لطائف الإشارات - ج ٢

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري

لطائف الإشارات - ج ٢

المؤلف:

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري


المحقق: الدكتور إبراهيم بسيوني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٥٥

قوله جل ذكره : (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (١١٥))

لم نجد له قوة بالكمال ، وانكماشا فى مراعاة الأمر حتى وقعت عليه سمة العصيان بقوله : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ) (١).

ويقال (لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) : على الإصرار على المخالفة.

ويقال لم نجد له عزما فى القصد على الخلاف (٢) ، وإن كان .. فذلك بمقتضى النسيان ، قال تعالى (فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) على خلاف الأمر ، وإن كان منه اتباع لبعض مطالبات الأمر.

ويقال شرح قصة آدم ـ عليه‌السلام ـ لأولاده على حجة التسكين لقلوبهم حتى لا يقنطوا من رحمة الله ؛ فإن آدم عليه‌السلام وقع عليه هذا الرقم ، واستقبلته هذه الخطيئة ، وقوله تعالى (فَنَسِيَ) من النسيان ، ولم يكن فى وقته النسيان مرفوعا عن الناس.

ويقال عاتبه بقوله : (فَنَسِيَ) ثم أظهر عذره فقال : (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً).

قوله جل ذكره : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (١١٦))

السجود نوع من التواضع وإكبار القدر ، ولم تتقدم (٣) [من آدم عليه السلام طاعة ـ ولا عبادة فخلقه الحقّ بيده ، ورفع شأنه بعد ما علّمه ، وحمل إلى الجنة ، وأمر الملائكة في كل سماء أن يسجدوا له تكريما له على الابتلاء ، واختبارا لهم. فسجدوا بأجمعهم ، وامتنع إبليس من بينهم ، فلقى من الهوان ما سبق له في حكم التقدير. والعجب ممن يخفى عليه أنّ مثل هذا يجرى من دون إرادة الحقّ ومشيئته وهو عالم بأنه كذلك يجرى ، واعتبروا الحكمة في أفعاله وأحكامه ، ويزعمون أنه علم ما سيكون من حال إبليس وذريته ، وكثرة مخالفات

__________________

(١) آية ١٢١ من السورة نفسها.

(٢) الخلاف ـ المخالفة.

(٣) ابتداء من هذا الموضع وحتى ينتهى الكلام بين القوسين الكبيرين وضعه الناسخ خطأ فيما بين الورقة ٤١٨ والورقة ٤٢٢ عند تفسير سورة الفرقان أي في مكان متأخر كثيرا وقد سمعنا وضعه ، ونبهنا إلى ذلك في مدخل هذا الكتاب (المجلد الأول).

٤٨١

أولاد آدم ، وكيف أن الشيطان يوسوس لهم ... ثم يقولون إن الحقّ سبحانه أراد خلاف ما علم ، وأجرى في سلطانه ما يكرهه وهو عالم ، وكان عالما بما سيكون! ثم خلق إبليس ومكّنه من هذه المعاصي مع إرادته ألا يكون ذلك! ويدّعون حسن ذلك في الفعل اعتبارا انما هو الحكمة ... فسبحان من أعمى بصائرهم ، وعمّى حقيقة التوحيد عليهم!

قوله جل ذكره : (فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (١١٧))

وما كان ينفعهم النّصح وقد أراد بهم ما حذّرهم ، وعلم أنهم سيلقون ما خوّفهم به.

قوله : (فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى) : علم أنهم سيلقون ذلك الشقاء : وأمّا إنّه أضاف الشقاء إلى آدم وحده ـ وكلاهما لحقه شقاء الدنيا ـ فذلك لمضارعة رءوس الآي ، أو لأن التعب على الرجال دون النساء. ومن أصغى إلى قول عدوّه فإنه يتجرّع النّدم ثم لا ينفعه.

قوله جل ذكره : (إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (١١٨) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (١١٩))

لا تصديق أتمّ من تصديق آدم ، ولا وعظ أشدّ رحمة من الله ، ولا يقين أقوى من يقينه .. ولكن ما قاسى آدم الشقاء قبل ذلك ، فلمّا استقبله الأمر وذاق ما خوّف به من العناء والكدّ ندم وأطال البكاء ، ولكن بعد إبرام التقدير.

(وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى) أوثر بكل وجه ؛ فلم يعرف قدر العافية والسلامة ، إلى أن جرى ما هو محكوم به من سابق القسمة.

ويقال تنعّم آدم فى الجنة ولم يعرف قدر ذلك إلى حين استولى فى الدنيا عليه الجوع والعطش ، والبلاء من كل (...) (١)

__________________

(١) هنا طمس أخفى لفظة فى نهاية السطر وهى أقرب إلى أن تكون (فن) ونحن نتقبلها ، فالقشيرى يستعملها فى مواضع مماثلة (أنظر مثلا استعماله (فنون الخذلان) عند تفسير الآية التي ستأتى بعد قليل : ومن اعرض عن ذكرى ...) ، و (فن) تكون بمعنى (نوع) كما سيأتى فى العبارة التالية.

