لطائف الإشارات - ج ٢

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري

لطائف الإشارات - ج ٢

المؤلف:

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري


المحقق: الدكتور إبراهيم بسيوني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٥٥

إنّ الله ـ سبحانه ـ خصّ نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن فضّله على الكافة ، وأرسله إلى الجملة ، وبالا ينسخ شرعه إلى الأبد. وبهذه الآية أدّبه بأدقّ إشارة ، حيث قال : (وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً) وهذا كما قال : (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) (١).

وقصد الحقّ أن يكون خواصّ عباده أبدا معصومين عن شواهدهم.

وفى القصة أن موسى عليه‌السلام تبرّم وقتا بكثرة ما كان يسأل ، فأوحى الله فى ليلة واحدة إلى ألف نبى من بنى إسرائيل فأصبحوا رسلا ، وتفرّق الناس عن موسى عليه‌السلام إليهم عليهم‌السلام ، فضاق قلب موسى وقال : يا رب ، إنى لا أطيق ذلك! فقبض الله أرواحهم فى ذلك اليوم.

قوله جل ذكره : (فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (٥٢))

أي كن قائما بحقّنا من غير أن يكون منك جنوح إلى غيرنا أو مبالاة بمن سوانا ، فإنّا نعصمك بكلّ ، وجه ، ولا نرفع عنك ظلّ عنايتنا بحال.

قوله جل ذكره : (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (٥٣))

البحر الملح لا عذوبة فيه ، والعذب لا ملوحة فيه ، وهما فى الجوهرية واحد ، ولكنه سبحانه ـ بقدرته ـ غاير بينهما فى الصفة ، كذلك خلق القلوب ؛ بعضها معدن اليقين والعرفان ؛ وبعضها محلّ الشكّ والكفران.

ويقال أثبت فى قلوب المؤمنين الخوف والرجاء ، فلا الخوف يغلب الرجاء ، ولا الرجاء يغلب الخوف.

__________________

(١) آية ٨٦ سورة الإسراء.

٦٤١

ويقال خلق القلوب على وصفين : قلب المؤمن مضيئا (مشرقا (١)) وقلب الكافر أسود مظلما ، هذا بنور الإيمان مزيّن ، وهذا بظلمة الجحود معلّم.

ويقال قلوب العوام فى أسر المطالب ورغائب الحظوظ ، وقلوب الخواصّ معتقة عن المطالب ، مجرّدة عن رقّ الحظوظ.

قوله جل ذكره : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (٥٤))

الخلق متشاكلون فى أصل الخلقة ، متماثلون فى الجوهرية ، متباينون فى الصفة ، مختلفون فى الصورة ؛ فنفوس الأعداء مطاياهم تسوقهم إلى النار ، ونفوس المؤمنين مطاياهم تحملهم إلى الجنة. والخلق بشر .. ولكن ليس كلّ بشر كبشر ؛ واحد عدوّ لا يسعى إلا فى مخالفته ، ولا يعيش إلا بنصيبه وحظّه ، ولا يحتمل الرياضة ولا يرتقى عن حدّ الوقاحة والخساسة ، وواحد ولىّ لا يفتر عن طاعته ، ولا ينزل عن همّته ، فهو فى سماء تعززه بمعبوده.

وبينهما للناس مناهل ومشارب ؛ فواحد يكون كما قال :

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً)

يكتفى بالمنحوت من الخشب ، والمصنوع من الصّخر ، والمتّخذ من النحاس ، وكلّها جمادات لا تعقل ولا تسمع ، ولا تضر ولا تنفع.

أما المؤمن فإنّ من صفاته أنّه لا يلتفت إلى العرش ـ وإن علا ، ولا ينقاد بقلبه لمخلوق ـ وإنّ اتصف بمناقب لا تحصى

__________________

(١) وردت فى م ولم ترد فى ص.

٦٤٢

قوله جل ذكره : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (٥٦))

رسولا منّا ، مأمورا بالإنذار والتبشير ، واقفا حيث وقفناك على نعت التبليغ ، غير طالب منهم أجرا ، وغير طامع فى أن تجد منهم حظّا.

قوله جل ذكره : (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٥٧))

(إِلَّا) أداة استثناء منقطع ؛ إذ ابتغاؤهم السبيل إلى ربّهم ليس بأجر يأخذه منهم ، فهو لمن أقبل بشير ، ولمن أعرض نذير.

