لطائف الإشارات - ج ٢

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري

لطائف الإشارات - ج ٢

المؤلف:

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري


المحقق: الدكتور إبراهيم بسيوني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٥٥

إنما سلطانه على الذين هم فى غطاء غفلهم ، وسر ظنونهم ومشتبهاتهم فأمّا أصحاب التوحيد فإنهم يرون الحادثات بالله ظهورها ، ومن الله ابتداؤها ، وإلى الله مآلها وانتهاؤها.

قوله جل ذكره : (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (١٠٢))

ما ازدادوا فى طول مدتهم إلا شكا على شك ، وجحدا على جحد ، وجروا على منهاجهم فى التكذيب ، فلم يصدّقوه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما زادوا فى ولايته إلا شكا ومرية :

وكذا الملول إذا أراد قطيعة

ملّ الوصال وقال كان وكانا

قوله : (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ) : ردّ على فرط جهلهم بربهم ، وبعد رتبتهم عن التحصيل ، فلمّا كانوا متفرقين فى شهود الملك ردّوا فى حين التعريف إليهم بذكر الملك.

قوله جل ذكره : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (١٠٣))

لم يستوحش الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من تكذيبهم ، وخفاء حاله وقدره عليهم .. وأىّ ضرر يلحق من كانت مع السلطان مجالسته إذا خفيت على الأخسّ من الرعية حالته؟

ثم إنه أقام الحجة فى الردّ عليهم حيث قال : (لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) : فمن فرط جهلهم توهموا أنّ هذا القرآن ـ الذي عجز كافة الخلق

٣٢١

عن معارضته فى فصاحته وبلاغته ـ مقول وحاصل باتصاله بمن هو أعجمى النطق (١).

قوله جل ذكره : (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ لا يَهْدِيهِمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤))

إنّ من سبقت بالشقاوة قسمته لم تتعلق من الحق ـ سبحانه ـ به رحمته ، ومن لم يهده الله فى عاجله إلى معرفته لا يهديه الله فى آجله إلى جنته.

قوله جل ذكره : (إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٠٥))

هذا من لطائف المعاريض ؛ إذ لمّا وصفوه ـ عليه‌السلام ـ بالافتراء أنار الحقّ ـ سبحانه ـ فى الجواب ، فقال : لست أنت المفترى إنما المفترى من كذّب معبوده وجهل توحيده.

قوله جل ذكره : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٦))

إذا علم الله صدق عبده بقلبه ، وإخلاصه فى عقده ، ولحقته ضرورة فى حاله خفّف عنه حكمه ، ودفع عنه عناءه فلا يلفظ بكلمة الكفر إلا مكرها ـ وهو موحّد ، وهو مستحق العذر فيما بينه وبين الله تعالى (٢) ... وكذلك الذين عقدوا بقلوبهم ،

__________________

(١) أرادوا به غلاما كان لحويطب اسمه عائش أو يعيش وكان صاحب كتب ، أو هو جبر غلام رومى لعامر بن الحضرمي وكان يقرأ التوراة والإنجيل ، أو سلمان الفارسي .. وكلهم أعاجم.

(٢) ومن أمثال ذلك عمار بن ياسر الذي جرت كلمة الكفر على لسانه مكرها وهو معتقد الإيمان ، وأتى رسول الله وهو يبكى ، فجعل الرسول بمسح عينيه ويقول : «إن عادوا لك فعد لهم بما قلت».

وكان يقول عنه : «إن عمارا ملىء إيمانا من قرنه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه ودمه»

٣٢٢

وتجردوا لسلوك طريق الله ثم عرضت لهم أسباب ، واتفقت لهم أعذار ؛ كأن يكون لهم ببعض الأسباب اشتغال أو إلى شىء من العلوم رجوع .. لم يكن ذلك قادحا فى صحة إرادتهم ، ولا يعدّ ذلك فسخا لعهودهم ، ولا ينفى بذلك عنهم سمة القصد إلى الله تعالى.