٤٨٢

وكان آدم عليه‌السلام إذا تجدّد له نوع من البلاء أخذ فى البكاء ، وجبريل عليه‌السلام يأتى ويقول : «ربّك يقرئك السلام ويقول : لم تبكى؟ فكان يذكّر جبريل عليه‌السلام وهو يقول : أهذا الذي قلت : (وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى) ..! وغير هذا من وجوه الضمان والأمن؟!

قوله جل ذكره : (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (١٢٠))

وسوس إليه الشيطان وكان الحقّ يعلم ذلك ولم يذكر آدم فى الحال أن هذا من نزغات من قال له ـ سبحانه : (إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ).

ويقال : لو عمّى على إبليس تلك الشجرة حتى لم يعرفها بعينها ، ولو لم يكن (...) (١) حتى دلّه على تلك الشجرة (إيش) (٢) الذي كان يمنعه منه إلا أنّ الحكم منه بذلك سبق ، والإرادة به تعلّقت؟

ويقال إن الشيطان ظهر لآدم عليه‌السلام بعد ذلك فقال له : يا شقىّ ، فعلت وصنعت ..!

فقال إبليس لآدم : إن كنت شيطانك فمن كان شيطانى (٣)؟

ويقال سمّى الشيطان شيطانا لبعده عن طاعة الله ، فكلّ بعيد عن طاعة الله يبعد الناس عن طاعة الله فهو شيطان ، ولذلك يقال : شياطين الإنس ، وشياطين الإنس شرّ من شياطين الجن.

ويقال لما طمع آدم فى البقاء خالدا وجد الشيطان سبيلا إليه بوسوسته.

والناس تكلموا فى الشجرة : ما كانت؟ والصحيح أن يقال إنها كانت شجرة المحنة.

ويقال لو لم تخلق فى الجنة تلك الشجرة لما كان فى الجنة نقصان فى رتبتها (٤)

__________________

(١) مشتبهة.

(٢) معناها (فأى شىء؟) وهى هنا استفهامية.

(٣) فى ذلك تنصل من اللعين أساسه المغالطة والتلبيس.

(٤) أي أن الجنة فى عرف هذا المتكلم (مخلوقة) و (حادثة).

٤٨٣

ويقال لو لا أنه أراد لآدم ما كان لطالت تلك الشجرة حتى ما كانت لتصل إليها يده ، ولكنه ـ كما فى القصة ـ كانت لا تصل إلى أوراقها يده ـ بعد ما أكل منها ـ حينما أراد أن يأخذ منها ليسترد عورته (١).

قوله جل ذكره : (فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما)

لمّا ارتكبا المنهىّ عنه ظهر ما يستحي من ظهوره ، ولكنّ الله ـ سبحانه ـ ألطف معهما فى هذه الحالة بقوله : فبدت لهما سوآتهما ، ولم يقل ـ مطلقا ـ فبدت سوءتهما ؛ أي أنه لم يطلع على سوءتهما غيرهما.

ويقال لمّا تجرّدا عن لباس التقوى تناثر عنهما لباسهما الظاهر.

قوله جل ذكره : (وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ)

أول الحرف والصناعات ـ على مقتضى هذا ـ الخياطة ، وخياطة الرّقاع بعضها على بعض للفقراء ميراث من أبينا آدم ـ عليه‌السلام (٢).

ويقال كان آدم ـ عليه‌السلام ـ قد أصبح وعليه من حلل الجنة وفنون اللّباس ما الله به أعلم ، ثم لم يمس حتى كان يخصف على نفسه من ورق الجنة ، وهكذا كان فى الابتداء ما هو موروث فى أولاده من هناء بعده بلاء.

قوله تعالى : (وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ) (٣) : عند ذلك وقعت عليهما الخجلة لمّا ورد عليهما خطاب الحقّ : (أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ ...) ولهذا قيل : كفى للمقصّر الحياء يوم اللقاء

قوله تعالى : (قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا ..) (٤) : لم يتكلما بلسان الحجة فقالا : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) ، ولم يقولا : بظلمنا صرنا من الخاسرين ، بل قالا : (وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا

__________________

(١) وفى هذا تحذير ضمنى للأكابر من الوقوع فى الزلة ، وكيف أن كرامة الولى تتلاشى بزلته.

(٢) لاحظ أهمية ذلك عندما نؤرخ للخرقة والمرقعة عند الصوفية.

(٣) آية ٢٢ سورة الأعراف.

(٤) آية ٢٣ سورة الأعراف.

٤٨٤

لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) ليعلم أنّ المدار على حكم الربّ لا على جرم الخلق.

قوله جل ذكره : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى)

لمّا وقعت عليه سمة العصيان ـ وهو أوّل البشر ـ كان فى ذكر هذا تنفيس لأولاده ؛ أن تجرى عليهم زلّة وهم بوصف الغيبة فى حين الفترة.

