لطائف الإشارات - ج ٢

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري

لطائف الإشارات - ج ٢

المؤلف:

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري


المحقق: الدكتور إبراهيم بسيوني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٥٥

قوله جل ذكره : (فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (٩٠))

سمى يحيى لأنه حي به عقر أمه.

وقوله : (وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ) : لتكون الكرامة لهم جميعا بالولد ، ولئلا يستبدّ زكريا بفرح الولد دونها مراعاة لحقّ صحبتها .. وهذه سنّة الله فى باب إكرام أوليائه ، وفى معناه أنشدوا :

إنّ الكرام إذا ما أيسروا ذكروا

من كان يألفهم فى المنزل الخشن

ثم قال : (إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا ..) وفى هذا بشارة لجميع المؤمنين ، لأن المؤمن لا يخلوا من حالة من أحوال الرغبة أو الرهبة ؛ إذ لو لم تكن رغبة لكان قنوطا والقنوط كفر (١) ، ولو لم تكن رهبة لكان أمنا والأمن كفر (٢).

قوله : (وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ) الخشوع قشعريرة القلب عند اطلاع الرب ، وكان لهم ذلك على الدوام.

قوله جل ذكره : (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (٩١))

يعنى مريم ، وقد نفى عنها سمة الفحشاء وهجنة الذم.

ويقال فنفخنا فيها من روحنا ، وكان النفخ من جبريل عليه‌السلام ، ولكن لمّا كان بأمره ـ سبحانه ـ صحّت الإضافة إليه ، وفى هذا دليل على تأويل خبر النزول ، فإنه يكون بإنزال ملك فتصحّ الإضافة إلى الله إذ كان بأمره. وإضافة الروح إلى نفسه على جهة التخصيص. كقوله : (ناقة الله ، وبيتي) .. ونحو ذلك. (وجعلنا وابنها آية للعالمين) : ولم يقل آيتين

__________________

(١) قال تعالى : (وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) ٥٦ الحجر.

(٢) قال تعالى : (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) ٩٩ الأعراف

٥٢١

لأن أمرهما كان معجزة ودلالة ، ويصح أن يراد أنّ كلّ واحد منهما آية ـ على طريقة العرب فى أمثال هذا.

وفيه نفى لتهمة من قال إنها حبلت من الله ... تعالى الله عن قولهم! قوله (آية للعالمين) : وإن لم يهتد بهما جميع الناس .. لكنهما كانا آية. ومن نظر فى أمرهما ، ووضع النظر موضعه لاهتدى ، وإذا أعرض ولم ينظر فالآية لا تخرج عن كونها حجّة ودلالة بتقصير المقصّر فى بابها.

قوله جل ذكره : (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (٩٢))

أي كلكم خلقته ، وكلكم اتفقتم فى الفقر ، وفى الضعف ، وفى الحاجة. (وَأَنَا رَبُّكُمْ) : وخالقكم على وصف التّفرّد.

قوله جل ذكره : (وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (٩٣))

اختلفوا وتنازعوا ، واضطربت أمورهم ، وتفرّقت أحوالهم ، فاستأصلتهم البلايا.

قوله : (كلّ إلينا راجعون) : وكيف لا ... وهم ما يتقلبون إلّا فى قبضة التقدير؟

قوله جل ذكره : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (٩٤))

من تعنّى لله لم يخسر على الله ، ومن تحمّل لله مشقة وجب حقّه (على) (١) الله : قوله : وهو مؤمن) بعد قوله : (يعمل من الصالحات) دليل على أن من لا يكون مؤمنا لا يكون عمله صالحا ففائدة قوله هاهنا : (وهو مؤمن) فى المآل والعاقبة ، فقد يعمل الأعمال الصالحة من لا يختم له بالسعادة ، فيكون فى الحال مؤمنا وعمله يكون على الوجه الذي آمن ثم لا ثواب له ، فإذا كانت عاقبته على الإسلام والتوحيد فحينئذ لا يضيع سعيه.

__________________

(١) نرجح أنها فى الأصل (من) لأن القشيري فى مواضع شتى عارض أي وجوب (على) الله .. وطا لما أوضحنا ذلك فى الهوامش.

٥٢٢

قوله جل ذكره : (وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (٩٥))

أي لا نهلك قوما وإن تمادوا فى العصيان إلا إذا علمنا أنهم لا يؤمنون ، وأنه بالشقاوة تختم أمورهم.

قوله جل ذكره : (حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (٩٦))

أي يحق القول عليهم ، ويتم الأجل المضروب لهم ، فعند ذلك تظهر أيامهم ، وإلى القدر المعلوم فى التقدير لا تحصل نجاة الناس من شرّهم.

