النظر عليهما ، ولو بعد وسطية غيرهما.

بل المراد (التضاد بالعرض) ـ بأن يكون الموصوف به بالذات واسطة في العروض وهي ما كانت الواسطة مناطا ، لاتصاف ذيها بشيء بالعرض والمجاز ، لعلاقة ، كما في حركة السفينة وحركة جالسها ـ أما الاصالة فهي للتضاد الحاصل

١٢

في (المنتهى) ـ أي ما يرتبط بمرحلة امتثال المكلف للحكم وجريه العملي على مقتضاه ـ وأما التضاد الحاصل في (المبدأ) ـ أي مبدأ الحكم من الارادة ومقدماتها ـ فهو تضاد بالتبع على ما سيأتي ان شاء الله تعالى.

ثم لا يخفى ان المراد من التضاد هنا لا ينحصر في (الحقيقي منه) ، وهو ما كان بين الذاتين المتضادتين غاية البعد والخلاف ، كما في طرفي الافراط والتفريط من الصفات ، مثل الجبن والتهور ، بل يعم التضاد المشهوري أيضا ، وهو ما يشمل غير ما كان كذلك كعمومه له ، كالتضاد بين الجبن والشجاعة.

وما ذكر من التعميم انما هو لعموم الملاك ، فما يساق من الادلة لاثبات امكان الترتب أو امتناعه يشمل التضاد مطلقا ، حقيقيا كان أو مشهوريا.

نعم يستثنى من ذلك : التضاد بين الضدين اللذين لا ثالث لهما ، وسيأتي البحث في ذلك إن شاء الله تعالى.

ثم : ان تخصيص (الضدين) بالذكر ـ من بين اقسام التقابل الاربعة ـ انما هو لعدم امكان جريان الترتب في البواقي ، أما (النقيضان) فلان عصيان احدهما مساوق لتحقق الآخر ، لاستحالة ارتفاع النقيضين ، فيكون طلبه طلبا للحاصل ، وأما (العدم والملكة) فلرجوعهما الى (النقيضين) لكن مع لحاظ المحل القابل ، سواء لوحظ المحل القابل مقيدا بالوقت والشخص وهو (المشهوري) أو مطلقا وهو (الحقيقي) ، وأما (المتضايفان) فلوجوب وجود كل واحد منهما بالقياس الى وجود الآخر ، وامتناعه بالقياس الى عدمه ، فلا يعقل اناطة وجوب ايجاد احدهما بعصيان ايجاد الآخر لانه يؤول الى ايجاب ايجاد الشيء في ظرف عدمه وهو تهافت.

هذا ، ولكن يمكن أن يقال بعدم اختصاص الجريان بالضدين ، اذ يمكن جريانه ـ ولو بملاكه ـ في الخلافين أيضا ، بأن يكون متعلق الامر الاول : التطهير

١٣

ـ مثلا ـ ومتعلق الثاني : التعطير ، معلقا على عصيان الامر الاول ، وانما لم يأمر المولى بهما معا بأن يكون الامران عرضيين مع قابلية المحل وقدرة المكلف على الجمع ـ بمقتضى كونها خلافين ـ لمفسدة في الامر بالجمع أو نحو ذلك ، وانما لم يكن الامر ان تخييريين لكون الاول أهم.

ومنشأ هذا التعميم استلزام الامر كذلك لطلب الجمع ـ لعدم سقوط الامر بالاهم بعصيانه ما لم يفت الموضوع ـ وقد فرضنا المحذور فيه ، هذا على مبنى الامتناع ، فتأمل.

وعليه : ينبغي أخذ (الغيرية) ـ التي هي مقسم للتماثل والتخالف والتقابل ـ في عنوان البحث لا تخصيصه بالتضاد ـ الذي هو أحد أنواع التقابل ـ ولعل التخصيص ب (التضاد) في كلمات الاصوليين لمكان كونه محل الحاجة ، وتعدد أمثلته في الاوامر الشرعية ـ على ما سيأتي إن شاء الله تعالى ـ.

