لطائف الإشارات - ج ٢

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري

لطائف الإشارات - ج ٢

المؤلف:

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري


المحقق: الدكتور إبراهيم بسيوني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٥٥

قوله جل ذكره : (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ)

أدّبه حتى لا يتغير بصفة أحد ، وهذه حال التمكين.

قوله جل ذكره : (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ)

أي ألن لهم جانبك. وكان عليه‌السلام إذا استعانت به الوليدة (١) فى الشفاعة إلى مواليها يمضى معها .. إلى غير ذلك من حسن خلقه ـ صلوات الله عليه ـ وكان فى الخبر : إنه كان يخدم بيته وكان فى (مهنة) أهله (٢). وتولّى خدمة الوفد ، وكان يقول : سيد القوم خادمهم.

قوله جل ذكره : (وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (٨٩))

لمّا لم يكن بنفسه وكان قائما بحقه ـ سبحانه وتعالى ـ سلّم له أن يقول : إنى وأنا. وفى الخبر : أن جابرا دقّ عليه الباب ، فقال : من؟ قال : أنا ... فقال النبي عليه‌السلام : «أنا أنا» .. كأنه كرهها (٣)

ويقال : قل لاحدّ لاستهلا كك فينا ، سلّمنا أن تقول : إنى أنا ، لما كنت بنا ولنا.

قوله جل ذكره (كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (٩٠))

أي قل إنى أنا لكم منذر بعذاب كالعذاب الذي عذّبنا به المقتسمين ؛ وهم الذين تقاسموا بالله لنبيّه فى قصه صالح عليه‌السلام. وقيل هم من أهل الكتاب الذين اقتسموا كتاب الله ؛ فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه.

ويقال إنى لكم نذير أخوفكم عقوبة المقتسمين الذين اقتسموا الجبال والطرق بمكة فى الموسم ، وصدوا الناس. وكان الواحد منهم يقول لمن مرّ به : لا تؤمن بمحمد فإنه ساحر ، ويقول الآخر : إنه كاهن ويقول ثالث : إنه مجنون ، فهم بأقسامهم :

(الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) (٤)

__________________

(١) الوليدة ـ الجارية ، قال طرفة :

فذالت كما ذالت وليدة مجلس

ترى ربها أذيال سحل ممدد

(٢) عن الأسود بن يزيد : قال سئلت عائشة رضى الله عنها ما كان النبي (ص) يصنع فى بيته؟ قالت : كان يكون فى مهنة أهله فإذا حضرت الصلاة خرج إليها (رواه البخاري).

(٣) الحديث جاء مضطرب الكتابة في النسختين وقد صححناه كما أورد النووي فى رياض الصالحين ط بيروت ص ٣٥١

(٤) عضين ج عضة وأصلها عضوة أي جزء ، وعضوة فعلة من عضى الشاة إذا جعلها أعضاء وأجزاء وأقساما.

٢٨١

ففرقوا القول فيه ، فقال بعضهم إنه شعر ، وقال بعضهم إنه سحر ، وقال بعضهم إنه كهانه ... إلى غير ذلك.

قوله جل ذكره : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٣))

العوام يسألهم عن تصحيح أعمالهم ، والخواص يسألهم عن تصحيح أحوالهم.

ويقال يسأل قوما عن حركات ظواهرهم ، ويسأل آخرين عن خطرات سرائرهم. ويسأل الصديقين عن تصحيح المعاني بفعالهم ، ويسأل المدّعين عن تصحيح الدعاوى تعنيفا لهم.

ويقال سماع هذه الآية يوجب لقوم أنسا وسرورا حيث علموا أنه يكلّمهم ويسمعهم خطابه لاشتياقهم إليه ، ولا عجب فى ذلك فالمخلوق يقول فى مخلوق :

من الخفرات البيض ودّ جليسها

إذا ما انتهت أحدوثة لو تعيدها

فلا أسعد من بشر يعرف أنّ مولاه غدا سيكلمه.

قوله جل ذكره : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (٩٤))

كن بنا وقل بنا ، وإذا كنت بنا ولنا فلا تجعل حسابا لغيرنا ، وصرّح بما خاطبناك به ، وأفصح عمّا نحن خصصناك به ، وأعلن محبتنا لك :

فسبّح (١) باسم من تهوى ودعنا من الكني

فلا خير في اللّذات من بعدها ستر

قوله جل ذكره : (إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٩٦))

الذين دفعنا عنك عادية (٢) شرّهم ، ودرأنا عنك سوء مكرهم ، ونصرناك بموجب

__________________

(١) الأصل فى البيت (فصرح) والتصريح يقابل (الكناية).

