لطائف الإشارات - ج ٢

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري

لطائف الإشارات - ج ٢

المؤلف:

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري


المحقق: الدكتور إبراهيم بسيوني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٥٥

الآية تشير إلى أنّ من كان من جملة خواصّه أفرده ـ سبحانه ـ ببرهان ، وأيّده ببيان ، وأعزّه بسلطان. ومن لا سلطان له يمتد إليه قهره ، ومن لا برهان له ينبسط عنه ـ إلى غيره ـ نوره ، فهو بمعزل عن جملته.

قوله جل ذكره : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٢))

لسماع الخطاب أثر في القلوب من الاستبشار والبهجة ، أو الإنكار (١) والوحشة.

ثم ما تخامره السرائر يلوح على الأسرّة فى الظاهر ؛ فكانت الآيات عند نزولها إذا تليت على الكفار يلوح على رجوههم دخان ما تنطوى عليه قلوبهم من ظلمات التكذيب ، فما كان يقع عليهم طرف إلّا نبّأ عن جحودهم ، وعادت إلى القلوب النّبوءة عن إقلاعهم.

ثم أخبر أنّ الذي هم بصدده فى الآخرة من أليم العقوبة شرّ بكل وجه لهم ممّا يعود إلى الرائين لهم عند شهودهم. وإنّ المناظر الوضيئة للرائين مبهجة ، والمناظر المنكرة للناظرين إليها موحشة.

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٧٣))

__________________

(١) هكذا فى م ولكنها فى ص (الانكسار) بالسين وهى خطأ لأن المقصود بيان المقابلة بين أثر القرآن على المؤمنين بالاستبشار والبهجة مع أثر القرآن على الكافرين (بالإنكار) والوحشة وظلمات التكذيب.

٥٦١

نبه الأفكار المشتّتة ، والخواطر المتفرقة على الاستجماع لسماع ما أراد تضمينه فيها ؛ فاستحضرها فقال : (ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ..)

ثم بيّن المعنى فقال إنّ الذين تدعون من دون الله ، وتدعونها آلهة ؛ أي وتسمونها آلهة (وأنها للعبادة مستحقة) (١) لن يخلقوا بأجمعهم ذبابا ، ولا دون ذلك. وإن يسلبهم الذباب شيئا بأن يقع على طعام لهم فليس فى وسعهم استنقاذهم ذلك منه ، ومن كان بهذه الصفة فساء المثل مثلهم ، وضعف وصفهم ، وقلّ خطرهم.

ويقال إن الذي لا يقاوم ذبابا فيصير به مغلوبا فأهون بقدره!

قوله جل ذكره : (ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٧٤))

ما عرفوه حقّ معرفته ، ولا وصفوه بجلال ما يستحقه من النعوت. ومن لم يكن فى عقيدته نقص لما يستحيل فى وصفه ـ سبحانه ـ لم تباشر خلاصة التوحيد سرّه ، وهو فى ترجّم فكر ، وتجويز ظن ، وخطر تعسّف ، يقع فى كل وهدة من الضلال.

ويقال العوام اجتهادهم فى رفضهم الأعمال الخبيثة خوفا من الله ، والخواص جهدهم فى نقض عقيدتهم للأوصاف التي تجلّ عنها الصمدية ، وبينهما (...) (٢) بعيد.

(إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) قوى أي قادر على أن يخلق من هو فوقهم فى التحصيل وكمال العقول. (عَزِيزٌ) : أي لا يقدّر أحد قدره ـ إلا بما يليق بصفة البشر ـ بقدر من العرفان.

ويقال من وجد السبيل إليه فليس النعت له إلا بوصف القصور ، ولكن كلّ بوجده مربوط ، وبحدّه فى همته موقوف ، والحق سبحانه عزيز (٣).

__________________

(١) ما بين القوسين موجود فى ص مفقود فى م

(٢) فى ص جاءت (وفاق) وفى م جاءت (فرقان) والأولى مرفوضة ، وفى مثل هذا الموضع يستعمل القشيري (فرق) أو (بون) بعيد.

(٣) كلام القشيري هنا فى (قوى) وفى (عزيز) هام لأنه لم يرد فى مبحثه المستقل عن الأسماء والصفات الإلهية الذي ضمنه كتاب (التحبير فى التذكير) الذي حققناه ونشرته دار الكاتب العربي سنة ١٩٦٩.

٥٦٢

قوله جل ذكره : (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٧٥))

الاجتباء والاصطفاء من الحق سبحانه بإثبات القدر ، وتخصيص الطّول ، وتقديمهم على أشكالهم فى المناقب والمواهب.

ثم بعضهم فوق بعض درجات ؛ فالفضيلة بحقّ المرسل ، لا لخصوصية فى الخلقة فى المرسل.

قوله جل ذكره : (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٧٦))

يعلم حالهم ومآلهم ، وظاهرهم وباطنهم ، ويومهم وغدهم ، ويعلم نقضهم عهدهم ؛ فإليه منقلبهم ، وفى قبضته تقلّبهم.

