لطائف الإشارات - ج ٢

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري

لطائف الإشارات - ج ٢

المؤلف:

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري


المحقق: الدكتور إبراهيم بسيوني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٥٥

ومن التكريم ما ألقى عليهم من محبة الخالق حتى أحبوه.

ومن التكريم لقوم توفيق صدق القدم ، ولقوم تحقيق علوّ الهمم. قوله : (وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) : سخّر البحر لهم حتى ركبوا فى السفن ، وسخّر البرّ لهم حتى قال : (لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ).

ويقال محمول الكرام لا يقع ، فإن وقع وجد من يأخذ بيده.

ويقال الإشارة فى حملهم فى البرّ ما أوصل إليهم جهرا (١) ، والإشارة بحديث البحر ما أفردهم به من لطائف الأحوال سرّا.

ويقال لمّا حمل بنو آدم الأمانة (٢) حملناهم فى البر ، فحمل هو جزاء حمل ، حمل هو فعل من لم يكن (٣) وحمل هو فضل من لم يزل.

قوله : (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) : الرزق الطيب ما كان على ذكر الرازق ؛ فمن لم يكن غائبا بقلبه (٤) ولا غافلا عن ربّه استطاب كلّ رزق ، وأنشدوا :

يا عاشقى إنى سعدت شرابا

لو كان حتى علقما أو صابا

قوله : (وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) : أي الذين فضلناهم على خلق كثير ، وليس يريد أن قوما بقوا لم يفضلهم عليهم ، ولكن المعنى أنا فضلناهم على كلّ من خلقنا ، وذلك التفضيل فى الخلقة. ثم فاضل بين بنى آدم فى شىء آخر هو الخلق الحسن ، فجمعهم فى الخلقة ـ التي يفضلون بها سائر المخلوقات ـ ومايز بينهم فى الخلق.

ويقال : (كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) : هذا اللفظ للعموم ، والمراد منه الخصوص ، وهم المؤمنون ، وبذلك يفضل قوم على الباقين ، ففضّل أولياءه على كثير ممن لم يبلغوا استحقاق الولاية.

__________________

(١) وردت (خيرا) والصواب أن تكون (جهرا) لتقابل سرا) وبذلك يقوى السياق ويتماسك.

(٢) وردت (الاهانة) بالهاء ومن المؤكد أن الميم التبست على الناسخ والمراد (الأمانة) إشارة إلى قوله تعالى : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ ...) الآية».

(٣) (من لم يكن) هو الإنسان و (من لم يزل) هو الرب سبحانه وتعالى.

(٤) غيبة القلب عن علم ما يجرى من أحوال الخلق لاشتغال الحس بما ورد عليه ، ثم يغيب عن إحساسه بنفسه وغيره (الرسالة ص ٤٠).

٣٦١

ويقال فضّلهم بألّا ينظروا إلى نفوسهم بعين الاستقرار ، وأن ينظروا إلى أعمالهم بعين الاستصغار.

قوله جل ذكره : (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧١))

إمام كلّ أحد من يقتدى به ، ولكن .. من إمام يهتدى به مقتديه ، ومن إمام يتردّى به مقتديه.

(فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ) : لكمال صحوهم وقيادة عقلهم ، والذين لا يؤتون كتابهم بيمينهم فهم لخوفهم وتردّدهم لا يقرأون كتابهم.

قوله جل ذكره : (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٧٢))

فى الآخرة أعمى عن معاينته ببصيرته.

فى الآخرة عذابه الفرقة وتضاف إليها الحرقة ـ لهذا فهو (أَضَلُّ سَبِيلاً).

قوله جل ذكره : (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (٧٣))

ضربنا عليك سرادقات العصمة ، وآويناك فى كنف الرعاية ، وحفظناك عن خطر اتباعك هواك ، فالزّلّة منك محال (١) ، والافتراء فى نعتك لا يجوز .. ولو جنحت لحظة إلى الخلاف لتضاعفت عليك تشديدات البلاء ، لكمال قدرك وعلوّ شأنك ؛ فإنّ من كان أعلى درجة فذنبه ـ لو حصل ـ أشدّ تأثيرا.

__________________

(١) وردت (مجال) بالجيم وهى خطأ فى النسخ ، ومن قول القشيري يتضح أنه يؤيد عصمة الأنبياء من الزلات.