قوله جل ذكره : (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ)

التوكل تفويض الأمور إلى الله. وحقّه وأصله علم العبد بأنّ الحادثات كلّها حاصلة من الله تعالى ، وأنه لا يقدر أحد على الإيجاد غيره.

فإذا عرف هذا فهو فيما يحتاج إليه ـ إذا علم أن مراده لا يرتفع إلا من قبل الله ـ حصل له أصل التوكل. وهذا القدر فرض ، وهو من شرائط الايمان ، فإن الله تعالى يقول : (وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (١) وما زاد على هذا القدر ـ وهو سكون القلب وزوال الانزعاج والاضطرار ـ فهى أحوال تلحق بالتوكل على وجه كماله.

فإن تقرّر هذا فالناس فى الاكتفاء والسكون على أقسام ، ولكلّ درجة من هذه الأقسام اسم : إمّا من حيث الاشتقاق ، أو من حيث الاصطلاح.

فأول رتبة فيه أن يكتفى بما فى يده ، ولا يطلب زيادة عليه ، ويستريح قلبه من طلب الزيادة .. وتسمى هذه الحالة القناعة ، وفيها يقف صاحيها حيث وقف ، ويقنع بالحاصل له

__________________

(١) آية ٢٣ سورة المائدة.

والمطلوب منا أن نلاحظ دائما ظاهرة هامة نبهنا إليها في مدخل هذا الكتاب ، وهى أن القشيري يحاول أولا استمداد المصطلح الصوفي من كتاب الله ، (فالتوكل) الذي هو ركن هام من أركان الطريق الصوفي له أصل فى القرآن. ثم تأتى من بعد ذلك مرحلة البحث فى تطور هذا الأصل ونموه في بينة المتصوفة.

٦٤٣

فلا يستزيد. ثم اكتفاء كلّ أحد يختلف فى القلة والكثرة ، وراحة قلوب هؤلاء فى التخلص من الحرص وإرادة الزيادة.

ثم بعد هذا سكون القلب فى حالة عدم وجود الأسباب ، فيكون مجردا عن الشيء ، ويكون فى إرادته متوكلا على الله. وهؤلاء متباينون فى الرتبة ، فواحد يكتفى بوعده لأنه صدقه فى ضمانه ، فيسكن ـ عند فقد الأسباب ـ بقلبه ثقة منه بوعد ربه .. ويسمى هذا توكلا ، ويقال على هذا : إن التوكل سكون القلب بضمان الربّ ، أو سكون الجأش فى طلب المعاش ، أو الاكتفاء بوعده عند عدم نقده ، أو الاكتفاء بالوعد عند فقد النقد.

وألطف من هذا أن يكتفى بعلم أنه يعلم حاله فيشتغل بما أمره الله ؛ ويعمل على طاعته ؛ ولا يراعى إنجاز ما وعده ؛ بل يكل أمره إلى الله .. وهذا هو التسليم.

وفوق هذا التفويض (١) ، وهو أن يكل أمره إلى الله ، ولا يقترح على مولاه بحال ، ولا يختار ؛ ويستوى عنده وجود الأسباب وعدمها ؛ فيشتغل بأداء ما ألزمه الله ؛ ولا يفكر فى حال نفسه ؛ ويعلم أنه مملوك لمولاه ؛ والسيّد أولى بعبده من العبد بنفسه (٢).

فإذا ارتقى عن هذه الحالة ، وجد راحة فى المنع ؛ واستعذب ما يستقبله من الرّدّ .. وتلك هى مرتبة الرضا (٣) ؛ ويحصل له فى هذه الحالة من فوائد الرضا ولطائفه مالا يحصل لمن دونه من الحلاوة فى وجود المقصود.

__________________

(١) الواقع أن القشيري هنا متأثر بالآراء الكثيرة التي أدلى بها الشيوخ فى هذا الموضوع ، وعلى وجه الخصوص بشيخه الدقاق ، الذي يقول : التوكل ثلاث درجات : التوكل ثم التسليم ثم التفويض ؛ فالمتوكل يسكن إلى وعده ، وصاحب التسليم يكتفى بعلمه ، وصاحب التفويض يرضى بحكمه ، ويقول كذلك : التوكل بداية والتسليم واسطة ، والتفويض نهاية. ويقول كذلك : التوكل صفة المؤمنين والتسليم صفة الأولياء والتفويض صفة الموحدين. (الرسالة ص ٨٥).