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٧٧))

الركوع والسجود والعبادة كلّها بمعنى الصلاة ؛ لأنّ الصلاة تشتمل على هذه الأفعال جميعها ، ولكن فرّقها فى الذكر (١) مراعاة لقلبك من الخوف عند الأمر بالصلاة ؛ فقسّمها ليكون مع كلّ لفظة ومعنى نوع من التخفيف والترفيه ، ولقلوب أهل المعرفة فى كل لفظة راحة جديدة.

ويقال لوّن عليهم العبادة ، وأمرهم بها ، ثم جميعها عبادة واحدة ، ووعد عليها من الثواب الكثير ما تقصر عن علمه البصائر.

ويقال علم أن الأحباب يحبّون سماع كلامه فطّول عليهم القول إلى آخر الآية ؛ ليزدادوا عند سماع ذلك أنسا على أنس ، وروحا على روح ، ومعاد خطاب الأحباب هو روح روحهم ، وكمال راحتهم.

__________________

(١) ما يلى من الكلام فى هذه الفقرة مفيد فى المباحث البلاغية فائدة كبيرة.

٥٦٣

ثم قال بعد هذا : (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ) فأدخل فيه جميع أنواع القرب.

قوله جل ذكره : (وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ)

((حَقَّ جِهادِهِ) : حق الجهاد ما وافق الأمر فى القدر والوقت والنوع ، فإذا حصلت فى شىء منه مخالفة فليس حقّ جهاده) (١).

ويقال المجاهدة على أقسام : مجاهدة بالنّفس ، ومجاهدة بالقلب ، ومجاهدة بالمال. فالمجاهدة بالنفس ألا يدّخر العبد ميسورا إلا بذله فى الطاعة بتحمل المشاق ، ولا يطلب الرخص والإرفاق (٢). والمجاهدة بالقلب صونه عن الخواطر الرديئة مثل الغفلة ، والعزم على المخالفات ، وتذكر ما سلف أيام الفترة والبطالات. والمجاهدة بالمال بالبذل والسخاء ثم بالجود والإيثار.

ويقال حق الجهاد الأخذ بالأشق ، وتقديم الأشق على الأسهل ـ وإن كان فى الأخفّ أيضا حق.

ويقال حق الجهاد ألا يفتر العبد عن مجاهدة النّفس لحظة ، قال قائلهم.

يا ربّ إنّ جهادى غير منقطع

فكلّ أرض لى ثغر طرسوس

قوله جل ذكره : (هُوَ اجْتَباكُمْ)

يحتمل أنه يقول من حقّ اجتبائه إياكم أنّ تعظّموا أمر مولاكم

ويحتمل أن يقال هو الذي اجتباكم ، ولو لا أنه اجتباكم لما جاهدتم ، فلاجتبائه إياك وفّقك حتى جاهدت.

ويقال علم ما كنت تفعله قبل أن خلقك ولم يمنعه ذلك من أن يجتبيك ، وكذلك إن رأى ما فعلت فلا يمنعه ذلك أن يتجاوز عنك ولا يعاقبك

__________________

(١) ما بين قوسين موجود فى م وناقص فى ص.

(٢) إذا كانت (الإرفاق) فمعناه التسهيل ، والقشيري لا يرضى به غالبا لأرباب الطريق لأنهم باحثون عن الأشق ، وإذا كانت (الأرفاق) فهى جمع رفق وقد نهى القشيري فى نهاية رسالته عن وفق النسوان والصبيان فهم الأنتان والجيف ... إلخ. والسياق هنا بعيد عن ذلك مما يرجح أنها الإرفاق بكسر الهمزة.

٥٦٤

قوله جل ذكره : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ).

الشرع مبناه على السهولة ، والذي به تصل إلى رضوانه وتستوجب جزيل فضله وإحسانه ، وتتخلّص به من أليم عقابه وامتحانه ـ يسير (١) من الأمر لا يستغرق كنه إمكانك ؛ بمعنى أنّك إن أردت فعله لقدرت عليه ، وإن لم توصف فى الحال بأنّك مستطيع ما ليس بموجود فيك.

قوله جل ذكره : (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ).

أي اتّبعوا والزموا ملّة أبيكم ابراهيم عليه‌السلام فى البذل والسخاء والجود والخلة والإحسان.

قوله جل ذكره : (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ).

الله هو الذي اجتباكم ، وهو الذي بالإسلام والعرفان سمّاكم المسلمين. وقيل ابراهيم هو الذي سماكم المسلمين بقوله : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) (٢).

قوله : (لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ) ، نصب الرسول بالشهادة علينا ، وأمره بالشفاعة لأمته ، وإنما يشهد علينا بمقدار ما يبقى للشفاعة موضعا ومحلا.

قوله جل ذكره : (وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ).

وتلك الشهادة إنما نؤديها لله ، ومن كانت له شهادة عند أحد ـ وهو كريم ـ فلا يجرح شاهده ، بل يسعى بما يعود إلى تزكية شهوده.

قوله جل ذكره : (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ).

__________________

(١) يسير خبر لاسم الموصول (والذي به ...)

(٢) آية ١٢٨ سورة البقرة.

٥٦٥

أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة بحكم الإتمام ، ونعت الاستدامة ، وجميل الاستقامة.