٣٦٢

قوله جل ذكره : (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (٧٤) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (٧٥))

لو وكلناك ونفسك ، ورفعنا عنك (١) ظلّ العصمة لألممت بشىء مما لا يجوز من مخالفة أمرنا ، ولكننا أفردناك بالحفظ ، فلا تتقاصر عنك آثاره ، ولا تغرب عن ساحتك أنواره.

قوله : (إِذاً لَأَذَقْناكَ) ... الآية» هبوط الأكابر على حسب صعودهم ، ومحن الأحبّة وإن قلّت جلّت ، وفى معناه أنشدوا :

أنت عينى وليس من حقّ عينى

غضّ أجفانها على الأقذاء

قوله جل ذكره : (وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (٧٦))

من ظنّ (أنه يستمتع بحياته بعد مضىّ الأعزّة) (٢) والأكابر غلط فى حسابه ، وإن الحسود لا يسود :

وفى تعب من يحسد الشمس ضوءها

(ويجهد أن يأتى لها) (٣) بضريب

والأرض كلها ملك لنا ، ونقلّب أولياءنا فى ترددهم فى البلاد وتطوافهم فى الأقطار ، ترددا على بساطنا ، وتقلبا فى ديارنا ؛ فالبقاع لهم سواء ، وأنشدوا :

(فسر أو أقم) (٤) وقف عليك محبتى

مكانك من قلبى عليك مصون

__________________

(١) وردت (عليك) والملائم للسياق أن تكون (عنك).

(٢) ما بين القوسين مستدرك فى الهامش بخط ردئ.

(٣) ما بين القوسين مستدرك فى الهامش بخط ردئ.

(٤) ما بين القوسين مستدرك فى الهامش بخط ردىء.

٣٦٣

قوله جل ذكره : (سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (٧٧))

الحقّ أمضى سنّته مع الأولياء بالإنعام ، ومع أعدائه بالإدغام (١) ، فلا لهذه أو هذه تحويل.

قوله جل ذكره : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (٧٨))

الصلاة قرع باب الرزق. والصلاة الوقوف فى محل المناجاة.

والصلاة اعتكاف القلب فى مشاهد التقدير.

ويقال هى الوقوف على بساط النجوى. وفرّق أوقات الصلاة ليكون للعبد عود إلى البساط فى اليوم والليلة مرات.

(إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) : تشهده ملائكة الليل والنهار ـ على لسان العلم. وأمّا على لسان القوم فإن قرآن الصبح ـ الذي هو وقت إتيانه ـ يبعد من النوم وكسل النفس فله هذه المزية.

قوله جل ذكره : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (٧٩))

الليل لأحد أقوام : لطالبى النجاة وهم العاصون من جنح (٢) منهم إلى التوبة ، أو لأصحاب الدرجات وهم الذين يجدّون فى الطاعات ، ويسارعون فى الخيرات ، أو لأصحاب المناجاة مع المحبوب عند ما يكون الناس فيما هم فيه من الغفلة والغيبة.

ويقال الليل لأحد رجلين : للمطيع والعاصي : هذا فى احتيال أعماله ، وهذا فى اعتذاره عن قبيح أفعاله.

__________________

(١) أدغمه الله إدغاما أي سود وجهه وأذله (الوسيط).

(٢) وردت (نجح) وهى خطأ فى النسخ.

٣٦٤

والمقام المحمود هو المخاطبة فى حال الشهود ، ويقال الشهود.

ويقال هو الشفاعة لأهل الكبائر. ويقال هو انفراده يوم القيامة بما خصّ به ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) ـ بما لا يشاركه فيه أحد.

قوله جل ذكره : (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (٨٠))

أي أدخلنى إدخال صدق وأخرجنى إخراج صدق. والصدق أن يكون دخوله فى الأشياء بالله لله لا لغيره ، وخروجه عن الأشياء بالله لله لا لغيره.

(وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً) : فلا ألاحظ دخولى ولا خروجى.

قوله جل ذكره : (وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (٨١))

أراد بالحقّ هاهنا الإسلام والدين ، وأراد بالباطل الكفر والشّرك ، والحقّ المطلق هو الموجود الحق ، والحق المقيد ما كان حسنا فى الاعتقاد والفعل والنطق ، والباطل نقيض الحق. والله حقّ : على معنى أنه موجود وأنه ذو الحق وأنه محقّ الحق (٢).

