لطائف الإشارات - ج ٢

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري

لطائف الإشارات - ج ٢

المؤلف:

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري


المحقق: الدكتور إبراهيم بسيوني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٥٥

ألا يلمّوا بعقوبة زلة فيدعون صغيرها وكبيرها ... وعلى هذا النحو استقامة كلّ أحد. قوله (وَمَنْ تابَ مَعَكَ) : أي فليستقم أيضا من معك.

قوله جل ذكره : (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (١١٣))

لا تعملوا أعمالهم ، ولا ترضوا بأعمالهم ، ولا تمدحوهم على أعمالهم ، ولا تتركوا الأمر بالمعروف لهم ، ولا تأخذوا شيئا من حرام أموالهم ، ولا تساكنوهم بقلوبكم ، ولا تخالطوهم ، ولا تعاشروهم ... كل هذا يحتمله الأمر ، ويدخل تحت الخطاب.

قوله جل ذكره : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (١١٤))

أي استغرق جميع الأوقات بالعبادات ، فإنّ إخلالك لحظة من الزمان بفرض تؤديه ، أو نفل تأتيه حسرة عظيمة وخسران مبين.

قوله (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) الحسنات ما يجود بها الحق ، والسيئات ما يذنبها العبد ، فإذا دخلت حسناته على قبائح العبد محتها وأبطلتها.

ويقال حسنات القربة تذهب بسيئات الزّلّة.

ويقال حسنات الندم تذهب بسيئات الجرم.

ويقال (انسكاب) (١) العبرة تذهب العثرة (٢).

ويقال حسنات العرفان تذهب سيئات العصيان.

ويقال حسنات الاستغفار تذهب سيئات الإصرار.

ويقال حسنات العناية تذهب سيئات الجناية.

ويقال حسنات العفو عن الإخوان تذهب الحقد عليهم.

ويقال حسنات الكرم تذهب سيئات الخدم.

__________________

(١) هكذا مصوبة فى الهامش وهى أصوب مما جاء فى المتن (ارتكاب).

(٢) وردت (العسرة) بالسين والأصوب (العثرة) لأنها تنسجم مع السياق.

١٦١

ويقال حسن الظنّ بالناس يذهب سوأتهم بكم (١).

ويقال حسنات الفضل من الله تذهب سيئات حسبان الطاعة من أنفسكم.

ويقال حسنات الصدق تذهب بسيئات الإعجاب.

ويقال حسنات الإخلاص تذهب بسيئات الرياء.

قوله جل ذكره : (وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١١٥))

الصبر تجرّع كاسات التقدير من غير تعبيس.

ويقال الصبر حسن الإقبال على معانقة الأمر ومفارقة الزجر.

(فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) المحسن : العامل الذي يعلم أنّ الأجر على الصبر والطاعة بفضله ـ سبحانه ـ لا باستحقاق عمل.

قوله جل ذكره : (فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (١١٦))

معناه لم يكن فيكم من هؤلاء الذين كانوا ينهون عن القبائح إلا قليل.

وقيل معناه لم يكن فيمن قبلكم من الأمم من ينهى عن الفساد ، ويحفظ الدّين ، ويطيعون أنبياءهم ـ إلا قليل.

قوله جل ذكره : (وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (١١٧))

أي لم يهلك الله أحدا كان مصلحا وإنما أهلك من كان ظالما.

__________________

(١) ربما يقصد القشيري من هذه العبارة الحث على الصفح عن عثرات الناس.

١٦٢

ويقال معناه : لو أهلك الله أهل القرى وهم مصلحون لم يكن ذلك ظلما من الله ؛ لأن الملك ملكه ، والخلق عبيده.

ويقال (الْمُصْلِحِ) من قام بحقّ ربّه دون طلب حظّه.

ويقال : (الْمُصْلِحِ) من آثر نجاته على هلاكه.

ويقال مصلح تصلح نفسه طاعته ، ومصلح تصلح قلبه معرفة سيّده ، ومصلح تصلح سرّه مشاهدة سيّده.

قوله جل ذكره (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨))

لو شاء لجعلهم أرباب الوفاق ثم لا يوجبون لملكه زينّا ، ولو شاء لجعلهم أرباب الخلاف ثم لا يوجبون لملكه شينا.

ثم قال : (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) لأنه كذلك أراد بهم.

(إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) فى سابق حكمه فعصمهم عن الخلاف فى حاصل أمورهم ، وأقامهم به ، ونصبهم له ، وأثبتهم فى الوفاق والمحبة والتوحيد.

قوله جل ذكره (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)

أي لا تبديل لقوله ، ولا تحويل لحكمه.

قوله جل ذكره : (وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (١٢٠))

سكّن قلبه بما قصّ عليه من أنباء المرسلين ، وعرّفه أنه لم يرقّ أحدا إلى المحلّ الذي رقّاه إليه ، ولم ينعم على أحد بمثل ما أنعم عليه.