(٢) يروى فى هذا الباب أن جماعة سألوا الجنيد : أين نطلب الرزق؟

فقال : إن علمتم فى أي موضع هو فاطلبوه. قالوا : فنسأل الله تعالى ذلك.

فقال : إن علمتم أنه ينساكم فذكروه. فقالوا : ندخل البيت فنتوكل؟

فقال : التجربة شك قالوا : فما الحيلة؟

فقال : ترك الحيلة (الرسالة الصفحة ذاتها).

(٣) كذلك ربط السراج فى «لمعه» بين التوكل والرضا بوصفهما مقامين متتاليين فى مقامات الطريق (اللمع ص ٧٩ من أسفل).

٦٤٤

وبعد هذا الموافقة ؛ وهى ألا يجد الراحة فى المنع ، بل يجد بدل هذا عند نسيم القرب زوائد الأنس بنسيان كلّ أرب ، ونسيان وجود سبب أو عدم وجود سبب ؛ فكما أن حلاوة الطاعة تتصاغر عند برد الرضا ـ وأصحاب الرضا يعدون ذلك حجابا ـ فكذلك أهل الأنس بالله .. بنسيان كلّ فقد ووجد ، وبالتغافل عن أحوالهم فى الوجود والعدم يعدون النزول إلى استلذاذ المنع ، والاستقلال بلطائف الرضا نقصانا فى الحال.

ثم بعد هذا استيلاء سلطان الحقيقة فيؤخذ العبد عن جملته بالكلية ، والعبارة عن هذه الحالة أنه يحدث الخمود والاستهلاك والوجود والاصطلام والفناء .. وأمثال هذا ، وذلك هو عين التوحيد ، فعند ذلك لا أنس ولا هيبة ، ولا لذة ولا راحة ، ولا وحشة ولا آفة.

هذا بيان ترتيبهم (١). فأمّا ما دون ذلك فالخبر عن أحوال المتوكلين ـ على تباين شربهم ـ يختلف على حسب اختلاف محالّهم.

فيقال شرط التوكل أن يكون كالطفل فى المهد ؛ لا شىء من قبله إلا أن يرضعه من هو فى حضانته (٢).

ويقال التوكل زوال الاستشراف ، وسقوط الطمع ، وفراغ القلب من تعب الانتظار.

ويقال التوكل السكون عند مجارى الأقدار على اختلافها.

ويقال إذا وثق القلب يجريان القسمة لا يضره الكسب ، ولا يقدح فى توكله (٣).

ويقال عوام المتوكلين إذا أعطوا شكروا ، وإذا منعوا صبروا. وخواصّهم إذا أعطوا آثروا ، وإذا منعوا شكروا.

__________________

(١) هذا الترتيب الذي ذكره القشيري على جانب كبير من الأهمية لأنه أولا يكشف عن التدرج في مراتب التوكل واحدة بعد الأخرى ، والدقائق النفسية المرتبطة بكل منها ، كما أنه يكشف عن مرحلة الانتقال من المقامات ـ التي هى جهود ـ إلى الأحوال التي هى من عين الجود. وواضح أن (الرضا) يحمل فى طياته طبيعة هذه المرحلة الانتقالية ، وقد عالج القشيري هذه الظاهرة فى رسالته ص ٩٧.

(٢) القشيري متأثر بأقوال الشيوخ فى ذلك : نحو (المتوكل كالطفل لا يعرف شيئا يأوى إليه إلا ثدى أمه (الرسالة ص ٨٥ وقولهم) (الصوفية أطفال فى حجر الحق) الرسالة ص ١٣٩.

(٣) هذه نقطة هامة جدا توضح أن التوكل الصوفي الحق لا يتعارض مع الكسب ، ولا يتعارض معه الكسب .. وقد كذب من ادعى التواكل وكذب من انهم الصوفية بالتكاسل.

٦٤٥

ويقال الحق يجود على الأولياء ـ إذا توكلوا ـ بتيسير السبب من حيث يحتسب ولا يحتسب ، ويجود على الأصفياء بسقوط الأرب ... وإذا لم يكن الأرب فمتى يكون الطلب؟

ويقال التوكل فى الأسباب الدنيوية إلى حدّ ، فأمّا التوكل على الله فى إصلاحه ـ سبحانه ـ أمور آخرة العبد فهذا أشدّ غموضا ، وأكثر خفاء. فالواجب فى الأسباب الدنيوية أن يكون الشكون عن طلبها غالبا ، والحركة تكون ضرورة أفأمّا فى أمور الآخرة وما يتعلّق بالطاعة فالواجب البدار والجدّ والانكماش ، والخروج عن أوطان الكسل والجنوح إلى الفشل.

