لطائف الإشارات - ج ٢

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري

لطائف الإشارات - ج ٢

المؤلف:

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري


المحقق: الدكتور إبراهيم بسيوني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٥٥

عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥))

خوّفهم برؤيته ـ سبحانه ـ لأعمالهم ، فلمّا علم أنّ فيهم من تتقاصر حالته عن الاحتشام لأّطلاع الحقّ قال : (وَرَسُولُهُ) ، ثم قال لمن نزلت رتبته : (وَالْمُؤْمِنُونَ). وقد خسر من لا يمنعه الحياء ، ولا يردعه الاحتشام ، وسقط من عين الله من هتك جلباب الحياء ، كما قيل :

إذا قلّ ماء الوجه قلّ حياؤه

ولا خير فى وجه إذا قلّ ماؤه

ومن لم يمنعه الحياء عن تعاطى المكروهات فى العاجل سيلقى غبّ ذلك ، وخسرانه عن قريب فى الآجل.

قوله جل ذكره : (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠٦))

لم يصرّح بقبول توبتهم ، ولم يسمهم باليأس من غفرانه ، فوقفوا على قدم الخجل ، متميلين بين الرهبة والرغبة ، متردّدين بين الخوف والرجاء. أخبر الله ـ سبحانه ـ أنّه إن عذّبهم فلا اعتراض يتوجّه عليه ، وإن رحمهم فلا سبيل لأحد إليه ، قال بعضهم :

ويشبعنى من الآمال وعد

ومن علمى بتقصيري وعيد

قوله جل ذكره : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٠٧))

من لم يكن مخلصا فى ولائه لم يأنس القلب بكدّه وعنائه ، فتودّده فى الظاهر ينادى عليه بالتوائه ، وبقوله بالتكلّف شهادة صدق على عدم صفائه :

٦١

من لم يكن للوصال أهلا

فكلّ إحسانه ذنوب

قوله جل ذكره : (لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (١٠٨))

المقام فى أماكن العصيان ، والتعزيج فى أوطان أهل الجحود والطغيان ـ من علامات الممالأة مع أربابها ، وسكّانها وقطّانها.

والتباعد عن مساكنهم ، وهجران من جنح إلى مسالكهم علم لمن أشرب قلبه مخالفتهم ، وباشرت سرّه عداوتهم.

(فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) : يتطهرون عن المعاصي وهذه سمة العابدين ، ويتطهرون عن الشهوات والأمانى وتلك صفة الزاهدين ، ويتطهرون عن محبة المخلوقين ، ثم عن شهود أنفسهم بما يتصفون وتلك صفة العارفين.

قوله (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) : أسرارهم (١) عن المساكنة إلى كل مخلوق ، أو ملاحظة كل محدث مسبوق.

قوله جل ذكره : (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠٩))

المريد يجب أن يؤسّس بنيانه على يقين صادق فيما يعتقده ، ثم على خلوص فى العزيمة ألا ينصرف قبل الوصول عن الطريق الذي يسلكه ، ثم على انسلاخه عن جميع مناه وشهواته ، وماربه ومطالبه ، ثم يبنى أمره على دوام ذكره بحيث لا يعترضه نسيان ، ثم على ملازمة حق المسلمين وتقديم مصالحهم ... بالإيثار على نفسه. والذي ضيّع الأصول

__________________

(١) أسرارهم مفعول به لاسم الفاعل (الْمُطَّهِّرِينَ).

٦٢

فى ابتدائه حرم الوصول فى انتهائه ، والذي لم يحكم الأساس فى بنائه سقط السّقف على جدرانه.

قوله جل ذكره : (لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١١٠))

عروق النّفاق لا تقتلع من عرصات اليقين إلا بمنجل التّحقّق بصحيح البرهان ؛ فمن أيّد لإدامة المسير ، ووفّق لتأمل البرهان وصل إلى ثلج الصدر وروح العرفان.

ومن أقام على معتاد التقليد لم يسترح قلبه من كدّ التردّد ، وظلمة التجويز ، وجولان الخواطر المشكلة فى القلب.

قوله جل ذكره : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١١))

لمّا كان من المؤمنين تسليم أنفسهم وأموالهم لحكم الله ، وكان من الله الجزاء والثواب ؛ أي هناك عوض ومعوّض ، فلما بين ذلك وبين التجارة من مشابهة أطلق لفظ الاشتراء ، وقد قال تعالى : (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ ...) (١) ، وقال : (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) (٢).

وفى الحقيقة لا يصحّ فى وصف الحق ـ سبحانه ـ الاشتراء لأنه مالك سواه ، وهو مالك الأعيان كلّها. كما أنّ من لم يستحدث ملكا لا يقال إنه ـ فى الحقيقة ـ باع.

__________________

(١) آية ١٠ سورة الصف.

(٢) آية ١٦ سورة البقرة.