ويقال قصّ عليه قصص الجميع ، ولم يذكر قصته لأحد تعريفا له وتخصيصا. ويقال لم يكن ثبات قلبه بما قصّ عليه ولكن لاستقلال قلبه بمن كان يقص عليه ، وفرق بين من يعقل بما يسمع وبين من يستقل بمن منه يسمع ، وأنشدوا :

١٦٣

وحدّثتنى يا سعد عنها فزدتنى

حنينا فزدنى من حديثك يا سعد

قوله جل ذكره : (وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (١٢١) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٢٢))

إن الذين يجحدون التوحيد ، ويؤثرون على الحقّ غير الحق ، ولم يصدّقوا الوعيد ، يوشك أن ينصبّ عليهم الانتقام فيغرقون فى بحار العقوبة ، ويسقطون فى وهاد الهوان ، فلا لويلهم انتهاء ، ولا لذلّهم انقضاء.

قوله جل ذكره : (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٢٣))

عمّى عن قلوبهم العواقب ، وأخفى دونهم السوابق ، وألزمهم القيام بما كلّفهم فى الحال ، فقال : (فَاعْبُدْهُ) فإن تقسّم القلب وترجّم الظّنّ وخيف سوء العاقبة .. فتوكّل عليه أي استدفع البلاء عنك بحسن الظّنّ ، وجميل الأمل ، ودوام الرجاء.

(وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) : أحاط بكل شىء علما ، وأمضى فى كل أمر حكما.

السورة التي يذكر فيها يوسف عليه‌السلام

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الاسم (١) من وسم ؛ فمن وسم ظاهره بالعبودية ، وسرائره بمشاهدة الربوبية فقد سمت همّته إلى المراتب العليّة ، وأزلفت رتبته من المنازل السنيّة.

أو أن الاسم مشتق من السّمة أو من السموّ

__________________

(١) ربما كان القشيري فى شرحه لمعنى (الاسم) متأثرا بالجو العام للسورة ، وما حدث لكل من يوسف وإخوته من أحداث.

١٦٤

وقدّم الله ـ سبحانه ـ اسم الله فى هذا المحل على اسميه الرحمن والرحيم على وجه البيان والحكم ، فبرحمته الدنيوية وصل العبد إلى معرفته الإلهية.

والإشارة من الباء ـ التي هى حرف التضمين والإلصاق ـ إلى أنّ «به» عرف من عرف ، وبه وقف من وقف ؛ فالواصل إليه محمول بإحسانه ، والواقف دونه مربوط بخذلانه.

قوله جل ذكره : (الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (١))

التخاطب بالحروف المتفرقة غير المنظومة سنّة الأحباب فى ستر المحابّ ؛ فالقرآن ـ وإن كان المقصود منه الإيضاح والبيان ـ ففيه تلويح وتصريح ، ومفصّل ومجمل ، قال قائلهم :

أبكى إلى الشرق إن كانت منازلكم

مما يلى الغرب خوف القيل والقال

ويقال وقفت فهوم الخلق عن الوقوف على أسراره فيما خاطب به حبيبه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهم تعبدوا به وآمنوا به على الجملة ولكنه أفرد الحبيب بفهمه ، فهو سرّ الحبيب عليه‌السلام بحيث لا يطلع عليه الرقيب ، يقول قائلهم :

بين المحبين سرّ ليس يفشيه

قول ، ولا قلم للخلق يحكيه

وفى إنزال هذه الحروف المقطعة إشارة : وهى أنّ من كان بالعقل والصحو استنبط من اللفظ اليسير كثيرا من المعاني ، ومن كان بالغيبة والمحو يسمع الكثير فلا يفهم منه اليسير ؛ ذاك لكمال عقله وهذا لتمام وصله ؛ فأنزل الله هذه الحروف التي لا سبيل إلى الوقوف على معانيها ، ليكون للأحباب فرجة حينما لا يقفون على معانيها بعدم السبيل إليها فلا تتوجه عليهم مطالبة بالفهم ، وكان ذلك لائقا بأحوالهم إذا كانوا مستغرقين فى عين الجمع ، ولذا قيل : استراح من العقل له (١).

وقوله تعالى : (تِلْكَ) يحتمل أن يكون إشارة إلى أن هذا خبر الوعد الذي وعدناك.

__________________

(١) هكذا فى (ص) ونرجح أنها (استراح من لا عقل له) والعقل هنا معناه الوعى.

١٦٥

وقيل هذا تعريفنا : إليك بالتخصيص ، وإفرادنا لك بالتقريب ـ قد حقّقناه لك ؛ فهذه الحروف بيان للإنجاز ولتحقيق الموعود.

والإشارة من (الْكِتابِ الْمُبِينِ) هاهنا إلى حكمه السابق له بأنّ يرقّيه إلى الرتبة التي لا يبلغها غيره ، وقد قال تعالى : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا ..) (١) أي حين كلّمنا موسى عليه‌السلام ، وأخبرناه بعلوّ قدرك ، ولم تكن حاضرا ، وأخبرناه بأننا نبلغّك هذا المقام الذي أنت فيه الآن. وكذلك كلّ من أوحينا إليه ذكرنا له قصتك ، وشرحنا له خلقتك ، فالآن وقت تحقيق ما أخبرنا به ، وفى معناه أنشدوا :

سقيا لمعهدك الذي لو لم يكن

ما كان قلبى للصبابة معهدا

قال الله تعالى : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) يعنى بعد التوراة (أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) (٢) يعنى أمة محمد.