والاعتصام بالله التبري من الحول والقوة ، والنهوض بعبادة الله بالله لله. ويقال الاعتصام بالله التمسك بالكتاب والسنة. ويقال الاعتصام بالله حسن الاستقامة بدوام الاستعانة. (هُوَ مَوْلاكُمْ) : سيدكم وناصركم والذي لا خلف عنه.

(فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) نعم المولى : إخبار عن عظمته ، ونعم النصير : إخبار عن رحمته.

ويقال إن قال لأيوب : (نِعْمَ الْعَبْدُ) (١) ولسليمان (نِعْمَ الْعَبْدُ) (٢) فلقد قال لنا (فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) ، ومدحه لنفسه أعزّ وأجلّ من مدحه لك.

ويقال (فَنِعْمَ الْمَوْلى) : بدأك بالمحبة قبل أن أحببته ، وقبل أن عرفته أو طلبته أو عبدته.

(وَنِعْمَ النَّصِيرُ) : إذا انصرف عنك جميع من لك فلا يدخل القبر معك أحد كان ناصرك ، ولا عند السؤال أو عند الصراط.

السورة التي يذكر فيها المؤمنون

قوله جل ذكره : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

الاسم اشتقاقه من السمو ، وللمسمى بهذا الاسم استحقاق العلو ، فالاسم اسم لسموّه من القدم ، والحقّ حقّ لعلوّه بحق القدم.

ويقال من عرف (بِسْمِ اللهِ) سمت همّته عن المرسومات ، ومن أحبّ بسم الله صفت حالته عن مساكنة الموهومات ..

اسم من طلبه نسى من الدارين أربه ، ومن عرفه وجد بقلبه مالا يعرف سببه.

__________________

(١) (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) آية ٤٤ سورة ص.

(٢) (وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) آية ٣٠ سورة ص.

٥٦٦

قوله جل ذكره : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (٢))

ظفر بالبغية وفاز بالطّلبة من آمن بالله.

و «الفلاح» : الفوز بالمطلوب والظّفر بالمقصود.

والإيمان انتسام الحقّ فى السريرة ، ومخامرة التصديق خلاصة القلب ، واستمكان التحقيق من تأمور الفؤاد (١).

والخشوع فى الصلاة إطراق السّرّ على بساط النّجوى باستكمال نعت الهيبة ، والذوبان تحت سلطان الكشف ، والامتحاء عند غلبات التّجلّي.

ويقال أدرك ثمرات القرب وفاز بكمال الأنس من وقف على بساط النجوى بنعت الهيبة ، ومراعاة آداب الحضرة. ولا يكمل الأنس بلقاء المحبوب إلا عند فقد الرقيب. وأشدّ الرقباء وأكثرهم تنغيصا لأوان القرب النّفس ؛ فلا راحة للمصلّى مع حضور نفسه ، (فإذا خنس عن نفسه) (٢) وشاهده عدم إحساسه بآفات نفسه ، وطاب له العيش ، وتمّت له النّعمى ، وتجلّت له البشرى ، ووجد لذّة الحياة.

قوله جل ذكره : (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣))

ما يشغل عن الله فهو سهو ، وما ليس لله فهو حشو ، وما ليس بمسموع من الله أو بمعقول مع الله فهو لغو ، (وما هو غير الحق سبحانه فهو كفر ، والتعريج على شىء من هذا بعد وهجر) (٣).

ويقال ما ليس بتقريظ الله ومدحه من كلام خلقه فكل ذلك لغو.

قوله جل ذكره : (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (٤))

__________________

(١) يقال اجعل هذا الأمر فى تأمورك أي داخل قلبك (الوسيط : مادة أم ر).

(٢) ما بين القوسين موجود فى م وغير موجود فى ص.

(٣) موجود فى م وغير موجود فى ص.

٥٦٧

الزكاة النّماء ، ومن عمله للنماء فأمارة ذلك أن يكون بنقصانه فى نفسه عن شواهده ولا يبلغ العبد إلى كمال الوصف فى العبودية إلا بذوبانه عن شاهده.

قوله جل ذكره : (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٥) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦))

لفروجهم حافظون ابتغاء نسل يقوم بحقّ الله ، ويقال ذلك إذا كان مقصوده التعفف والتصاون عن مخالفات الإثم.

قوله جل ذكره : (فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٧))

أي من جاوز قصد إيثار الحقوق ، وجنح إلى جانب استيفاء الحظوظ .. فقد تعدّى محلّ الأكابر ، وخالف طريقتهم.

قوله جل ذكره : (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٨))

الأمانات مختلفة ، وعند كلّ أحد أمانة أخرى ، فقوم عندهم الوظائف بظواهرهم ، وآخرون عندهم اللطائف فى سرائرهم ، ولقوم معاملاتهم ، ولآخرين منازلاتهم ، ولآخرين مواصلاتهم.

وكذلك عهودهم متفاوتة فمنهم من عاهده ألا يعبد سواه ، ومنهم من عاهده ألا يشهد فى الكونين سواه.