(٢) وردت (عادية) بالغين ، والملائم للسياق (عادية) بالعين. حيث يقال (دفعت عنك عادية فلان أي ظلمه وشره) : الوسيط ص ٥٩٥.

٢٨٢

عنايتنا بشأنك .. فلا عليك فيما يقولون أو يفعلون ، فما العقبى إلا لك بالنصر والظفر.

قوله جل ذكره : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (٩٧) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (٩٨))

وقال : (يَضِيقُ صَدْرُكَ) ولم يقل يضيق قلبك ؛ لأنه كان فى محل الشهود ، ولا راحة للمؤمن دون لقاء الله ، ولا تكون مع اللقاء وحشة.

ويقال هوّن عليه ضيق الصدر بقوله : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ) ويقال إن ضاق صدرك بسماع ما يقولون فيك من ذمّك فارتفع (١) بلسانك فى رياض تسبيحنا ، والثناء علينا ، فيكون ذلك سببا لزوال ضيق صدرك ؛ وسلوة لك بما تتذكر من جلال قدرنا وتقديسنا ، واستحقاق عزّنا.

قوله جل ذكره : (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (٩٩))

قف على بساط العبودية معتنقا للخدمة ، إلى أن تجلس على بساط القربة ، وتطالب بآداب الوصلة.

ويقال التزم شرائط العبودية إلى أن ترقى بل تكفى بصفات الحرية.

ويقال فى (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (٢) : إن أشرف خصالك قيامك بحقّ العبودية.

__________________

(١) وردت هكذا ونرجح أنها فى الأصل (فارتع) فهى أكثر ملائمة للمعنى. جاء فى رسالة القشيري ص ١١١ (وفى الخبر المشهور عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إذا رأيتم رياض الجنة فارتعوا فيها ، فقيل له : وما رياض الجنة؟ فقال : مجالس الذكر.

(٢) عن العلاقة بين العبودية واليقين ينقل القشيري عن شيخه الدقاق قوله : «العبادة لمن له علم اليقين ، والعبودية لمن له عين اليقين والعبودة لمن له حق اليقين» الرسالة ص ٩٩.

٢٨٣

السورة التي يذكر فيها النحل

قوله جل ذكره : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

ألف الوصل فى (بِسْمِ اللهِ) لم يكن لها فى التحقيق أصل ، جلبت للحاجة إليها للتوصل بها إلى النطق بالسّاكن ، وإذ وقع ذلك أنفا عنها أسقطت فى الإدراج ، ولكن كان لها بقاء فى الخط وإن لم يكن لها ظهور فى اللفظ ، فلمّا صارت إلى (بِسْمِ اللهِ) أسقطت من الخط كذلك .. وكذلك من ازداد صحبة استأخر (١) رتبة.

ويقال أي استحقاق لواو عمرو حتى ثبتت فى الخط؟ وأي استحقاق إلى الألف فى قولهم قتلوا وفعلوا؟ وأىّ موجب لحذف الألف من السماوات؟

طاحت العلل فى الفروق ، وليس إلا اتفاق الوضع ... كذلك الإشارة فى أرباب الردّ والقبول ، قال تعالى (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) (٢).

قوله جل ذكره : (أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١))

صيغة أتى للماضى ، والمراد منه الاستقبال لأنه بشأن ما كانوا يستعجلونه من أمر الساعة ، والمعنى «سيأتى» أمر القيامة ، والكائنات كلّها والحادثات بأسرها من جملة أمره ؛ أي حصل أمر تكوينه وهو أمر من أموره لأنه حاصل بتقديره وتيسيره ، وقضائه وتدبيره ؛ فما يحصل من خير وشرّ ، ونفع وضرّ ، وحلو ومرّ .. فذلك من جملة أمره تعالى.

(فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) وأصحاب التوحيد لا يستعجلون شيئا باختيارهم لأنهم قد سقطت عنهم الإرادات والمطالبات ، وهم خامدون تحت جريان تصريف الأقدار ؛ فليس لهم إيثار ولا اختيار فلا يستعجلون أمرا ، وإذا أمّلوا شيئا ، أو أخبروا بحصول شىء فلا استعجال لهم ، بل شأنهم

__________________

(١) إن صح نقل هذه الكلمة عن الأصل فلربما يقصد القشيري منها استخفى عن الظهور ، وازداد ذبولا ، وبعدا عن التظاهر والدعوى.

(٢) آية ١٠٧ سورة هود.

٢٨٤

التأنّى والثبات والسكون. وإذا بدا من التقدير حكم فلا استعجال لهم لما يرد عليهم ، بل يتقبلون مفاجأة التقدير بوجه ضاحك ، ويستقبلون ما يبدو من الغيب من الردّ والقبول ، والمنع والفتوح بوصف الرضاء ، ويحمدون الحق ـ سبحانه وتعالى ـ على ذلك.

(سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) : تعالى عما يشركون بربهم ، والكفار لم ييسر لهم حتى أنّه لا سكن لقلوبهم من حديثه.

قوله جل ذكره : (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (٢))

ينزل الملائكة على الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ بالوحى والرسالة ، وبالتعريف والإلهام على أسرار أرباب التوحيد وهم المحدّثون. وإنزال الملائكة على قلوبهم غير مردود لكنهم لا يؤمرون أن يتكلموا بذلك ، ولا يحملون رسالة إلى الخلق.

ويراد بالروح الوحى والقرآن ، وفى الجملة الروح ما هو سبب الحياة ؛ إمّا حياة القلب أو حياة الدنيا.

قوله جل ذكره : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣))

خلقها بالحق ، ويحكم فيها بالحق ، فهو محقّ فى خلقها لأنّ له ذلك ، ويدخل فى ذلك أمره بتكليف الخلق ، وما يعقب ذلك التكليف من الحشر والنّشر ، والثواب والعقاب.

(تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) : تقديسا وتشريفا له عن أن يكون له شريك أو معهم ليك

قوله جل ذكره : (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٤))

تعرّف إلى العقلاء بكمال قدرته حيث أخبر أنه قدر على تصوير الإنسان على ما فيه من التركيب العجيب ، والتأليف اللطيف ؛ من نطفة متماثلة الأجزاء ، متشاكلة فى وقت الإنشاء ، مختلفة الأعضاء وقت الإظهار والإبداء ، والخروج من الخفاء. ثم ما ركّب فيه من تمييز وعقل ،

٢٨٥

ويسّر له النطق والفعل ، والتدبير فى الأمور ، والاستيلاء على الحيوانات على وجه التسخير.

قوله جل ذكره : (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٥))

ذكّرهم بما تفضّل عليهم ، وأخبرهم بما للحيوانات من النّعم ، وما لهم فيها من وجوه الانتفاع فى جميع الأحوال ، كالحمل وكالسفر عليها وقطع المسافات ، والتوصّل على ظهورها إلى مآربهم ، وما لنسلها ولدرّها من المنافع.

قوله جل ذكره : (وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (٦) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٧))

الغنيّ له جمال بماله ، والفقير له استقلال بحاله .. وشتّان ماهما! فالأغنياء يتجملون بأنعامهم حين يريحون وحين يسرحون ، والفقراء يستقلون بمولاهم حين يصبحون وحين يمسون. أولئك تحمل أثقالهم جمالهم ، وهؤلاء يحمل الحقّ عن قلوبهم أثقالهم.

(لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ) : قوم أحوالهم مقاساة الشدائد ؛ يصلون سيرهم بسراهم ، وقوم فى حمل مولاهم ؛ بعيدون عن كدّ التدبير ، مستريحون بشهود التقدير ، راضون باختيار الحقّ فى العسير واليسير (١).

قوله جل ذكره : (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (٨))

فالنفوس فى حملها كالدواب ، والقلوب معتقة عن التعنّى فى الأسباب. (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) : كما أن أهل الجنة من المؤمنين يجدون فى الآخرة ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر فكذلك أرباب الحقائق يجدون ـ اليوم ـ ما لم يخطر قطّ على بال ، ولا قرأوا فى كتاب ، ولا تلقنوه من أستاذ ، ولا إحاطة بما أخبر الحق أنه

__________________

(١) يطلق القشيري على الأول اصطلاح (متحمل) وعلى الثاني (محمول).

٢٨٦

لا يعلم تفصيله (١) سواه .. وكيف يعلم من أخبر الحقّ ـ سبحانه ـ أنه لا يعلم؟

قوله جل ذكره : (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (٩))

قوم هداهم السبيل ، وعرّفهم الدليل ، فصرف عن قلوبهم خواطر الشكّ ، وعصمهم عن الجحد والشّرك ، وأطلع فى قلوبهم شمس العرفان ، وأفردهم بنور البيان. وآخرون أضلّهم وأغواهم ، وعن شهود الحجج أعماهم ، وفى سابق حكمه من غير سبب أذلّهم وقمعهم (٢) ، ولو شاء لعرّفهم وهداهم.

قوله جل ذكره : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (١٠) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١١))

أنزل المطر وجعل به سقيا النبات ، وأجرى العادة بأن يديم به الحياة ، وينبت به الأشجار ، ويخرج الثمار ، ويجرى الأنهار.