قوله جل ذكره : (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (٩٧))

تأخذهم القيامة بغتة وتظهر أشراط الساعة فجأة ، ويقرّ الكاذبون بأنّ الذنب عليهم ، ولكن فى وقت لا تقبل فيه معذرتهم ، وأوان لا ينفعهم فيه إيمانهم.

قوله جل ذكره : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (٩٨))

(وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) : أي الأصنام التي عبدوها ، ولم تدخل فى الخطاب الملائكة التي عبدها قوم ، ولا عيسى وإن عبده قوم لأنه قال :

(إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ) ولم يقل إنكم ومن تعبدون (١). فيحشر الكافرون فى النار ، وتحشر أصنامهم معهم. والأصنام جمادات فلا جرم لها ، ولا احتراقها عقوبة لها ، ولكنه على جهة براءة ساحتها ، فالذنب للكفار وما الأصنام إلا جمادات.

__________________

(١) لأن (ما) اسم موصول لغير العاقل و (من) اسم موصول للعاقل.

٥٢٣

(لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (٩٩))

القوم قالوا : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) (١) فعلموا أن الأصنام جمادات ، ولكن توهموا أن لها عند الله خطرا ، وأنّ من عبدها يقرب بعبادتها من الله ، فيبيّن الله لهم ـ غدا ـ بأنّها لو كانت تستحق العبادة ، ولو كان لها عند الله خطر لما ألقيت فى النار ، ولما أحرقت.

قوله جل ذكره : (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (١٠٠))

(لَهُمْ) : أي لعبدة الأصنام ، (فِيها) أي فى النار ، (زَفِيرٌ) لحسرتهم على ما فاتهم ، (وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ) من نداء يبشرهم بانقضاء عقوبتهم.

وبعكس أحوالهم عصاة المسلمين (٢) فى النار فهم ـ وإن عذّبوا حينا ـ فإنهم يسمعون قول من يبشّرهم يوما بانقضاء عذابهم ـ وإن كان بعد مدة مديدة.

قوله جل ذكره : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (١٠١))

(سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) : أي الكلمة بالحسنى ، والمشيئة والإرادة بالحسنى ، لأن الحسنى فعله ، وقوله : (سَبَقَتْ) إخبار عن قدمه ، والذي كان لهم فى القدم هو الكلمة التي هى صفة تعلّقت بهم فى معنى الإخبار بالسعادة.

ثم قال : (أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) أي عن النار ، ولم يقل متباعدون ليعلم العالمون أن المدار على التقدير ، وسابق الحكم من الله ، لا على تباعد العبد أو بتقرّبه.

قوله جل ذكره : (لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (١٠٢))

__________________

(١) آية ٣ سورة (الزمر)

(٢) تسمى هذه فى علم الكلام : المنزلة بين المنزلتين وهى التي بين المؤمن والكافر ، وليست عقوبة هؤلاء ـ كما هو شأن الكفار ـ على التأييد .. كما يرى القشيري.

٥٢٤

يدل ذلك على أنهم لا يعذّبون فيها بكل وجه. والمراد منه العباد من المؤمنين الذين لا جرم لهم.

(وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ) : مقيمين لا يبرحون.

قوله جل ذكره : (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (١٠٣))

قيل الفزع الأكبر قول الملك : (لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ) (١)

ويقال إذا قيل : (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) (٢)

ويقال إذا قيل : يا أهل الجنة .. خلودا لا موت فيه ، ويا أهل النار. خلودا لا موت فيه!

وقيل إذا : (قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) (٣)

وقيل الفزع الأكبر هو الفراق. وقيل هو اليأس من رحمة الله وتعريفهم ذلك.

قوله (وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) يقال لهم هذا يومكم الذي كنتم وعدتم فيه بالثواب ؛ فمنهم من يتلقّاه الملك ، ومنهم من يرد عليه الخطاب والتعريف من الملك (٤).

قوله جل ذكره : (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (١٠٤))

إنما كانت السماء سقفا مرفوعا حين كان الأولياء تحتها ، والأرض كانت فراشا إذ كانوا عليها ، فإذا ارتحل الأحباب عنها تخرب ديارهم .. على العادة فيما بين الخلق من خراب الديار بعد مفارقة الأحباب.

__________________

(١) آية ٢٢ سورة الفرقان

(٢) آية ٥٩ سورة يس

(٣) آية ١٠٨ سورة المؤمنون.

(٤) أي من الله سبحانه ـ وهؤلاء هم صفوة الأخيار.

٥٢٥

ويقال نطوى السماء التي إليها عرجت دواوين العصاة من المسلمين لئلا تشهد عليهم بالإجرام ، وتبدّل الأرض التي عصوا عليها غير تلك الأرض حتى لا تشهد عليهم بالإجرام.

أو نطوى السماء لنقرّب قطع المسافات على الأحباب.

قوله جل ذكره : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (١٠٥))

(الذِّكْرِ) هنا هو التوراة ، و «كتب» : أي أخبر وحكم ، و (الصَّالِحُونَ) أمة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنّ (الْأَرْضَ) هم الذين يرثونها.