ويقال كانت تلك الأكلة شيئا واحدا ، ولكن قصتها يحفظها ويرددها الصبيان إلى يوم القيامة.

وعصى آدم ربّه ليعلما أن عظم الذنوب لمخالفة الآمر وعظم قدره .. لا لكثرة المخالفة فى نفسها.

قوله جل ذكره : (ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (١٢٢))

أخبر أنه بعد ما عصى ، وبعد كلّ ما فعله اجتباه ربّه ؛ فالذى اصطفاه أوّلا بلا علّة (١) اجتباه ثانيا بعد الزّلّة ، فتاب عليه ، وغفر ذنبه ، (وَهَدى) : أي هداه إليه حتى اعتذر واستغفر.

قوله جل ذكره : (قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (١٢٣))

أوقع العداوة بين آدم وإبليس والحية ، وقد توالت المحن على آدم وحواء بعد خروجهما من الجنة بسمة العصيان ، ومفارقة الجنة ، ودخول الدنيا ، وعداوة الشيطان ، والابتلاء بالشهوات. ثم قال :

(فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ ...) وترك هواه ، ولم يعمل بوسوسة العدوّ فله كلّ خير ، ولا يلحقه ضير.

قوله جل ذكره : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً)

الكافر إذا أعرض عن ذكره بالكلية فله المعيشة الضنك فى الدنيا ، وفي القبر ،

__________________

(١) تفيد هذه العبارة فى بيان أهمية الاصطفاء الإلهى ، وأن العمل الإنسانى له الدرجة الثانية فى الأهمية. ثم تفيد فى بيان الفرق فى الاصطلاح بين (الاصطفاء) و (الاجتباء).

٤٨٥

وفى النار ، وبالقلب من حيث وحشة الكفر ، وبالوقت من حيث انغلاق الأمور.

ويقال من أعرض عن الانخراط فى قصايا الوفاق انثالت عليه فنون الخذلان ، ومن أعرض عن استدامة ذكره ـ سبحانه ـ بالقلب توالت عليه من تفرقة القلب ما يسلب عنه كلّ روح.

ومن أعرض عن الاستئناس بذكره انفتحت عليه وساوس الشيطان وهواجس النّفس بما يوجب له وحشة الضمير ، وانسداد أبواب الراحة والبسط.

ويقال من أعرض عن ذكر الله فى الخلوة قيّض الله له فى الظاهر من القرين السوء ما توجب رؤيته له قبض القلوب واستيلاء الوحشة.

قوله جل ذكره : (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى)

فى الخبر : «من كان بحالة لقى الله بها» فمن كان فى الدنيا أعمى القلب يحشر على حالته ، ومن يعش على جهل يحشر على جهل ، ولذا يقولون : (مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا؟) (١) إلى أن تصير معارفهم ضرورية.

وكما يتركون ـ اليوم ـ التدبّر فى آياته يتركون غدا فى العقوبة من غير رحمة على ضعف حالاتهم.

قوله جل ذكره : (وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (١٢٧))

جرت سنّته بأن يجازى كلا بما يليق بحاله ، فما أسلفه لنفسه سيلقى غبّه ؛ على الخير خيرا ، وعلى الشرّ شرّا.

__________________

(١) آية ٥٢ سورة يس.

٤٨٦

قوله جل ذكره : (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (١٢٨))

أي أفلا ينظرون فيتفكرون (١)؟ ثم إذا استبصروا أفلا يعتبرون؟ وإذا اعتبروا أفلا يزدجرون؟ أم على وجوههم ـ فى ميادين غفلاتهم يركضون ، وعن سوء معاملاتهم لا يرجعون؟ ألا ساء ما يعملون!

قوله جل ذكره : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (١٢٩))

لو لا أنّ كلمة الله سبقت بتأخير العقوبة عن هذه الأمة ، وأنه لا يستأصلهم لأنّ جماعة من الأولياء فى أصلابهم لعجّل عقوبتهم ، ولكن ... كما ذكر من الأحوال أمهلهم مدة معلومة ، ولكنه لم يهملهم أصلا.

وإذا كانت الكلمة بالسعادة لقوم والشقاوة لقوم قد سبقت ، والعلم بالمحفوظ بجميع ما هو كائن قد جرى ـ فالسعى والجهد ، والانكماش والجدّ .. متى تنفع؟ لكنه من القسمة أيضا ما ظهر.

قوله جل ذكره : (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (١٣٠))

سماع الأذى يوجب المشقة ، فأزال عنه ما كان لحقه من المشقة عند سماع ما كانوا يقولون ، وأمره : إن كان سماع ما يقولون يوحشك فتسبيحنا ـ الذي تثنى به علينا ـ يروّحك.

(قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ) : أي فى صدر النهار ؛ ليبارك لك فى نهارك ، وينعم صباحك.

(وَقَبْلَ غُرُوبِها) أي عند نقصان النهار ؛ ليطيب ليلك ، وينعم رواحك.