أمّا (مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً) : فرجع باختياره ، ووضع قدما ـ كان قد رفعه فى طريق الله ـ بحكم هواه فقد نقض عهد إرادته ، وفسخ عقده ، وهو مستوجب (...) (١) إلى (...) (٢) تتداركه الرحمة.

قوله جل ذكره : (ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (١٠٧))

السالك إذا اثر (الحظوظ) (٣) على الحقوق بقي عن الله ، ولم يبارك له فيما آثره على حقّ الله ، ولقد قالوا :

قد تركناك والذي تريد

فعسى أن تملهم فتعود

قوله جل ذكره (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٠٨))

إذا تمادى فى غفلته ، ولم يتدارك حاله بملازمة حسرته ، ازداد قسوة على قسوة ، ولم يستمتع بما هو فيه من قوة ، وكما قال جل ذكره :

(لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٠٩))

هم فى الآخرة محجوبون ، وبذلّ البعد موسومون.

__________________

(١) مشتبهة

(٢) مشتبهة.

(٣) سقطت هذه اللفظة والسياق يتطلبها ، فأثبتناها حسبما نعرف من أسلوب القشيري فى المقابلة بين حظوظ النفس وحقوق الحق.

٣٢٣

قوله جل ذكره (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٠))

ومن صبر حين عزم الأمر ، ولم يجنح إلى جانب الرّخص ، وأخذ فى الأمور بالأشقّ أكرم الله حقّه ، وقرّب مكانه ، ولقّاه فى كل حالة بالزيادة ، وربحت صفقته حين خسر أشكاله ، وتقدّم على الجملة وإن قلّ احتياله.

قوله جل ذكره : (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١١١))

غدا كلّ مشغول بنفسه ، ليس له فراغ إلى غيره. وعزيز عبد لا يشتغل بنفسه ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من كان بحال لقى الله بها». إنما يكون الفارغ غدا من كان اليوم فارغا ، ويجادل عن نفسه من كان له اليوم اهتمام بنفسه. والمؤمن لا نفس له ؛ قال تعالى : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ) (١) اشتراها الحقّ منهم ، وأودعها عندهم ، فليس لهم فيها حق ، وإنما يراعون فيها أمر الحق.

قوله جل ذكره : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١١٢))

فراغ القلب من الأشغال نعمة عظيمة ، فإذا كفر عبد بهذه النعمة بأن فتح على نفسه باب الهوى ، وانجرف فى فساد الشهوة ، شوّش الله عليه قلبه ، وسلبه ما كان يجده من صفاء وقته ؛ لأنّ طوارق النفس توجب عزوب شوارق القلب ، وفى الخبر : إذا أقبل الليل من

__________________

(١) آية ١١١ سورة التوبة

٣٢٤

هاهنا أدبر النهار من هاهنا». وكذلك القلب إذا انقطع عنه معهود ما كان الحقّ أتاحه له أصابه عطش شديد ولهب عظيم.

قوله جل ذكره : (وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١١٣))

كما جاءهم الرسول جهرا فإنه تتأدّى إليهم من قبل خواطرهم إشارات تترى (١) ، فمن لم يستجب لتلك الإشارات بالوفاق والإعتاق (٢) أخذه العذاب من حيث لا يشعر.

قوله جل ذكره : (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١١٤))

الحلال الطيب ما يتناوله العبد على شريطة الإذن بشاهد الذكر على قضية الأدب فى ترك الشبهة (٣) ، وحقيقة الشكر على النعمة الغيبة عن شهود النعمة بالاستغراق فى شهود المنعم.