قوله جل ذكره : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (١٠٧))

أمّا من أسلم فبك ينجون ، وأمّا من كفر فلا نعذبهم ما دمت فيهم ؛ فأنت رحمة منّا على الخلائق أجمعين.

قوله جل ذكره : (قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٨))

واحد فى ذاته ، واحد فى صفاته ، واحد فى أفعاله واحد بلا قسيم ، واحد بلا شبيه ، واحد بلا شريك.

(فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ؟) مخلصون في عقد التوحيد بالتبرّى عن كل غير فى حسبان صلاحيّته للألوهية؟

قوله جل ذكره : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (١٠٩))

إن أعرضوا ولم يؤمنوا فقل : إنى بالالتزام أعلمتكم ، ولكن للإكرام ما ألهتكم ، فتوجّهت عليكم الحجة واستبهمت عليكم المحجة.

٥٢٦

قوله : (وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ..) إنّ علمى متقاصر عن تفصيل أحوالكم فى مآلكم ، ووقت ما توعدون به فى القيامة من تحصيل أهوالكم ، ولكنّ حكم الله غير مستأخر إذا أراد شيئا من تغيير أحوالكم.

قوله جل ذكره : (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (١١٠))

لا يخفى عليه سرّكم ونجواكم ، وحالكم ومآلكم ، وظاهركم وباطنكم .. فعلى قدر استحقاقكم يجازيكم ، وبموجب أفعالكم يحاسبكم ويكافيكم.

قوله جل ذكره : (وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (١١١))

ليس يحيط علمى (إلا) (١) بما يعلمنى ، وإعلامه إياى ليس باختياري ، ولا هو مقصود على حسب مرادى وإيثارى.

قوله جل ذكره : (قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١١٢))

الرحمن كثير الرحمة عامة لكل أحد ، ومنه يوجد العون والنصر حين يوجد وكيف يوجد.

السورة التي يذكر فيها «الحج»

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

سماع (بِسْمِ اللهِ) يوجب الهيبة والغيبة وذلك وقت محوهم. وسماع (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) يوجب الأنس والقربة ، وذلك وقت صحوهم .. فعند سماع هذه الآية انتظم لهم المحو والصحو فى سلك واحد.

سماع (بِسْمِ اللهِ) يوجب انزعاج القلوب وعنده يحصل داء جنونهم (٢) ، وسماع (الرَّحْمنِ

__________________

(١) سقطت (إلا) فى ص وموجودة فى م.

(٢) ليس الجنون والفتون هنا مرتبطين بفساد العقل كما قد يتبادر للذهن إنما يرتبطان بذهاب العقل والوله فى المحبوب ، وهذه هى المرة الأولى التي تصادف فيها هاتين اللفظتين فى مثل هذا السياق ، وقد اعتدنا أن نسمع بدلا من (مجنون ومفتون) كلمات أخرى مثل (مهيم ومتيم)

٥٢٧

الرحيم) يوجب ابتهاج القلوب وبه يحصل شفاء فتوتهم ، فعودة فتونهم في لطف جماله كما أن موجب جنونهم في كشف جلاله.

قوله جل ذكره :(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١))

(يا أَيُّهَا النَّاسُ) نداء علامة ، و (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) نداء كرامة ، وبكلّ واحد من القسمين يفتتح الحقّ خطابه فى السّور ؛ وذلك لانقسام خطابه إلى صفة التحذير مرة ، وصفة التبصير أخرى.

والتقوى هى التحرز والاتقاء وتجنب المحظورات. وتجنب المحظورات فرض ، وتجنب الفضلات والشواغل ـ وإن كان من جملة المباحات ـ نفل ، فثواب الأول أكثر ولكنه مؤجّل ، وثواب النّفل أقلّ ولكنه معجّل (١).

ويقال خوّفهم بقوله : (اتَّقُوا). ثم سكن ما بهم من الخوف بقوله : (رَبَّكُمْ) فإنّ سماع الربوبية يوجب الاستدامة وجميل الكفاية.

قوله : (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) : وتسمية المعدوم «شيئا» توسّع ؛ بدليل أنه ليس فى العدم زلزلة بالاتفاق وإن كان مطلق اللفظ يقتضيه ، وكذلك القول فى تسميته «شيئا» هو توسّع.

قوله جل ذكره : (يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ (٢))

لكل ذلك اليوم شغل يستوفيه ، ويستغرقه ، وترى الناس سكارى أي من هول ذلك

__________________

ـ ومن المفيد أن نسوق نصا لإحدى المجانين :

معشر الناس ما جننت ولكن

انا سكرانة وقلبى صاح

أنا مفتونة بحب حبيب

لست أبغى عن بابه من براح

(الروض الفائق ص ٣٦٢) وكتابنا (نشأة التصوف الإسلامى ط المعارف ص ١٧٨).