وهل يختص الامر في العنوان بالشرعي؟ أم يعم العقلي أيضا؟

قد يقال : بالاختصاص ، بناء على انكار وجود الاحكام العقلية أصلا ، فالعقل يرى الحسن والقبيح ، وليست له باعثية نحو الحسن ، ولا زاجرية عن القبيح.

وفيه : ان باعثية العقل وزاجريته من «الوجدانيات» ـ وهي من أقسام اليقينيات ، كما ذكر في بحث «الصناعات الخمس» ـ والانسان يحس من وجدانه الفرق بين «الرؤية المجردة للعقل» ـ كادراكه بأن الواحد نصف الاثنين ، أو قبح المنظر المشوه ـ وبين «الرؤية المصحوبة بالتحريك» كما في البعث نحو العدل والزجر عن الظلم.

وتؤيده بعض الظواهر كقوله تعالى (وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى) وقوله سبحانه (أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ).

لا يقال : الادراك سنخ مغاير للبعث والزجر ، إذ يشبه ان يكون من قبيل الانفعال

١٤

وهما من قبيل الفعل ، والواحد لا يصدر منه الا الواحد.

فانه يقال : ان في كون الادراك من قبيل الانفعال نظرا ، فقد ذهب جمع الى كونه من مقولة «الفعل» ، فالنفس تنشئ الصور الذهنية في صقع نفسها ، لا انها تنطبع فيها انطباع الصورة في المرآة ، فلا يكون ثمة تعدد في السنخ ، مع ان موضوع القاعدة ـ على فرض تسليمها ـ هو الواحد الحقيقي ، لان مناطها هو أن كل علة لا بد أن يكون لها خصوصية بحسبها يصدر عنها المعلول المعين ، فلو تعدد تعددت وانثلمت وحدة البسيط ، وهذا المناط كما ترى مختص بالبسيط الحقيقي ، ولذا ذكروا ان القاعدة لا تجري في المركب ولو كانت كثرته اعتبارية ، وهذا الشرط مفقود في المقام.

وتمام الكلام موكول الى محله.

لا يقال : ان الحكم عبارة عن نسبة انشائية متقومة بطرفين ـ الحاكم والمحكوم عليه ـ ولا اثنينية في المقام.

فانه يقال : يكفي في الاثنينية التعدد الاعتباري ، ولا يفتقر الى التعدد الخارجي ومثاله في الاعتباريات : تولي الولي والوصي والوكيل طرفي المعاملة كأن يبيع مال المولى عليه لنفسه ، وماله له ، كما ذكر في كتاب البيع والوكالة والنكاح ، ومثاله في الامور الخارجية : علم النفس بذاتها. هذا مضافا الى تحقق الاثنينية خارجا ، اذ النفس ـ على المعروف ـ حقيقة ذات مراتب فيمكن أن تكون مرتبة منها حاكمة على مرتبة اخرى منها فتأمل.

ثم انه لو فرض انكار جريان الترتب في مرحلة (الحكم العقلي) أمكن تصور الجريان في مرحلة (الرؤية العقلية) بأن يرى العقل أحد الشيئين حسنا على كل تقدير ، والآخر حسنا على تقدير ترك الاول ، نعم يمكن أن يقال :

بان ذلك خروج عن المولوية الى الارشادية ، وقد أخذت الاولى في موضوع

١٥

الترتب.

وبه أيضا يمكن أن يورد على الترتب في مرحلة (الحكم العقلي) ـ على فرض تسليمه ـ بأن يقال : بأن الحكم ارشادي ، فلا يتحقق موضوع (الترتب) اذ لا اشكال في جواز الامر الترتبي الارشادي حتى عند القائل بامتناع الترتب وما وقع محلا للخلاف هو الامر المولوي.

ثم انه لا وجه لتخصيص موضوع الترتب ب (الامرين) ، اذ الترتب كما يجري في الامرين كذلك يجري في النهيين والمختلفين ، فتكون الاقسام أربعة ، وتعلم الامثلة بقلب أحد الامرين أو كليهما الى النهي عن الضد العام للمتعلق كقول الامر (لا تترك الدرس فان عصيت فلا تترك التجارة).

ودعوى : كون النهي حينئذ صوريا ، وواقع الامر هو الامر مدفوعة نقضا : بامكان ادعاء العكس ، ولا أولوية لها عليه.