قوله جل ذكره : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢))

فى إنزال الكتاب عليه ، وإرسال الرسول (٣) إليه ـ تحقيق لأحكام المحبة ، وتأكيد لأسباب الوصلة ؛ فإنّ من عدم حقيقة الوصول استأنس بالرسول ، ومن بقي عن شهود الأحباب تسلّى بوجود الكتاب ، قال قائلهم :

وكتبك حولى لا تفارق مضجعى

ففيها شفاء للذى أنا كاتم

قوله جل ذكره : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ)

(أَحْسَنَ الْقَصَصِ) : لخلوّه عن الأمر والنهى الذي سماعه يوجب اشتغال القلب بما هو يعرّض لوقوع التقصير.

(أَحْسَنَ الْقَصَصِ) : ففيه ذكر الأحباب.

__________________

(١) آية ٤٦ سورة القصص.

(٢) آية ١٠٥ سورة الأنبياء.

(٣) (الرسول) هنا مقصود به القرآن الكريم أو جبريل ـ كما هو واضح من السياق.

١٦٦

(أَحْسَنَ الْقَصَصِ) : لأن فيه عفو يوسف عن جنايات إخوته.

(أَحْسَنَ الْقَصَصِ) : لما فيه من ذكر ترك يوسف لامرأة العزيز وإعراضه عنها عند ما راودته عن نفسه.

(أَحْسَنَ الْقَصَصِ) : بالإضافة إلى ما سألوه أن يقص عليهم من أحوال الناس.

(أَحْسَنَ الْقَصَصِ) : لأنه غير مخلوق (١).

ويقال لمّا أخبره الله ـ سبحانه ـ أن هذه القصة أحسن القصص وجد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لنفسه مزايا وزوائد لتخصيصه ؛ فعلم أن الله تعالى لم يرقّ أحدا إلى مثل مارّقاه.

قوله جل ذكره : (وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ)

أي الذاهبين عن فهم هذه القصة. أي ما كنت إلا من جملة الغافلين عنها قبل أن أوحينا إليك بها ، أي إنك لم تصلّ إلى معرفتها بكدّك وجهدك ، ولا بطلبك وجدّك ... بل هذه مواهب لا مكاسب ؛ فبعطائنا وجدّتها لا بعنائك ، وبتفضّلنا لا بتعلّمك ، وبتلطّفنا لا بتكلّفك ، وبنا لا بك.

قوله جل ذكره : (إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (٤))

لما ذكر يوسف ـ عليه‌السلام ـ رؤياه لأبيه علم يعقوب ـ عليه‌السلام صدّق تعبيرها ، ولذلك كان دائم التذكّر ليوسف مدة غيبته ، وحين تطاولت كان يذّكره حتى قالوا : (تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ) فقال : (إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) فهو كان على ثقة من صدّق رؤياه

فإن قيل : فإذا كان الصبىّ لا حكم لفعله فكيف يكون حكم لرؤياه؟ وما الفرق؟

__________________

(١) القرآن غير مخلوق .. هذا أصل من الأصول الكلامية الهامة عند الأشاعرة ـ ومنهم القشيري.

١٦٧

فيقال : إن الفعل بتعمّد يحصل فيكون معرّضا لتقصير فاعله ، أمّا الرؤيا فلا تكون بتعمد منه فتنسب إلى نقصان.

ويقال إنّ حقّ السّرّ الكتمان ولو كان على من هو قريب منك ؛ فإن يوسف لما أظهر سرّ رؤياه على أبيه اتصل به البلاء.

قوله جل ذكره : (قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٥))

إذا جاء القضاء لا ينفع الوعظ والحذر ؛ فإن النصيحة والحذر لا يزيدان على ما نصح يعقوب ليوسف عليهما‌السلام ، ولكن لمّا سبق التقدير فى أمر يوسف ـ عليه‌السلام ـ حصل ما حصل. ويقال إن يوسف خالف وصية أبيه فى إظهار رؤياه إذ لو لم يظهرها لما كادوا له ، فلا جرم بسبب مخالفته لأبيه ـ وإن كان صبيا صغيرا ـ لم يعر من البلايا.

ويقال لما رأى يوسف فى منامه ما كان تأويله سجود الإخوة له رأى ما تعبيره : وسجود أبيه وخالته حيث قال تعالى : (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) ؛ فدخل الإخوة الحسد (١) أما الأب فلم يدخله إلا بنفسه لفرط شفقة الأبوة.

ويقال صدق تعبيره فى الإخوة فسجدوا له حيث قال : (و ، خَرُّوا لَهُ سُجَّداً) ولم يسجد الأب ولا خالته حيث قال : (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ) فإن يوسف صانهما عن ذلك مراعاة لحشمة الأبوة.