ويقال الحقّ ما كان الله ، والباطل ما كان لغير الله.

ويقال الحقّ من الخواطر ما دعا إلى الله ، والباطل ما دعا إلى غير الله.

قوله جل ذكره : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (٨٢))

القرآن شفاء من داء الجهل للعلماء ، وشفاء من داء الشّرك للمؤمنين ، وشفاء من داء

__________________

(١) إضافة من جانبنا حتى يتضح السياق.

(٢) قارن ذلك بنظرية «وحدة الوجود» وما تراه في معنى «الوجود» و «الحق».

٣٦٥

النكرة للعارفين ، وشفاء من لواعج الشوق للمحبين ، وشفاء من داء الشطط للمريدين والقاصدين ، وأنشدوا :

وكتبك حولى لا تفارق مضجعى

وفيها شفاء للذى أنا كاتم

قوله : (وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) : الخطاب خطاب واحد ، والكتاب كتاب واحد ، ولكنه لقوم رحمة وشفاء ، ولقوم سخط وشقاء. قوم أنار بصائرهم بنور التوحيد فهو لهم شفاء ، وقوم أغشى على بصائرهم بستر الجحود فهو لهم شقاء.

قوله جل ذكره : (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (٨٣))

إذا نزعنا عنه موجبات الخوف ، وأرخينا له حبل الإمهال ، وهيّأنا له أسباب الرفاهية اعترته مغاليط النسيان ، واستولت عليه دواعى العصيان ، فأعرض عن الشكر ، وتباعد عن بساط الوفاق.

ويقال إعراضه فى هذا الموضوع نسيانه ، ورؤية الفضل منه لا من الحقّ ، وتوهمه أنّ ما به من النّعم فباستحقاق طاعة أخلصها أو شدة قاساها .. وهذا فى التحقيق شرك.

قوله جل ذكره : (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (٨٤))

كلّ يترشح بمودع باطنه ، فالأسرّة تدل على السريرة ، وما تكنّه الضمائر يلوح على السرائر ، فمن صفا من الكدورة جوهره لا يفوح منه إلا نشر مناقبه ، ومن طبعت على الكدورة طينته فلا يشمّ من يحوم حوله إلا ريح مثالبه.

ويقال حركات الظواهر تدلّ وتخبر عن بواطن السرائر.

ويقال حبّ (...) (١) لا ينبت غضّ العود.

__________________

(١) مشتبهة.

٣٦٦

ويقال من عجنت بماء الشّقوة طينته ، وطبعت على النكرة جبلّته لا تسمح بالتوحيد قريحته ، ولا تنطق بالتوحيد عبارته.

قوله جل ذكره : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (٨٥))

أرادوا أن يجادلوه ويغلّطوه فأمره أن ينطق بلفظ يفصح عن أقسام الروح ؛ لأنّ ما يطلق عليه لفظ «الروح» يدخل تحت قوله تعالى :

(قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي)

ويقال إن روح العبد لطيفة أودعها الله سبحانه فى القالب ، وجعلها محل الأحوال اللطيفة والأخلاق المحمودة ، (وكما يصح أن يكون البصر محلّ الرؤية والأذن محلّ السمع .. إلى آخره ، والبصير والسامع إنما هو الجملة ـ وهو الإنسان ـ فكذلك محل الأوصاف الحميدة الروح ، ومحل الأوصاف المذمومة النّفس ، والحكم أو الاسم راجع إلى الجملة) (١) وفى الجملة الروح مخلوقة ، والحق أجرى العادة بأن يخلق الحياة للعبد ما دام الروح فى جسده.

والروح لطيفة تفررت للكافة طهارتها ولطافتها ، وهى مخلوقة قبل الأجساد بألوف من السنين. وقيل إنه أدركها التكليف ، وإن لها صفاء التسبيح ، وصفاء المواصلات ، والتعريف من الحق.

(وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) : لأن أحدا لم يشاهد الروح ببصره.

قوله جل ذكره : (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (٨٦))

__________________

(١) ما بين القوسين مضطرب اضطرابا شديدا فى النسخ ، وقد عدنا إلى رسالة القشيري فاعتمدنا عليها فى تنظيم السياق بقدر الإمكان. (أنظر الرسالة ص ٤٨).