وحلا : بأنه كما يمكن كون المصلحة في الفعل كذلك يمكن كون المفسدة في الترك فللمولى ان يصب الحكم في قالب الامر بالفعل في الاول ، والنهي عن النقيض في الثاني.

ويمكن أن يمثل لذلك أيضا بقلب الامر بأحد الضدين الذين لا ثالث لهما الى النهي عن ضده الخاص ، فالامر لوجود المصلحة في الفعل ، والنهي لقيام المفسدة بالضد الخاص ..

ولا يرد هنا ما قد يرد على سابقه من استحالة قيام الوصف الوجودي بالترك العدمي ، لكون الضدين وجوديين.

هذا كله لو بني على ان الاختلاف بين الامر والنهي اختلاف في السنخ والطبيعة ، واما لو قيل بامكان كون الاختلاف بينهما في اللفظ والصياغة ـ ولو في الجملة ـ فالامر أوضح ، اذ عليه يكون للمولى أن يصوغ طلبه في قالب الامر أو النهي بلا

١٦

فرق بينهما ..

وذلك لتحقق الغرض في كلتا الصورتين .. ونظير ذلك يجري في الوجوب النفسي والغيري ، اذ يكون للمولى تحديد مركز حق الطاعة في الشيء سواء كانت المصلحة قائمة به أو قائمة بما يؤدي اليه.

كون التكليفين الزاميين

(الثاني) كون التكليفين الزاميين.

وفيه نظر : لجريان (الترتب) أيضا في غير هذه الصورة.

وتقريبه : ان الواجب والمستحب ـ وكذا الحرام والمكروه ـ وان كانا حقيقتين متباينتين بلحاظ مرتبة (الحكم) ، فانهما أمران انتزاعيان ، والتفاوت التشكيكي لا مجرى له في الامور الانتزاعية ، لا عقلا ، ولا عرفا ، لكنهما بلحاظ المبادي حقيقة واحدة ذات مراتب ، تختلف من حيث الغنى والفقر والشدة والضعف ، كالمرتبة الضعيفة والشديدة من السواد مثلا ، فتكون مبادئ الحكم غير الالزامي مسانخة لمبادئ الحكم الالزامي وان اختلفت في الشدة والضعف.

ومن الواضح ان البحث في امكان الترتب وامتناعه ليس بلحاظ مرحلة (الحكم) ليقال باختلاف الحقيقتين ، لما قد سبق من عدم التضاد بين الاحكام لا بالذات ولا بالتبع ، وانما هو بلحاظ مرحلة (المبادي) التي قد عرفت انها متماثلة في الاحكام الالزامية وغير الالزامية.

ثم لو فرض ان المبادي حقائق متباينة بتمام الذات لم يضر في المقام ، وذلك لتوقف الحكم غير الالزامي ـ كالالزامي ـ على الملاك والارادة ونحوهما من المبادي ـ وان فرض تحقق الاختلاف فيما بينها ـ فيجري بلحاظها بحث الامكان

١٧

والامتناع.

هذا ولكن في المسألة احتمالان آخران :

أحدهما :

الجواز مطلقا ، وذلك لان مجرد اشتراك غير الالزامي مع الالزامي في وجود المبادي لا يكفي ، بعد وجود الاختلاف السنخي بينهما فيها ، اذ الارادة في الالزامي من الاحكام قوية الى حد لا يرضى المولى فيه بالترك ، ومع بلوغ الارادة الى هذه الدرجة من الشدة لا يبقى هناك مجال لارادة شيء آخر ـ بناء على الامتناع ـ اما الارادة في غير الالزامي فليست بتلك المثابة ، فيمكن وجود ارادة اخرى متعلقة بشيء آخر في عرضها ، فيكون وزان الارادة الالزامية ـ من بعض الوجوه ـ وزان العلم الذي لا يدع مجالا للاحتمال المعاكس ، ووزان الارادة غير الالزامية وزان الظن الذي يكون معه للاحتمال المعاكس مجال ، وعليه :

فيصح الامر بالمهم في عرض الامر بالاهم ولو على مبنى الامتناع.

وعليه : فتختص أدلة الامتناع بالالزاميين.