٦٣

وللمقال فى هذه الآية مجال ... فيقال : البائع لا يستحقّ الثمن إذا امتنع عن تسليم المبيع ، فكذلك لا يستحق العبد الجزاء الموعود إلا بعد تسليم النّفس والمال على موجب أوامر الشرع ، فمن قعد أو فرّط فغير مستحق للجزاء.

ويقال لا يجوز فى الشرع أن يبيع الشخص ويشترى شيئا واحدا فيكون بائعا ومشتريا إلا إذا كان أبا وجدا! ولكن ذلك هنا بلفظ الشفقة ؛ فالحقّ بإذنه كانت رحمته بالعبد أتمّ ، ونظره له أبلغ ، وكان للمؤمن فيه من الغبطة ما لا يخفى ، فصحّ ذلك وإن كان حكمه لا يقاس على حكم غيره.

ويقال إنما قال : (اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ) ولم يقل «قلوبهم» لأنّ النّفس محل الآفات فجعل الجنة فى مقابلتها ، وجعل ثمن القلب أجلّ من الجنة ، وهو ما يخصّ به أولياء فى الجنة من عزيز رؤيته (١).

ويقال النّفس محلّ العيب ، والكريم يرغب فى شراء ما يزهد فيه غيره.

ويقال من اشترى شيئا لينتفع به اشترى خير ما يجده ، ومن اشترى شيئا لينتفع به غيره يشترى ما ردّ على صاحبه لينفعه بثمنه.

وفى بعض الكتب المنزلة على بعض الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ : يا بنى آدم ، ما خلقتكم لأربح عليكم ولكن خلقتكم لتربحوا علىّ.

ويقال اشترى منهم نفوسهم فرهبوا على قلوبهم شكرا له حيث اشترى نفوسهم ، وأمّا القلب فاستأثره قهرا ، والقهر فى سنّة الأحباب أعزّ من الفضل ، وفى معناه أنشدوا :

بني الحبّ على القهر فلو

عدل المحبوب يوما لسمج

ليس يستحسن فى حكم الهوى

عاشق يطلب تأليف الحجج

وكان الشيخ أو على الدقاق (٢) رحمه‌الله يقول : «لم يقل اشترى قلوبهم لأن القلوب وقف على محبته ، والوقف لا يشترى».

__________________

(١) أنظر كيف تحتل الجنة المرتبة الثانية بعد رؤية المحبوب ـ عند هذا الصوفي.

(٢) الدقاق هو شيخ القشيري ورائده وأستاذه وصهره. وقد أشرنا إلى شىء من سيرته فى مدخل هذا الكتاب.

٦٤

ويقال الطير فى الهواء ، والسّمك فى الماء لا يصحّ شراؤهما لأنه غير ممكن تسليمهما ، كذلك القلب ... صاحبه لا يمكنه تسليمه ، قال تعالى :

(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) (١)

وفى التوراة : «الجنّة جنتى والمال مالى فاشتروا جنتى بمالى فإن ربحتم فلكم وإن خسرتم فعلىّ»

ويقال علم سوء خلقك فاشتراك قبل أن أوجدك ، وغالى بثمنك لئلا يكون لك حقّ الاعتراض عند بلوغك.

ويقال ليس للمؤمن أن يتعصّب لنفسه بحال لأنها ليست له ، والذي اشتراها أولى بها من صاحبها الذي هو أجنبي عنها.

ويقال أخبر أنه اشتراها لئلا يدّعى العبد فيها ؛ فلا يساكنها ولا يلاحظها ولا يعجب بها (٢).

قوله : (فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) سيّان (٣) عندهم أن يقتلوا أو يقتلوا ، قال قائلهم :

وإنّ دما أجريته لك شاكر

وإنّ فؤادا خرته لك حامد

ويقال قال : (فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ) ولم يقل بثمن مبيعكم لأنه لم يكن منّا بيع ، وإنما أخبر عن نفسه بقوله (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) فجعل بيعه بيعنا ، وهذا مثلما قال فى صفة نبيه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) وهذا عين الجمع الذي أشار إليه القوم.

قوله جل ذكره : (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ)

مدحهم بعد ما أوقع عليهم سمة الاشتراء بقوله (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ ...) ومن رضى بما اشتراه فإنّ له حقّ الردّ إذا لم يعلم العيب وقت الشّراء ، فأمّا إذا كان عالما به

__________________

(١) آية ٢٤ سورة الأنفال.

(٢) لاحظ مدى التقاء القشيري ـ فيما يتصل بالنفس ـ بتعاليم أهل الملامة النيسابورية.

(٣) وردت (شتان) وهى ـ حسب ما هو واضح ـ خطأ فى النسخ.

٦٥

فليس له حقّ الردّ ؛ قال تعالى : (وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ) (١).

ويقال من اشترى شيئا فوجد به عيبا ردّه على من منه اشتراه ولكنه ـ سبحانه ـ اشترى نفوسنا منه ، فإذا أراد الردّ فلا يردّ إلا على نفسه ؛ قال تعالى : (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ) وكما أنّ الردّ إليه فلو ردّنا كان الردّ عليه.