(١) هذا أصل يضاف إلى أصول الفقه الصوفي عند القشيري.

٥٢٨

اليوم عقولهم ذاهبة ، والأحوال فى القيامة وأهوالها غالبة. وكأنهم سكارى وما هم فى الحقيقة بسكارى ، ولكن عذاب الله شديد ، ولشدّته يحيرهم ولا يبقيهم على أحوالهم. وهم يتفقون فى تشابههم بأنهم سكارى ، ولكنّ موجب ذلك يختلف ؛ فمنهم من سكره لما يصيبه من الأهوال ، ومنهم من سكره لاستهلاكه فى عين الوصال.

كذلك فسكرهم اليوم مختلف ؛ فمنهم من سكره سكر الشراب ، ومنهم من سكره سكر المحاب .. وشتّان بين سكر وسكر! سكر هو سكر أهل الغفلة ، وسكر هو سكر أهل الوصلة (١).

قوله جل ذكره : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (٣))

المجادلة لله ـ مع أعداء الحق وجاحدى الدّين ـ من موجبات القربة ، والمجادلة فى الله ، والمماراة مع أوليائه ، والإصرار على الباطل بعد ظهور الدلائل من أمارات الشقوة ، وما كان بوساوس الشيطان ونزغاته فقصاراه النار.

قوله جل ذكره : (كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٤))

من وافق الشيطان بمتابعة دواعيه لا يهديه إلّا إلى الضلال ، ثم إنه فى الآخرة يتبرأ من موافقته ، ويلعن جملة متّبعيه. فنعوذ بالله من الشيطان ونزغاته ، ومن درك الشقاء وشؤم مفاجآته.

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ...)

__________________

(١) حديث القشيري فى (السكر) هنا مفيد عند دراسة هذا المصطلح.

٥٢٩

التبس عليهم جواز (بعثه الخلق) (١) واستبعدوه غاية الاستبعاد ، فلم ينكر الحق عليهم إلا بإعراضهم عن تأمل البرهان ، واحتجّ عليهم فى ذلك بما قطع حجتهم ، فمن تبع هداه رشد ، ومن أصرّ على غيّه تردّى فى مهواة هلاكه.

واحتجّ عليهم فى جواز البعث بما أقروا به فى الابتداء أن الله خلقهم وأنه ينقلهم من حال إلى حال أخرى ؛ فبدأهم من نطفة إلى علقة ومنها ومنها ... إلى أن نقلهم من حال شبابهم إلى زمان شيبهم ، ومن ذلك الزمان إلى حين وفاتهم.

واحتجّ أيضا عليهم بما أشهدهم كيف أنه يحيى الأرض ـ فى حال الربيع ـ بعد موتها ، فتعود إلى ما كانت عليه فى الربيع من الخضرة والحياة. والذي يقدر على هذه الأشياء يقدر على خلق الحياة فى الرّمة البالية والعظام النخرة.

قوله : (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) : زمان الفترة بعد المجاهدة ، وحال الحجبة عقب المشاهدة.

ويقال أرذل العمر السعى للحظوظ بعد القيام بالحقوق.

ويقال أرذل العمر الزلة فى زمان المشيب.

ويقال أرذل العمر الإقامة فى منازل العصيان.

ويقال أرذل العمر التعريج فى (أوطان) (٢) المذلة.

ويقال أرذل العمر العشرة مع الأضداد.

ويقال أرذل العمر (عيش) (٣) المرء بحيث لا يعرف قدره.

ويقال أرذل العمر بأن يوكل إلى نفسه.

ويقال أرذل العمر التطوح فى أودية الحسبان أن شيئا بغير الله.

ويقال أرذل العمر الإخلاد إلى تدبير النّفس ، والعمى عن شهود تقدير الحق.

__________________

(١) هكذا فى م أما فى ص فهى (بعثهم الحق) ونرجح الأولى إذ الذي استبعدوه أن يبعث الله واحدا من الخلق.

(٢) هكذا فى م وهى غير موجودة فى ص.

(٣) فى م (عيش) المرء وفى ص (حبس) المرء. وقد رجحنا (عيش) على معنى أن الله يمنحه من العمر ما لا يكون خلاله تقدير من الخلق له.

٥٣٠

قوله جل ذكره : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦))

الله هو الحقّ ، والحق المطلق الوجود (١) ، وهو الحق أي ذو الحق.

(وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى) أي الأرض التي أصابتها وحشة الشتاء (٢) يحييها وقت الربيع.

ويقال يحيى النفوس بتوفيق العبادات ، ويحيى القلوب بأنوار المشاهدات.

ويقال يحيى أحوال المريدين بحسن إقباله عليهم.

ويقال حياة الأوقات بموافقة الأمر ، ثم بجميل الرضا وسكون الجأش عند جريان التقدير.