ثانيهما :

التفصيل بين ما كان الاهم الزاميا والمهم غير الزامي وبين ما كانا غير الزاميين فيجري بحث الترتب بلحاظ الاول ، فالقائل بالامكان يرى الجواز ، لما سيأتي ، والقائل بالامتناع يرى عدمه لان ارادة الالزامي لا تدع مجالا لارادة غيره بل المنع هنا اولى ، اذ لو كانت ارادة الاهم لا تدع مجالا للمهم الالزامي فكيف تدع مجالا للمهم غير الالزامي؟

وهذا بخلاف ما لو كانا غير الزاميين اذ لا ينبغي ان يختلف في جواز الامر بهما ، على نحو الترتب لعدم وصول الارادة في الاهم الى حد المنع من النقيض ولعدم جريان المحاذير المتصورة في الترتب فيه ، وسيأتي بعض ما يناسب المقام في الشرط السابع

١٨

ان شاء الله تعالى.

كون المهم عباديا

(الثالث) كون المتعلقين عباديين ، أو كون المهم عباديا.

ولعل اشتراط ذلك من أجل ان تكون المسألة ذات اثر عملي ، اذ على الامكان تترتب صحة العبادة المأمور بها على نحو الامر الترتبي ، وعلى الامتناع الفساد ـ لو لم تصحح بالملاك ـ اما في غير العباديات : فلا اثر لوجود الامر وعدمه ، لكونها توصلية يترتب عليها اثرها ولو مع عدم وجود الامر.

وهذا الشرط محل تأمل ، اذ المأخوذ في تعريف المسألة الاصولية يشمل ما يعرف به نفس وجود الامر وعدمه ، ولو لم تترتب عليه ثمرة عملية أصلا.

قال صاحب الكفاية (قده) :

الاصول صناعة يعرف بها القواعد التي يمكن أن تقع في طريق استنباط الاحكام او التي ينتهى اليها في مقام العمل.

وقال المحقق الاصفهاني (قده) في (الاصول على النهج الحديث) :

علم الاصول فن يعرف به ما يفيد في اقامة الحجة على حكم العمل.

وقال في (النهاية) :

علم الاصول ما يبحث فيه عن القواعد الممهدة لتحصيل الحجة على الحكم الشرعي.

وقال المحقق النائيني (قده) :

علم الاصول عبارة عن العلم بالكبريات التي لو انضمت اليها صغرياتها يستنتج منها حكم فرعي كلي.

١٩

وقال المحقق العراقي (قده) :

انه القواعد الخاصة الواقعة في طريق استكشاف الوظائف الكلية العملية شرعية كانت ام عقلية.

وعن الشيخ الاعظم (قده) تعريف المسألة الاصولية بما يكون أمر تطبيقه مخصوصا بالمجتهد ولا يشترك فيه المقلد.

وعن الحائري (قده) :

انه العلم بالقواعد الممهدة لكشف حال الاحكام الواقعية المتعلقة بأفعال المكلفين سواء وقعت في طريق العلم بها أو كانت موجبة للعلم بتنجزها على تقدير الثبوت ، او كانت موجبة للعلم بسقوط العقاب.

وعرفه السيد الوالد ـ دام ظله ـ في (الاصول) :

بأنه العلم بكيفية الاستنباط مما يستنبط منه العلم.

وفي (المحاضرات) :

انه العلم بالقواعد التي تقع بنفسها في طريق استنباط الاحكام الشرعية الكلية الالهية من دون حاجة الى ضميمة كبرى او صغرى اصولية اخرى اليها.

وفي (التهذيب) :

انه هو القواعد الالية التي يمكن أن تقع في كبرى استنتاج الاحكام الكلية الفرعية الالهية او الوظيفة العملية.

الى غيرها من العبارات التي تشعر بعدم اشتراط وجود ثمرة عملية للمسألة الاصولية.

ومن هنا أدرج المحقق النائيني (قده) مبحث المقدمة ضمن المباحث الاصولية مع اعترافه بعدم وجود ثمرة عملية لها حيث قال (قده) :

انه لا يترتب على البحث في وجوب المقدمة ثمرة عملية اصلا ، بل كان البحث

٢٠