٣٦٧

سنّة الحقّ ـ سبحانه ـ مع أحبائه وخواص عباده أن يديم لهم افتقارهم إليه ، ليكونوا فى جميع الأحوال منقادين لجريان حكمه ، وألا يتحرك فيهم عرق بخلاف اختياره ، وعلى هذه الجملة خاطب حبيبه ـ صلوات الله عليه ـ بقوله : (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) : (فمن كان استقلاله بالله يقدّم) (١) مراد سيده ـ فى العزل والولاية ـ على مراد نفسه.

قوله جل ذكره : (إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (٨٧))

والمقصود (من هذا إدامة تفرّد سرّه) (٢) صلى‌الله‌عليه‌وسلم به ـ سبحانه ـ دون غيره.

قوله جل ذكره : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (٨٨))

(سائر الأنبياء) (٣) معجزاتهم باقية حكما ، ونبيّنا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ معجزته باقية عينا ، وهى القرآن (الذي نتلوه ، والذي لا يأتيه الباطل من بين يديه) (٤) ولا من خلفه.

قوله جل ذكره : (وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٨٩))

لا شىء أحظى عند الأحباب من كتاب الأحباب ، فهو شفاء من داء الضنى ، وضياء لأسرارهم عند اشتداد البلاء ، وفى معناه أنشدوا :

وكتبك حولى لا تفارق مضجعى

وفيها شفاء للذى أنا كاتم

__________________

(١ ، ٢ ، ٣ ، ٤) مدونة في أعلى الورقة بعلامات مميزة لمكانها من النص ، وقد أثبتنا كلا فى موضعه.

٣٦٨

قوله جل ذكره : (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (٩٠) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (٩١) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (٩٢) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (٩٣))

اقترحوا الآيات بعد إزاحة العلّة وزوال الحاجة ، فركضوا فى مضمار سوء الأدب ، وحرموا الوصلة والقربة. ولو أجيبوا إلى ما طلبوا ما ازدادوا إلا جحدا ، ونكرة ، وقد قيل :

إنّ الكريم إذا حباك بودّه

ستر القبيح وأظهر الإحسانا

وكذا الملول إذا أراد قطيعة

ملّ الوصال وقال كان وكانا

(قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) : قل يا محمد : سبحان ربى! من أين لى الإتيان بما سألتم من جهتى؟ فهل وصفي إلا العبودية؟ وهل أنا إلا بشر؟ قال تعالى : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ) (١)

قوله جل ذكره : (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً (٩٤))

__________________

(١) آية ١٧٢ سورة النساء.

٣٦٩

تعجّبوا (١) مما ليس بمحلّ شبهة ، ولكن حملهم على ذلك فرط جهلهم ، ثم أصرّوا على تكذيبهم وجحدهم.

قوله جل ذكره : (قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (٩٥))

الجنس إلى الجنس أميل ، والشكل بالشكل آنس ، فقال سبحانه لو كان سكان الأرض ملائكة لجعلنا الرسول إليهم ملكا ، فلمّا كانوا بشرا فلا ينبغى أن يستبعد إرسال البشر إلى البشر.

قوله جل ذكره : (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٩٦))

الحقّ ـ سبحانه ـ هو الحاكم وهو الشاهد ، ولا يقاس حكمه على حكم الخلق ، ولا يجوز فى صفة المخلوق أن يكون الحاكم هو الشاهد ، فكما لا تشبه ذاته ذات الخلق لا تشبه صفته صفة الخلق.

قوله جل ذكره : (وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (٩٧))

من أراده بالسعادة فى آزاله استخلصه فى آباده بأفضاله ، ومن علمه فى الأزل بالشقاء وسمه فى أبده بسمة الأعداء. فلا لحكمه تحويل ، ولا لقوله تبديل.

__________________

(١) وردت (تعجلوا) والمعنى يقتضى (تعجبوا).

٣٧٠

قوله جل ذكره : (ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٩٨))

لمّا أصرّوا على تكذيبهم جازاهم الحقّ بإدامة تعذيبهم ، ولو ساعدهم التوفيق لوجد منهم التحقيق ، لكنهم عدموا التأييد فحرموا التوحيد.

قوله جل ذكره : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (٩٩))

مهد بهذه الآية طريق إثبات القياس (١) ، فلم يغادر فى الكتاب شيئا من أحكام الدّين لم يؤيده بالدليل والبيان (٢) ، فعلم الكلّ أن الركون إلى التقليد عين الخطأ والضلال.