قوله تعالى : (التَّائِبُونَ) أي الراجعون إلى الله ، فمن راجع يرجع عن زلّته إلى طاعته ، ومن راجع يرجع عن متابعة هواه إلى موافقة رضاه ، ومن راجع يرجع عن شهود نفسه إلى شهود لطفه ، ومن راجع يرجع عن الإحساس بنفسه وأبناء جنسه إلى الاستغراق فى حقائق حقّه.

ويقال تائب يرجع عن أفعاله إلى تبديل أحواله ؛ فيجد غدا فنون أفضاله ، وصنوف لطفه ونواله ، وتائب يرجع عن كل غير وضد إلى ربّه بربّه لربّه بمحو كلّ أرب ، وعدم الإحساس بكلّ طلب.

وتائب يرجع لحظّ نفسه من جزيل ثوابه أو حذرا ـ على نفسه ـ من أليم عذابه ، وتائب يرجع لأمره برجوعه وإيابه ، وتائب يرجع طلبا لفرح نفسه حين ينجو من أوضاره ، ويخلص من شؤم أوزاره ، وتائب يرجع لمّا سمع أنه قال : إنّ الله أفرح بتوبة عبده من الأعرابى الذي وجد ضالّته ـ كما فى الخبر ، وشتّان ما هما! وأنشدوا :

أيا قادما من سفرة الهجر مرحبا

أناديك لا أنساك ما هبّت الصّبا

وأمّا قوله (الْعابِدُونَ) : فهم الخاضعون بكلّ وجه ، الذين لا تسترقّهم كرائم الدنيا ، ولا تستعبدهم عظائم العقبي. ولا يكون العبد عبد الله ـ على الحقيقة ـ إلا بعد تجرّده عن كل شىء حادث. وكلّ أحد فهو له عبد من حيث الخلقة ؛ قال تعالى : (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) (٢). ولكنّ صاحب العبودية خاصّ ، وهو عزيز.

__________________

(١) آية ٣٢ سورة الدخان.

(٢) آية ٩٣ سورة مريم.

٦٦

قوله جل ذكره : (الْحامِدُونَ)

هم الشاكرون له على وجود أفضاله ، المثنون عليه عند شهود جلاله وجماله.

ويقال الحامدون بلا اعتراض على ما يحصل بقدرته ، وبلا انقباض عما يجب من طاعته.

ويقال الحامدون له على منعه وبلائه كما يحمدونه على نفعه وعطائه.

ويقال الحامدون إذا اشتكى من لا فتوّة (١) له المادحون إذا بكى من لا مروءة له.

ويقال الشاكرون له إن أدناهم ، الحامدون له إن أقصاهم.

قوله جل ذكره : (السَّائِحُونَ)

الصائمون ولكن عن شهود غير الله ، الممتنعون عن خدمة غير الله ، المكتفون من الله بالله.

ويقال السائحون الذين يسيحون فى الأرض على جهة الاعتبار طلبا للاستبصار ، ويسيحون بقلوبهم فى مشارق الأرض ومغاربها بالتفكّر فى جوانبها ومناكبها ، والاستدلال بتغيّرها على منشئها ، والتحقق بحكمة خالقها بما يرون من الآيات فيها ، ويسيحون بأسرارهم فى الملكوت فيجدون روح الوصال ، ويعيشون بنسيم الانس بالتحقق بشهود الحق.

قوله جل ذكره : (الرَّاكِعُونَ)

الخاضعون لله فى جميع الأحوال بخمودهم تحت سلطان التجلّى ، وفى الخبر. «إن الله ما تجلّى لشىء إلا خشع له».

وكما يكون ـ فى الظاهر ـ راكعا يكون فى الباطن خاشعا ، ففى الظاهر بإحسان الحقّ إليه يحسن تولّيه ، وفى الباطن كالعيان للعيان للحقّ بأنوار تجلّيه.

قوله جل ذكره (السَّاجِدُونَ)

فى الظاهر بنفوسهم على بساط العبودية ، وفى الباطن بقلوبهم عند شهود الربوبية.

__________________

(١) سأل شقيق البلخي جعفر بن محمد عن الفتوة فقال : ما تقول أنت؟ فقال شقيق : إن أعطينا شكرنا وإن منعنا صبرنا ، فقال جعفر : الكلاب عندنا بالمدينة كذلك تفعل! فقال شقيق : وما الفتوة عندكم؟ فقال : إن أعطينا آثرنا ، وإن منعفا شكرنا (الرسالة ص ١١٥).

٦٧

والسجود على أقسام : سجود عند صحة القصود فيسجد بنعت التذلل على بساط الافتقار ، ولا يرفع رأسه عن السجود إلا عند تباشير الوصال. وسجود عند الشهود إذا تجلّى الحقّ لقلبه سجد بقلبه ، فلم ينظر بعده إلى غيره ، وسجود فى حال الوجود وذلك بخموده عن كليته ، وفنائه عن الإحساس بجميع أوصافه وجملته.