ثم قال : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ثم قال بعده بآيات : (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) ، ثم قال بعده : (لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ). وعلى هذا الترتيب تحصل المعرفة (٣) ، فأولا التفكر ثم العلم ثم التذكر ، أولا يضع النظر موضعه فإذا لم يكن فى نظره خلل وجب له العلم لا محالة ، ولا فرق بين العلم والعقل فى الحقيقة ، ثم بعده استدامة النظر وهو التذكر.

ويقال إنما قال : (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) : على الجمع لأنه يحصل له كثير من العلوم حتى يصير

__________________

(١) وردت (تفضله) وهى خطأ من الناسخ.

(٢) (قمعهم) ـ قهرهم وذلهم. على أننا لا نستبعد ـ حسبما نعرف من كلف القشيري بالخوض على الموسيقى اللفظية ـ أنها ربما كانت (أقماهم) أي صغرهم وأذلهم (انظر آية ٤ سورة القصص المجلد الثالث).

(٣) هذه نقطة هامة إذا أردنا أن ندرس مذهب المعرفة عند الصوفية عموما ، والقشيري بخاصة

٢٨٧

عارفا ، وكل جزء من العلم تحصل له آية ودليل ، فللعالم حتى يكون عارفا بربّه آيات ودلائل ، لأن دليل هذه المسألة خلاف دليل تلك المسألة ؛ فبدليل واحد يعلم وجه النظر ، وبأدلة كثيرة يصير عارفا بربه.

قوله جل ذكره : (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ)

الليل والنهار ظرفا الفعل ، والناس فى الأفعال مختلفون : فموفّق ومخذول ؛ فالموفّق يجرى وقته فى طاعة ربه ، والمخذول يجرى وقته فى متابعة هواه.

العابد يكون فى فرض يقيمه أو نفل يديمه ، والعارف فى ذكره وتحصيل أوراده بما يعود على قلبه فيؤنسه ، وأما أرباب التوحيد فهم مختطفون عن الأحيان والأوقات بغلبة ما يرد عليهم من الأحوال كما قيل :

لست أدرى أطال ليلى أم لا

كيف يدرى بذاك من يتقلّى؟

لو تفرّغت لاستطالة ليلى

ورعيت النجوم كنت مخلّا

قوله جل ذكره : (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ).

هذا فى الظاهر ، وفى الباطن نجوم العلم وأقمار المعرفة وشموس التوحيد.

قوله جل ذكره : (وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٣))

أقوام خلق لهم فى الأرض الرياض والغياض (١) ، والدور والقصور ، والمساكن والمواطن ، وفنون النّعم وصنوف القسم .. وآخرون لا يقع لهم طير على وكر ، ولا لهم فى الأرض شبر ؛ لا ديار تملكهم ، ولا علاقة تمسكهم ـ أولئك سادات الناس وضياء الحق.

__________________

(١) الغياض جمع غيضة وهى الموضع يكثر فيه الشجر ويلتف.

٢٨٨

قوله جل ذكره : (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٤))

سخر البحر فى الظاهر ، وسهّل ركوبه فى الفلك ، ويسّر الانتفاع بما يستخرج منه من الحلىّ كاللؤلؤ والدّرّ ، وما يقتات به من السمك وحيوان البحر.

ومن وجوه المعاني خلق صنوفا من البحر ، فقوم غرقى فى بحار الشغل وآخرون فى بحار الحزن ، وآخرون فى بحار اللهو .. فالسلامة من بحر الشغل فى ركوب سفينة التوكل ، والنجاة من بحر الحزن فى ركوب سفينة الرضا ، والسلامة من بحر اللهو من ركوب سفينة الذكر ، وأنشد بعضهم (١).

قوله جل ذكره : (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥))

الرواسي فى الظاهر الجبال ، وفى الإشارة الأولياء الذين هم غياث الخلق ، بهم يرحمهم ، وبهم يغيثهم .. ومنهم أبدال ومنهم أوتاد ومنهم القطب. وفى الخبر : «الشيخ فى قومه كالنبى فى أمته» وقال تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) (٢) ، كما قال تعالى : (وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ) (٣) ، وأنشد بعضهم :

وا حسرتا من فراق قوم

هم المصابيح والأمن والمزن

قوله جل ذكره : (وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (١٦))

الكواكب نجوم السماء ومنها رجوم للشياطين ، والأولياء نجوم فى الأرض. وكذلك العلماء وهم أئمة فى التوحيد وهم رجوم للكفّار والملحدين.

__________________

(١) سقط الشاهد الشعرى من الناسخ.

(٢) آية ٣٣ سورة الأنفال.

(٣) آية ٢٥ سورة الفتح.

٢٨٩

ويقال فرق بين نجوم يهتدى بها فى فجاج الدنيا ، ونجوم يهتدى بهم إلى الله تعالى.