قوله جل ذكره : (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩))

لا تصادفهم الأوقات ، وهم غير مستعدين ، ولا يدعوهم المنادى وهم ليسوا بالباب ، فهم فى الصف الأول بظواهرهم ، وكذلك فى الصف الأول بسرائرهم

قوله جل ذكره : (أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١))

٥٦٨

الإرث على حسب النّسب ، وفى استحقاق الفردوس بوصف الإرث لنسب الإيمان فى الأصل ، ثم الطاعات فى الفضل.

وكما فى استحقاق الإرث تفاوت فى مقدار السهمان : بالفرض أو بالتعصيب ـ فكذلك فى الطاعات ؛ فمنهم من هم فى الفردوس بنفوسهم ، وفى الأحوال اللطيفة بقلوبهم ، ثم هم خالدون بنفوسهم وقلوبهم جميعا لا يبرحون عن منال نفوسهم ولا (...) (١) عن حالات قلوبهم.

قوله جل ذكره : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢))

عرّفهم أصلهم لئلا يعجبوا بفعلهم.

ويقال نسبهم لئلا يخرجوا عن حدّهم ، ولا يغلطوا فى نفوسهم.

ويقال خلقهم من سلالة سلّت من كل بقعه ؛ فمنهم من طينته من جردة (٢) أو من سبخة (٣) أو من سهل ، أو من وعر .. ولذلك اختلفت أخلاقهم.

ويقال بسط عذرهم عند الكافة ؛ فإنّ المخلوق من سلالة من طين ... ما الذي ينتظر منه؟!

ويقال خلقهم من سلالة من طين ، والقدر للتربية لا للتربة.

ويقال خلقهم من سلالة ولكنّ معدن المعرفة ومرتع المحبة ، ومتعلق العناية منه لهم ؛ قال تعالى : (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ).

ويقال خلقهم ، ثم من حال إلى حال نقلّهم ، يغيّر بهم ما شاء تغييره.

قوله جل ذكره : (ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً)

__________________

(١) مشتبهة فى ص ، م وربما كانت (ولا ينفكون).

(٢) الأرض الجردة التي لا نبات فيها.

(٣) السّبخة التي فيها ملح ونزّ ولا تكاد تنبت.

٥٦٩

قطرة أجزاؤها متماثلة ، ونطفة أبعاضها متشاكلة ، ثم جعل بعضها لحما وبعضها عظما ، وبعضها شعرا ، وبعضها ظفرا ، وبعضها عصبا ، وبعضها جلدا ، وبعضها مخّا ، وبعضها عرقا. ثم خصّ كلّ عضو بهيئة مخصوصة ، وكلّ جزء بكيفية معلومة. ثم الصفات التي للإنسان خلقها متفاوتة ، من السّمع والبصر والفكر والغضب والقدرة والعلم والإرادة والشجاعة والحقد والجود والأوصاف التي يتقاصر عنها الحصر والعدّ.

قوله جل ذكره : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ)

فى التفاسير أنه صورة الوجه ، ويحتمل ما تركب فيه من الحياة ، واختصّ به من السّمع والبصر والعقل والتمييز ، وما تفرّد به بعض منهم بمزايا فى الإلهام العام للعقل وسائر الإدراكات.

ويقال (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) : وهو أن هيّأهم لأحوال عزيزة يظهرها عليهم بعد بلوغهم ، إذا حصل لهم كمال التمييز من فنون الأحوال ؛ فلقوم تخصيص بزينة العبودية ، ولقوم تحرّر من رقّ البشرية ، ولآخرين تحقق بالصفات الصمدية بامتحائهم عن الإحساس بما هم عليه وبه من الأحوال التي هى أوصاف البشرية.

قوله جل ذكره : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ)

خلق السماوات والأرضين بجملتها ، والعرش والكرسىّ ، مع المخلوقات من الجنة والنار بكليتها ـ ثم لمّا أخبر بذلك لم يعقبه بهذا التمدح الذي ذكره بعد نعت خلقه بنى آدم تخصيصا لهم وتمييزا ، وإفرادا لهم من بين المخلوقات.

ويقال إن لم يقل لك إنّك أحسن المخلوقات فى هذه الآية فلقد قال فى آية أخرى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (١).

__________________

(١) الآية ٤ سورة التين.

٥٧٠

ويقال إن لم تكن أنت أحسن المخلوقات وأحسن المخلوقين ـ ولم يثن عليك بذلك فلقد أثنى على نفسه بقوله : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) ، وثناؤه على نفسه وتمدحه بذلك أعزّ وأجلّ من أن يثنى عليك.

ويقال لما ذكر نعتك ، وتارات حالك فى ابتداء خلقك ، ولم يكن منك لسان شكر ينطق ، ولا بيان مدح ينطلق .. ناب عنك فى الثناء على نفسه ، فقال : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ).

قوله جل ذكره : (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (١٥))

أنشدوا :

آخر الأمر ما ترى

القبر واللحد والثرى

وأنشدوا :

حياتنا عندنا قروض

ونحن بعد الموت فى التقاضي

لا بدّ من ردّ ما اقترضنا

كلّ غريم بذاك راضى

ويقال نعاك إلى نفسك بقوله : (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ) وكلّ ما هو آت فقريب.