قوله جل ذكره : (الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)

هم الذين يدعون الخلق إلى الله ، ويحذّرونهم عن غير الله. يتواصون بالإقبال على الله وترك الاشتغال بغير الله. يأمرون أنفسهم بالتزام الطاعات بحملهم إياها على سنن الاستقامة ، وينهون أنفسهم عن اتّباع المنى والشهوات بترك التعريج فى أوطان الغفلة ، وما تعودوه من المساكنة والاستنامة.

والحافظون لحدود الله ، هم الواقفون حيث وقفهم (١) الله ، الذين لا يتحركون إلا إذا حرّكهم ولا يسكنون إلا إذا سكنهم ، ويحفطون مع الله أنفاسهم (٢).

قوله جل ذكره : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١١٣))

أصل الدين التبرّى من الأعداء ، والتولّى للأولياء ، والولىّ لا قريب له ولا حميم ، ولا نسيب له ولا صديق ؛ إن والى فبأمر ، وإن عادى فلزجر.

قوله جل ذكره : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ

__________________

(١) يكون الفعل (وقف) متعديا مثل : وقف فلانا على الأمر أي أطلعه عليه (الوسيط)

(٢) مراعاة الأنفاس من الأمور التي شغل بها الصوفية دائما ، يقول الجنيد :

وما تنفست إلا كنت مع نفسى

تجرى بك الروح منى في مجاريها

٦٨

إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (١١٤))

لما أمر المسلمين بالتبرّى عن المشركين والإعراض عنهم والانقباض عن الاستغفار لهم بيّن أنّ هذا سبيل الأولياء ، وطريق الأنبياء عليهم‌السلام ، وأنّ ابراهيم ـ عليه‌السلام ـ وإن استغفر لأبيه فإنما كان من قبل تحقّقه بأنه لا يؤمن ، فلمّا علم أنه عدوّ لله أظهر البراءة منه.

قوله جل ذكره : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١٥))

إنّ الله لا يحكم بضلالكم وذهابكم عن طريق الحقّ باستغفاركم للمشركين إلا بعد ما تبيّن لكم أنكم منهيّون عنه ، فإذا علمتم أنكم نهيتم عن استغفاركم لهم فإن أقدمتم على ذلك فحينئذ ضللتم عن الحقّ بفعلكم بعد ما نهيتم عنه ... هذا بيان التفسير للآية ، والإشارة فيها أنه لا سلب لعطائه إلا بترك أدب منكم.

ويقال من أحلّه بساط الوصلة ما منى بعده بعذاب الفرقة ، إلا لمن سلف منه ترك حرمة.

قوله جل ذكره : (إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١١٦))

الحقّ لا يتجمّل بوجود مملوكاته ، ولا يلحقه نقص بعدم (١) مخلوقاته ، فقبل أن أوجد شيئا من الحادثات كان ملكا ـ والملك أكثر مبالغة من المالك ـ وملكه قدرته

__________________

(١) سقطت الميم من (بعدم) فأثبتناها إذ بدونها يضطرب السياق فالمراد (وجود المملوكات وعدمها).

٦٩

على الإبداع ؛ والمعدوم مقدوره ومملوكه ، فإذا أوجده فهو فى حال حدوثه مقدوره ومملوكه ، فإذا أعدمه خرج عن الوجود ولم يخرج عن كونه مقدورا له.

(يُحْيِي وَيُمِيتُ) يحيى من يشاء بعرفانه وتوحيده ، ويميت من يشاء بكفرانه وجحوده.

ويقال يحيى قلوب العارفين بأنوار المواصلات ، ويميت نفوس العابدين بآثار المنازلات.

ويقال يحيى من أقبل عليه بتفضّله ، ويميت من أعرض عنه بتكبّره.

قوله جل ذكره : (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١١٧))

قبل توبتهم ، وتاب على نبيّه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فى إذنه للمنافقين فى التخلف عنه فى غزوة تبوك ، وأمّا على المهاجرين والأنصار الذين قد خرجوا معه حين همّوا بالانصراف (١) لما أصابهم من العسرة من الجوع والعطش والإعياء (٢) فى غزوة تبوك ، كما قال : (مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ) : وتوبته عليهم أنه تدارك قلوبهم حتى لم تزغ ، وكذا سنّة الحقّ ـ سبحانه ـ مع أوليائه إذا أشرفوا على العطب ، وقاربوا من التّلف ، واستمكن اليأس فى قلوبهم من النصر ، ووطّنوا أنفسهم على أن يذوقوا البأس ـ يمطر عليهم سحائب الجود ، فيعود عود الحياة بعد يبسه طريّا ، ويردّ ورد الأنس عقب ذبوله غضا جنيّا ، وتصير أحوالهم كما قال بعضهم :

كنّا كمن ألبس أكفانه

وقرّب النّعش من اللّحد

فجال ماء الرّوح فى وحشة

وردّه الوصل إلى الورد

__________________

(١) وردت (الإنصاف) وليس لها معنى فصوبناها (الانصراف) فهو المقصود.