قوله جل ذكره : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٥))

يباح تناول المحرمات عند هجوم الضرورات حسب بيان الشرع ، ولا يرخّص فى ذلك إلا على أوصاف مخصوصة ، وبقدر ما يسدّ الرّمق ، كذلك عند استهلاك العبد بغلبات الحقيقة لا بد من رجوعه إلى حال الصحو بقدر ما يؤدى الفرض الواجب عليه ، ثم لا يمكّن من التعريج فى أوطان التفرقة والتمييز بعد مضى أوقات الصحو من أجل أداء الشرع (٤) ، كما قيل :

__________________

(١) تترى أي تتابع ، وربما كانت (سرا) لتقابل جهرا

(٢) أي إعتاق النفس وتحريرها من رق الشهوات

(٣) وردت (الشدة) والصواب ـ حسب ما يقول القشيري في مواضع مماثلة ـ أن تكون (الشبهة)

(٤) هذه هى حالة الفرق الثاني التي تتخلل حالة جمع الجمع ، وفيها يرد العبد إلى الصحو عند أوقات الفرائض ويكون رجوعه لله بالله لا للعبد بالعبد.

٣٢٥

فإن تك منه غيبة بعد غيبة

فإنّ إليه بالوجود إيابي

قوله جل ذكره : (وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (١١٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١١٧))

الصدق فى كل شىء أولى (١) من الكذب ، وكثير من أقوالهم فى الاعتراض عينّات (٢) من الكذب.

والصّدّيق لا يكذب صريحا ، ولا يتداول أقوال كاذب مهين. وصاحب الكذب تظهر عليه المذلّة لما هو فيه من الزلّة ، وله فى الآخرة عذاب أليم (٣).

قوله جل ذكره : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٨))

بيّن أنه أوضح لمن تقدّم الحلال والحرام ، فمنهم من أتى بما أمر به ومنهم من خالف .. وكلّ عومل بما استوجبه ؛ فمن أطاع قلبه قرّبه ، ومن عصى ردّه وحجبه.

قوله جل ذكره : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٩))

__________________

(١) وردت (أولا) وهى خطا فى النسخ.

(٢) عينات جمع عينة وهى نموذج من أصل الشيء ومادته (الوسيط)

(٣) قمنا هنا ببعض إصلاحات طفيفة نظرا لانبهام الخط ورداءته ، ووجود بعض حروف تعجز المطبعة عن نقلها كما هى فى الرسم.

٣٢٦

إذا ندموا على قبيح ما قدّموا ، وأسفوا على كثير مما أسلفوا وفيه أسرفوا ، ومحا صدق عبرتهم آثار عثرتهم ـ نظر الله إليهم بالرحمة ، فتاب عليهم إذا أصلحوا ، ونجّاهم إذا تضرّعوا.

قوله جل ذكره : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٠))

قيل آمن بالله وحده فقام مقام الأمة ، وفى التفسير : كان معلّما ـ للخير ـ لأمة.

ويقال اجتمع فيه من الخصال المحمودة ما يكون فى أمة متفرقا.

ويقال لمّا قال إبراهيم لكلّ ما رآه : (هذا رَبِّي) ولم ينظر إلى المخلوقات من حيث هى بل كان مستهلكا فى شهود الحقّ ، ورأى الكون كلّه بالله ، وما ذكر حين ذكر غير الله .. كذلك كان جزاء الحق فقال : أنت الذي تقوم مقام الكلّ ، ففى القيام بحق الله منك على الدوام غنية عن الجميع.

و «الحنيف» : المستقيم فى الدّين ، أو المائل إلى الحق بالكلية (١).

قوله جل ذكره : (شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٢١))

الشاكر فى الحقيقة ـ من يرى عجزه عن شكره ، ويرى شكره من الله عزوجل ، لتحقّقه أنه هو الذي خلقه ، وهو الذي وفّقه لشكره ، وهو الذي رزقه الشكر ، وهو الذي اجتباه حتى كان بالكلية له ـ سبحانه.

(وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي تحقّق بأنه عبده ، وأنه رقّاه إلى محلّ الأكابر.

قوله جل ذكره : (وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٢٢))

الحسنة التي آتاه الله هى دوام ما أتاه حتى لم تنقطع عنه.

__________________

(١) الحنيف ـ فى اللغة ـ من الأضداد ـ المائل والمستقيم (ابن الأنباري فى كتاب الاضداد)

٣٢٧

ويقال هى الخلة. ويقال هى النبوة والرسالة.