__________________

(١) (الفاء) هنا حرف عطف لا (فاء) سبب ، ولو اعتبرناها سببيه نقول (فيتفكروا) لوقوعها بعد أسلوب طلبى ، ولكننا أثبتنا ما جاء فى النص لتكرار ذلك فيما تلاه.

٤٨٧

(وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ) أي فى ساعات الليل ؛ فإن كمال الصفوة فى ذكر الله فى حال الخلوة.

(وَأَطْرافَ النَّهارِ) أي استدم ذكر الله فى جميع أحوالك.

قوله جل ذكره : (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ)

فضل (١) الرؤية فيما لا يحتاج إليه معلول كفضل الكلام ، والذي له عند الله منزل وقدر فللحقّ على جميع أحواله غيرة ؛ إذ لا يرضى منه أن يبذل شيئا من حركاته ، وسكناته وجميع حالاته فيما ليس لله ـ سبحانه ـ فيه رضاء ، وفى معناه أنشدوا :

فعينى إذا استحسنت غيركم

أمرت الدموع بتأديبها

ويقال لما أدّبه فى ألا ينظر إلى زينة الدنيا بكمال نظره وقف على وجه الأرض بفرد قدم تصاونا عنها حتى قيل له : (طه) أي طأ الأرض بقدمك .. ولم كلّ هذه المجاهدة وكل هذا التباعد حتى تقف بفرد قدم؟! طأ الأرض بقدميك.

(زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا ...) الفتنة ما يشغل به عن الحقّ ، ويستولى حبّه على القلب ، ويجسّر وجوده على العصيان ، ويحمل الاستمتاع به على البطر والأشر.

قوله جل ذكره : (وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى)

القليل من الحلال ـ وفيه رضاء الرحمن ـ خير من الكثير من الحرام والحطام. ومعه سخطه. ويقال قليل يشهدك ربّك خير من كثير ينسيك ربّك.

قوله جل ذكره : (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها)

الصلاة استفتاح باب الرزق ، وعليها أحال فى تيسير الفتوح عند وقوع الحاجة إليه. ويقال الصلاة رزق القلوب ، وفيها شفاؤها ، وإذا استأخر قوت النّفس قوى قوت القلب.

وأمر ـ الرسول ـ عليه‌السلام ـ بأن يأمر أهله بالصلاة ، وأن يصطبر عليها.

__________________

(١) الفضل هنا معناه الزيادة (وفضل الرؤية) زيادة التطلع إلى أكثر من المباح.

٤٨٨

وللاصطبار مزية على الصبر ؛ وهو ألّا يجد صاحبه الألم بل يكون محمولا مروّحا.

قوله جل ذكره : (لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً)

أي لا نكلفك برزق أحد ؛ فإنّ الرازق الله ـ سبحانه ـ دون تأثير الخلق ، فنحن نرزقك ونرزق الجميع.

قوله جل ذكره : (نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى)

هما شيئان : وجود الأرزاق وشهود الرزاق ؛ فوجود الأرزاق يوجب قوة (١) النفوس ، وشهود الرزاق يوجب قوة (٢) القلوب.

ويقال استقلال (٣) العامة بوجود الأرزاق ، واستقلال الخواص بشهود الرزّاق.

ويقال نفى عن وقته الفرق بين أوصاف الرزق حين قال : (نَحْنُ نَرْزُقُكَ) ؛ فإنّ من شهد وتحقق بقوله : (نَحْنُ) سقط عنه التمييز بين رزق ورزق.

ويقال خفّف على الفقراء مقاساة قلّة الرزق وتأخّره عن وقت إلى وقت بقوله : (نَحْنُ) (٤)

قوله : (وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى) : أي العاقبة بالحسنى لأهل التقوى.

ويقال المراد بالتقوى المتّقى ، فقد يسمّى الموصوف بما هو المصدر (٥)

قوله جل ذكره : (وَقالُوا لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٣٣))

عميت بصائرهم وادّعوا أنه لا برهان معه ، ولم يكن القصور فى الأدلة بل كان الخلل فى بصائرهم ، ولو جمع الله لهم كلّ آية اقترحت على رسول ثم لم يرد الله أن يؤمنوا لما

__________________

(١ ، ٢) ربما كانا (قوت النفوس ، وقوت القلوب) بالتاء المفتوحة ؛ فقد سبقا هكذا منذ قليل ، وإن كان السياق لا يمنع (قوة النفوس وقوة القلوب).

(٣) (استقلال) هنا بمعنى اكتفاء.

(٤) لأن من عاش ؛ (نحن) اكتفى بها ولم يستعجل شيئا.

(٥) كما يقال مثلا (رجل عدل) ونحو ذلك.