قوله جل ذكره : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٨))

دليل الخطاب يقتضى جواز المجادلة فى الله إذا كان صاحب المجادلة على علم بالدليل والحجة ليستطيع المناضلة عن دينه ، قال سبحانه لنبيّه : (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ومن لم يحسن مذهب الخصم وما يتعلق به من الشبه لم يمكنه الانفصال عن شبهته ، وإذا لم تكن له قوة الانفصال فلا يستحبّ له أن يجادل الأقوياء (٣) منهم ، وهذا يدل على وجوب تعلم علم الأصول (٤) ، وفى هذا رد على من جحد ذلك.

قوله جل ذكره : (ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ

__________________

(١) (الحق المطلق الوجود) هذه عبارة لم تصادفنا من قبل فى أي مصنف القشيري ، ونحن نعطيها أهمية خاصة إذا تذكرنا أن هذا اصطلاح لأرباب وحدة الوجود ، فهم يعتبرون الوجود المطلق للحق وما عدا فوجوده نسبى متكثر متعدد ، وهذا لا بأس به ، ولكن النتائج التي رتبوها عليه خطيرة. ونظن أنها (الموجود) بدل (الوجود) بدليل ما سبق ذكره عند تفسير الآية (فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ) من سورة طه وكنا قد أيدنا ذلك بما ذكره فى كتابه «التحبير في التذكير».

(٢) هكذا فى م ولكنها فى ص (الشقاء) بالقاف ونحن نؤثر الأولى لأن المقصود المقابلة مبين الربيع و (الشتاء)

(٣) هكذا فى م ولكنها في ص (إلا قوما).

(٤) فى هذا وفيما بعده رد على من يتهمون الصوفية بمجافاتهم للعلم ، وعدم احترامهم للعقل ، كما أن فيه ردا على قضية أنارها بعض المتكلمين حول وجوب أو عدم وجوب تعلم المسلم أصول التوحيد كى يصح إيمانه ، ومدى ما يكون عليه إيمان العامة الذين لا تتاح لهم فرصة هذا التعلم.

٥٣١

لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق)

يريد أنه متكبّر عن قبول الحق ، زاهد فى التحصيل ، غير واضع نظره موضعه ؛ إذ لو فعل ذلك لهان عليه التخلّص من شبهته.

ثم قال : (لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) أي مذلة وهوان ، وفى الآخرة عذاب الحريق.

قوله جل ذكره : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١١))

يعنى يكون على جانب ، غير مخلص ... لا له استجابة توجب الوفاق ، ولا جحدا يبين الشقاق ؛ فإن أصابه أمن وخير ولين اطمأن به وسكن إليه ، وإن أصابته فتنة أو نالته محنة ارتدّ على عقبيه ناكسا ، وصار لما أظهر من وفاقه عاكسا. ومن كانت هذه صفته فقد خسر فى الدارين ، وأخفق فى المنزلتين.

قوله جل ذكره : (يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٢) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (١٣))

أي يعبد من المضرّة فى عبادته أكثر من النّفع منه ، بل ليس فى عبادته النفع بحال ، فالضّرّ المتيقّن فى عبادتهم الأصنام هو بيان ركاكة عقولهم ، ورؤية الناس خطأ فعلهم. والنفع الذي يتوهمونه فى هذه العبادة ليس له تحصيل ولا حقيقة.

٥٣٢

ثم قال : (لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ) : أي لبئس الناصر الصّنم لهم ، ولبئس القوم هم للصنم ، ولم لا.؟ ولأجله وقعوا فى عقوبة الأبد.

قوله جل ذكره (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (١٤))

(الَّذِينَ آمَنُوا) : أي صدّقوا ثم حقّقوا ؛ فالإيمان ظاهره التصديق وباطنه التحقيق ، ولا يصل العبد إليهما إلا بالتوفيق.

ويقال الإيمان (انتسام) (١) الحق فى السّرّ.

ويقال الإيمان ما يوجب الأمان ، ففى الحال يجب الإيمان وفى المآل يوجب الأمان ، فمعجّل الإيمان من (...) (٢) المسلمين ، ومؤجّله الخلاص من صحبة الكافرين الفاسقين.

وقوله : (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) : العمل الصالح ما يصلح للقبول ، ويصلح للثواب ، وهو أن يكون على الوجه الذي تعلّق به الإيمان.

والجنان التي يدخل المؤمنين فيها مؤجلة ومعجلة ؛ فالمؤجّله ثواب وتوبة ، والمعجّلة أحوال وقربة ، قال تعالى : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) (٣).

قوله جل ذكره : (مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (١٥))

أي أنّ الحقّ ـ سبحانه ـ يرغم أعداء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فمن لم تطب

__________________

(١) فى م (ابتسام) وفى ص (انتسام) ، ونحن نفضل هذه على تلك على أنها صيغة (انفعال) من (تنسم) فلان العلم أو الخبر أي تلطف فى التماسه حتى تبينه وتبعه.