قوله جل ذكره : (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (١٠٠))

إذ البخل غريزة الإنسان ، والشحّ سجيته (....) (٣) المعروف لا يعرف الخلقة (٤)

__________________

(١) من هذا نعرف أن القشيري مؤمن بأهمية النباس العقلي ضمن ما هو معروف من مصادر الشريعة وفي هذا رد على من يتهم الصوفية بالتشكر العقل ، مع أنهم حريصون كل الحرص على تصحيح الابان في مراحل البداية عن طريق اللوسائل العقلية.

(٢) ربما كانت (البرهان) يدل (البيان) ، فالبرهان أقرب إلى (الدابل) وإلى (القياس) كما أن البيان ـ في مذهب القشيري المعرفي ـ مرحلة قلبية وليست عقلية.

ومع ذلك فقد يكون القصود أن كتاب الله لم ينادر شيئا إلا أيده (بالدليل المنفي) و (البيان) الثاني.

(٣) هنا بياض في الاصل.

(٤) ما بين القوسين المبيرين ورد هكذا وفيه نموض نانج عن سقوط ما سبق.

٣٧١

قوله جل ذكره (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ)

(١) هى أمارات كرامته وعلامات محبته.

قوله جل ذكره : (فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً)

أنت ـ يا فرعون ـ سلكت طريق الاستدلال فعلمت أن مثل هذه الأشياء لا يكون أمرها إلا من قبل الله ، ولكنّك ركنت إلى الغفلة فى ظلمات الجهل.

قوله جل ذكره : (فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (١٠٣))

أراد فرعون إهلاك بنى إسرائيل واستئصالهم ، وأراد الحقّ ـ سبحانه ـ نصرتهم وبقاءهم ، فكان ما أراد الحقّ لا ما كاد اللعين.

قوله جل ذكره : (وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (١٠٤))

أورثهم منازل أعدائهم ، ومكّنهم من ذخائرهم ومساكنهم ، واستوصى بهم شكر نعمته ، وعرّفهم أنهم إن سلكوا في العصيان مسلك من تقدّمهم ذاقوا من العقوبة مثل عقوبتهم.

__________________

(١) عن ابن عباس أنها العصا واليد والجراد والقمل والضفادع والدم والحجر والبحر والطور الذي نتقه على بنى إسرائيل. وعن الحسن أنها الطوفان والسنون ونقص الثمرات مكان الحجر والبحر والطور.

٣٧٢

قوله جل ذكره (وَبِالحَقِّ أَنزَلنَاهُ وَبِالحَقِّ نَزَّل وَمَا أَرسَلناَكَ إلَّا مُبَشِّرَّا وَنَذِيراً وَقُرآناً فَرَقناهُ لِتَقرَأَهُ عَلَى النَّاسَ عَلَى مُكثٍ وَنَزَلناهُ تَنزِيلَا)

القرآن حقّ ، ونزوله بحق ، ومنزّله حق ، والمنزّل عليه حق ، فالقرآن بحقّ نزل ومن حقّ نزل وعلى حقّ نزل ، وقد فرّق القرآن ليهوّن عليه ـ صلوات الله عليه ـ حفظه ، وليكثر تردد الرسول من ربّه عليه ، وليكون نزوله فى كل وقت وفى كل حادثة وواقعة دليلا على أنه ليس مما أعان عليه غيره.

قوله جل ذكره : (فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً)

إن آمنتم حصل النفع لكم ، وإن جحدتم ففى إيمان من آمن من أوليائنا عنكم خلف ، وإنّ الضّرر عائد عليكم.

وإنّ من أضأنا عليهم شموس إقبالنا لتشرق أنوار معارفهم ؛ فإذا تليت عليهم آياتنا سجدوا بدل جحدهم ، واستجابوا بدل تمردهم ، وقابلوا بالتصديق ما يقال لهم.

قوله جل ذكره : (وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (١٠٩))

تأثيره فى قلوب قوم يختلف ؛ فتأثير السماع فى قلوب العلماء بالتبصّر ، وتأثير السماع

٣٧٣

فى أنوار الموحّدين بالتحير (١) ؛ تبصّر العلماء بصحة الاستدلال ، وتحيّر الموحدين فى شهود الجمال والجلال.