والذي يتّصف بالتواني فى العبادات ، ويتباطؤ فى تلافى ما ضيّعه من إرضاء الخصوم والقيام بحقّ الواجبات ، ثم يعتقد فى نفسه أنه متوكّل على الله وأنه ـ سبحانه ـ يعفو عنه فهو متّهم معلول الحال ، ممكور مستدرج ، بل يجب أن يبذل جهده ، ويستفرغ وسعه.

ثم بعد ذلك لا يعتمد على طاعته ، ولا يستند إلى سكونه وحركته ، ويتبرّأ بسرّه من حوله وقوّته. ثم يكون حسن الظنّ بربّه ، ومع حسن ظنه بربه لا ينبغى أن يخلو من مخافته ، اللهم إلا أن يغلب على قلبهما يشغله فى الحال من كشوفات الحقائق عن الفكرة فى العواقب ؛ فإن ذلك ـ إذا حصل ـ فالوقت غالب ، وهو أحد ما قيل فى معانى قولهم : الوقت سيف (١)

قوله جل ذكره : (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ)

انتظم به الكون ـ والعرش من جملة الكون ـ ولم يتجمّل الحقّ ـ سبحانه ـ بشىء

__________________

(١) فى هذا المعنى يقول القشيري «أي كما أن السيف قاطع فالوقت بما يمضيه الحق ويجريه غالب ، وكما أن السيف لين مسه قاطع حده فمن لاينه سلم ، ومن خاشنه اصطلم كذلك الوقت من استسلم لحكمه نجا ، ومن عارضه انتكس وتردى ، ومن ساعده الوقت فالوقت له وقت ، ومن ناكده الوقت فالوقت عليه مقت. وسمعت الأستاذ أبا على الدقاق يقول : الوقت مبرد يسحقك ولا يمحقك» الرسالة ص ٣٤.

٦٤٦

من إظهار بريّته ؛ فعلوّه على العرش بقهره وقدرته ، واستواؤه بفعل خص به العرش بتسوية أجزائه وصورته (١).

قوله جل ذكره : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (٦٠))

أقبل الحقّ ـ سبحانه ـ بلطفه وبفضله على أقوام فلذلك وجدوه ، وأعرض عن آخرين بتكبره وتعزّزه فلذلك جحدوه ؛ فطرهم على سمة البعد ، وعجن طينتهم بماء الشقاوة والصدّ ، فلما أظهرهم ألبسهم صدار الجهل والجحد.

قوله جل ذكره : (تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (٦١))

زيّن السماء الدنيا بمصابيح ، وخلق فيها البروج ، وبثّ فيها الكواكب ، وصان عن الفطور والتشويش أقطارها ومناكبها ، وأدار بقدرته أفلاكها ، وأدام على ما أراد إمساكها.

وكما أثبت فى السماء بروجا (أثبت فى سماء قلوب أوليائه وأصفيائه بروجا) (٢) ؛ فبروج السماء معدودة وبروج القلب مشهودة.

وبروج السماء (بيوت) (٣) شمسها وقمرها ونجومها ، وبروج القلوب مطالع أنوارها ومشارق شموسها ونجومها. وتلك النجوم التي هى نجوم القلوب كالعقل ، والفهم والبصيرة والعلم ، وقمر القلوب المعرفة.

__________________

(١) كانت هذه الآية وأمثالها فرصة لآراء كلامية خطيرة سواء من ناحية استواء الله ـ سبحانه ـ على العرش ومسألة تنزههه عن المكانية ، أو من ناحية خلق الله ما بين السماوات والأرض وهل المقصود بذلك خلق أفعال الإنسان. وقد ناقش الباقلاني فى كتابه (التمهيد فى أصول الدين) كلا الأمرين ، والواقع أن القشيري ـ تلميذ الباقلاني ـ متأثر بآراء أستاذه إلى حد كبير ، وإن كان الباقلاني أقل تأويلا للصفات الخبرية منه.

(٢) غير موجودة فى ص وموجودة فى م.