قوله جل ذكره : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٧))

تدل هذه الآية على نفى التشبيه بينه ـ سبحانه ـ وبين خلقه. وصفات القدم لله مستحقّة ، وما هو من خصائص الحدثان وسمات الخلق يتقدّس الحقّ ـ سبحانه ـ عن جميع ذلك. ولا تشبّه ذات القديم بذوات المخلوقين ، ولا صفاته بصفاتهم ، ولا حكمه بحكمهم ، وأصل كلّ ضلالة التشبيه ، ومن قبح ذلك وفساده أنّ كلّ أحد يتبرّأ منه ويستنكف من انتحاله.

قوله جل ذكره : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨))

الموجودات لا تحصوها لتقاصر علومكم عنها ، وما هو من نعم الدفع (١) فلا نهاية له. وهو غفور رحيم حيث يتجاوز عنكم إذا عجزتم عن شكره ، ويرضى بمعرفتكم (...) (٢) لكم عن شكره.

قوله جل ذكره : (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (١٩))

ما تسرّون من الإخلاص وملاحظة الأشخاص .. فلا يخفى عليه حسان ، وما تعلنون من الوفاق والشقاق ، والإحسان والعصيان. والآية توجب تخويف أرباب الزّلّات ، وتشريف أصحاب الطاعات.

قوله جل ذكره : (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (٢٠))

أخبر أن الأصنام لا يصحّ منها الخلق لكونها مخلوقة ، ودلّت الآية على أنّ من وجدت له سمة الخلق لا يصحّ منه الخلق ، والخلق هو الإيجاد ؛ ففى الآية دليل على خلق الأعمال.

__________________

(١) من قصور الإنسان أنه لا يشعر إلا بنعم المنح ، ولكن نعم الدفع التي لا تتناهى لا يكاد الإنسان يشعر بها البتة وبالتالى لا يشكر عليها ... وما أكثرها!

(٢) مشتبهة.

٢٩٠

قوله جل ذكره : (أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٢١))

لأنّ من لحقه وصف التكوين لا يصحّ منه الإيجاد. وفى التحقيق كلّ من علق قلبه بشىء ، وتوهّم منه خيرا أو شرا فقد أشرك بالله بظنّه ، وإنما التوحيد تجريد القلب عن حسبان شظيّة من النفي والإثبات من جميع المخلوقين والمخلوقات.

قوله جل ذكره : (إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٢٢))

لا قسيم لذاته جوازا أو وجوبا ، ولا شبيه له ولا شريك. ومن لم يتحقق بهذه الجملة قطعا ، وبشهادة البراهين له تفصيلا فهو فى دركات الشّرك واقع ، وعن حقائق التوحيد بمعزل ، قال تعالى فى صفة الكفار : (قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) أي فى أسر الشّرك وغطاء الكفر ، ثم ليس فيه اتصاف لطلب العرفان ؛ لأنّ العلة ـ لمن أراد المعرفة ـ متاحة ، وأدلة الخلق لائحة.

قوله جل ذكره : (لا جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ)

فيفضحهم ويبيّن نفاقهم ، ويعلن للمؤمنين كفرهم وشقاقهم.

قوله جل ذكره : (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ).

دليل الخطاب أنه يحب المتواضعين المتخاشعين ، ويكفيهم فضلا بشارة الحق لهم بمحبته لهم.

قوله جلّ ذكره : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٤))

لحقهم شؤم تكذيبهم ، فأصرّوا على إعراضهم عن النظر ، وقست قلوبهم ولم تجنح

٢٩١

إلى الإقرار بالحق ، فلبّسوا على من يسائلهم ، وقالوا : هذا الذي جاء به محمد من أكاذيب العجم ، فضلّوا وأضلوا.

قوله جل ذكره : (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٢٥))

لما سعوا فى الدنيا لغير الله لم تصف أعمالهم ، وفى الآخرة حملوا معهم أوزارهم. أولئك الذين خسروا فى الدنيا والآخرة.

قوله جل ذكره : (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)

اتصفوا بالمكر فحاق بهم مكرهم ، ووقعوا فيما حفروه لغيرهم ، واغتروا بطول الإمهال ، فأخذهم العذاب من مأمنهم ، واشتغلوا بلهوهم فنغّص عليهم أطيب عيشهم :

(فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ).

الذي وصف نفسه به فى كتابه من الإتيان فمنعاه العقوبة ، وذلك على عادة العرب فى التوسع فى الخطاب.

وهو سبحانه يكشف الليل ببدره ثم يأخذ الماكر بما يليق بمكره ، وفى معناه قالوا :

وأمته فأتاح لى من مأمنى

مكرا ، كذا من يأمن الأياما

قوله جل ذكره : (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (٢٧))

٢٩٢

فى الدنيا عاجل بلائهم ، وبين أيديهم آجله. وحسرة (١) المفلس تتضاعف إذا ما حوسب ، وشاهد حاصله.

(قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ..) : يسمع الكافرين قول المؤمنين ، ويبيّن للكافة صدقهم. ويقع الندم على جاهلهم (٢). وأما اليوم فعليهم بالصبر والتحمّل ، وعن قريب ينكشف الغطاء ، وأنشد بعضهم :

خليلىّ لو دارت على رأسى الرّحى

من الذّلّ لم أجزع ولم أتكلّم

وأطرقت حتى قيل لا أعرف الجفا

ولكننى أفصحت يوم التكلّم

قوله جل ذكره : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٢٩))

(ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) : بارتكاب المعاصي وهم الكفار.

(فَأَلْقَوُا السَّلَمَ) : انقادوا واستسلموا لحكم الله.

(ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ) : جحدوا وأنكروا ما عملوا من المخالفات.

(بَلى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) : هكذا قالت لهم الملائكة ، ثم يقولون لهم : (فَادْخُلُوا أَبْوابَ ..) : وكذلك الذين تقسو نفوسهم بإعراضهم عن الطاعات إذا نزلت بهم الوفاة يأخذون فى الجزع وفى التضرع ، ثم لا تطيب نفوسهم بأن يقرّوا بتفاصيل أعمالهم عند الناس ، فيما يتعلق بإرضاء خصومهم لما أخلّوا من معاملاتهم ، ثم الله يؤاخذهم بالكبير والصغير ، والنقير والقطمير ، ثم يبقون أبدا فى وبال ما أحقبوه ، لأن شؤم ذلك يلحقهم فى أخراهم.

__________________

(١) وودت (مرة) بالميم (وهى خطأ فى النسخ كما هو واضح.

(٢) وردت (جاهدهم) بالدال. وربما كانت فى الأصل (جاحدهم) ، فالجهل والجحد من صفات الكافرين.

٢٩٣

قوله جل ذكره : (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (٣٠))

أما المسلمون فإذا وردوا عليهم ، وسألوهم عن أحوال محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعما أنزل الله عليه ، قالوا : دينه حقّ ، والله أنزل عليه الحقّ .. والذين أحسنوا فى الدنيا يجدون الخير فى الآخرة.

ويقال فى هذه الدنيا حسنة ، وهى ما لهم من حلاوة الطاعة بصفاء الوقت ويصحّ أن تكون تلك الحسنة زيادة التوفيق لهم فى الأعمال ، وزيادة التوفيق لهم فى الأحوال.

ويصح أن يقال تلك الحسنة أن يوفّقهم بالاستقامة على ما هم عليه من الإحسان.

ويصح أن يقال تلك الحسنة أن يبلّغهم منازل الأكابر والسادة.

قال تعالى : (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا) (١)

ويصح أن تكون تلك الحسنة ما يتعدّى منهم إلى غيرهم من بركات إرشادهم للمريدين ، وما يجرى على من اتبعهم مما أخذوه وتعلموه منهم ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لأن يهتدى بهداك رجل خير لك من حمر النعم» (٢).

ثم قال : (وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ) ، لأن ما فيها يبقى ، وليس فيها خطر الزوال. ولأن فى الدنيا مشاهدة وفى الآخرة معاينة (٣).

قوله جل ذكره : (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ

__________________

(١) آية ٢٤ سورة السجدة.

(٢) سبق تخريج هذا الحديث.

(٣) نفهم من هذا أن المعاينة أعلى درجة من المشاهدة ، ونفهم كذلك أن المشاهدة ـ وهى تنم فى هذه الدنيا ـ هى أقصى درجات المعراج الروحي عند أصحاب وحدة الشهود ، وكل قول بما يزيد عن ذلك خروج عن أصول هذا المذهب ، وقد نعى كثير من الباحثين على الغلاة والأدعياء والظالمين ، فى هذا الخصوص.

٢٩٤

تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ (٣١))

كما أن الإرادات والهمم تختلف فى الدنيا فكذلك فى الآخرة ، وفى الخبر : «من كان بحالة لقى الله بها» فمن مريد يكتفى من الجنة بورودها ، ومن مريد لا يكتفى من الجنة دون شهود ربّ الجنة.

ويقال إذا شاءوا أن يعودوا إلى ما فاتهم من قصورهم ، وما وجدوا فى ذلك من صحبة اللّعين (١) فى سائر أحوالهم وأمورهم يسلم لهم ذلك ، ومن شاء أن تدوم رؤيته ، ويتأبّد سماع خطابه فلهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد ، وهو ما لم يخطر ببال أحد.