(٢) فى م (سيف) وفى ص (سلف) ونحن نؤثر الأولى إذ أن الذي يؤمن يأمن ـ فى الحال ـ من بطش المسلمين الذين أمروا بقتال أعدائهم جهادا فى سبيل إعلاء كلمة الإيمان.

(٣) آية ٤٦ سورة الرحمن.

٥٣٣

نفسه بشهود تخصيص الله سبحانه بما أفرده به فليقتل نفسه من الغيظ خنقا ، ثم لا ينفعه ذلك ، كما قيل :

إن كنت لا ترضى بما قد ترى

فدونك الحبل به فاخنق

قوله جل ذكره : (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (١٦))

(آياتٍ بَيِّناتٍ) : أي دلالات وعلامات نصبها الحقّ سبحانه لعباده ، فمن الآيات ما هو قضية العقل ، ومنها ما هو قضية الخبر والنقل ، ومنها ما هو تعريفات فى أوقات المعاملات (١) فما يجده العبد فى حالاته من انغلاق ، واشتداد قبض ، وحصول خسران ، ووجوه امتحان .. لا شكّ ولا مرية إذا أخلّ بواجب أو ألمّ بمحظور (٢). أو تكون زيادة بسط أو حلاوة طاعة ، أو تيسير عسير من الأمور ، أو تجدد إنعام عند حصول شىء من طاعاته.

ثم قد يكون آيات فى الأسرار ، هى خطاب الحقّ ومحادثة معه ، كما فى الخبر :

«لقد كان فى الأمم محدّثون فإن يك فى أمتى فعمر» (٣)

ثم يقال الآيات ظاهرة ، والحجج زاهرة ، ولكن الشأن فيمن يستبصر.

قوله جل ذكره : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١٧))

أصناف الناس على اختلاف مراتبهم : الولىّ والعدوّ ، والموحّد والجاحد يجمعون يوم الحشر ، ثم الحقّ ـ سبحانه ـ يعامل كلا بما وعده ؛ إما بوصال بلا مدى ، أو بأحوال

__________________

(١) يمكن القول إن هذه هى المصادر الأساسية لما أطلقنا عليه من قبل (أصول الفقه الصوفي) ومنها يتضح اهتمام القشيري بالعقل ثم النقل ثم ما يحصل من العرفان نتيجة المجاهدات.

(٢) فإن الإثم ما حاك فى صدرك ... كما قال المصطفى صلوات الله عليه وسلامه.

(٣) وهى التي يطلق عليها القشيري (الفراسة) انظر الرسالة ص ١١٥ وما بعدها.

٥٣٤

بلا منتهى. الوقت واحد ؛ وكلّ واحد لما أعدّ له وافد ، وعلى ما خلق له وارد ..

قوله جل ذكره : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (١٨))

أهل العرفان يسجدون له سجود عبادة ، وأرباب الجحود كلّ جزء منهم يسجد له سجود دلالة وشهادة.

وفى كل شىء له آية

تدلّ على أنه واحد

قوله جل ذكره : (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (١٩))

أما الذين كفروا فلهم اليوم لباس الشرك وطرازه الحرمان ، ثم صدار الإفك وطرازه الخذلان. وفى الآخرة لباسهم القطران وطرازه الهجران ، قال تعالى : (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ).

أمّا أصحاب الإيمان فلباسهم اليوم التقوى ، وتنقسم إلى اجتناب الشّرك ثم مجانبة المخالفة ، ثم مباينة الغفلة ، ثم مجانبة السكون إلى غير الله والاستبشار إلى ما سوى الله.

وفى الآخرة لباسهم فيها حرير ، وآخرون لباسهم صدار المحبة ، وآخرون لباسهم الانفراد به ، وآخرون هم أصحاب التجريد ؛ فلا حال ولا مقام ولا منزلة ولا محل وهم الغرباء (١) ، وهم الطبقة العليا ، وهم أحرار من رقّ كل ما لحقه التكوين.

__________________

(١) يقول ابن الجلاء فى تعريف الصوفي : فقير مجرد عن الأسباب ، كان مع الله بلا مكان ، ولا يمنعه الحق ـ سبحانه ـ من علم كل مكان (الرسالة ص ١٤٠) ويقول الحصرى : «الصوفى لا تقله أرض ولا تظله سماء» الرسالة (الصفحة ذاتها).