(٣) فى ص (ثبوت) وفى م (بيوت) وقد رجحنا هذه لأن البرج (بيت يبنى على سور المدينة وفي أعلاها) كما جاء فى المعاجم.

٦٤٧

قمر السماء له نقصان ومحاق ، وفى بعض الأحايين هو بدر بوصف الكمال ، وقمر المعرفة أبدا له إشراق وليس له نقصان أو محاق ، ولذا قال قائلهم :

دع الأقمار تخبو أو تنير

لها بدر تذلّ له البدور

فأمّا شمس القلوب فهى التوحيد ، وشمس السماء تغرب ولكن شمس القلوب لا تغيب ولا تغرب ، وفى معناه قالوا :

إن شمس النهار تغرب بالليل

وشمس القلوب ليست تغيب

ويصحّ أن يقال إن شمس النهار تغرب بالليل ، وشمس القلوب سلطانها فى الضوء والطلوع بالليل أتمّ.

قوله جل ذكره : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (٦٢))

الأوقات متجانسة ، وتفضيلها بعضها على بعض على معنى أنّ الطاعة فى البعض أفضل والثواب عليها أكثر. والليل خلف النهار والنهار خلف الليل ، فمن وقع له فى طاعة الليل خلل فإذا حضر بالنهار فذلك وجود جبرانه ، وإن حصل فى طاعة النهار خلل فإذا حضر بالليل ففى ذلك إتمام لنقصانه.

قوله جل ذكره : (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (٦٣))

الذين استوجبوا رحمة الرحمن هم الذين وفّقوا للطاعات ، فبرحمته وصلوا إلى التوفيق للطاعة. وعباد الرحمن الذين يستحقون غدا رحمته هم القائمون برحمته ؛ فبرحمته وصلوا إلى طاعته .. هكذا بيان الحقيقة ، وبطاعتهم وصلوا إلى جنّته .. هكذا لسان الشريعة.

ومعنى (هَوْناً) متواضعين متخاشعين

٦٤٨

ويقال شرط التواضع وحده ألا يستحسن شيئا من أحواله ، حتى قالوا (١) : إذا نظر إلى رجله لا يستحسن شسع نعله ، وعلى هذا القياس لا يساكن أعماله ، ولا يلاحظ أحواله.

قوله : (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) : قيل سداد المنطق ؛ ويقال من خاطبهم بالقدح فهم يجاوبونه بالمدح له.

ويقال إذا خاطبهم الجاهلون بأحوالهم ، الطاعنون فيهم ، العائبون لهم قابلوا ذلك بالرّفق ، وحسن الخلق ، والقول الحسن والكلام الطيب.

ويقال يخبرون من جفاهم أنهم فى أمان من المجافاة (٢)

قوله جل ذكره : (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (٦٤))

يبيتون لربهم ساجدين ، ويصبحون واجدين ؛ فوجد صباحهم ثمرات سجود أرواحهم ، كذا فى الخبر : «من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار» أي عظم ماء ، وجهه عند الله ، وأحسن الأشياء ظاهر بالسجود محسّن وباطن بالوجود مزيّن.

ويقال متصفين بالسجود قياما بآداب الوجود.

قوله جل ذكره : (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (٦٥) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٦٦))

يجتهدون غاية الاجتهاد ، ويستفرغون نهاية الوسع ، وعند السؤال ينزلون منزلة العصاة ، ويقفون موقف أهل الاعتذار ، ويخاطبون بلسان التنصّل (٣) كما قيل :

وما رمت الدخول عليه حتى

حللت محلة العبد الذليل

__________________

(١) هذا القول سمعه القشيري من شيخه الدقاق (الرسالة ص ٧٤).

(٢) وردت (المكافاة) والصواب أن تكون (المجافاة) بمعنى أنهم لا يقابلون الجفاء بالجفاء ، فمن عاداهم أمن من انتقامهم أو على معنى أن مجافاة الأعداء لا تصيبهم بأذى إذ ليس فى مقدور أحد أن يؤذى أولياء الله.

(٣) وفى ذلك يقول الرسول صلوات الله عليه : (الَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) رواه احمد عن عائشة ، والترمذي وابن أبى حاتم ، وقال الحاكم : صحيح الإسناد.

٦٤٩

قوله جل ذكره : (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (٦٧))

الإسراف أن تنفق فى الهوى وفى نصيب النّفس ، فأمّا ما كان لله فليس فيه إسراف ، والإقتار ما كان ادخارا عن الله. فأمّا التضييق على النّفس منعا لها عن اتباع الشهوات ولتتعود الاجتزاء باليسير فليس بالإقتار المذموم.