وبكاء كل واحد على حسب حاله : فالتائب يبكى لخوف عقوبته لما أسلفه من زلّته وحوبته ، والمطيع يبكى لتقصيره فى طاعته ، ولكيلا يفوته ما يأمله من منّته.

وقوم يبكون لاستبهام عاقبتهم وسابقتهم عليهم.

وآخرون بكاؤهم بلا سبب متعين. وآخرون يبكون تحسرا على ما يفوتهم من الحق.

والبكاء عند الأكابر معلول (٢) ، وهو فى الجملة يدل على ضعف حال الرجل ، وفى معناه أنشدوا :

خلقنا رجالا للتجلد والأسى

وتلك الغواني للبكا والمآتم

قوله جل ذكره : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى)

من عظيم نعمته ـ سبحانه ـ على أوليائه تنزّههم بأسرارهم فى رياض ذكره بتعداد أسمائه الحسنى من روضة إلى روضة ، ومن مأنس إلى مأنس.

ويقال الأغنياء ترددهم فى بساتينهم ، والأولياء تنزههم فى مشاهد تسبيحهم ، يستروحون إلى ما يلوح لأسرارهم من كشوفات جلاله وجماله.

قوله جل ذكره : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً).

لا تجهر بجميعها ، ولا تخافت بكلّها ، وارفع صوتك فى بعضها دون بعض.

ويقال ولا تجهر بها جهرا يسمعه الأعداء ، ولا تخافت بها حيث لا يسمع الأولياء.

(وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) : يكون للأحباب مسموعا ، وعن الأجانب ممنوعا.

__________________

(١) ليس (التحير) هنا ناجما عن الشك ، وإنما ناجم عن شدة الوله وعنف الأخذ.

(٢) لأن الأكابر في حال التمكين لا التلوين.

٣٧٤

ويقال (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ) : بالنهار ، (وَلا تُخافِتْ بِها) : بالليل.

قوله جل ذكره : (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (١١١))

احمده يذكر تقدسه عن الولد ، وأنه لا شريك له ؛ ولا ولى له من الذلّ ؛ إما على أنه لم يذلّ فيحتاج إلى ولى ، أو على أنه لم يوال أحدا من أجل مذلة به فيدفعها بموالاته. ويقال اشكره على نعمته العظيمة حيث عرّفك بذلك.

ويقال له الأولياء ولكن لا يعتريهم بذلّهم ، إذ يصيرون بعبادته أعزّة.

(وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) بأن تعلم أنّك تصل إليه به لا بتكبيرك.

السورة التي يذكر فيها الكهف

قوله جل ذكره : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

ما سعدت القلوب إلا بسماع اسم الله ، وما استنارت الأسرار إلا بوجود الله ، وما طربت الأرواح إلا بشهود جلال الله.

سماع (بِسْمِ اللهِ) راحة القلوب وضياؤها ، وشفاء الأرواح ودواؤها.

(بِسْمِ اللهِ) قوت العارفين ؛ بها يزول كدّهم وعناؤهم ، وبها استقلالهم وبقاؤهم (١).

قوله جل ذكره : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (١))

__________________

(١) لاحظ الربط بين تفسير البسملة فى أول هذه السورة وبين قصة أهل الكهف ، الذين فنوا عن أنفسهم لبقائهم بالله.

٣٧٥

إذا حمل (الْحَمْدُ) هنا على معنى الشكر فإنزال الكتاب من أجلّ نعمه ، وكتاب الحبيب لدى الحبيب. أجلّ موقع وأشرف محلّ ، وهو من كمال إنعامه عليه ، وإن سمّاه ـ عليه‌السلام ـ عبده فهو من جلائل نعمه عليه لأنّ من سمّاه عبده جعله من جملة خواصّه.

وإذا حمل (الْحَمْدُ) فى هذه الآية على معنى المدح كان الأمر فيه بمعنى الثناء عليه ـ سبحانه ، بأنّه الملك الذي له الأمر والنهى والحكم بما يريد ، وأنه أعدّ الأحكام التي فى هذا الكتاب للعبيد ، وسمّاه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عبده لمّا كان فانيا عن حظوظه ، خالصا لله بقيامه بحقوقه.

قوله جل ذكره : (قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ)

(قَيِّماً) : أي صانه عن التعارض والتناقض ، فهو كتاب عزيز من ربّ عزيز.