٤٨٩

ازدادوا إلا طغيانا وكفرا وخسرانا ... وتلك سنّة أسلافهم فى تكذيب أنبيائهم ، ولذا قال :

قوله جل ذكره : (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (١٣٤))

إن أرسلنا إليهم الرسل قابلوهم بفنون من الجحد ، ووجوه من العلل ؛ مرّة يقولون فما بال هذا الرسول بشر؟ هلّا أرسله ملكا؟ ولو أرسلنا ملكا لقالوا هلّا أرسل إلينا مثلنا بشرا؟ ولو أظهر عليهم آية لقالوا : هذا سحر مفترى! ولو أخليناهم من رسول وعاملناهم بما استوجبوه من نكير لقالوا :

هلّا بعث إلينا رسولا حتى كنا نؤمن؟ فليست تنقطع أغلالهم ، ولا تنفك ـ عما لا يرضى ـ أحوالهم. وكذلك سبيل من لا يجنح إلى الوصال ولا يرغب فى الوداد ، وفى معناه أنشدوا :

وكذا الملول إذا أراد قطيعة

سلّ الوصال وقال كان وكانا

قوله جل ذكره : (قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (١٣٥))

الكل واقفون على التجويز غير حاصلين بوثيقة ، ينتظرون ما سيبدو فى المستأنف ، إلّا أنّ أرباب التفرقة ينتظرون ما سيبدو ممّا يقتضيه حكم الأفلاك ، وما الذي توجبه الطبائع والنجوم. والمسلمون ينتظرون ما يبدو من المقادير فهم فى روح التوحيد ، والباقون فى ظلمات الشّرك.

٤٩٠

السورة التي يذكر فيها الأنبياء

قوله جل ذكره : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).

بسم الله اسم عزيز من توسّل إليه بطاعته تفضّل عليه بجميل نعمته ؛ إن أطاع فضّله ، وإن أضاع أمهله ، ثم إن آب وأقر .. ذكره ، وإن عصى وعاب ستره ، فإن تنصّل رحمه ، وإن تكبر قصمه (١).

اسم عزيز ما استنارت الظواهر إلّا بآثار توفيقه ، وما استضاءت السرائر إلا بأنوار تحقيقه ؛ بتوفيقه وصل العابدون إلى مجاهدتهم ، وبتحقيقه وجد العارفون كمال مشاهدتهم ، وبتمام مجاهدتهم وجدوا آجل مثوبتهم ، وبدوام مشاهدتهم نالوا عاجل قربتهم.

قوله جل ذكره : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (١))

فالمطيعون منهم عظم لدينا ثوابهم ، والعاصون منهم حقّ منّا عقابهم.

(فِي غَفْلَةٍ) يقال الغفلة على قسمين : غافل عن حسابه باستغراقه فى دنياه وهواه ، وغافل عن حسابه لاستهلاكه فى مولاه ؛ فالغفلة الأولى سمة الهجر والغفلة الثانية صفة الوصل ؛ فالأولون لا يستفيقون من غفلتهم إلا من سكرة الموت ، وهؤلاء لا يرجعون عن غيبتهم أبد الأبد لفنائهم فى وجود الحق تعالى (٢).

قوله جل ذكره : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٢)) :

__________________

(١) يمكن القول أن هناك نوعا من الترابط والانسجام بين إشارات البسملة ـ على هذا النحو ـ وبين جزئيات السورة ، حيث انقسم الناس إزاء الأنبياء إلى مصدق ومكذب ، ومؤمن وجاحد .. ونال كل جزاءه.

(٢) تهمنا هذه الإشارة عند دراسة المصطلح الصوفي ؛ فالغفلة نوعان : مذمومة ومحمودة ؛ غفلة ناشئة عن الهجر وغفلة ناشئة عن الوصل.

٤٩١

لم يجدد إليهم رسولا إلا ازدادوا نفورا ، ولم ينزّل عليهم خطابا إلا ردّوه جحدا وتكذيبا ، وما زدناهم فصلا إلا عدوّه هزلا ، وما جددنا لهم نعمة إلا فعلوا ما استوجبوا نقمة ، فكان الذي أكرمناهم به محنة بها بلوناهم .. وهذه صفة من أساء مع الله خلقه ، وخسر عند الله حقّه.

قوله جل ذكره : (لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٣))

عميت بصائرهم وغامت أفهامهم ، فهم فى غباوة لا يستبصرون ، وفى أكنة عمّا أقيم لهم من البرهان فهم لا يعلمون.

قوله : (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى ...) لمّا عجزوا عن معارضته ، وسقطوا عند التحدي ، وظهرت عليهم حجّته رجّموا فيه الفكر ، وقسّموا فيه الظن ؛ فمرة نسبوه إلى السحر ، ومرة وصفوه بقول الشعر ، ومرة رموه بالجنون وفنون من العيوب. وقبل ذلك كانوا يقولون عنه : هو محمد الأمين ، كما قيل :

أشاعوا لنا فى الحىّ أشنع قصة

وكانوا لنا سلما فصاروا لنا حربا

قوله جل ذكره : (قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٤))

الأقاويل التي يسمعها الحقّ ـ سبحانه ـ مختلفة ؛ فمن خطاب بعضهم مع بعض ، ومن بعضهم مع الحق. والذين يخاطبون الحقّ : فمن سائل يسأل الدنيا ، ومن داع يطلب كرائم العقبي ، ومن مثن يثنى على الله لا يقصد شيئا من الدنيا والعقبى.