٥٣٥

قوله جل ذكره : (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٢٣))

التحلية تحصين لهم ، وستر لأحوالهم ؛ فهم للجنة زينة ، وليس لهم بالجنة زينة :

وإذا الدّرّ زان حسن وجوه

كان للدّرّ حسن وجهك زينا

قوله جل ذكره : (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (٢٤))

الطيب من القول ما صدر عن قلب خالص ، وسرّ صاف (مما يرضى به علم التوحيد ، فهو الذي لا اعتراض عليه للأصول) (١) ويقال الطيب من القول ما يكون وعظا للمسترشدين ، ويقال الطيب من القول هو إرشاد المريدين إلى الله.

ويقال الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.

ويقال الدعاء للمسلمين.

ويقال كلمه حق عند من يخاف ويرجى (٢).

ويقال الشهادتان عن قلب مخلص.

ويقال ما كان قائله فيه مغفورا (٣) وهو مستنطق.

__________________

(١) هكذا فى ص ولا فرق بين العبارة فى س ، م إلا أنها جاءت فى الأخيرة (مما رضى به ...) والمقصود أن أقوال أرباب القلوب ينبغى ألا تتعارض مع أقوال أرباب أصول التوحيد ؛ لأن الحقيقة لا تعارض الشريعة فى شىء. فالضمير (فهو) يعود على الطيب من القول الصادر من القلب الخالص والسر الصافي.

(٢) أي عند صاحب سلطان ، وقد عرف الصوفية بشجاعتهم الرائعة فى مواجهة أصحاب الأمر والنهى من الحكام وغيرهم.

(٣) هكذا فى ص أما فى م فهى (مفقودا) وعلى الأول يكون المعنى أن قوله مسموح به ـ ظاهريا ـ حيث لا يستشنع فى الباطن ، وعلى الثاني : أي يكون قائله فى حال الفقد فهو لا ينطق بنفسه بل بالله.

٥٣٦

ويقال هو بيان الاستغفار والعبد برىء من الذنوب.

ويقال الإقرار بقوله : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) (١).

ويقال أن تدعوا للمسلمين بما لا يكون لك فيه نصيب.

وأمّا (صِراطِ الْحَمِيدِ) : فالإضافة فيه كالإضافة عند قولهم : مسجد الجامع (أي المسجد الجامع) والصراط الحميد : الطريق المرضى وهو ما شهدت له الشريعة بالصحة ، وليس للحقيقة عليه نكير.

ويقال الصراط الحميد : ما كان طريق الاتباع دون الابتداع.

قوله جل ذكره : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٥))

الصدّ عن المسجد الحرام بإخافة السّبل ، وبغصب المال الذي لو بقي فى يد صاحبه لوصل به إلى المسجد الحرام.

قوله : (سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ) (٢) وإنما يعتبر فيه السبق والتقدم.

ومشهد الكرام يستوى فيه الإقدام ، فمن وصل إلى تلك العقوة فلا ترتيب ولا ردّ ، وبعد الوصول فلا زجر ولا صدّ ، أمّا فى الطريق فربما يعتبر التقدم والتأخر ؛ قال تعالى : (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) (٣) ولكن فى الوصول فلا تفاوت ولا تباين ، ثم إذا اجتمعت النفوس فالموضع الواحد يجمعهم ، ولكن لكلّ حال ينفرد بها.

__________________

(١) آية ٢٣ سورة الأعراف.

(٢) البادي ـ غير المقيم.

(٣) آية ٢٤ سورة الحجر.

٥٣٧

قوله جل ذكره : (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (٢٦))

أصلحنا له مكان البيت ومسكّناه منه ؛ وأرشدناه له ، وهديناه إليه ، وأعنّاه عليه ، وذلك أنه رفع البيت إلى السماء الرابعة فى زمن طوفان نوح عليه‌السلام ، ثم أمر إبراهيم عليه‌السلام ببناء البيت على أساسه القديم. قوله (أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً) ، أي لا تلاحظ البيت ولا بناءك له.

(وَطَهِّرْ بَيْتِيَ ..) يعنى الكعبة ـ وذلك على لسان العلم ، وعلى بيان الإشارة فرّغ قلبك عن الأشياء كلّها سوى ذكره ـ سبحانه.

وفى بعض الكتب : «أوحى الله إلى بعض الأنبياء فرّغ لى بيّتا أسكنه ، فقال ذلك الرسول : إلهى .. أى بيت تشغل؟ فأوحى الله إليه : ذلك قلب عبدى المؤمن». والمراد منه ذكر الله تعالى ؛ فالإشارة فيه أن يفّرّغ قلبه لذكر الله. وتفريغ القلب على أقسام : أوله من الغفلة ثم من توهّم شىء من الحدثان من غير الله.

ويقال قد تكون المطالبة على قوم بصون القلب عن ملاحظة العمل ، وتكون المطالبة على الآخرين بحراسة القلب عن المساكنة إلى الأحوال.

ويقال (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ) : أي قلبك عن التطلع والاختيار ؛ بألا يكون لك عند الله حظّ فى الدنيا أو فى الآخرة حتى تكون عبدا له بكمال قيامك بحقائق العبودية.