قوله جل ذكره : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٢))

يقبض أرواحهم طيبة. أو يقال (طَيِّبِينَ) حال.

والأسباب التي تطيب بها قلوبهم وأرواحهم مختلفة ، فمنهم من طاب وقته لأنه قد غفرت ذنوبه ، وسترت عيوبه ، ومنهم من طاب قلبه لأنه سلّم عليه محبوبه ، ومنهم من طاب قلبه لأنه لم يفته مطلوبه.

ومنهم من طاب وقته لأنه يعود إلى ثوابه ، ويصل إلى حسن مآبه.

ومنهم من يطيب قلبه لأنه أمن من زوال حاله ، وحظى بسلامة مآله (٢) ، ومنهم من يطيب قلبه لأنه وصل إلى أفضاله ، وآخر لأنه وصل إلى لطف جماله ، وثالث لأنه خصّ بكشف جلاله ـ قد علم كلّ أناس مشربهم.

ويقال (تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) طيبة نفوسهم أي طاهرة من التدنّس بالمخالفات ، وطاهرة قلوبهم عن العلاقات ، وأسرارهم عن الالتفات إلى شىء من المخلوقات.

__________________

(١) اللعين مقصود به إبليس.

(٢) وردت (ماله) والملائم هنا أن تكون (مآله).

٢٩٥

قوله تعالى : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) احظوا بالجنة ، منهم من يخاطبه بذلك الملك ، ومنهم من يكاشفه بذلك الملك.

قوله جل ذكره : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٣٣) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٤))

القوم ينتظرون مجىء الملك لأنهم لم يعرفوه ولم يعتقدوا كونه. ولكن لمّا كانوا يستعجلون معتقدين أن الرسل غير صادقين ، ولمّا سلكوا (١) مسلك أضرابهم من المتقدمين ـ عوملوا بمثل ما لقى أسلافهم ، وما كان ذلك من الله ظلما ، لأنه يتصرف فى ملكه من غير حكم حاكم عليه.

قوله جل ذكره : (وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٣٥))

خبثت قصودهم فيما قالوا على وجه التكذيب والاستهزاء ، وغلبت على نطقهم ظلمات جهلهم وجحدهم ، وانكشف عدم صدقهم فى أحوالهم.

وقولهم : (لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ ..) يشبه قولهم : (أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ) (٢). ولا خلاف أن الله لو شاء أن يطعمهم لكان ذلك.

__________________

(١) وردت (سكنوا) وهى خطأ من الناسخ.

(٢) آية ٤٧ سورة يس.

٢٩٦

قوله جل ذكره : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٣٦))

لم يخل زمانا من الشرع توضيحا لحجته ، ولكن فرّقهم فى سابق حكمه ؛ ففريقا هداهم ، وفريقا حجبهم (١) وأعماهم (٢).

قوله جل ذكره : (إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٧))

ألزمهم الوقوف على حدّ العبودية فى إرادة هدايتهم ومعرفتهم حقائق الربوبية فقال : إنك وإن كنت بأمرنا لك حريصا على هدايتهم ؛ فإن من قسمت له الضلال لا يجرى عليه غير ما قسمت له.

ويقال من ألبسته صدار الضلال لا تنزعه وسيلة ولا شفاعة.

قوله جل ذكره : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٨))

القسم يؤكّد الخبر ، ولكنّ يمين الكاذب توجب ضعف قوله ؛ لأنه كلما زاد فى جحد الله ازداد القلب نفرة من قوله.

قوله جل ذكره : (لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (٣٩))

__________________

(١) وردت (حجتهم) وهى خطأ فى النسخ إذ ربما كانت النقطتان فوق الباء فتحة فى الأصل وتوهم الناسخ أنها نقطتان.

(٢) وردت (وأعمالهم) والمعنى والسياق يرفضانها ويتقبلان (وأعماهم).

٢٩٧

إذا بيّن الله صدق ما ورد به الشرع فى الآخرة بكشف الغيب زاد افتضاح أهل التكذيب فيكون فى ذلك زيادة لهم فى التعذيب.

قوله جل ذكره : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٠))

فيكون بالسمع علم تعلّق قوله بما يفعله. وحمله قوم على أن معناه أنه لا يتعسّر عليه فعل شىء أراده ، فالآية على القولين جميعا.

والذي لا يحتاج فى فعله إلى مادة يخلق منها لا يفتقر إلى مدة يقع الفعل فيها.

وتدل الآية على أنّ قوله ليس بمخلوق ؛ إذ لو كان مخلوقا لكان مقولا له : كن ، وذلك القول يجب أن يكون مقولا له بقول آخر ... وهذا يؤدى إلى أن يتسلسل ما يحصل إلى ما لا نهاية له (١).