ويقال يسمع أنين المذنبين سرا عن الخلق حذرا أن يفتضحوا ، ويسمع مناجاة العابدين بنعت التسبيح إذا تهجدوا ، ويسمع شكوى المحبين إذا مسّتهم البرحاء (١) فضجّوا من شدة الاشتياق.

__________________

(١) البرحاء : الشدة.

٤٩٢

ويقال يسمع خطاب من يناجيه سرّا بسرّ ، وكذلك تسبيح من يمدحه ويثنى عليه بلسان سرّه.

قوله جل ذكره : (بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (٥))

نوّعوا ما نسبوا إليه ـ بعد ما نزّلنا إليه الأمر ـ من حيث كانوا ، ولم يشاهدوا هممه على الوصف الذي كانوا يصفونه به من صدق فى الحال والمقال ، وكما قيل :

رمتنى بدائها وأنسلت.

قوله جل ذكره : (ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (٦))

أخبر أن الله تعالى أجرى سنّته أن يعذّب من كان المعلوم من شأنه أنه لا يؤمن لا فى الحال ولا فى المآل. وإنّ هؤلاء الذين كفروا فى عصر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمثالهم فى الكفران ، وقد حكم الحقّ لهم بالحرمان والخذلان.

قوله جل ذكره : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧))

لمّا قالوا لو لا أنزل علينا الملائكة أخبر أنه لم يرسل إلى الناس رسولا فيما سبق من الأزمان الماضية والقرون الخالية إلا بشرا ، وذكر أنّ الخصوصية لهم كانت بإرسال الله إياهم.

ثم قال : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) : الخطاب للكلّ والمراد منه الأمة ، وأهل الذكر العلماء من أكابر هذه الأمة والذين آمنوا بنبينا محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ويقال هم أهل الفهم من الله أصحاب الإلهام الذين فى محل الإعلام من الحقّ ـ سبحانه ـ أو من يحسن الإفهام عن الحق.

٤٩٣

ويقال العالم يرجع إلى الله فى المعاملات والعبادات ، وإذا اشتكلت الواقعة فيخبر عن اجتهاده ، وشرطه ألا يكون مقلدا ، ويكون من أهل الاجتهاد ، فإذا لم يخالف النصّ وأدى اجتهاده إلى شىء ولم يخالف أصلا مقطوعا بصحته وجب قبول فتواه ، وأمّا الحكيم فإذا تكلم فى المعاملة فإنما يقبل منه إذا سبقت منه المنازلة لما يفتي به فإن لم تتقدم له من قبله المنازلة فتواه فى هذا الطريق كفتوى المقلّد فى مسائل الشرع.

فأمّا العارف فيجب أن يتكلم فى هذا الطريق عن وجده ـ إن كان ـ وإلا فلا تقبل فتواه ، ولا تسمع (١).

قوله جل ذكره : (وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (٨))

لمّا عيّروا الرسول ـ عليه‌السلام ـ بقولهم : ما لهذا الرسول يأكل الطعام؟. أخبر أن أكل الطعام ليس بقادح فى المعنى الذي يختص به الأكابر ، فلا منافاة بين أكل الطعام وما تكنّه القلوب والسرائر من وجوه التعريف.

ويقال النفوس لا خبر لها مما به القلوب ، والقلب لا خبر له مما تتحقق به الروح وما فوق الروح وألطف منه وهو السرّ.

قوله : (وَما كانُوا خالِدِينَ) : أي إنهم على ممر ومعبر ، ولا سبيل اليوم لمخلوق إلى الخلد.

قوله جل ذكره : (ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (٩))

الحقّ ـ سبحانه ـ يحقّق وعده وإن تباطأ بتحقيقه الوقت فيما أخبر أنه يكون. والموعود من نصرة الله لأهل الحق إنما هو بإعلاء كلمة الدّين ، وإرغام من نابذ الحقّ من الجاحدين ، وتحقيق ذلك بالبيان والحجة ، وإيضاح وجه الدلالة ، وبيان خطأ أهل الشبهة.

__________________

(١) فهم هذه الإشارة فى توصية الشيوخ إذا استفتاهم المريدون ، كما فهم فى توضيح ما يمكن أن نسميه «أصول الفقه عند الصوفية».

٤٩٤

قوله جل ذكره : (لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠))

يريد بالكتاب القرآن ، وقوله : (فِيهِ ذِكْرُكُمْ) : أي شرفكم ومحلّكم ، فمن استبصر بما فيه من النور سعد فى دنياه وأخراه.