قوله جل ذكره : (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (٦٨))

(١) (إِلهاً آخَرَ) : فى الظاهر عبادة الأصنام المعمولة من الأحجار ، المنحوتة من الأشجار.

وكما تتصف بهذا النفوس والأبشار فكذلك توهّم المبارّ والمضارّ من الأغيار شرك.

(وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ ...) من النفوس المحرّم قتلها على العبد نفسه المسكينة ، قال تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) (٢). وقتل النّفس من غير حقّ تمكينك لها من اتباع ما فيه هلاكها فى الآخرة ؛ فإنّ العبد إذا لم ينه مأمور.

__________________

(١) (عن ابن عباس أن ناسا من أهل الشرك قتلوا فأكثروا وزنوا فأكثروا ، ثم أتوا محمدا عليه الصلاة والسلام فقالوا : إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو نخبرنا أن لما عملنا كفارة فنزلت الآية : «وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ... إلى قوله تعالى : غَفُوراً رَحِيماً» رواه مسلم عن ابراهيم بن دينار عن حجاج. و (عن عبد الله بن مسعود قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أي الذنب أعظم؟

قال : أن تجعل لله ندا وهو خلقك ، قال : قلت ثم أي؟ قال : أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك. قال قلت ثم أي؟

قال : أن تزانى حليلة جارك. فأنزل الله هذه الآية وما بعدها تصديقا لذلك) رواه البخاري ، ومسلم عن عثمان بن أبى شيبة ، عن جرير.

و (عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال : أتى وحشي إلى النبي (ص) فقال : يا محمد أتيتك مستجيرا فأجرنى حتى أسمع كلام الله ، فقال الرسول : قد كنت أحب أن أراك على غير جوار ، فأما إذ أتيتنى مستجيرا فأنت فى جوارى حتى تسمع كلام الله. قال : فإنى أشركت بالله وقتلت النفس التي حرم الله وزنيت ، فهل يقبل الله منى توبة؟ فصمت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى نزلت الآية .. وأسلم وحشي).

(٢) آية ٢٩ سورة النساء.

٦٥٠

ثم دليل الخطاب أن تقتلها بالحقّ (١) ، وذلك بذبحها بسكين المخالفات ، فما فلاحك إلا بقتل نفسك التي بين جنبيك.

قوله جل ذكره : (يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (٦٩))

يضاعف لهم العذاب يوم القيامة بحسرات الفرقة وزفرات الحرقة. وآخرون يضاعف لهم العذاب اليوم بتراكم الخذلان ووشك الهجران ودوام الحرمان. بل من كان مضاعف العذاب فى عقباه فهو الذي يكون مضاعف العذاب فى دنياه ؛ جاء فى الخبر : من كان بحالة لقى الله بها.

قوله جل ذكره : (إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٠))

(إِلَّا مَنْ تابَ) من الذنب فى الحال ؛ وآمن فى المآل.

ويقال (وَآمَنَ) أن نجاته بفضل الله لا بتوبته ، (وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً) لا ينقض توبته.

ويقال إن نقض توبته عمل صالحا أي جدّد توبته ؛ (فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ). ويخلق لهم التوفيق بدلا من الخذلان (٢).

ويقال يبدل الله سيئاتهم محسنات فيغفر لهم ويثيبهم على توبتهم.

ويقال يمحو ذلّة زلّاتهم ، ويثبت بدلها الخيرات والحسنات ، وفى معناه أنشدوا :

ولما رضوا بالعفو عن ذى زلة

حتى أنالوا كفّه وأفادوا

قوله جل ذكره : (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (٧٢) وَالَّذِينَ

__________________

(١) تذكر كيف يفرق القشيري بين حظ النفس وحق الله ، ولاحظ كيف أحسن استغلال الاستثناء هنا (قتل النفس إلا بالحق) أي ذبحها بسكين المجاهدات في سبيل حق الله.

(٢) واضح من هذا الرأى مدى اتساع صدور الصوفية للأمل في الأخذ بيد العصاة ، فرحمة الله ـ فى نظرهم ـ أكثر رجابة من أن تضيق في وجه من عثرت أقدامه.