ويقال كسر على أهل الغفلة سطوة غفلتهم ، وفلّ دونهم سيف صولتهم بقوله : ثم إنكم بعد ذلك لميتون ، وللجماد مضاهون ، وعن المكنة والمقدرة والاستطاعة والقوة لمبعدون ، وفى عداد ما لا خطر له من الأموات معدودون.

قوله جل ذكره : (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (١٦))

فعند ذلك يتصل الحساب والعقاب ، والسؤال والعقاب ، ويتبين المقبول من المردود ، والموصول من المهجور.

ويوم القيامة يوم خوّف به العالم حتى لو قيل للقيامة : ممن تخافين؟ لقالت من القيامة. وفى القيامة ترى الناس سكارى حيارى لا يعرفون أحوالهم ؛ ولا يتحققون بما تؤول إليه أمورهم ، إلى أن يتبيّن لكلّ واحد أمره ؛ خيره وشرّه : فيثقل بالخيرات ميزانه ، أو يخف

٥٧١

عن الطاعات أو يخلو ديوانه. وما بين الموت والقيامة : فإمّا راحات متّصلة ، أو آلام وآفات غير منفصلة.

قوله جل ذكره : (وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (١٧))

الحقّ ـ سبحانه ـ لا يستتر عن رؤيته مدرك ، ولا تخفى عليه ـ من مخلوقاته ـ خافية. وإنما الحجب على أبصار الخلق وبصائرهم ؛ فالعادة جارية بأنه لا يخلق لنا الإدراك لما وراء الحجب. وكذلك إذا حلّت الغفلة القلوب استولى عليها الذهول ، وانسدّت بصائرها ، وانتفت فهومها وفوقنا حجب ظاهرة وباطنة ؛ ففى الظاهر السماوات حجب تحول بيننا وبين المنازل العالية ، وعلى القلوب أغشية وأغطية كالمنية والشهوة ، والإرادات الشاغلة ، والغفلات المتراكمة.

أمّا المريدون فإذا أظلّتهم سحائب الفترة ، وسكن هيجان إرادتهم فذلك من الطرائق التي عليهم.

وأما الزاهدون فإذا تحرّك بهم عرق الرغبة انفلّت (١) قوة زهدهم ، وضعفت دعائم صبرهم ، فيترخّصون بالجنوح إلى بعض التأويلات ، فتعود رغباتهم قليلا قليلا ، وتختلّ رتبة عزوفهم ، وتنهدّ دعائم زهدهم ، وبداية ذلك من الطرائق التي خلق فوقهم.

وأما العارفون فربما تظلّهم فى بعض أحايينهم وقفة فى تصاعد سرّهم إلى ساحات الحقائق. فيصيرون موقفين ريثما يتفضّل الحقّ ـ سبحانه ـ عليهم بكفاية ذلك فيجدون نفاذا ، ويرفع عنهم ما عاقهم من الطرائق.

وفى جميع هذا فإنّ الحقّ سبحانه غير غافل عن الخلق ، ولا تارك للعباد.

قوله جل ذكره : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (١٨))

__________________

(١) انفلّ السيف ـ انثلم حدّه ، وانفلّ القوم ـ انهزموا.

٥٧٢

أنزل من السماء ماء المطر الذي هو سبب حياة الأرضين ، وذلك بقدر معلوم. ثم .. البلاد مختلفة فى السّقى : فبعضها خصب ، وبعضها جدب ، وسنة يزيد وسنة ينقص ، سنة يفيض وسنة يغيض.

كذلك أنزلنا من السماء ماء الرحمة فيحيى القلوب ، وهى مختلفة فى الشّرب : فمن موسّع عليه رزقه منه ، ومن مضيّق مقتّر عليه. ومن وقت هو وقت سحّ ، ومن وقت هو وقت حبس.

ويقال ماء هو صوب الرحمة يزيل به درن العصاة وآثار زلّتهم وأوضار عثرتهم ، وماء هو سقى قلوبهم يزيل به عطش تحيرهم ، ويحيى به موات أحوالهم ؛ فتنبت فى رياض قلوبهم فنون أزهار البسط ، وصنوف أنوار الروح. وماء هو شراب المحبة فيخص به قلوبا بساحات القرب ، فيزيل عنها به حشمة الوصف ، ويسكن به قلوبا فيعطلها عن التمييز ، ويحملها على التجاسر ببذل الرّوح ؛ فإذا شربوا طربوا ، وإذا طربوا لم يبالوا بما وهبوا (١).

قوله جل ذكره : (فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (١٩))

كما يحيى بماء السماء الغياض والرياض ، ويصنّف فيها الأزهار والأنوار ، وتثمر الأشجار وتجرى الأنهار .. فكذلك يسقى القلوب بماء العرفان فتورق وتثمر بعد ما تزهر ، وتؤتى أكلها : من طيب عيش ، وكمال بسط ، ثم وفور هيبة ثم روح أنس ، ونتائج تجلّ ، وعوائد قرب .. إلى ما تتقاصر العبارات عن شرحه ، ولا تطمع الإشارات فى حصره.