(٢) وردت (الأعياد) وهى خطأ فى النسخ إذ التبست الهمزة على الناسخ.

٧٠

تبارك الله سبحانه

ما (...) (١) هو بالسرمد

قوله جل ذكره : (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١١٨))

لمّا صدق منهم اللجاء تداركهم بالشّفاء وأسقط عنهم البلاء ، وكذلك الحقّ يكوّر نهار اليسر على ليالى العسر ، ويطلع شموس المحنة على نحوس الفتنة ، ويدير فلك السعادة (٢) فيمحق تأثير طوارق النكاية ؛ سنّة منه ـ تعالى ـ لا يبدّلها ، وعادة منه فى الكرم يجريها ولا يحوّلها.

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (١١٩))

يا أيها الذين آمنوا برسل الله ، يا أيها الذين آمنوا من أهل الكتاب ... كونوا مع الصادقين المسلمين ، يا أيها الذين آمنوا فى الحال كونوا فى آخر أحوالكم مع الصادقين ؛ أي استديموا الإيمان. استديموا فى الدنيا الصدق تكونوا غدا مع الصادقين فى الجنة.

ويقال الصادقون هم السابقون الأولون وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلى رضى الله عنهم وغيرهم.

ويقال الصدق نهاية الأحوال ، وهو استواء السّرّ والعلانية ، وذلك عزيز. وفى الزّبور : «كذب من ادّعى محبتى وإذا حبّه الليل نام عنّي».

__________________

(١) مشتبهة ، والشطر الثاني من البيت الأخير مضطرب الوزن

(٢) ربما كانت (العناية) لتنسجم مع (الشكاية) لأننا نلحظ اهتمام القشيري بالموسيقى الداخلية فى تركيب فقرات هذه الإشارة ، وإن كانت «السعادة» مقبولة فى السياق.

٧١

والصدق ـ كما يكون فى الأقوال يكون فى الأحوال ، وهو أتمّ أقسامه.

قوله جل ذكره : (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١٢٠) ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون)

لا يجوز لهم أن يؤثروا على النبىّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ شيئا من نفس وروح ، ومال وولد وأهل ، وليسوا يخسرون على الله وأنّى ذلك ..؟ وإنهم لا يرفعون لأجله خطوة إلّا قابلهم بألف خطوة ، ولا ينقلون إليه قدما إلا لقّاهم لطفا وكرما ، ولا يقاسون فيه عطشا إلا سقاهم من شراب محابّه كاسا ، ولا يتحملون لأجله مشقة إلا لقّاهم لطفا وإيناسا ، ولا ينالون من الأعداء أذىّ إلا شكر الله سعيهم بما يوجب لهم سعادة الدارين!

قوله جل ذكره : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (١٢٢))

٧٢

لو اشتغل الكلّ بالتّفقّه فى الدّين لتعطّل عليهم المعاش ، ولبقى الكافة عن درك ذلك المطلوب ، فجعل ذلك فرضا على الكفاية.

ويقال جعل المسلمين على مراتب : فعوامّهم كالرعية للملك (١) ، وكتبة الحديث كخزّان الملك ، وأهل القرآن كحفّاظ الدفاتر ونفائس الأموال ، والفقهاء بمنزلة الوكلاء للملك إذ الفقيه (...) (٢) عن الله ، وعلماء الأصول كالقوّاد وأمراء الجيوش ، والأولياء كأركان الباب ، وأرباب القلوب وأصحاب الصفاء كخواص الملك وجلسائه.

فيشتغل قوم يحفظ أركان الشرع ، وآخرون بإمضاء الأحكام ، وآخرون بالرّد على المخالفين ، وآخرون بالأمر بالمعروف ، والنهى عن المنكر ، وقوم مفردون بحضور القلب وهم أصحاب الشهود ، وليس لهم شغل ، يراعون مع الله أنفاسهم وهم أصحاب الفراغ ، لا يستفزّهم طلب ولا يهزّهم أرب ، فهم بالله لله ، وهم محو عما سوى الله (٣).

وأمّا الذين يتفقهون فى الدّين فهم الداعون إلى الله ، وإنما يفهم الخلق عن الله من كان يفهم عن الله.

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٢٣))

اقرب الأعداء إلى المسلم من الكفار ، الذي يجب عليه منازعته هو أعدى عدوّه

__________________

(١) فى الهامش (فالناس كلهم خدم للملك). ولا توجد علامة توضح أنها من المتن ، فربما كانت منه وسقطت العلامة ، وربما كانت توضيحا من أحد القراء.