ويقال آتيناه فى الدنيا حسنة حتى كان لنا بالكلية ، ولم تكن فيه لغير بقية.

قوله جل ذكره : (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٣))

(مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) أي الكون بالحق ، والامتحاء (١) عن شاهد نفسه ؛ فكان نبينا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فى اتباعه ابراهيم مؤتمرا بأمر الله. وكانت ملة إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ الخلق والسخاء والإيثار والوفاء ، فاتبعه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وزاد عليه ، فقد زاد على الكافة شأنه ، وبانت مزيّته.

قوله جل ذكره (إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٢٤))

قوم حرّموا العمل فيه وقوم حللوه معصية منهم ، وقيل جعل الجمعة لهم فقالوا : لا نريد إلا يوم السبت .. فهذا اختلافهم فيه.

والإشارة من ذلك أنهم حادوا (٢) عن موجب الأمر ، ومالوا إلى جانب هواهم. ثم أنهم لم يراعوها حق رعايتها فصار سبب عصيانهم.

قوله جل ذكره : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١٢٥))

__________________

(١) وردت (الامتحان) وهى خطأ فى النسخ.

(٢) وردت (جادوا) وهى خطأ فى النسخ.

٣٢٨

الدعاء إلى سبيل الله بحثّ (١) الناس على طاعة الله ، وزجرهم عن مخالفة أمر الله. والدعاء بالحكمة ألا يخالف بالفعل ما يأمر به الناس بالنطق.

والموعظة الحسنة ما يكون صادرا عن علم وصواب ، ولا يكون فيها تعنيف.

(وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) : بالحجة الأقوى ، والطريقة الأوضح. قال تعالى : (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ) (٢) : فشرط الأمر بالمعروف استعمال ما تأمر به ، والانتهاء عما تنهى عنه (٣).

قوله جل ذكره : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (١٢٦))

إذا جرى عليكم ظلم من غيركم وأردتم الانتقام .. فلا تتجاوزوا حدّ الإذن بما هو فى حكم الشرع.

(وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ) : فتركتم الانتصاف لأجل مولاكم فهو خير لكم إن فعلتم ذلك.

والأسباب التي قد يترك لأجلها المرء الانتصاف مختلفة ؛ فمنهم من يترك ذلك طمعا فى الثواب غدا فإنه أوفر وأكثر ، ومنهم من يترك ذلك طمعا فى أن يتكفّل الله بخصومه ، ومنهم من يترك ذلك لأنه مكتف بعلم الله تعالى بما يجرى عليه ، ومنهم من يترك ذلك لكرم نفسه ، وتحرّره عن الأخطار ولاستحبابه العفو عند الظّفر ، ومنهم من لا يرى لنفسه حقا ، ولا يعتقد أنّ لأحد هذا الحق فهو على عقد إرادته بترك نفسه ؛ فملكه مباح ودمه هدر. ومنهم من ينظر إلى خصمه ـ أي المتسلط عليه ـ على أنّ فعله جزاء على ما عمله هو من مخالفة أمر الله ، قال تعالى : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) (٤). فاشتغاله باستغفاره عن جرمه يمنعه عن انتصافه من خصمه.

قوله جل ذكره : (وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ)

__________________

(١) وردت (بحيث) وهى خطأ فى النسخ.

(٢) آية ٨٨ سورة هود.

(٣) أي تكون أنت قدوة فيما تدعو إليه من أوامر وما تنهى عنه من زواجر.

(٤) آية ٣٠ سورة الشورى.

٣٢٩

(وَاصْبِرْ) تكليف ، (وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ) : تعريف. (وَاصْبِرْ) تحقق بالعبودية (وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ) إخبار عن الربوبية.

(وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ..) أي طالع التقدير ، فما لا نجعل له خطرا عندنا لا ينبغى أن يوجب أثرا فيك ؛ فمن أسقطنا قدره فاستصغر أمره. وإذا عرفت انفرادنا بالإيجاد فلا يضيق قلبك بشدة عداوتهم ، فإنّا ضمنّا كفايتك ، وألا نشمتهم بك ، وألا نجعل لهم سبيلا إليك.