قوله جل ذكره : (وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ)

أي كما أكرمك بهذه الرؤيا التي أراكها يجتبيك ويحسن إليك بتحقيق هذه الرؤيا ، وكما أكرمك بوعد النعمة أكرمك بتحقيقها.

ويقال الاجتباء ما ليس للمخلوق فيه أثر ، فما يحصل للعبد من الخيرات ـ لا بتكلفه ولا بتعمده ـ فهو قضية الاجتباء.

__________________

(١) وردت (الحد) والصواب أن تكون الحسد (انظر توضيح ذلك بعد قليل صفحة ١٧٠) ودخول الأب كان بنفسه ولم يكن بقلبه ، وكان سببه شدة الإشفاق على ولده.

١٦٨

ويقال من الاجتباء المذكور أن عصمه عن ارتكاب ما راودته امرأة العزيز عن نفسه.

ويقال من قضية الاجتباء إسباله الستر على فعل إخوته حيث قال : (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ) ، ولم يذكر خلاصه من البئر. ومن قضية الاجتباء توفيقه لسرعة العفو عن إخوته حيث قال : (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ)

قوله جل ذكره : (وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ)

أي لتعرف قدر كلّ أحد ، وتقف على مقدار كلّ قائل بما تسمع من حديثه .. لا من قوله بل لحدّة كياستك وفرط فراستك.

قوله جل ذكره : (وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)

من إتمام النعمة توفيق الشكر على النعمة ، ومن إتمام النعمة صونها عن السّلب والتغيير ، ومن إتمام النعمة التّحرز (١) منها حتى تسهل عليك السماحة بها.

قوله جل ذكره : (لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (٧))

يعنى لكلّ ذى محنة حتى يعلم كيف يصبر ، ولكلّ ذى نعمة حتى يعلم كيف يشكر.

ويقال فى قصتهم كيفية العفو عن الزلّة ، وكيفية الخجلة لأهل الجفاء عند اللقاء.

ويقال فى قصتهم دلالات لطف الله سبحانه بأوليائه بالعصمة ، وآيات على أنّ المحبة (...) (٢) من المحنة.

ويقال فيها آيات على أنّ من صدق فى رجائه يختصّ ـ يوما ـ ببلائه.

__________________

(١) (التحرز) من النعمة التوقي منها ، وإذا افترضنا أنها قد تكون (التحرر) بالراء فمعناها ألا يكون العبد أسيرا للنعمة حتى يسهل عليه أن يجود بها ... وكلاهما صحيح مقبول فى السياق.

(٢) متشبهة

١٦٩

قوله جل ذكره : (إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨))

عرّفوا على ما ستروه من الحسد ، ولم يحتالوا فى إخراج ذلك من قلوبهم بالوقيعة فى أبيهم حتى قالوا : (إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ).

ويقال لمّا اعترضوا بقلوبهم على أبيهم فى تقديم يوسف فى المحبة عاقبهم بأن أمهلهم (١) حتى بسطوا فى أبيهم لسان الوقيعة فوصفوه بلفظ الضلال ، وإن كان المراد منه الذهاب فى حديث يوسف عليه‌السلام. ولمّا حسدوا يوسف على تقديم أبيهم له لم يرض ـ سبحانه ـ حتى أقامهم بين يدى يوسف عليه‌السلام ، وخرّوا له سجّدا ليعلموا أنّ الحسود لا يسود.

ويقال أطول الناس حزنا من لاقّى الناس عن مرارة ، وأراد تأخير من قدّمه الله أو تقديم من أخّره الله ؛ فإخوة يوسف ـ عليه‌السلام ـ أرادوا أن يجعلوه فى أسفل الجبّ فرفعه الله فوق السرير!

قوله جل ذكره : (اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ)

أي يخلص لكم إقبال أبيكم عليكم ، وقديما قيل : من طلب الكلّ فاته الكلّ ؛ فلمّا أرادوا أن يكون إقبال يعقوب ـ عليه‌السلام ـ بالكليّة ـ عليهم قال تعالى : (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ).

ويقال كان قصّدهم ألا يكون يوسف أمام عينه فقالوا : إمّا القتل وإمّا النّفى ، ولا بأس بما يكون بعد ألا يكون يوسف عليه‌السلام.

قوله جل ذكره : (وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ)

عجّلوا بالحرام ، وعلّقوا التوبة بالتسويف والعزم ، فلم يمح ما أجّلوا من التوبة ما عجّلوا من الحوبة.

__________________

(١) وردت (أهملهم) وهى خطأ في النسخ لأن الله لا يهمل ولكن يمهل ، والسياق يقتضى (الإمهال).

١٧٠

ويقال لم تطبّ نفوسهم بأن يذهبوا عن باب الله بالكليّة فدبّروا لحسن الرجوع قبل ارتكاب مادعته إليه نفوسهم ، وهذه صفة أهل العرفان بالله (١).

قوله جل ذكره : (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (١٠))

إخوة يوسف ـ وإن قابلوه بالجفاء ـ منعتهم شفقة النّسب وحرمة القرابة من الإقدام على قتله ؛ فقالوا لا تقتلوه وغيّبوا شخصه.