قوله جل ذكره : (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١))

من هاجر عن أوطان السوء ـ فى الله ـ أبدل له الله فى جوار أوليائه ما يكون له فى جوارهم معونة على الزيادة فى صفاء وقته. ومن هجر أوطان الغفلة مكّنه الله من مشاهد الوصلة. ومن فارق مجالسة المخلوقين ، وانقطع بقلبه إليه ـ سبحانه ـ باستدامة ذكره ـ فكما فى الخبر : «أنا جليس من ذكرنى». وبداية هؤلاء القوم نهاية أهل الجنة ؛ ففى الخير «الفقراء الصابرون جلساء الله يوم القيامة». ويقال القلب مظلوم من جهة النّفس لما تدعوه إليه من شهواتها ، فإذا هجرها أورث الله القلب أؤطان النّفس حتى تنقاد لما يطالب به القلب

__________________

(١) كلام الله ليس بمخلوق ـ هذا أصل عام من أصول المذهب الأشعري الذي يعد القشيري من أعظم أنصاره. وقد ناقش هذه القضية بإسهاب فى كتابه القيم : «شكاية أهل السنة بحكاية ما نالهم من المحنة». وانظر أيضا كتابنا (الإمام القشيري : تصوفه وأدبه ـ فصل : القشيري متكلما) :

٢٩٨

من الطاعة ؛ فبعد ما تكون أوطان الزّلّة بدواعى الشهوة تصير أوطان الطاعة لسهولة أدائها.

قوله جل ذكره : (الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٤٢))

الصبر الوقوف بحسب جريان القضاء ، والتوكل التوقي بالله بحسن الرجاء.

ويقال صبروا فى الحال ، وتوكلوا على الله فى تحقيق الآمال.

ويقال الصبر تحسّى كاسات المقدور ، والتوكل الثقة فى الله فى استدفاع المحذور.

ويقال الصبر تجرّع ما يسقى ، والتوكل الثقة بما يرجو.

ويقال إنما يقوون على الصبر بما حققوا من التوكل.

قوله جل ذكره : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٤٣))

تعجبوا أن يكون من البشر رسلا ، فأخبر أنّ الرسل كلّهم كانوا من البشر ، وأنّ فيمن سبق من أقرّ بذلك. و (أَهْلَ الذِّكْرِ) هم العلماء ؛ والعلماء مختلفون : فالعلماء بالأحكام إليهم الرجوع فى الاستفتاء من قبل العوام فمن أشكل عليه شىء من أحكام الأمر والنهى يرجع إلى الفقهاء فى أحكام الله ، ومن اشتبه عليه شىء من علم السلوك في طريق الله يرجع إلى العارفين بالله ، فالفقيه يوقّع عن الله ، والعارف ينطق ـ فى آداب الطلب وأحكام الإرادة وشرائط صحتها ـ عن الله ، فهو كما قيل : (أليس حقا نطقت بين الورى فاشتهرت ، كاشفها يعلم ما منّ عليها فجرت ، فهى عناء به عينيه قد طهرت) (١).

قوله جل ذكره : (بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٤٤))

أي إن البيان إليك ، فأنت الواسطة بيننا وبينهم ، وأنت الأمين على وحينا.

__________________

(١) ما بين القوسين نقلناه كما هو من النص ، وربما كان شاهدا شعريا مضطرب الكتابة.

٢٩٩

قوله جل ذكره : (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٤٥) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٤٦) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٤٧))

العبد فى جميع أحواله عرضة لسهام التقدير ، فينبغى أن يستشعر الخوف فى كلّ نفس من الإصابة بها ، وألّا يأمن مكر الله فى أي وقت ، وأكثر الأسنة تعمل فى الموطأة نفوسهم وقلوبهم على ما عوّدهم الحق من عوائد المنّة ، ولكن كما قيل :

يا راقد الليل مسرورا بأوّله

إنّ الحوادث قد يطرقن أسحارا (١)

قوله جل ذكره : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (٤٨))

كل مخلوق من عين أو أثر ، من حجر أو مدر أو غبر فلله ـ من حيث البرهان ـ ساجد ، ومن حيث البيان على الوحدانية شاهد.

قوله جل ذكره : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩))

ذلك سجود شهادة لا سجود عبادة ، فإذا امتنعت عن إقامة الشهادة لقوم قالة ، فقد شهد كل جزء منهم من حيث البرهان والدلالة.

قوله جل ذكره : (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٥٠))

يخافون الله أن ينزل عليهم عذابا من فوق رءوسهم.

__________________

(١) كان عبد الحميد المكفوف كثيرا ما يتمثل بهذا البيت في قصصه (الحيوان ج ٦ ص ٥٠٨).

٣٠٠