قوله جل ذكره : (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٢١))

الإشارات منه أنّ الكدورات الهاجمة لا عبرة بها ، ولا مبالاة ؛ فإنّ اللّبن الخالص السائغ يخرج من أخلاف الأنعام من بين ما تنطوى حواياها عليه من الوحشة ، لكنه صاف لم يؤثر

__________________

(١) حتى لو كان ما وهبوه أرواحهم.

٥٧٣

فيه منها بحكم الجوار ، وكذلك الصفاء يوجد أكثره من عين الكدورة ؛ إذ الحقيقة لا يتعلق بها حقّ ولا باطل. ومن أشرف على (سرّ) (١) التوحيد تحقّق بأنّ ظهور جميع الحدثان من التقدير ، فتسقط عنه كلفة التمييز ، فالأسرار عند ذلك تصفو ، والوقت لصاحبه لا يجفو.

(وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ) : لازمة لكم ، ومتعدية منكم إلى كلّ متصل بكم :

إنّي ـ على جفواتها ـ بربّها

وبكلّ متّصل بها متوسّل

قوله جل ذكره : (وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٢٢))

يحفظهم فى السفينة فى بحار القطرة ، ويحفظهم فى سفينة السلامة والعصمة فى بحار القدرة ، وإنّ بحار القدرة تتلاطم أمواجها ، والناس فيها غرقى إلا من يحفظه الحقّ ـ سبحانه ـ فى سفينة العناية.

وصفة أهل الفلك إذا مستهم شدّة خوف الغرق ما ذكر الله فى قوله : (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (٢) كذلك من شاهد نفسه على شفا الهلاك والغرق ، والتجأ إلى صدق الاستعانة ودوام الاستغاثة فعند ذلك يحميه الحقّ ـ سبحانه ـ من مخلوقات التقدير. ويقال إنّ وجه الأرض بحار الغفلة ، وما عليه الناس من أسباب التفرقة بحار مهلكة والناس فيها غرقى ، وكما قال بعضهم :

الناس بحر عميق

والبعد عنهم سفينة

وقد نصحتك فانظر

لنفسك المسكينة

قوله جل ذكره : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٢٣))

__________________

(١) موجودة فى م وغير موجودة فى ص.

(٢) آية ٦٥ سورة العنكبوت.

٥٧٤

كرّر قصة نوح لما فيها من عظيم الآيات من طول مقامه فى قومه ، وشدة مقاساة البلاء منهم ، وتمام صبره على ما استقبله فى طول عمره ، ثم إهلاك الله جميع من أصرّ على كفرانه ، ثم إهلاك الله جميع من أصرّ على كفرانه ، ثم لم يغادر منهم أحدا ، ولم يبال ـ سبحانه ـ بأن أهلك جملتهم. ولقد ذكر فى القصص أن امرأة من قومه لما أخذهم الطوفان كان لها مولود ، فحملته وقامت حاملة له ترفعه عن الطوفان ، فلمّا بلغ الماء إلى يدها رفعته إلى ما فوق رأسها ـ قدر ما أمكنها ـ إبقاء على ولدها ، وإشفاقا عليه من الهلاك ، إلى أن غلبها الماء وتلفت وولدها. فأوحى الله إلى نوح ـ عليه‌السلام ـ لو أنى كنت أرحم واحدا منهم لرحمت تلك المرأة وولدها.

وفى الخبر أن نوحا كان اسمه يشكر ؛ ولكثرة ما كان يبكى أوحى الله إليه : يا نوح .. إلى كم تنوح؟ فسمّاه نوحا. ويقال إنّ ذنبه أنه مرّ يوما بكلب فقال : ما أوحشه!

أوحى الله إليه : اخلق أنت أحسن من هذا! فكان يبكى معتذرا عن قالته تلك. وكان قومه يلاحظونه بعين الجنون ، وما زاد لهم دعوة إلا ازدادوا عن إجابته نبوة ، وما زاد لهم صفوة إلا ازدادوا على طول المدة قسوة على قسوة.

ولما عمل السفينة ظهر الطوفان ، وأدخل فى السفينة أهله ، تعرّض له إبليس ـ كما جاء فى القصة ـ وقال : احملنى معك فى السفينة ، فأبى نوح وقال : يا شقّى .. تطمع فى حملى إياك وأنت رأس الكفرة؟!

فقال إبليس : أما علمت ـ يا نوح ـ أنّ الله أنظرنى إلى يوم القيامة ، وليس ينجو اليوم أحد إلّا فى هذه السفينة؟

فأوحى الله إلى نوح أن احمله فكان إبليس مع نوح فى السفينة ، ولم يكن لابنه معه مكان فى السفينة. (وفى هذا ظهور عين التوحيد وأن الحكم من الله غير معلول) (١) لأنه إن كان المعنى فى أن ابنه لم يكن معه له مكان لكفره فبإبليس يشكل .. ولكنها أحكام غير معلولة ، وجاز له ـ سبحانه ـ أن يفعل ما يريد : يصل (٢) من شاء ويردّ من شاء

__________________

(١) ما بين القوسين موجود في م وغير موجود فى ص.