«ويقال (طَهِّرْ بَيْتِيَ) : أي بإخراج كل نصيب لك فى الدنيا والآخرة من تطلع إكرام ، أو تطلّب إنعام ، أو إرادة مقام ، أو سبب من الاختيار والاستقبال.

ويقال طهّر قلبك للطائفين فيه من موارد الأحوال على ما يختاره الحق. (وَالْقائِمِينَ) وهى الأشياء المقيمة من مستودعات (١) العرفان فى القلب من الأمور المغيبة عن البرهان ،

__________________

(١) هكذا فى م أما فى ص فهى (مستوطنات).

٥٣٨

ويتطلع بما هو حقائق البيان التي هى كالعيان كما فى الخبر : «كأنك تراه». (١)

(وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) : هى أركان الأحوال المتوالية من الرغبة والرهبة ، والرجاء والمخافة والقبض والبسط ، وفى معناه أنشدوا :

لست من جملة المحبين إن لم

أجعل القلب بيته والمقاما

وطوافى إجالة السّرّ فيه

وهو ركنى إذا أردت استلاما

قوله : (لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً) : لا تلاحظ البيت ولا بناءك (٢) للبيت.

ويقال هو شهود البيت دون الاستغراق فى شهود ربّ البيت.

قوله جل ذكره : (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (٢٧))

أذّن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ بالحج ونادى ، وأسمع الله نداءه جميع الذرية فى أصلاب آبائهم ، فاستجاب من المعلوم من حاله أنه يحج.

وقدّم الرّجالة على الركبان لأنّ الحمل على المركوب أكثر (٣).

ولتلك الجمال على الجمال خصوصية لأنها مركب الأحباب ، وفى قريب من معناه أنشدوا :

وإنّ جمالا قد علاها جمالكم

 ـ وإن قطّعت أكبادنا ـ لحبائب

ويقال (يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) هذا على وجه المدح وسبيل الشكر منهم.

وكم قدر مسافة الدنيا بجملتها!؟ ولكن لأجل قدر أفعالهم وتعظيم صنيعهم يقول ذلك إظهارا لفضله وكرمه.

__________________

(١) إشارة إلى الحديث (أعبد الله كأنك تراه وعد نفسك من الموتى).

الطبراني عن أبى الدرداء ، وحسن السيوطي سنده ، ورواه البيهقي عن معاذ. وفى الحلية (أعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فهو يراك ...).

(٢) هكذا فى م أما فى ص فقد وردت (ولا تبال) ونحن نرجح ما جاء فى م.

(٣) فتقديم الرجالة فيه تخصيص نظرا لما يبذلونه من جهد أكبر.

٥٣٩

قوله جل ذكره : (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ)

أرباب الأموال منافعهم أموالهم ، وأرباب الأعمال منافعهم حلاوة طاعتهم ، وأصحاب الأحوال منافعهم صفاء أنفاسهم ، وأهل التوحيد منافعهم رضاهم باختيار الحقّ ما يبدو من الغيب لهم.

قوله جل ذكره : (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ (١) عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ)

لأقوام عند التقرّب بقرابينهم وسوق هديهم (٢). وآخرون يذكرون اسمه عند ذبحهم أمانيهم واختيارهم بسكاكين اليأس .. حتى يقوموا بالله لله بمحو ما سوى الله.

قوله جل ذكره : (فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ).

شاركوا الفقراء فى الأكل من ذبيحتكم ـ الذي ليس بواجب ـ لتلحقكم بركات الفقراء. والإشارة فيه أن ينزلوا (٣) ساحة الخضوع والتواضع ، ومجانبة الزّهو والتكبّر.

قوله جل ذكره : (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ)

ليقضوا حوائجهم وليحققوا عهودهم ، وليوفوا نذورهم فيما عقدوه مع الله بقلوبهم ، فمن كان عقده التوبة فوفاؤه ألا يرجع إلى العصيان. ومن كان عهده اعتناق الطاعة فشرط وفائه ترك تقصيره. ومن كان عهده ألا يرجع إلى طلب مقام وتطلّع إكرام فوفاؤه استقامته على الجملة فى هذا الطريق بألا يرجع إلى استعجال نصيب واقتضاء حظ.

قوله جل ذكره : (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ)

الإشارة فى الطواف إلى أنه يطوف بنفسه حول البيت ، وبقلبه فى ملكوت السماء ، وبسرّه فى ساحات الملكوت.

__________________

(١) أبو حنيفة : هى عشر ذى الحجة وآخرها يوم النحر. وأكثر المفسرين : هى أيام النحر.

(٢) الهدى ـ ما يهدى إلى الحرم من النعم ، قال تعالى : (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ).

(٣) هكذا فى م وفى س (يتركوا) وربما كانت فى الأصل ألا يتركوا فهكذا يقتضى السياق.

٥٤٠