ويقال إنما حملهم على إلقائه مرادهم أن يخلو لهم وجه أبيهم ، فلمّا أرادوا حصول مرادهم فى تغييبه لم يبالغوا فى تعذيبه.

ويقال لمّا كان المعلوم له ـ سبحانه ـ فى أمر يوسف تبليغه إياه تلك القربة ألقى الله فى قلب قائلهم حتى قال : (لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ).

ثم إنه ـ وإن أبلاه فى الحال ـ سهّل عليه ذلك فى جنب ما رقّاه إليه فى المآل (٢) ، قال قائلهم :

كم مرة حفّت بك المكاره

خار لك الله ـ وأنت كاره

قوله جل ذكره : (قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (١١))

كلام الحسود لا يسمع ، ووعده لا يقبل ـ وإنّ كانا فى معرض النّصح ؛ فإنّه يطعم الشّهد ويسقى الصّاب.

ويقال العجب من قبول يعقوب ـ عليه‌السلام ـ ما أبدى بنوه له من حفظ يوسف عليه‌السلام وقد تفرّس فيهم قلبه فقال ليوسف : (فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً) ولكن إذا جاء القضاء فالبصبرة تصير مسدودة.

__________________

(١) واضح من هنا ومما جاء فى السياق أن القشيري ـ بتسامحه الصوفي الأصيل ـ ينظر إلى إخوة يوسف نظرة خالية من التحامل عليهم.

(٢) كأنما ينصح القشيري أصحاب الإرادة : إن لقيتم اليوم فى الله شدة ، فلكم غدا مثوبة. وكأنما يوضح لأهل الجدل : إن مقاييس الشر والخير الإنسانية خاطئة قاصرة.

١٧١

ويقال من قبل على محبوبه حديث أعدائه لقى ما لقى يعقوب فى يوسف ـ عليهما‌السلام ـ من بلائه.

قوله جل ذكره : (أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (١٢))

يقال أطمعوا يعقوب عليه‌السلام فى تمكينهم من يوسف بما فيه راحة نفس فى اللعب ، فطابت نفس يعقوب لإذهابهم إياه من بين يديه ـ وإن كان يشقّ عليه فراقه ، ولكنّ المحبّ يؤثر راحة محبوبه على محبة نفسه.

ويقال لما ركن إلى قولهم : (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) ـ أي من قبلهم (١) ـ حتى قالوا : (وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ) ؛ فمن أسلم حبيبه إلى أعدائه غصّ بتحسّى بلائه.

قوله جل ذكره : (قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (١٣))

يحزننى أن تذهبوا به لأنى لا أصبر عن رؤيته ، ولا أطيق على فرقته ... هذا إذا كان الحال سلامته .. فكيف ومع هذا أخاف أن يأكله الذئب؟!

ويقال لما خاف عليه من الذئب امتحن بحديث الذئب ، ففى الخبر ما معناه : إنما يسلط على ابن آدم ما يخافه. وكان من حقه أن يقول أخاف الله لا الذئب ، وإن كانت محالّ الأنبياء عليهم‌السلام ـ محروسة من الاعتراض عليها.

ويقال لمّا جرى على لسان يعقوب ـ عليه‌السلام ـ من حديث الذئب صار كالتلقين لهم ، ولو لم يسمعوه ما اهتدوا إلى الذئب (٢).

__________________

(١) يرجع القشيري ما أصاب يعقوب من بلاء إلى ركونه إلى حفظ يوسف من قبل الخلق ؛ وأنه اطمأن لدعواهم مع أن الحفظ لا يكون إلا بالله.

(٢) تفيد هذه النقطة فى إثبات كرامة الأولياء ، وما يجرى على ألسنتهم من تنبؤ بما قد يحدث فى المستأنف على وجه الإجمال.

١٧٢

قوله جل ذكره : (قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (١٤))

لحق إخوة يوسف عليه‌السلام ما وصفوا به أنفسهم من الخسران حيث قالوا :

(إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ) : لأنّ من باع أخا مثل يوسف بمثل ذلك الثمن حقيق بأن يقال قد خسرت صفقته.

ويقال لمّا عدوّا القوة فى أنفسهم حين قالوا : (وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) خذلوا حتى فعلوا (١).

ويقال لمّا ركن يعقوب ـ عليه‌السلام ـ إلى قولهم : (وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) لقى ما لقى.

قوله جل ذكره : (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٥))

الجواب فيه مقدّر ؛ ومعناه فلما ذهبوا بيوسف وعزموا على أن يلقوه فى البئر فعلوا ما عزموا عليه. أو فلمّا ذهبوا به وألقوه فى غيابة الجبّ أوحينا إليه ؛ فتكون الواو صلة. والإشارة فيه أنه لمّا حلّت به البلوى عجّلنا له التعريف بما ذكرنا من البشرى ؛ ليكون محمولا بالتعريف فما هو متحمّل له من البلاء العنيف.