قوله جل ذكره : (وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (١١))

إنّ الله يمهل الظالم حينا لكنه يأخذه أخذ قهر وانتقام ، وقد حكم الله بخراب مساكن الظالمين ، وقد جاء الخبر : «لو كان الظلم بيتا فى الجنة لسلّط عليه الخراب» ؛ فإذا ظلم العبد نفسه حرّم الله أن يقطنها التوفيق وجعلها موطن الخذلان ، فإذا ظلم قلبه بالغفلة سلّط عليه الخواطر الردية التي هى وساوس الشيطان ودواعى الفجور. وعلى هذا القياس فى القلة والكثرة ؛ إنّ الروح إذا خربت زايلتها الحقائق والمحابّ ، واستولت عليها العلائق والمساكنات.

قوله جل ذكره : (فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (١٢))

لمّا ذاقوا وبال أفعالهم اضطربوا فى أحوالهم فلم ينفعهم ندمهم ، ولم تعد إلى محالّها أقدامهم ، وبعد ظهور الخيانة لا تقبل الأمانة.

قوله جل ذكره : (لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (١٣))

وللخيانة سراية (١) ، فإذا حصلت الخيانة لم تقف السراية ، وإذا غرقت السفينة فليس بيد الملّاح إلا إظهار الأسف ، وهيهات أن يجدى ذلك!

قوله جل ذكره : (قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (١٤))

__________________

(١) سرى الجرح او السوء سراية. أي دام الألم منهما حتى حدث الموت. ويقال سرى التحريم وسرى العتق أي تعدى إلى غير المحرم أو المعتق (الوسيط).

٤٩٥

للإقرار زمان ؛ فإذا فات وقته فكما فى المثل : يسبق الفريص الحريص. ووضع القوس بعد إرسال السهم لا قيمة له.

قوله جل ذكره : (فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (١٥))

إنّ من البلاء أن يشكو المرء فلا يسمع ، ويبكى فلا ينفع ، ويدنو فيقصى ، ويمرض فلا يعاد ، ويعتذر فلا يقبل .. وغاية البلاء التّلف.

قوله جل ذكره : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (١٦))

اللّعب نعت من زال عن حدّ الصواب ، واستجلب بفعله الالتذاذ ، وانجرّ فى حبل السّفه. وحقّ الحقّ متقدّس عن هذه الجملة.

قوله جل ذكره : (لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (١٧))

يخاطبهم على حسب أفهامهم ؛ وإلا .. فالذى لا يعتريه سهو لا يستفزّه لهو ، والحقّ لا يعتريه ولا يضاهيه كفو.

قوله جل ذكره : (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (١٨))

ندخل نهار التحقيق على ليالى الأوهام فينقشع سحاب الغيبة ، وينجلى ضباب الأوهام ، وتنير شمس اليقين ، وتصحو سماء الحقائق عن كلّ غبار التّهم.

قوله جل ذكره : (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (١٩))

٤٩٦

الحادثات له سبحانه ملكا والكائنات له حكما ، وتعالى الله عن أن يتجمل بوفاق أو ينقص بخلاف ، وبالقدر ظهور الجميع ، وعلى حسب الاختيار (١) تنصرف الكلمة.

قوله جل ذكره : (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (٢٠))

المطيع المختار يسبّحه بالقول الصدق ، والكلّ من المخلوقات تسبيحها بدلالة الخلقة ، وبرهان البيّنة (٢).

قوله جل ذكره : (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (٢١))

تفرّد الحقّ بالإبداع والإيجاد ، وتقدّس عن الأمثال «الأنداد ، فالذين يعبدون من دونه (أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ). وهم (٣) بالضرورة يعرفون .. أفلا يعتبرون وألا يزدجرون؟

قوله جل ذكره : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٢٢))

أخبر أنّ كلّ أمر يناط بجماعة لا يجرى على النظام ؛ إذ ينشأ بينهم النزاع والخلاف. ولمّا كانت أمور العالم فى الترتيب منسّقة فقد دلّ ذلك على أنها حاصلة بتقدير مدبّر حكيم ؛ فالسماء فى علوّها تدور على النظام أفلاكها ، وليس لها عمد لإمساكها ، والأرض مستقرة بأقطارها على ترتيب تعاقيب ليلها ونهارها. والشمس والقمر والنجوم السائرة تدور فى بروج ، ورقعة السماء تتسع من غير فروج .. ذلك لتقدير العزيز العليم علامة ، وعلى وحدانيته دلالة.

قوله جل ذكره : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (٢٣))

لكون الخلق له ، وهم يسألون للزوم حقه عليهم.

قوله جل ذكره : (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ

__________________

(١) الاختيار هنا مقصود به الاختيار الإلهى.

(٢) عبر القشيري عن هذا المعنى فى موضع سابق حين ذكر ان كل الكائنات شاهدة على وحدانيته ؛ للناطق منها توحيد القالة ، ولغير الناطق توحيد الدلالة.

(٣) الضمير (هم) يعود على من يعبدون من دون الله آلهة.

٤٩٧

وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٤))

دلت الآية على فساد القول بالتقليد ، ووجوب إقامة الحجة والدليل.