«والبأس الشديد» : معجّله الفراق ، ومؤجّله الاحتراق.

ويقال هو البقاء عن الله تعالى ، والابتلاء بغضب الله.

ومعنى الآية لينذرهم ببأس شديد.

قوله جل ذكره : (وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً).

والعمل الصالح ما يصلح للقبول ، وهو ما يؤدّى على الوجه الذي أمر به. ويقال العمل الصالح ما كان بنعت الخلوص ، وصاحبه صادق فيه.

ويقال هو الذي لا يستعجل عليه صاحبه حظّا فى الدنيا من أخذ عوض ، أو قبول جاه ، أو انعقاد رياسة .. وما فى هذا المعنى.

وحصلت البشارة بأنّ لهم أجرا حسنا ، والأجر الحسن ما لا يجرى مع صاحبه استقصاء فى العمل.

ويقال الأجر الحسن ما يزيد على مقدار العمل.

ويقال الأجر الحسن ما لا يذكّر صاحبه تقصيره ، ويستر عنه عيوب عمله.

٣٧٦

قوله جل ذكره : (ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (٣))

البشارة منه أنّ تلك النّعم على الدوام غير منقطعة ، وأعظم من البشارة بها قوله (١) :

(وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً (٤) ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (٥))

قالتهم القبيحة نتيجة جهلهم بوحدانية الله ، ولقد توارثوا ذلك الجهل عن أسلافهم ؛ والحيّة لا تلد إلا حيّة!

كبرت كلمتهم فى الإثم لمّا خسّت فى المعنى. ومن نطق بما لم يحصل له به إذن لحقه هذا الوصف. ومن تكلّم فى هذا الشأن قبل أوانه فقد دخل فى غمار هؤلاء (٢).

قوله جل ذكره : (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (٦))

من فرط شفقته ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ داخله الحزن لامتناعهم عن الإيمان ، فهوّن الله ـ سبحانه ـ عليه الحال ، بما يشبه العتاب فى الظاهر ؛ كأنه قال له : لم كل هذا؟ ليس فى امتناعهم ـ فى عدّنا ـ أثر ، ولا فى الدّين من ذلك ضرر .. فلا عليك من ذلك.

ويقال أشهده جريان التقدير ، وعرّفه أنه ـ وإن كان كفرهم منهيّا عنه فى الشرع ـ فهو فى الحقيقة مراد الحق.

قوله جل ذكره : (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها)

__________________

(١) البشارة بالآية التالية أعظم لأن المؤمن يعلم أن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء.

(٢) فى هذه الإشارة غمزة بمن ينطقون ـ بدعوى المحو ـ بما لا يليق.

٣٧٧

ما على الأرض زينة لها تدرك بالأبصار ، وممن على الأرض من هو زينة لها يعرف بالأسرار. وإنّ قيمة الأوطان لقطّانها ، وزينة المساكن فى سكّانها.

ويقال العبّاد بهم زينة الدنيا ، وأهل المعرفة بهم زينة الجنة.

ويقال الأولياء زينة الأرض وهم أمان من فى الأرض.

ويقال إذا تلألأت أنوار التوحيد فى أسرار الموحدين أشرقت جميع الآفاق بضيائهم.

قوله جل ذكره : (لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً)

أحسنهم عملا أصدقهم نيّة ، وأخلصهم طوية.

ويقال أحسنهم عملا أكثرهم احتسابا ؛ إذ لا ثواب لمن لا حسبة له ، وأعلى من هذا بل وأولى من هذا فأحسنهم عملا أشدّهم استصغار لفعله ، وأكثرهم استحقارا لطاعته ؛ لشدة رؤيته لتقصيره فيما يعمله ، ولانتقاصه أفعاله فى جنب ما يستوجبه الحقّ بحقّ أمره.

ويقال أحسن أعمال المرء نظره إلى أعماله بعين الاستحقار والاستصغار ، لقول الشاعر :

وأكبر من فعله وأعظمه

تصغيره فعله الذي فعله

معناه : أكبر من فعله ـ الذي هو عطاؤه وبذله ـ تقليله واستصغاره لما يعطيه ويجود به.

قوله جل ذكره : (وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (٨))

كون ما على الأرض زينة لها فى الحال سلب قدره بما أخبر أنه سيفنيه فى المآل.