(٢) مشتبهة أقرب ما تكون إلى (يرفع) أو (يوقع) ونرجح الثانية فقد وردت كذلك فى سياق مماثل.

(٣) من هذا التصور ندرك شيئا هاما عند القشيري وعند الصوفية الخلص بعامة ، فهم لا يتصورون التصوف مذهبا يسود المجتمع بعامة فيكون الناس جميعا متصوفة ، بل إن دوره العضوى الهام فى كيان المجتمع محصور في طائفة مخصوصة يمتد اثرها إلى خارج نطاقها ، والمقصود (بالشغل) و (الفراغ) أن يكونوا خالصين لله ، وليس المقصود البطالة من العمل وعدم السعى للرزق.

٧٣

أي نفسه. فيجب أن يبدأ بمقاتلة (١) نفسه ثم بمجاهدة الكفار ، قال عليه‌السلام : «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» (٢).

قوله : (وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) من حابى عدوّه قهره ، وكذلك المريد الذي ينزل عن مطالبات الحقيقة إلى ما يتطلبه من التأويلات فيفسخ عهده ، وينقض عقده ، وذلك كالرّدّة (٣) لأهل الظاهر.

قوله جل ذكره : (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (١٢٥))

(٤) جعل الله ـ سبحانه ـ إنزال القرآن لقوم شفاء. ولقوم شقاء ؛ فإذا أنزلت سورة جديدة زاد شكّهم وتحيّرهم ، فاستعلم بعضهم حال بعض ، ثم لم يزدادوا إلا تحسّرا ؛ قال تعالى : (وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) (٥) وأمّا المؤمنون فزادتهم السورة إيمانا فارتقوا من حدّ تأمل البرهان إلى روح البيان ، ثم من روح البيان إلى العيان ، فالتجويز والتردد و (....) (٦) والتحيّر منتفى بأجمعه عن قلوبهم ، وشموس العرفان طالعة على أسرارهم ، وأنوار التحقيق مالكة أسرارهم ، فلا لهم تعب الطلب ، ولا لهم حاجة إلى التدبير ،

__________________

(١) وردت (مقابلة) والملائم بالنسبة للسياق (مقاتلة) هذا العدو.

(٢) رواه الخطيب فى التاريخ عن جابر (ص ٣٢٥ ح ٢ منتخب كنز العمال بهامش مسند الإمام احمد) هكذا : (قدمتم خير مقدم وقدمتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر. مجاهدة العبد هواه).

(٣) وردت (الرد) والصواب أن تكون (الردة) ، وقد أوضح القشيري ذلك فى موضع آخر من الكتاب إذ يقول وكما ان المرتد أشد على المسلمين عداوة فكذلك من رجع عن الإرادة الى الدنيا والعادة ، فهو أشد الناس إنكارا لهذه الطريقة وابعد عن أهلها) المجلد الأول : ص ٧٥.

(٤) ينبغى أن نلحق بهذه الآية الآية التي بعدها (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ ، وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ) لم ترد فى المتن مع أن المصنف يشير إليها فى شرحه.

(٥) آية ٤٤ سورة فصلت.

(٦) مشتبهة ، ومصححة فى الهامش بطريقة مبهمة وهى فى الكتابة هكذا : (النجث) ، ولا نعرف ضمن آفات العقل كلمة للقشيرى قريبة فى الخط منها ، وربما كانت (التعب).

٧٤

ولا عليهم سلطان الفكر. وأشعة شموس العرفان مستغرقة لأنوار نجوم العلم ، يقول قائلهم :

ولما استبان الصبح أدرك ضوءه

بإسفاره أنوار ضوء الكواكب

قوله جل ذكره : (أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦))

لم يخل الحقّ ـ سبحانه ـ أرباب التكليف من دلائل التعريف ، التعريف لهم فى كل وقت بنوع من البيان ، والتكليف فى كل أوان بضرب من الامتحان ؛ فما لم يزد لهم فى إيضاح البرهان لم يتجدد لهم من الله إلا زيادة الخذلان والحجبة عن البيان.

وأمّا أصحاب الحقائق فما للأغيار فى كل عام مرة أو مرتين فلهم فى كل نفس مرة ، لا يخليهم الحقّ ـ سبحانه ـ من زواجر توجب بصائر ، وخواطر تتضمن تكليفات وأوامر (٢) قال قائلهم :

كأنّ رقيبا منك حلّ بمهجتي

إذا رمت تسهيلا علىّ تصعّبا

قوله جل ذكره : (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٢٧))

تقنّعوا بخمار التلبيس ظانّين أنهم يبقون فى سرّ بتكلفهم ؛ والحقّ أبى إلا أن فضحهم ، وكما وسمهم برقم النّكرة (١) أطلع أسرار الموحّدين على أحوالهم فعرفوهم على ما هم عليه من أوصافهم.

قوله جل ذكره : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ

__________________

(١) النكرة اسم من الإنكار ؛ يقال : كان لى أشد نكرة (الوسيط).