(٢) وردت فى م (يضل) بالضاد ونحن نجد (يصل) أكثر انسجاما مع المعنى لتقابل (يرد)

٥٧٥

قوله جل ذكره : (وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٢٩))

الإنزال المبارك أن يكون بالله ولله ، وعلى شهود الله من غير غفلة عن الله ، ولا مخالفا لأمر الله ويقال الإنزال المبارك الاستيعاب بشهود الوصف عنك ، ثم الاستغراق باستيلاء سلطان القرب عليك ، ثم الاستهلاك بإحداق أنوار التجلّى حتى لا تبقى عين ولا أثر ، فإذا تمّ هذا ودام هذا فهو نزول بساحات الحقيقة مبارك ؛ لأنك بلا أنت .. بكليتك من غير بقية أو أثر عنك.

قوله جل ذكره : (ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٣١))

تتابعت القرون على طريقة واحدة فى التكذيب ، وغرّهم طول الامهال ، وما مكنّهم من رفه العيش وخفض الدّعة ، فلم يقيسوا إلا على أنفسهم ، ولم يسم لهم طرف إلى من فوقهم فى الحال والمنزلة ، فقالوا : أنؤمن بمن يتردد فى الأسواق ، وينتفع مثلنا بوجوه الأرفاق؟ ولئن أطعنا بشرا مثلنا لسلكنا سبيل الغىّ ، وتنكبنا سنّة الرّشد. فأجراهم الله فى الإهانة وإحلال العقوبة بهم مجرى واحدا ، وأذاقهم عذاب الخزي. وأعظم ما داخلهم من الشّبهة والاستبعاد أمر الحشر والنشر ، ولم يرتقوا للعلم بأنّ الإعادة كالابتداء فى الجواز وعدم الاستحالة ، والله يهدى من يشاء ويغوى من يريد.

ثم إن الله فى هذه السورة ذكر قصة موسى عليه‌السلام ، ثم بعده قصة عيسى عليه‌السلام ، وخصّ كلّ واحد منهم بآياته الباهرة ومعجزاته الظاهرة (١).

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٥١))

كلوا من الطيبات مما أحلّ لكم وأباح ، وما هو محكوم بأنه طيب ـ على شريطة مطابقة

__________________

(١) نلاحظ هنا أن القشيري قد اختصر الكلام فقفز إلى الآية ٥٠ دون تمهل أمام كل آية كما تعودنا منه

٥٧٦

رخصة الشريعة ـ مما كان حلالا فى وقتهم ، مطلقا مأذونا لهم فيه. وكذلك أعمالهم الصالحة ما كان موافقا لأمر الله فى زمانهم بفنون طاعاتهم فى أفعالهم وعقائدهم وأحوالهم.

قوله جل ذكره : (وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (٥٢))

معبودكم واحد ، ونبيّكم واحد ، وشرعكم واحد ؛ فأنتم فى الأصول شرع سواء ، فلا تسلكوا ثنيات الطرق (١) فتطيحوا فى أودية الضلالة. وعليكم باتباع سلّفكم ، واحذروا موافقة ابتداع خلفكم.

(وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) خافوا مخالفة أمرى ، واعرفوا عظيم قدرى ، واحفظوا فى جريان التقدير سرّى ، واستديموا بقلوبكم ذكرى ، تجدوا فى مآلكم غفرى ، وتحظوا بجميل برّى.

قوله جل ذكره : (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٥٣))

فمستقيم على حقّه ، وتائه فى غيّه ، ومصرّ على عصيانه وفسقه ، ومقيم على إحسانه وصدقه ، كلّ مربوط بحدّه ، موقوف بما قسم له فى البداية من شأنه ، كلّ ينتحل طريقته ويدّعى بحسن طريقته حقيقة ، وعند صحو سماء قلوب أرباب التوحيد لا غبار فى الطريق ؛ وهم على يقين معارفهم ؛ فلا ريب يتخالجهم ولا شبهة.

وأهل الباطل فى عمى جهلهم ، وغبار جحدهم ، وظلمة تقليدهم ، ومحنة شكهم.

قوله جل ذكره :(فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (٥٤))

إنّ مدة أخذهم لقريبة ، والعقوبة عليهم ـ إذا أخذوا ـ لشديدة ، ولسوف يتبين لهم خطؤهم من صوابهم.

قوله جل ذكره : (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (٥٥) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (٥٦))

__________________

(١) ثنية الطريق ـ منعطفه.

٥٧٧

هذا فى شأن أصحاب الاستدراج من مكر الحقّ بهم بتلبيس المنهاج ؛ رأو سرابا فظنوه شرابا ، ودس لهم فى شهدهم صابا فتوهموه عذابا (١) ، وحين لقوا عذابا علموا أنهم لم يفعلوا صوابا.

قوله جل ذكره : (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٥٧))

أمارة الإشفاق من الخشية إطراق السريرة فى حال الوقوف بين يدى الله بشواهد الأدب ، ومحاذرة بغتات الطّرد ، لا يستقر بهم قرار لما داخلهم من الرّعب ، واستولى عليهم من سلطان الهيبة.