ويقال حين انقطعت على يوسف عليه‌السلام مراعاة أبيه حصل له الوحى من قبل مولاه ، وكذا سنّته تعالى أنه لا يفتح على نفوس أوليائه بابا من البلاء إلا فتح على قلوبهم أبواب الصفاء ، وفنون لطائف الولاء.

قوله جل ذكره : (وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (١٦))

تمكين الكذّاب من البكاء سمة خذلان الله تعالى إياه ، وفى الخبر : إذا كمل نفاق المرء ملك عينه حتى يبكى ما شاء.

ويقال : لا يبعد أن يقال إنهم وإن جنوا على يوسف عليه‌السلام فقد ندموا على ما فعلوا ، فعلاهم البكاء لندمهم ـ وإن لم يظهروا لأبيهم ـ وتقوّلوا على الذّئب.

قوله جل ذكره : (وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ)

__________________

(١) فقد كانت من دعاوى النفس.

١٧٣

لم يؤثّر تزوير قاليهم فى إيجاب تصديق يعقوب ـ عليه‌السلام لكذبهم بل أخبره قلبه أنّ الأمر بخلاف ما يقولونه فقال :

(بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ).

فعلم على الجملة وإنّ لم يعلم على التفصيل .. وهكذا تقرع قلوب الصديقين عواقب الأمور على وجه الإجمال ، إلى أنّ تتّضح لهم تفاصيلها فى المستأنف.

ويقال عوقبوا على ما فعلوه بأن أغفلوا عن تمزيق قميصه حتى علم يعقوب تقوّلهم فيما وصفوا.

قوله جل ذكره : (وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٩))

ليس كلّ من طلب شيئا يعطى مراده فقط بل ربما يعطى فوق مأموله ؛ كالسيارة كانوا يقنعون بوجود الماء فوجدوا يوسف عليه‌السلام.

ويقال ليس كل من وجد شيئا كان كما وجده السيارة ؛ توهموا أنهم وجدوا عبدا مملوكأ وكان يوسف ـ فى الحقيقة ـ حرّا (١).

ويقال لمّا أراد الله تعالى خلاص يوسف ـ عليه‌السلام ـ من الجبّ أزعج خواطر السّيارة فى قصد السفر ، وأعدمهم الماء حتى احتاجوا إلى الاستقاء ليصل يوسف عليه‌السلام إلى الخلاص ، ولهذا قيل : ألا ربّ تشويش يقع فى العالم والمقصود منه سكون واحد. كما قيل : ربّ ساع له قاعد.

قوله جل ذكره (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (٢٠))

لم يعرفوا خسرانهم فى الحال ولكنهم وقفوا عليه فى المآل.

__________________

(١) أي ربما تكون حقيقة النعمة أعظم من ظاهرها.

١٧٤

ويقال قد يباع مثل يوسف عليه‌السلام بثمن بخس ، ولكن إذا وقعت الحاجة إليه فعند ذلك يعلم ما يلحق من الغبن.

ويقال لم يحتشموا من يوسف ـ عليه‌السلام ـ يوم باعوه بثمن بخس ، ولكن لمّا قال لهم : أنا يوسف ـ وقع عليهم الخجل. ولهذا قيل : كفى للمقصر الحياء يوم اللقاء.

ويقال لمّا خرّوا له سجّدا علموا أنّ ذلك جزاء من باع أخاه بثمن بخس.

ويقال لمّا وصل الناس إلى رفق يوسف عاشوا فى نعمته ، واحتاجوا إلى أن يقفوا بين يديه فى مقام الذّلّ قائلين (مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ) ، وفى معناه أنشدوا :

ستسمع بي وتذكرنى

وتطلبنى فلا تجد

ويقال ليس العجب ممن يبيع مثل يوسف ـ عليه‌السلام ـ بثمن بخس إنما العجب ممن (...) (١) مثل يوسف ـ عليه‌السلام ـ بثمن بخس ، لا سيّما (وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) (الخرق لا غاية له ، وكذا العجب لا نباته له) (٢).

ويقال ليس العجب ممن يبيع يوسف ـ عليه‌السلام ـ بثمن بخس ، إنّما العجب ممن يبيع وقته الذي أعزّ من الكبريت الأحمر بعرض حقير من أعراض الدنيا.

ويقال إنّ السيارة لم يعرفوا قيمته فزهدوا فى شرائه بدراهم ، والذين وقفوا على جماله وشىء من أحواله غالوا ـ بمصر ـ فى ثمنه حتى اشتروه بزنته دراهم ودنانير مرات ـ كما فى القصة (٣) ، وفى معناه أنشدوا :

إنّ كنت عندك يا مولاى مطّرحا

فعند غيرك محمول على الحدق (٤)

قوله جل ذكره : (وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ

__________________

(١) هنا كلمة فى الكتابة هكذا (بحل) ولا ندرى كيف نصرفها إلى إنجاه يخدم المعنى.

(٢) ما بين القوسين ورد هكذا فى (ص) وفيه التباس ناشىء عن سوء النسخ.

(٣) يقال إن العزيز اشتراء بزنته ورقا وحريرا ومسكا.