(٢) ذلك لأنهم بقيامهم بالحق فلما تبدر منهم أشياء تستدعى الزجر أو الأمر لأنهم دائما يختارون الأشق.

٧٥

عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٢٨))

جاءكم رسول يشاكلكم فى البشرية ، فلما أفردناه به من الخصوصية ألبسناه لباس الرحمة عليكم ، وأقمناه بشواهد العطف والشفقة على جملتكم ، قد وكل هممه بشأنكم ، وأكبر همّه إيمانكم.

قوله جل ذكره : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (١٢٩))

أمره أن يدعو الخلق إلى التوحيد ، ثم قال : فإنّ أعرضوا عن الإجابة فكن بنا بنعت التجريد.

ويقال قال له : يا أيها النبي حسبك الله ، ثم أمره بأن يقول حسبى الله .... وهذا عين الجمع ، وقوله (فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ) فرق ... بل هو جمع الجمع أي : قل ، ولكنك بنا تقول ، ونحن المتولى عنك وأنت مستهلك فى عين التوحيد ؛ فأنت بنا ، ومحو عن غيرنا.

سورة يونس عليه‌السلام

بسم الله الرحمن الرحيم

كلمة سماعها يوجب شفاء كلّ عابد ، وضياء كلّ قاصد ، وعزاء كلّ فاقد ، وبلاء كلّ واجد ، وهدوّ كلّ خائف ، وسلوّ كل عارف. وأمان كل تائب ، وبيان كلّ طالب. قلوب العارفين لا تفرح إلا بسماع بسم الله. وكروب الخائفين لا تبرح إلا عند سماع بسم الله.

قوله جل ذكره : (الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (١))

الألف مفتاح اسم «الله» ، واللام مفتاح اسم «اللطيف» والراء مفتاح اسم «الرحيم».

٧٦

أقسم بهذه الأسماء إن هذا الكتاب هو الموعود لكم يوم الميثاق. والإشارة فيه أنا حققنا لكم الميعاد ، وأطلنا لكم عنان الوداد ... وانقضى زمان الميعاد ، فالعصاة ملقاة ، والأيام بالسرور متلقّاة ، فبادروا إلى شرب كاسات المحابّ ، واستقيموا على نهج الأحباب.

قوله جل ذكره : (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ)

تعجبوا من ثلاثة أشياء : من جواز البعث بعد الموت ، ومن إرسال الرسل إلى الخلق ، ثم من تخصيص محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالرسالة من بين الخلق. ولو عرفوا كمال ملكه لم ينكروا جواز البعث ، ولو علموا كمال ملكه لم يجحدوا إرسال الرّسل إلى الخلق ، ولو عرفوا أنّ له أن يفعل ما يريد لم يتعجبوا من تخصيص محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بالنبوة من بين الخلق ، ولكن سدّت بصائرهم فتاهوا فى أودية الحيرة ، وعثروا ـ من الضلالة ـ فى كل وهدة. وكان الأستاذ أبو على الدّقاق ـ رحمه‌الله ـ. يقول : جوّزوا أن يكون المنحوت من الخشب والمعمول من الصخر (١) إلها معبودا ، وتعجبوا أن يكون مثل محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فى جلالة قدره رسولا ..!! هذا هو الضلال البعيد.

قوله جلّ ذكره : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ).

وهو ما قدّموه لأنفسهم من طاعات أخلصوا فيها ، وفنون عبادات صدقوا فى القيام بقضائها.

ويقال هو ما قدّم الحقّ لهم يوم القيامة من مقتضى العناية بشأنهم ، وما حكم لهم من فنون إحسانه بهم ، وصنوف ما أفردهم به من امتنانهم.

ويقال : (قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) : هو ما رفعوه من أقدامهم فى بدايتهم فى زمان

__________________

(١) وردت (الصفر) بالفاء وهى خطأ فى النسخ.

٧٧

إرادتهم ، فإنّ لأقدام المريدين المرفوعة لأجل الله حرمة عند الله ، ولأيامهم الخالية فى حال تردّدهم ، ولياليهم الماضية فى طلبه وهم فى حرقة تحيّرهم .. مقادير عند الله. وقيل :

من ينس دارا قد تخونها

ريب الزمان فإنى لست أنساكا

وقيل :

تلك العهود تشدّها لتحلّها

عندى كما هى عقدها لم يحلل

قوله جل ذكره : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣))

لا يحتاج فعله إلى مدّة ، وكيف ذلك ومن جملة أفعاله الزمان والمدة؟ فخلق السماوات والأرض فى ستة أيام ، وتلك الأيام أيضا من جملة ما خلق الله سبحانه وتعالى.

(ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) أي توحّد بجلال الكبرياء بوصف الملكوت. وملوكنا إذا أرادوا التجلّى والظهور للحشم والرعية برزوا لهم على سرير ملكهم فى ألوان مشاهدهم. فأخبر الحقّ ـ سبحانه ـ بما يقرب من فهم الخلق ما ألقى إليهم من هذه الجملة : استوى على العرش ، ومعناه اتصافه بعز (١) الصمدية وجلال الأحدية ، وانفراده بنعت الجبروت وعلاء الربوبية ، تقدّس الجبّار عن الأقطار ، والمعبود عن الحدود.

(يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) : أي الحادثات صادرة عن تقديره ، وحاصلة بتدبيره ، فلا شريك يعضده ، وما قضى فلا أحد يردّه. (ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) : هو الذي ينطق من يخاطبه ، وهو الذي يخلق ما يشاء على من يشاء إذا التمس يطالبه.

(ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ) : تعريف وقوله : (فَاعْبُدُوهُ) : تكليف ؛ فحصول التعريف بتحقيقه ، والوصول إلى ما ورد به التكليف بتوفيقه.

__________________

(١) وردت (بغير) الصمدية وهى خطأ فى النسخ.

٧٨

قوله جل ذكره : (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٤))

الرجوع يقتضى ابتداء الأرواح قبل حصولها فى الأشباح ، فإن لها فى مواطن التسبيح والتقديس إقامة ، والغائب إذا رجع إلى وطنه من سفره فلقدومه أثر عند محبّيه وذويه ، كما قيل :

أيا قادما من سفرة الهجر مرحبا

أناديك لا أنساك ما هبّت الصّبا

ويقال المطيع إذا رجع إلى الله فله الزّلفى ، والثواب والحسنى. والعاصي إذا رجع إلى ربّه فبنعت الإفلاس وخسران الطريق ؛ فيتلقى لباس الغفران ، وحلّة الصفح والأمان ، فرحمة مولاه خير له من نسكه وتقواه.

قوله : (وَعْدَ اللهِ حَقًّا) : موعود المطيع الفراديس العلى ، وموعود العاصي الرحمة والرّضى. والجنّة لطف الحقّ والرّحمة وصف الحق ؛ فاللّطف فعل لم يكن ثم حصل ، والنّعت لم يزل (١).

قوله : (إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) : من كان له فى جميع عمره نفس على وصف ما ابتدأ الحقّ سبحانه به ففى الإشارة : تكون لذلك إعادة ، وأنشدوا :

كلّ نهر فيه ماء قد جرى

فإليه الماء يوما سيعود

قوله جل ذكره : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥))

__________________

(١) يفرق القشيري في كتابه (التحبير فى التذكير) الذي قمنا بتحقيقه بين صفات الفعل وصفات الذات.

٧٩

أنوار العقول نجوم وهى للشياطين رجوم ، وللعلوم (١) أقمار وهى أنوار واستبصار ، وللمعارف شموس ولها على أسرار العارفين طلوع ، كما قيل :

إنّ شمس النهار تغرب بالليل

وشمس القلوب ليست تغيب

وكما أن فى السماء كوكبين شمسا وقمرا ؛ الشمس أبدا بضيائها ، والقمر فى الزيادة والنقصان ؛ يستر بمحاقه ثم يكمل حتى يصير بدرا بنعت إشراقه ، ثم يأخذ فى النقص إلى أن لا يبقى شىء منه لتمام امتحاقه ، ثم يعود جديدا ، وكل ليلة يجد مزيدا ، فإذا صار بدرا تماما ، لم يجد أكثر من ليلة لكماله مقاما ، ثم يأخذ فى النقصان إلى أن يخفى شخصه ويتمّ نقصه.

كذلك من النّاس من هو متردّد بين قبضه وبسطه ، وصحوه ومحوه ، وذهابه وإيابه ؛ لا فناء فيستريح ، ولا بقاء له دوام صحيح ، وقيل :

كلّما قلت قد دنا حلّ قيدى

كبلّونى فأوثقوا المسمارا

قوله جل ذكره : (إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (٦))

اختصّ النهار بضيائه ، وانفرد الليل بظلمائه ، من غير استيجاب لذلك ، ومن غير استحقاق عقاب لهذا ، وفى هذا دليل على أنّ الردّ والقبول ، والمنع والوصول ، ليست معلولة بسبب ، ولا حاصلة بأمر مكتسب ؛ كلّا .. إنها إرادة ومشيئة ، وحكم وقضية.

النهار وقت حضور أهل الغفلة فى أوطان كسبهم ، ووقت أرباب القربة والوصلة لانفرادهم بشهود ربّهم ، قال قائلهم :

هو الشمس ، إلا أنّ للشمس غيبة

وهذا الذي نعنيه ليس يغيب

والليل لأحد شخصين : أمّا للمحبّ قوقت النّجوى ، وأمّا للعاصى فبثّ الشكوى.

__________________

(١) وردت (العموم) وهى خطأ فى النسخ إذ المقصود نوع من المقابلة بين (العلوم) والمعارف.

٨٠