قوله جل ذكره : (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (١٢٨))

إن الله معهم بالنصرة ، ويحيطهم بالإحسان والبسطة.

(الَّذِينَ اتَّقَوْا) رؤية النصرة من غيره ، والذين هم أصحاب التبري من الحول والقوة.

والمحسن الذي يعبد الله كأنه يراه ، وهذه حال المشاهدة.

٣٣٠

بسم الله الرحمن الرحيم

«... أهل الجنة طابت لهم حدائقها ، وأهل النار أحاط بهم سرادقها ، والحقّ ـ سبحانه ـ منّزه عن أن تعود إليه من تعذيب هؤلاء عائدة ، ولا من تنعيم هؤلاء فائدة .. جلّت الأحدية ، وتقدّست الصمدية.

ومن وقعت عليه غبرة فى طريقنا لم تقع عليه قترة فراقنا ، ومن خطا خطوة إلينا وجد حظوة لدينا ، ومن نقل قدمه نحونا غفرنا له ما قدّمه ، ومن رفع إلينا يدا أجزلنا له رغدا ، ومن التجأ إلى سدّة كرمنا آويناه فى ظلّ نعمنا ، ومن شكا فينا غليلا ، مهدّنا له فى دار فضلنا مقيلا»

عبد الكريم القشيري

عند

سورة الكهف

٣٣١
٣٣٢

السورة التي يذكر فيها بنو إسرائيل (١)

قوله تعالى وتقدّس : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

كلمة ما سمعها عابد إلّا شكر عصمته ، وما سمعها مالك إلا وجد رحمته ، وما تحقّقها عارف إلّا تعطر قلبه بنسيم قربته ، وما شهدها موحّد إلا تقطّر دمه لخوف فرقته.

قوله جل ذكره : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١))

افتتح السورة بذكر الثناء على نفسه فقال : (سُبْحانَ الَّذِي ..) : الحقّ سبّح نفسه بعزيز خطابه ، وأخبر عن استحقاقه لجلال قدره ، وعن توحّده بعلوّ نعوته.

ولمّا أراد أن يعرف العباد ما خصّ به رسوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ليلة المعراج من علوّ ما رقّاه إليه ، وعظم ما لقّاه به أزال الأعجوبة بقوله : (أَسْرى) ، ونفى عن نبيّه خطر الإعجاب بقوله : (بِعَبْدِهِ) ؛ لأنّ من عرف ألوهيته ، واستحقاقه لكمال العزّ فلا يتعجّب منه أن يفعل ما يفعل. ومن عرف عبودية نفسه ، وأنّه لا يملك شيئا من أمره فلا يعجب بحاله. فالآية أوضحت شيئين اثنين : نفى التعجّب من إظهار فعل الله عزوجل ، ونفى الإعجاب فى وصف رسول الله عليه‌السلام.

ويقال أخبر عن موسى عليه‌السلام ـ حين أكرمه بإسماعه كلامه من غير واسطة ـ

__________________

(١) يقول السيوطي فى الإتقان : «وتسمى أيضا سورة الإسراء ، وسورة سبحان وسورة بنى إسرائيل» الإتقان ط الحلبي سنة ١٩٥١ ح ١ ص ٥٤.

أما القاضي البيضاوي (ص ٣٧٠) فيقول : سورة بنى إسرائيل أو سورة (أَسْرى)

٣٣٣

فقال : (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا) (١) ، وأخبر عن نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه (أَسْرى بِعَبْدِهِ) وليس من جاء بنفسه كمن أسرى به ربّه ، فهذا متحمّل وهذا محمول ، هذا بنعت الفرق وهذا بوصف الجمع ، هذا مريد وهذا مراد.

ويقال جعل المعراج بالليل عند غفلة الرّقباء وغيبة الأجانب ، ومن غير ميعاد ، ومن غير تقديم أهبة واستعداد ، كما قيل : (٢) ويقال جعل المعراج بالليل ليظهر تصديق من صدّق ، وتكذيب من تعجّب وكذّب أو أنكر وجحد.