(تفسير النسفي ج ٢ ص ٢١٦ ط عيسى الحلبي)

(٤) الحدق جمع حدقة وهى السواد المستدبر وسط للعين.

١٧٥

لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً)

لمّا نودى على يوسف فى مصر بالبيع لم يرض الحقّ ـ سبحانه ـ حتى أصابتهم الضرورة ومسّتهم الفاقة حتى باعوا من يوسف ـ عليه‌السلام ـ جميع أملاكهم ، ثم باعوا كلّهم منه أنفسهم ـ كما فى القصة ـ وفى آخر أمرهم طلبوا الطعام ، فصاروا بأجمعهم عبيده ، ثم إنه عليه‌السلام لما ملكهم منّ عليهم فأعتقهم (١) ؛ فلئن مرّ عليه بمصر يوم نودى فيه عليه بالبيع ؛ فقد أصبح بمصر يوما آخر وقد ملك جميع أملاكهم ، وملك رقاب جميعهم ؛ فيوم بيوم ، قال تعالى : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) يومان شتّان بينهما!

ثم إنه أعتقهم جميعا ... وكذا الكريم إذا قدر غفر.

قوله جل ذكره : (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ ، وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ)

أراد من حسده ألّا تكون له فضيلة على إخوته وذويه ، وأراد الله أن يكون له ملك الأرض ، وكان ما أراد الله لا ما أراد أعداؤه.

قوله جل ذكره : (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ)

أرادوا أن يكون يوسف عليه‌السلام فى الجبّ ، وأراد الله ـ سبحانه ـ أن يكون يوسف على سرير الملك ؛ فكان ما أراد الله ، والله غالب على أمره.

__________________

(١) فى القصة «وباع من أهل مصر فى سنى القحط الطعام بالدراهم والدنانير فى السنة الأولى حتى لم يبق معهم شىء منها ثم بالحلى والجواهر فى الثانية تم بالدواب فى الثالثة تم بالعبيد والإماء فى الرابعة ثم بالدور والعقار فى الخامسة ثم باولادهم فى السادسة ثم برقابهم فى السابعة حتى استرقهم جميعا ثم أعتق أهل مصر ورد عليهم أملاكهم» النسفي ج ٢ ص ٢٢٨.

١٧٦

وأرادوا أن يكون يوسف عبدا لمن ابتاعوه من السيارة ، وأراد الله أن يكون عزيز مصر ـ وكان ما أراد الله.

ويقال العبرة لا ترى من الحقّ فى الحال ، وإنما الاعتبار بما يظهر فى سرّ تقديره فى المآل.

قوله جل ذكره : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٢٢))

من جملة الحكم الذي آتاه الله نفوذ حكمه على نفسه حتى غلب شهوته ، وامتنع عما راودته تلك المرأة عن نفسه ؛ ومن لا حكم له على نفسه فلا حكم له على غيره.

ويقال إنما قال : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ) أي حين استوى شبابه واكتملت قوّته ، وكان وقت استيلاء الشهوة ، وتوفر دواعى مطالبات البشرية ـ آتاه الله الحكم الذي حبسه على الحقّ وصرفه عن الباطل ، وعلم أنّ ما يعقب اتباع اللذات من هواجم النّدم أشدّ مقاساة من كلفة الصبر فى حال الامتناع عن دواعى الشهوة ... فآثر مشقّة الامتناع على لذّة الاتباع. وذلك الذي أشار إليه الحقّ ـ سبحانه ـ من جميل الجزاء الذي أعطاه هو إمداده بالتوفيق حتى استقام فى التقوى والورع على سواء الطريق ، قال تعالى (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) (١) : أي الذين جاهدوا بسلوك طريق المعاملة لنهدينهم سبل الصبر على الاستقامة حتى تتبين لهم حقائق المواصلة.

قوله جلّ ذكره : (وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢٣))

لما غلّقت عليه أبواب المسكن فتح الله عليه باب العصمة (٢) ، فلم يضرّه ما أغلق بعد إكرامه بما فتح.

__________________

(١) آية ٦٩ سورة العنكبوت.

(٢) نلفت النظر إلى جمال عبارة القشيري الناتج عن المقابلة بين (الإغلاق) و (الفتح).

١٧٧

وفى التفسير أنه حفظ حرمة الرجل الذي اشتراه ، وهو العزيز.

وفى الحقيقة أشار بقوله : (إِنَّهُ رَبِّي) إلى ربّه الحقّ تعالى : هو مولاى الحق تعالى ، وهو الذي خلّصنى من الجب ، وهو الذي جعل فى قلب العزيز لى محلّا كبيرا فأكرم مثواى فلا ينبغى أن أقدم على عصيانه ـ سبحانه ـ وقد غمرنى بجميل إحسانه.

ويقال إن يوسف عليه‌السلام قال لها : إن العزيز أمرنى أن أنفعه. (عَسى أَنْ يَنْفَعَنا) فلا أخونه فى حرمته بظهر الغيب.

ويقال لمّا حفظ حرمة المخلوق بظهر الغيب أكرمه الحقّ سبحانه بالإمداد بالعصمة فى الحال ومكّنه من مواصلتها فى المآل على وجه الحلال.