قوله جل ذكره : (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (٩))

أزال الأعجوبة عن أوصافهم بما أضافه إلى ربّه بقوله : (مِنْ آياتِنا) ؛ فقلب العادة من قبل الله غير مستنكر ولا مبتدع.

٣٧٨

ويقال مكثوا فى الكهف مدة فأضافهم إلى مستقرّهم فقال : (أَصْحابَ الْكَهْفِ) ، وللنفوس محال ، وللقلوب مقارّ ، وللهم مجال ، وحيثما يعتكف يطلب أبدا صاحبه (١).

ويقال الإشارة فيه ألا تتعجّب من قصتهم ؛ فحالك أعجب فى ذهابك إلينا فى شطر من الليل حتى قاب قوسين أو أدنى (٢) ، وهم قد بقوا فى الكهف سنين.

قوله جل ذكره : (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (١٠))

آواهم إلى الكهف بظاهرهم ، وفى الباطن فهو مقيلهم فى ظلّ إقباله وعنايته ، ثم أخذهم عنهم ، وقام عنهم فأجرى عليهم الأحوال وهم غائبون عن شواهدهم (٣).

وأخبر عن ابتداء أمرهم بقوله. (رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً) : أي أنهم أخذوا فى التبرّى من حولهم وقوّتهم ، ورجعوا إلى الله بصدق فاقتهم ، فاستجاب لهم دعوتهم ، ودفع عنهم ضرورتهم (٤) ، وبوّأهم فى كنف الإيواء مقيلا حسنا.

قوله جل ذكره : (فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (١١))

أخذناهم عن إحساسهم بأنفسهم ، واختطفناهم عن شواهدهم بما استغرقناهم فيه من حقائق ما كاشفناهم به من شهود الأحدية ، وأطلعناهم عليه من دوام نعت الصمدية.

__________________

(١) معنى العبارة يطلب صاحب المكان من حيث المكان الذي يعتكف فيه.

(٢) يشير القشيري بذلك إلى المنزلة الرفيعة التي وصل إليها المصطفى ـ صلوات الله عليه ـ ليلة الإسراء والمعراج ، وكيف أنه انتهى فى ليلة واحدة إلى ما لم يصل إليه أصحاب الكهف فى سنين.

(٣) واضح أن القشيري يعالج قصة أهل الكهف في ضوء حال الفناء وحال البقاء .. وهذا من النماذج التي يقدمها التصوف لتفسير الظواهر العجيبة التي تقلب فيها العادة ، وبحار فيها العقل.

(٤) يقصد من الضرورة هنا ما يلزم الإنسان من طعام وشراب وتخلص من بقاياهما .. ونحو ذلك.

٣٧٩

قوله جل ذكره : (ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (١٢))

أي رددناهم إلى حال صحوهم وأوصاف تمييزهم ، وأقمناهم بشواهد التفرقة بعد ما محوناهم عن شواهدهم بما أقمناهم بوصف الجمع.

قوله جل ذكره : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ)

لمّا كانوا مأخوذين عنهم تولّى الحق ـ سبحانه ـ أن قصّ عنهم ، وفرق بين من كان عن نفسه وأوصافه قاصّا ؛ لبقائه فى شاهده وكونه غير منتف بجملته .. وبين من كان موصوفا بواسطة غيره ؛ لفنائه عنه وامتحائه منه وقيام غيره عنه.

ويقال لا تسمع قصة الأحباب أعلى وأجلّ مما تسمع من الأحباب ، قال عزّ من قائل : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ) ، وأنشدوا :

وحدّثتني يا سعد عنها فزدتنى

حنينا فزدنى من حديثك يا سعد

قوله : (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ) : يقال إنهم فتية لأنهم آمنوا ـ على الوهلة ـ بربّهم ، آمنوا من غير مهلة ، لمّا أتتهم دواعى الوصلة (١).

ويقال فتية لأنهم قاموا لله ، وما استقروا حتى وصلوا إلى الله.

قوله جل ذكره : (وَزِدْناهُمْ هُدىً وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ)

لاطفهم بإحضارهم ، ثم كاشفهم فى أسرارهم ، بما زاد من أنوارهم ، فلقّاهم أولا التبيين ، ثم رقاهم عن ذلك باليقين.

__________________

(١) لاحظ أهمية ذلك فى فهم معنى (الفتوة) عند الصوفية.

٣٨٠