ويقال لما كان تعبّده صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتهجّده بالليل جعل الحقّ سبحانه المعراج بالليل ويقال :

ليلة الوصل أصفى

من شهور ودهور سواها

ويقال أرسله الحقّ ـ سبحانه ـ ليتعلّم أهل الأرض منه العبادة ، ثم رقّاه إلى السماء ليتعلّم الملائكة منه آداب العبادة ، قال تعالى في وصفه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى) (٣) ، فما التفت يمينا ولا شمالا ، وما طمع فى مقام ولا فى إكرام ؛ تجرّد عن كلّ طلب وأرب.

قوله : (لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا) : كان تعريفه بالآيات ثم بالصفات ثم كشف بالذات.

ويقال من الآيات التي أراها له تلك الليلة أنه ليس كمثله ـ سبحانه ـ شىء فى جلاله وجماله ، وعزّه وكبريائه ، ومجده وسنائه ثم أراه من آياته تلك الليلة ما عرف به صلوات الله عليه ـ أنه ليس أحد من الخلائق مثله فى نبوته ورسالته وعلوّ حالته وجلال رتبته.

__________________

(١) آية ١٤٣ سورة الأعراف.

(٢) هنا شاهد شعرى مضطرب فى الكتابة ، وأكثر أجزائه سلامة هو : والناس عما نحن فيه بمعزل.

(٣) آية ١٧ سورة النجم.

٣٣٤

قوله جل ذكره : (وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (٢))

أرسل موسى عليه‌السلام بالكتاب كما أرسل نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولكنّ نبيّنا ـ صلوات الله عليه ـ كان أوفى ـ سماعا ، فإنّ الشمس فى طلوعها وإشراقها تكون أقرب ممن طلعت له من حقائقها.

قوله جل ذكره : (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (٣))

أي يا ذرية من حملنا مع نوح ـ على النداء .. إنه كان عبدا شكورا.

والشكور الكثير الشكر ؛ وكان نوح قد لبث فى قومه ألف سنة إلا خمسين عاما ، وكان يضرب فى كل (...) (١) كما فى القصة ـ سبعين مرة ، وكان يشكر. كما أنه كان يشكر الله ويصبر على قومه إلى أن أوحى الله إليه : أنه لن يؤمن إلا من قد آمن ، وأمر حين دعا عليهم فقال : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) (٢).

ويقال الشكور هو الذي يكون شكره على توفيق الله له لشكره ، ولا يتقاصر عن شكره لنعمه.

ويقال الشكور الذي يشكر بماله ، ينفقه فى سبيل الله ولا يدّخره ، ويشكر بنفسه فيستعملها فى طاعة الله ، ولا يبقى شيئا من الخدمة يدخره ، ويشكر بقلبه ربّه فلا تأتى عليه ساعة إلا وهو يذكره.

قوله جل ذكره : (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ

__________________

(١) مشتبهة.

(٢) آية ٢٦ سورة نوح ويكون المراد أنه لم يدع بإهلاكهم نتيجة نفاد صبره أو عدم شكره بل حسبما أمره الله ، ولو وضعنا الفاصلة بعد (وأمر) يكون المعنى : إلا من قد آمن وأمر بالايمان. وهذا التأويل لا يتعارض مع المذهب العام للقشيرى ، فكل شىء عنده بأمر الله وتوفيقه.

٣٣٥

لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (٤))

القضاء هاهنا بمعنى الإعلام ، والإشارة فى تعريفهم بما سيكون فى المستأنف منهم وما يستقبلهم ، ليزدادوا يقينا إذا لقوا ما أخبروا به ، وليكون أبلغ فى إلزام الحجّة عليهم ، وليحترزوا من مخالفة الأمر بجحدهم ، وليعلموا أن ما سبق به القضاء فلا محالة يحصل وإن ظنّ التباعد عنه.