ودلّت الآية على توحيد المعبود ، ودلّت الآية على إثبات الكسب للعبيد ؛ إذ لولاه لم يتوجه عليهم اللوم والعتب (١). وكلّ من علّق قلبه بمخلوق ، أو توهّم من غير الله حصول شىء فقد دخل فى غمار هؤلاء لأنّ الإله من يصحّ منه الإيجاد.

قوله : (هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي) : الإشارة منه أن الدّين توحيد الحق ، وإفراد الربّ على وصف التفرد ونعت الوحدانية.

ثم قال : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ) إنما عدموا العلم لإعراضهم عن النظر ، ولو وضعوا النظر موضعه لوجب لهم العلم لا محالة ، والأمر يدل على وجوب النظر ، وأنّ العلوم الدينية كلّها كسبية (٢).

قوله جل ذكره : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (٢٥))

التوحيد فى كل شريعة واحد ، والتعبد ـ على من أرسل إليه الرسول ـ واجب ، ولكنّ الأفعال للنسخ والتبديل معرّضة ، أما التوحيد وطريق الوصول إليه فلا يجوز فى ذلك النسخ والتبديل.

قوله جل ذكره : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (٢٦))

فى الآية رخصة فى ذكر أقاويل أهل الضلال والبدع على وجه الردّ عليهم ، وكشف

__________________

(١) هذا راى على جانب خطير من الأهمية فى علم الكلام ، وصدوره عن باحث صوفى يعرف أن المريد ـ على الحقيقة ـ من لا إرادة له يزيد فى أهمية الأمر.

(٢) فى هذا رد على من يتهمون الصوفية بإنكارهم للعلم.

٤٩٨

عوراتهم ، والتنبيه على مواضع خطاياهم ، وأنّه إن وسوس الشيطان إلى أحد بشئ منه كان فى ذلك حجة للانفصال عنه.

قوله جل ذكره : (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (٢٧))

أخبر أن الملائكة معصومون عن مخالفة أمره ـ سبحانه ، وأنهم لا يقصّرون فى واجب عليهم.

قوله جل ذكره : (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (٢٨))

علمه القديم ـ سبحانه ـ لا يختصّ بمعلوم دون معلوم ، وإنما هو شامل لجميع المعلومات ، فلا يعزب عن علم الله معلوم.

قوله : (لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) دلّ على أنهم يشفعون لقوم ، وأنّ الله يتقبل شفاعتهم (١).

قوله : (وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) : ليس لهم ذنب ثم هم خائفون ؛ ففى الآية دليل على أنه سبحانه يعذبهم وأن ذلك جائز ، فإذا لم يجز أن يعذّب البريء لكانوا لا يخافونه لعلمهم أنهم لم يرتكبوا زلة (٢).

قوله جل ذكره : (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٢٩))

أخبر أنهم معرضون عن الزّلّة بكلّ وجه. ثم قال : (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ)

__________________

(١) أي أن القشيري يؤمن بالشفاعة ـ على عكس بعض فرق المتكلمين الذين ينكرونها.

(٢) هذا رأى آخر له أهميته من الوجهة الكلامية ، حيث يرى المعتزلة ـ وقد سموا أنفسهم أهل العدل ـ أن الله لا يعذب البريء.

٤٩٩

وقد علم أنهم لا يقولون ذلك ، ولكن علم لو كان ذلك كيف كان يكون حكمه ، فالحق ـ سبحانه ـ يعلم ما لا يكون كيف كان يكون.

قوله جل ذكره : (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما)

داخلتهم الشبهة فى إعادة الخلق والقيامة والنّشر ، فأقام الله الحجة عليهم بأن قال : أليسوا قد علموا أنه خلق السماوات والأرض ؛ سمك السماء وبسط الأرض. فإذا قدر على ذلك فكيف لا يقدر على الإعادة بعد الإبادة؟

قوله جل ذكره : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ)

كلّ شىء مخلوق حىّ فمن الماء خلقه ، فإنّ أصل الحيوان الذي حصل بالتناسل النطفة ، وهى من جملة الماء.

وحياة النفوس بماء السماء من حيث الغذاء ، وحياة القلوب بماء الرحمة ، وحياة الأسرار بماء التعظيم. وأقوام حياتهم بماء الحياء .. وعزيز هم.

قوله جل ذكره : (وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ)

الأولياء هم الرواسي فى الأرض وبهم (١) يرزقون ، وبهم يدفع عنهم البلاء ، وبهم يوفى عليهم العطاء. وكما أنه لو لا الجبال الرواسي لم تكن للأرض أوتاد .. فكذلك الشيوخ الذين هم أوتاد الأرض (فلولاهم) لنزلت بهم الشدة.

(وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ)

كما أن فى الأرض سبلا يسلكونها ليصلوا إلى مقاصدهم كذلك جعل السبل إليه

__________________

(١) الضمير فى (بهم) يعود على الخلق ، ولم يكن القشيري بحاجة إلى ذكر (الخلق) هنا لكثرة ما أعاد فى هذا الموضوع من قبل.

٥٠٠