قوله جل ذكره : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (٢٤))

ما ليس بفعل الإنسان مما يعتريه ـ بغير اختياره ولا بكسبه ـ كان مرفوعا لأنه لا يدخل تحت التكليف ، فلم يكن «الهم» (١) منه ولا منها زلّة ، وإنما الزلّة من المرأة كانت من حيث عزمت على ما همّت ، فأمّا نفس الهمّ فليس مما يكسبه العبد.

ويقال اشتركا فى الهمّ وأفرد ـ يوسف عليه‌السلام ـ بإشهاده البرهان.

وفى تعيين ذلك البرهان ـ ما الذي كان؟ ـ تكلّف غير محمود إذ لا سبيل إليه إلا بالخبر المقطوع به.

وفى الجملة كان البرهان تعريفا من الحقّ إياه بآية من آيات صنعه ، قال تعالى : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) (٢).

__________________

(١) واضح أن القشيري بهدف إلى نفى كل تهمة عن يوسف ولهذا يلجأ إلى تأويل لفظة «الهم» الذي اشترك فيه وامراة العزيز كما يعبر ظاهر اللفظ.

(٢) آية ٥٣ سورة فصلت.

١٧٨

وقوله : (كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ) صرف عنه السّوء حتى لم يوجد منه العزم على ذلك الفعل ـ وإن كان منه همّ ـ إلا أن ذلك لم يكن جرما كما ذكرنا.

والصّرف عن الطريق بعد حصول الهمّ ـ كشف ، والسوء المصروف عنه هو العزم على الزنا والفحشاء أو نفس الزنا ، وقد صرفهما الله تعالى عنه.

قوله (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) : لم تكن نجاته فى خلاصه ، ولكن فى صرف السوء عنه واستخلاصه.

قوله جل ذكره : (وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ)

استبقا ، هذا ليهرب ، وهذه للفعلة التي كانت تطلب.

ولم يضر يوسف ـ عليه‌السلام ـ أن قدّت قميصه وهو لباس دنياه بعد ما صحّ عليه قميص تقواه.

ويقال (١) لم تقصد قدّ القميص وإنما تعلّقت به لتحبسه على نفسها ، وكان قصدها بقاء يوسف ـ عليه‌السلام ـ معها ، ولكن صار فعلها وبالا على نفسها ، فكان بلاؤها من حيث طلبت راحتها وشفاءها.

ويقال تولّد انخراق القميص من قبضها عليه وكان فى ذلك افتضاح أمرها ؛ لأن قبضها على قميصه كان مزجورا عنه .. ليعلم أنّ الفاسد شجّه فاسد.

ويقال لشدة استيلاء الهوى عليها لم تعلم فى الحال أنها تقدّ قميصه من ورائه أو من قدّامه .. كذلك صاحب البلاء فى الهوى مسلوب التمييز.

ويقال لمّا لم تصل ولم تتمكن من مرادها من يوسف خرقت قميصه ليكون لها فى إلقائها الذّنب على يوسف ـ عليه‌السلام ـ حجّة ، فقلب الله الأمر حتى صار ذلك عليها حجة ، وليوسف دلالة صدق ، قال تعالى : (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) (٢)

__________________

(١) فيما يلى من إشارات تلاحظ أن القشيري قد جعل من امرأة العزيز رمزا لطالب الدنيا وأسير الهوى ومن يوسف رمزا مقابلا لذلك.

(٢) آية ٤٣ سورة فاطر.

١٧٩

قوله تعالى : (وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ) : لمّا فتحا الباب وجدا سيدها لدى الباب ، والإشارة فيه إلى أن ربك بالمرصاد ؛ إذا خرج العبد عن الذي هو عليه من التكليف فى الحال وقع فى ضيق السؤال.

ويقال قال : (أَلْفَيا سَيِّدَها) ولم يقل سيدهما لأن يوسف فى الحقيقة كان حرا ولم يكن العزيز له سيدا.

قوله جل ذكره : (قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ)

شغلته بإغرائها إياه بيوسف عن نفسها بأن سبقت إلى هذا الكلام.

ويقال لقنته حديث السجن أو العذاب الأليم لئلا يقصد قتله ؛ ففى عين ما سعت به نظرت له وأبقت عليه.

ويقال قالت ما جزاء من فعل هذا إلا السجن فإن لم ترض بذلك ، وستزيد ؛ فالعذاب الأليم يعنى الضّرب المبرّح .. كأنما ذكرت حديث العقوبة بالتدريج.

ويقال أوقعت السجن الذي يبقى مؤجّلا فى مقابلة الضرب الأليم المعجل ليعلم أن السجن الطويل ـ وإن لم يكن فيه فى الظاهر ألم ـ فهو فى مقابلة الضرب الشديد الموجع ؛ لأنه ـ وإن اشتدّ فلا يقابله.

ويقال قالت : (ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً؟) فذكر الأهل هاهنا غاية تهييج الحميّة وتذكير بالأنفة.

قوله جل ذكره : (قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٦) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٧) فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ

١٨٠