قوله جل ذكره : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (٥))

إن الله سبحانه يعدّ أقواما لأحوال مخصوصة حتى إذا كان وقت إرادته فيهم كان هؤلاء موجودين.

قوله جل ذكره : (ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (٦))

يدلّ على أنه مقدّر أعمال العباد ، ومدبّر أفعالهم ؛ فإنّ انتصارهم على أعدائهم من جملة أكسابهم ، وقد أخبر الحقّ أنه هو الذي تولّاه بقوله : (رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ ...)

قوله جل ذكره : (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (٧))

٣٣٦

إن أحسنتم فثوابكم كسبتم ، وإن أسأتم فعداءكم جلبتم ـ والحقّ أعزّ من أن يعود إليه من أفعال عباده زين أو يلحقه شين.

قوله جل ذكره : (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ)

كلمة (عَسى) فيها ترجية وإطماع ، فهو ـ سبحانه ـ وقفهم على حد الرجاء والأمل ، والخوف والوجل.

وقوله (عَسى) : ليس فيه تصريح بغفرانهم ورحمتهم ، وإنما فيه للرجاء موجب قوىّ ؛ فبلطفه وعد أن يرحمكم.

قوله جل ذكره : (وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً)

أي إن عدتم إلى الزّلّة عدنا إلى العقوبة ، وإن استقمتم فى التوبة عدنا إلى إدامة الفضل عليكم والمثوبة.

ويقال إن عدتم إلى نقض العهد عدنا إلى تشديد العذاب.

ويقال إن عدتم للاستجارة عدنا للإجارة.

ويقال إن عدتم إلى الصفاء عدنا إلى الوفاء.

ويقال إن عدتم إلى ما يليق بكم عدنا إلى ما يليق بكرمنا.

(وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً) ، لأنهم (....) (١) وهم ناس كثير فهذه جهنم ومن يسكنها من الكافرين.

و (حَصِيراً) أي محبسا ومصيرا. فالمؤمن ـ وإن كان صاحب ذنوب وإن كانت كبيرة ـ فإنّ من خرج من دنياه على إيمانه فلا محالة يصل يوما إلى غفرانه.

__________________

(١) هنا بياض فى النسخة.

٣٣٧

قوله جل ذكره : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (٩))

القرآن يدل على الحقّ والصواب. و (أَقْوَمُ) : هنا بمعنى المستقيم الصحيح كأكبر بمعنى الكبير ؛ فالقرآن يدل على الحق والصواب ، ولكنّ الخلل من جهة المستدلّ لا الدليل ، إذ قد يكون الدليل ظاهرا ولكنّ المستدلّ معرض ، وبآداب النظر مخلّ ، فيكون العيب فى تقصيره لا فى قصور الدليل (١).

القرآن نور ؛ من استضاء به خلص من ظلمات جهله ، وخرج من غمار شكّه. ومن رمدت عيون نظره التبس رشده.

ويقال الحول ضرره أشدّ من العمى ؛ لأنّ الأعمى يعلم أنه ليس يبصر فيتبع قائده ، ولكن الأحوال يتوهّم الشيء شيئين ، فهو بتخيّله وحسبانه يمارى من كان سليما .. كذلك المبتدع إذا سلك طريق الجدل ، ولم يضع النظر موضعه بقي فى ظلمات جهله ، وصال بباطل دعواه على خصمه ، كما قيل :

بأطراف المسائل كيف يأتى

 ـ ولا أدرى لعمرك ـ مبطلوها؟

قوله جل ذكره : (وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (١١))

من الأدب فى الدعاء ألّا يسأل العبد إلّا عند الحاجة (٢) ، ثم ينظر فإنّ كان شىء لا يعنيه ألا يتعرّض له ؛ فإنّ فى الخبر (٣) : «من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه». ثم من آداب الداعي إذا سأل من الله حاجته ورأى تأخيرا فى الإجابة ألا يتّهم الحقّ ـ سبحانه ـ ويجب أن يعلم

__________________

(١) هذا نموذج مصغر لأسلوب القشيري الجدلي.