قوله جل ذكره : (وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (٥٨))

تلك الآيات مختلفة ؛ فمنها ما يكاشفون به فى الأقطار من اختلاف الأدوار ، وما فيه الناس من فنون الهمم وصنوف المنى والإرادات ، فإذا آمن العبد بها ، واعتبر بها اقتنع بما يرى نفسه مطالبا به.

قوله جل ذكره : (وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (٥٩))

يذرون جلّى الشّرك وخفيّه ؛ والشّرك الخفىّ ملاحظة الخلق فى أوان الطاعات ، والاستبشار بمدح الخلق وقبولهم ، والانكسار والذبول عند انقطاع رؤية الخلق.

ويقال الشّرك الخفىّ إحالة النادر من الحالات ـ فى المسارّ والمضارّ ـ على الأسباب كقول القائل. «لو لا دعاء أبيك لهلكت» و «لو لا همّة فلان لما أفلحت» ... وأمثال هذا ؛ قال الله تعالى (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) (٢).

وكذلك توّهم حصول الشّفاء من شرب الدواء.

فاذا أيقن العبد بسرّه ألا شىء من الحدثان ، ولم يتوهم ذلك ، وأيقن ألّا شىء إلّا من التقدير فعند ذلك يبقى عن الشّرك (٣).

__________________

(١) العذاب جمع عذب وهو السائغ من الطعام والشراب ونحوهما (الوسيط).

(٢) آيه ١٠٦ سورة يوسف.

(٣) أي أن القشيري لا ينكر الأسباب ولكن يعنى على من يتوهم أن من الحدثان شيئا.

٥٧٨

قوله جل ذكره : (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (٦٠))

يخلصون فى الطاعات من غير إلمام بتقصير ، أو تعريح فى أوطان الكسل ، أو جنوح إلى الاسترواح بالرّخص. ثم يخافون كأنهم ألمّوا بالفواحش ، ويلاحظون أحوالهم بعين الاستصغار ، والاستحقار ، ويخافون بغتات التقدير ، وقضايا السخط ، وكما قيل :

يتجنّب الآثام ثم يخافها

فكأنّما حسناته آثام

قوله جل ذكره : (أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (٦١))

(١) مسارع بقدمه من حيث الطاعات ، ومسارع بهممه من حيث المواصلات ، ومسارع بندمه من حيث تجرّع الحسرات ، والكلّ مصيب ، وللكلّ من إقباله ـ على ما يليق بحاله ـ نصيب.

قوله جل ذكره : (وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٢))

المطالبات فى الشريعة مضمّنة بالسهولة ، وأمّا مطالبات الحقيقة فكما قالوا : ليس إلّا بذل الروح ، ولهذا فهم لا تشغلهم الترّهات (٢). قال لأهل الرخص والمستضعفين فى الحال : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (٣) ، وأمّا أرباب الحقائق ؛ فقال : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) (٤) وقال : (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ) (٥) ، وقال : (وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ) (٦).

__________________

(١) في س أخطأ الناسخ إذ زاد (لهم) بعد يسارعون.

(٢) الترهات جمع ترهة وهى القول الباطل الذي لا نفع فيه ، أو الطريق الصغيرة المتشعبة عن الطريق الأعظم.

(٣) آية ٧٨ سورة الحج.

(٤) آية ٢٨٤ سورة البقرة.

(٥) آية ١٥ سورة النور.

(٦) آية ٧٨ سورة الحج.

٥٧٩

قوله : (وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) : لو لا غفلتهم عن مواضع الحقيقة لما خوّفهم بكتابة الملك ، ولكن غفلوا عن شهود الحق فخوّفهم باطلاع الملائكة ، وكتابتهم عليهم أعمالهم.

قوله جل ذكره : (بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (٦٣))

لا يصلح لهذا الشأن (١) إلا من كان فارغا من جميع الأعمال ، لا شغل له فى الدنيا والآخرة ، فأمّا من له شغل بدنياه ، أو على قلبه حديث عقباه ، فليس له نصيب من حديث مولاه ، وفى الخبر «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ».

ويقال أصحاب الدنيا مشغولون بدنياهم ، وأرباب العقبى مشغولون بعقباهم ، وأهل النار مشغولون بما ينالهم من بلواهم ؛ وإن الذي له فى الدنيا والآخرة غير مولاه ـ حين الفراغ ـ عزيز ؛ قال تعالى : (إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ) (٢).

قوله جل ذكره : (حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (٦٤))

إنه ـ سبحانه ـ يمهل ولكنّه لا يهمل ؛ فإذا أخذ فبطشه شديد ، قال تعالى : (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) (٣) ... فإذا أخذ أصحاب الكبائر ـ حين يحل بهم الانتقام ـ فى الجواب ردّوا في الهوان ، ويقال لهم :

(لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (٦٥))

فإذا انفصل من الغيب حكم فلا مردّ لتقديره.

__________________

(١) (هذا الشأن) يقصد به طريق رباب الأحوال

(٢) آية ٥٥ سورة يس.

(٣) آية ١٢ سورة البروج.

٥٨٠