٦٥١

إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (٧٣))

يستمكنون فى مواطن الصدق لا يبرحون عنها ليلا ونهارا ، وقولا وفعلا. وإذا مروا بأصحاب الزلات ومساكن المخالفات مروا متمكنين معرضين لا بساكنون أهل تلك الحالة.

ويقال نزلت الآية فى أقوام مرّوا ـ لمّا دخلوا مكة بأبواب البيوت التي كانوا يعبدون فيها الأصنام مرة ـ متكرمين دون أن يلاحظوها أو يلتفتوا إليها فشكر الله لهم ذلك.

ثم قال فى صفتهم : (وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً) : بل قابلوها بالتفكير والتأمل ، واستعمال النظر.

قوله جل ذكره : (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (٧٤))

قرة العين من به حياة الروح ، وإنما يكون كذلك إذا كان بحقّ الله قائما.

ويقال قرة العين من كان لطاعة ربه معانقا ، ولمخالفة أمره مفارقا.

(وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) الإمام من يقتدى به ولا يبتدع.

ويقال إن الله مدح أقواما ذكروا رتبة الإمامة فسألوها بنوع تضرع ، ولم يدّعوا فيها اختيارهم ؛ فالإمامة بالدعاء لا بالدعوى ، فقالوا : (وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً).

قوله جل ذكره : (أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (٧٥))

يعطى ـ سبحانه ـ الكثير من عطائه ويعده قليلا ، ويقبل اليسير من طاعة العبد ويعده كثيرا عظيما ، يعطيهم الجنة ؛ قصورا وحورا ثم يقول : (أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ) ، ويقبل اليسير من العبد فيقول : (فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ) (١).

__________________

(١) آية ٢٢ سورة الذاريات.

٦٥٢

قوله : (وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً) : يسمعون سلامه عليهم بلا واسطة ، ويتجلّى لهم ليروه من غير تكلف نقل ، ولا تحمل قطع مسافة (١)

ويقال (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) (٢) : اليوم يحضر العبد بيته لأداء العبادة ، وينقل أقدامه إلى المساجد ، وغدا يجازيهم بأن يكفيهم قطع المسافة ، فهم على أرائكهم ـ فى مستقرّ عزّهم ـ يسمعون كلام الله ، وينظرون إلى الله.

قوله : (بِما صَبَرُوا) أي صبروا عمّا نهوا عنه ، وصبروا على الأحكام التي أجراها عليهم بترك اختيارهم ، وحسن الرضا بتقديره.

قوله جل ذكره : (خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٧٦))

مقيمين لا يبرحون منازلهم (٣) ، وفى أحوالهم حسن مستقرهم مستقرا ، وحسن مقامهم مقاما.

قوله جل ذكره : (قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (٧٧))

لو لا عبادتكم الأصنام ودعاؤكم إياها باستحقاق العبادة وتسميتكم لها آلهة .. متى كان يخلدكم فى النار؟.

ويقال لو لا تضرعكم ودعاؤكم بوصف الابتهال لأدام بكم البلاء ، ولكن لما أخذتم فى الاستكانة والدعاء ، وتضرّعتم رحمكم وكشف الضرّ عنكم.

__________________

(١) يضاف هذا الكلام إلى رأى القشيري فى موضوع الرؤية فى الآخرة

(٢) آية : ٦٠ سورة الرحمن.

(٣) يضاف هذا الكلام إلى رأى القشيري فى تأبيد تنعم أهل الجنة.

٦٥٣

تم المجلد الثاني ويلية المجلد الثالث

وأوله سورة الشعراء

٦٥٤

فهرس

* سورة التوبة................................................................... ٥

* سورة يونس................................................................. ٧٦

* سورة هود................................................................. ١٢٠

* سورة يوسف............................................................... ١٦٤

* سورة الرعد................................................................ ٢١٥

* سورة إبراهيم............................................................... ٢٣٨

* سورة الحجر............................................................... ٢٦٢

* سورة النحل............................................................... ٢٨٤

* سورة بنى إسرائيل........................................................... ٣٣٣

* سورة الكهف.............................................................. ٣٧٥

* سورة مريم................................................................. ٤١٨

* سورة طه.................................................................. ٤٤٤

* سورة الأنبياء............................................................... ٤٩١

* سورة الحج................................................................. ٥٢٧

* سورة المؤمنون.............................................................. ٥٦٦

* سورة النور................................................................. ٥٩٢

* سورة الفرقان............................................................... ٦٢٥

٦٥٥