(٢) وردت (نجاحه) وهى خطأ فى النسخ.

(٣) وردت (الخير) بالياء

٣٣٨

أن الخير فى ألا يجيبه ، والاستعجال ـ فيما يختاره العبد ـ غير محمود ، وأولى الأشياء السكون والرضا بحكمه سبحانه ، إن لم يساعده الصبر وسأل فالواجب ترك الاستعجال ، والثقة بأنّ المقسوم لا يفوته ، وأنّ اختيار الحقّ للعبد خير له من اختياره لنفسه.

قوله جل ذكره : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (١٢))

جعل الليل والنهار علامة على كمال قدرته ، ودلالة على وجوب وحدانيته ؛ فى تعاقبهما وتناوبهما ، وفى زيادتهما ونقصانهما.

ثم جعلهما وقتا صالحا لإقامة العبادة ، والاستقامة على معرفة جلال إلهيته ؛ فالعبادة شرطها الدوام والاتصال ، والوظائف حقّها التوفيق والاختصاص

ولو وقع فى بعض العبادات تقصير أو حصل فى أداء بعضها تأخير تداركه بالقضاء حتى يتلافى التقصير.

ويقال من وجوه الآيات فى الليل والنهار إفراد النهار بالضياء من غير سبب ، وتخصيص الليل بالظلام بغير أمر مكتسب (١) ، ومن ذلك قوله تعالى : (فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً) : وهو اختلاف أحوال القمر فى إشراقه ومحاقه ، فلا يبقى ليلتين على حال واحدة ، بل هو فى كل ليلة فى منزل آخر ، إما بزيادة أو بنقصان.

وأمّا الشمس فحالها الدوام .. والناس كذلك أوصافهم ؛ فأرباب التمكين الدوام شرطهم ، وأصحاب التلوين التنقل (٢) حقّهم ، قال قائلهم :

ما زلت أنزل من ودادك منزلا

تتحير الألباب دون نزوله

__________________

(١) أي أن أفعال الله بمخلوقاته لا تخضع لعلة أو سبب ، أو حيلة أو كسب.

(٢) يقصد بالتنقل هنا التقلب فى الأحوال .. وليس التنقل من مكان إلى مكان.

٣٣٩

قوله جل ذكره : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (١٣))

ألزم كلّ أحد ما لبس بجيده. فالذين هم أهل السعادة أسرج لهم مركب التوفيق ، فيسير بهم إلى ساحات النجاة ، والذين هم أهل الشقاوة أركبهم مطيّة الخذلان فأقعدتهم عن النهوض نحو منهج الخلاص ، فوقعوا فى وهدة الهلاك.

قوله جل ذكره : (اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (١٤))

من ساعدته العناية الأزلية حفظ عند معاملاته مما يكون وبالا عليه يوم حسابه ، ومن أبلاه بحكمه ردّه وأمهله ، ثم تركه وعمله ، فإذا استوفى أجله عرف ما ضيّعه وأهمله ، ويومئذ يحكّمه فى حال نفسه ، وهو لا محالة يحكم بنفسه باستحقاقه لعذابه عند ما يتحقق من قبيح أعماله .. فكم من حسرة يتجرّعها ، وكم من خيبة يتلقّاها!

ويقال من حاسبه بكتابه فكتابه ملازمه فى حسابه فيقول : ربّ : لا تحاسبنى بكتابي .. ولكن حاسبني بما قلت : إنّك غافر الذّنب وقابل التوب .. لا تعاملنى بمقتضى كتابى ؛ ففيه بواري وهلاكى

قوله جل ذكره : (مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها)

قضايا أعمال العبد مقصورة عليه ؛ إن كانت طاعة فضياؤها لأصحابها ، وإن كانت زلّة فبلاؤها لأربابها. والحقّ غنىّ مقدّس ، أحدى منزّه.

قوله جل ذكره : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)

كلّ مطالب بجريرته. وكلّ نفس تحمل أوزارها لا وزر نفس أخرى .. (وَما كُنَّا

٣٤٠